يتقصى الناقد المصري الخصوصية المميزة للشعريّة والدراميّة في فضاء النص الذي يقاربه. ويوضح كيفيّة بناء قصيدة النثر التي تحبك البعد المسرحي، كما يتتبع التحولات الاستعاريّة على مدار النص الذي ينغلق على دائرة الموت دلالياً، لينفتح على مستوى الشكل واختلاف التأويل.

انفتاح الشكل

قراءة في نص «من حديث الدائرة» لعلاء عبد الهادي

محمد سمير عبدالسلام

لم يعد النص الأدبي ملتزماً بأبنية فكرية، أو فنية واضحة، ومحددة، أو تابعة لشكل، أو مذهب له تاريخ خاص، ولكنه يجسد مغامرة تجريبية أولى في اقتحام ما يسمى بالشكل، أو إعادة تأويله في سياق جديد. الكتابة هنا صيرورة تنتج فيها الدوال وجودها التعددي، أو المختلط من حيث الإحالات الفكرية، والفنية في حالة تداخل دون مرجعيات، أو أصول؛ ومن أهم النصوص التي جمعت بين النثر الشعري، والدراما المسرحية نص "من حديث الدائرة" لعلاء عبد الهادي، وقد صدر عن دار صاعد بالقاهرة؛ فالنص يغيب أبنية الشخوص، وآراءهم، وإرادتهم من خلال التفاعل المعقد بين هوية الصوت الدرامي، وتداعيات الاستعارة المستمدة من فنيات قصيدة النثر؛ وهي تقوم على تحطيم العلاقات المنطقية في عملية المشابهة؛ ومن ثم فقد انفتح النص على شكول مختلفة، ومتناقضة من الأفكار، والتيمات الفنية، والسياقات الحضارية دون أن يفقد تطوره الدرامي، وتحولاته المجازية في العرض، والمشاهد معاً.

ويمكننا رصد ثلاث تيمات في نص "من حديث الدائرة" لعلاء عبد الهادي؛ هي:

أولاً: قصيدة النثر في نسيج الدراما.

ثانياً: تداخل السياقات الحضارية، والفكرية.

ثالثاً: انفتاح الشكل.

 

أولاً: قصيدة النثر في نسيج الدراما

تطرح قصيدة النثر، والأبحاث التأويلية المعاصرة إشكاليات عديدة حول مدلول الاستعارة، ومدى العلاقة بين المشابهة، والاختلاف في تشكلها النصي، أو في التلقي؛ فهي تقوم على مبدأين يقعان في حالة تعارض مع التوجه الفكري الواحد من جهة، والتعارض بين الأنا، والآخر من جهة أخرى؛ وهما:

أولاً: التمرد/ لا تقرب الاستعارة فكرة للقارئ، أو ترتبط بمرجعيات منطقية مشتركة بين المؤلف، والمتلقي، وإنما هي تولد في سياق التمرد، والاختلاف، والتناقض المولد لسياقات تصويرية جديدة لا تتبع بنية داخل النص، وإنما تكشف عن تناقضات الدوال، وتستبدل عناصرها الأولى في حالة تفكيك إيجابي للغة، وبهذا الصدد ترى سوزان برنار أن قصيدة النثر تحتوي على مبدأ فوضوي ينبع من التمرد على العروض، والقوانين المعتادة للغة، وهي ذات طابع إيكاروسي؛ لأنها تستخدم اللغة، وتريد أن تتجاوزها (راجع سوزان برنار، قصيدة النثر، ترجمة د. زهير مجيد مغامس، هيئة قصور الثقافة المصرية). يقوم - إذاً - تصور سوزان برنار للتمرد في قصيدة النثر على ثورية اللغة الاستعاريّة فيها بالأساس، وإعادة إنتاجها للتناقض كأصل في التعامل مع الدوال، والأبنية الفنية؛ ومن ثم لا يمكن للقارئ أن يبحث عن المعنى في شروط الأنظمة اللغوية، والفنية القديمة، وإنما يشارك في العملية الإنتاجية للنص، أو العرض، ويقبل سمة التنافر كنوع من الجمال لا الخروج عن أصل فني، أو نمط له تاريخ ثابت. ورغم ارتباط التركيب الاستعاري في نص "من حديث الدائرة" لعلاء عبد الهادي بالتصاعد الدرامي، فإنه لا يمكن فصل الحدث عن التحولات الجمالية لعناصر النص، وكأن الدراما تقع في وعاء استعاري نثري يهدم مركزية الحدوث، والحضور الشخصي، والفضاء؛ فالعمل يحوى عناصر تقع بين أطياف الماضي، والتناثر الجمالي فيما بعد الحداثة؛ إذ يسترجع التراجيديا، والعراف، والجوقة، ولكن دون اكتمال للأبنية القديمة؛ فقصيدة النثر هنا هي المكمل الجمالي البديل عن الوظائف التقليدية، والأفكار الواضحة؛ فهي تتمرد على تصاعد الصراع، والحدث بالإيغال في القراءة الجمالية الجديدة لمكونات العمل الفني.

 

ثانياً: أصالة التأويل/ التأويل يقع في نسيج التكوين، أو الصورة، وتحولاتها في المتلقي؛ فمن خلاله تنتج الاستعارة أصالة التواتر الإبداعي للصورة، ومدى تحريفه للمرجع، أو المدلول؛ فالتكوين، أو الدال، أو الحدث، أو التيمة الفنية تقع جميعاً في مجال دلالي يقبل إعادة التشكيل وفق رؤية مختلفة. ويرى بول ريكور في كتابه "نظرية التأويل" أن التوتر في القول الاستعاري يقع بين تأويلين متعارضين للقول، والصراع بين هذين التأويلين هو الذي يغذي الاستعارة، ويرى أنها تبدو كطعنة انتقامية تسدد إلى القول الاستعاري المؤول حرفياً (راجع بول ريكور، نظرية التأويل، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط2، سنة 2006، ص60و61). لا يمكن الاستناد إلى مرجع دلالي – إذاً - فيما يخص بنية الاستعارة، وبخاصة في الكتابات الطليعية الجديدة التي تعيد بناء العلامات انطلاقاً من التناثر، والتعدد، والعلاقات المتناقضة. وقد تعددت مستويات الاستعارة في نص "من حديث الدائرة" لعلاء عبد الهادي؛ إذ تقع في قلب التكوين؛ فمن هو الرجل الدغل؟ ومن هي المرأة الصحراء؟

 

لن نجد مرجعيات، أو مدلولاً ذهنياً سابقاً لهذه الأصوات، والتكوينات المجازية؛ فتشكيلها يناهض أحادية الهوية، وحتميات الموت، والحياة. كما يتخذ الصراع مستويات تعبيرية، وثقافية، وسياسية، واجتماعية ملتبسة توحي بتفكك الأبنية الثابتة التي تجسد إرادة الأنا في مواجهة إرادة الآخر؛ فيبدو أن المرأة قد نبعت من رغبة، أو سقطة داخل عالم الرجل.. سقطة تخيلية مجازية توحي بأولية التدمير بداخله؛ لماذا جرد الراوي سؤاله الأخير إذاً من دال المرأة، واختزلها في وجهها الاستعاري/ الصحراء؟ إنه يؤكد عمق المأساة في الداخل، دون مرجع، أو تعارض بين نبل البطل، وقوانين الواقع كما هو في فن التراجيديا. ثمة سخرية تقع في مستوى عميق من المعنى يفكك ظاهرية الصراع بين المرأة، والرجل، وتداخله مع نزعات القتل، والتدمير البشرية؛ فهناك جمال يستعصي على اكتمال أي بنية في النص، وهو ما يجعل منطق الصراع محتملاً، مثل الصيرورة المجازية.

تجسد الاستعارة في منولوج الرجل الدغل اختلاط تأكيد الحضور الشخصي، بالتوسع المجازي/ الكوني الذي يفكك استقلالية الصوت المتكلم.

يقول:

"أحلم ببرار خرساء

لا تمنحنا سر المخلب

قد لا نطرق

إذ يلتمس إهاباً، ممتداً كالصحراء

كالذهب الداكن

على سترات الشمس يثور

حين يموت عليها الليل الصاخب

بعد حصار النور... أنا لهب، نسر، جذر، عقل"

الدغل يعلن وجوده الآخر في بدائله اللغوية، والحلميّة؛ إذ يستشرف حلم الأنوثة، ويعيد تشكيله في اللاوعي، ويتوحد بعلامات الذكورة في سياق التوسع الكوني، والخيالي للصوت.

هل كان الصوت مكتملاً؟ أم أنه يمارس إغواء خيالياً على هامش هوية غائبة؟

إنه يستشرف امتداداً متناقضاً للذات يقع بين الأنا والآخر.

 

وفي خطاب المرأة الصحراء نلاحظ أصالة فكرة الاندماج الغامض في الوعي، مع الارتكاز على وهج الحركة، وتجاوز الموت.

تقول:

"يندلع السفح

تتبعني بدمك

يتقلب شمل اللحم بعظمك

لا تخش الأبواق

جرداء تلمع

تتناسخ فيها الصيحات الذهبية كتخثر برق

في منديل الوعي الملتهب كجرح... أنا فضة، حرية، رحلة، شمس".

المرأة تغيب في طاقة التحول، وصيرورتها المادية الوحشية، وانفتاحها المختلط بالصمت، والانهيار المتكرر الذي لا يمكن فصله عن ذروة الوهج في التباسه بالعدم.

لا يمكننا تمييز المرأة خارج هذه الطاقة التي تجمع بين الانفتاح، وقسوة التحلل، والاتساع المادي لا الطيفي، أو الخيالي؛ فهي تنبع من المعنى التكويني المجازي للتوحد الذي يفكك صوتها الخاص، أو حضورها المركزي في دائرية الصراع الذي يشير إليه النص.

 

نبوءة الموت

يعيد علاء عبد الهادي قراءة شخصية العراف في الأدب من خلال نبوءة الموت التي تقدمها العرافة للرجل الدغل، وسنرى أنه يفكك ارتباطها الوظيفي بالحقيقة رغم أنها تبدو مرتبطة بتراثها القديم.

تقول العرافة:

"تبكيك سماء

يتحد النبع مع عطشه ويزول

ويعض معصم دود مهجاً خضراء

يغرق نور في شمسه

وتجف على الأصفر كل عروق الماء".

العرافة هنا تجسد المدلول الاستعاري المتناقض للموت، إنه موت صاخب، ورمزي رغم قوته، وشموليته الكامنة في امتصاص الأصفر للدم، أو الماء، ولكنه لا يقع خارج حركية الالتهام، ووهج الشمس. إنه موت متكرر، وطبيعي، وليس حقيقة ترتبط بشخص، مثل نبوءة تريزياس بحقيقة الوباء، ومصدره في مسرحية أوديب. العرافة تستعيد طيف تريزياس خارج الرغبة الأصلية في معرفة حقيقة ما، كما تختلف عن خرق مركزية النبوءة، وتحولاتها السلبية في شخصية مدام سوزوستريس في "الأرض الخراب" لإليوت؛ فالموت هنا مجازي، ومتكرر قبل حدوثه في الرجل الدغل. وقد تسهم خلفية المشهد في عملية استبدال الشخوص، وإعادة تكوينهم في الحياة الأخرى للأثر التشكيلي للوحة في المتلقي، وقد تبدو الاستعارة في الخلفية شارحة لتوسع في جفاف المرأة، وذبول الرجل الدغل، أو موته، ولكنها تستعيد مرة أخرى معنى الخصوبة في الرجل، وتفكك مركزية المرأة فتشترك مجازية في معنى الموت.

يقول: "تتغير اللوحة الخلفية إلى مساحة صغيرة جداً من العشب الصحراوي، به وردة صحراوية بادئة في الذبول مع اتساع صحراوي شاسع، وقاحل". فالوردة تستبدل الدغل، تمثل نبوءة موته، وحلمه الخيالي الأنثوي معاً، أما الصحراء فتستعيد المرأة في اتساع يجمع بين المركزية، والخواء معاً؛ فالصراع هنا احتمالي، ويتجاوز الأبنية الصلبة القديمة.

 

ثانياً: تداخل السياقات الحضارية، والفكرية

يجمع علاء عبد الهادي بين مستويات حضارية، وثقافية عديدة فيما يخص دلالة الصراع، كما يجسده على المسرح بتقنيات، ووسائط عديدة، ومختلفة؛ فالعلاقة المعقدة بين الرجل الدغل، والمرأة الصحراء تستدعي – من اللاوعي الجمعي – الأساطير السومرية، والبابلية القديمة، وتتداخل معاني الصراع فيها بسباق التسلح في الحضارات الحديثة، ويحرص الشاعر على علاقة التجاور بين هذه المستويات الحضارية؛ ليفكك استقلال الصراع بموضوع واحد، أو بخط زمني يعزز من فكرة التطور، وهي سمة ما بعد حداثية في النص، ولا يمكن فصل جماليات العرض عن شكول الصراع المتعددة؛ إذ يختلط برقص تعبيري يجسد قصة قابيل، وهابيل، وكأن المعنى الجمالي يكمن في بنية الصراع، فضلاً عن تفكك دواله في الزمان، والمكان. ويحقق النص المسرحي اختلاط الرقص، بالموسيقى، والقصاصات الورقية، والنثر الشعري في الحوار، والفضاءات التشكيلية، وغيرها؛ مما يعزز الجمع بين الوسائط المختلفة، والتفاعل الثقافي في أعمال ما بعد الحداثة، ويذكرنا هذا الاختلاط اللامركزي في الوسائط، والدوال الثقافية بموسيقى جون كيج، وستوكهاوزن، والأعمال التشكيلية لراوشنبرج. ولا ينتمي موضوع الصراع هنا إلى مرجع، أو بنية؛ لأن انعدام التوافق يقع في نسيجه؛ إذ يذوب التعارض بين الأنا، والآخر في علاقات التجاور الجمالي، وتغييبها لأي وحدات حقيقية أصلية. تستعيد سيمياء العرض – إذا – السياقات الحضارية المختلفة في اتجاهي تأكيد مدلول التعارض، ثم تفكيكه بالتوسع في إظهار جانبه الجمالي، وتكراره في علاقات ثقافية، وفنية جديدة ينتجها النص.

 

ثالثاً: انفتاح الشكل

يسعى نص "من حديث الدائرة" إلى إيجاد انفتاح في الشكل عن طريق الامتناع عن اكتمال أي مركز فني، أو دلالي في النص. إنه يسترجع سؤال السخرية - فيما بعد الحداثة - من الاتجاهات السابقة ذات البنية المحددة في تاريخ الأدب، والمذاهب الفنية. لا يهدف النص إلى تعميق شعور، أو سؤال فكري ما، وإنما يدفع المتلقي إلى ممارسة الفعل الجمالي، والمشاركة في إنتاجه بوسائل متناقضة، ومختلفة.

يستعيد النص معنى التراجيديا، ولكنه يقدمها بصورة احتمالية دائرية؛ إذ تتعدد مستويات الصراع، والقتل في النص، والعرض، كما تختلط الأصوات، والشخوص، وتتجاوز الحدود التقليدية في الدراما القديمة، والبطل يعاني من ضعف يؤدي إلى السقوط، وهو رغبة التوسع، والغرور، وهو طيفي بالأساس، وخصوبته ممتدة، كما أن موته محتمل في تكوين المرأة الصحراء الاستعاري. ويندمج التشكيل في التطور الدرامي، ولكنه يثور جمالياً على المعنى، ويحقق اختلافاً في التأويل انطلاقاً من امتداده التأويلي في المتلقي؛ فالوردة الصحراوية هي بديل للرجل، وطيف أنثوي لخصوبته الاحتمالية مثل موته.

 

يطرح الراوي سؤالاً في نهاية العرض يقول فيه:

"من منكم يخبرني يا سادة؟ من تخلو سيرته من الصحراء؟"

ورغم ما يثيره السؤال من أفكار تحفز وعي المشاهد تجاه معنى العلاقة بين الرجل، والمرأة، وتداخلها مع الصراع، والقتل، والموت، والحب، فإنه يختلف عن السؤال الذي يتركه بريخت في المسرح الملحمي؛ إذ يجسد سؤال بريخت معنى ثورياً منتخباً من موقفين متعارضين؛ مثل معنى استحقاق جروشا للطفل الذي رعته بعد أن تركته أمه الأصلية وقت الحرب في نص "دائرة الطباشير القوقازية"، بينما يتجه سؤال الراوي هنا إلى متلق يعي بمأساة الرجل الدغل، وهو سؤال جمالي بالأساس؛ إذ يحفز المتلقي نحو إنتاج تأويل مجازي للعالم، ولتلك المأساة الاحتمالية المتكررة.

 

ليس على المتلقي هنا أن يتبنى موقفاً، ثم يغير واقعاً ما، ولكنه مطالب بمزيد من المشاركة في حالة الإغواء الجمالي الممثل في أصالة الاستعارة، وحركيتها داخل النص، وخارجه.

و تعزز البقعة الزرقاء في نهاية العرض من التمرد الفني على حتميات العرض جميعها، وتناهض أي فكرة مباشرة عما كان يحدث من قبل.

 

مصر