هذا عدد خاص، عدد استثنائي من (الكلمة)، لأن رحيل الشاعر الكبير الذي خصصنا له هذا العدد خاص واستثنائي. لذلك أثار رحيله اهتماما واسعا وغير مسبوق، لا في الثقافة العربية وحدها، وإنما في العديد من الثقافات الإنسانية. ويسعى هذا العدد الذي سيبقى مفتوحا من (الكلمة) لتجسيد بعض ملامح هذه الظاهرة، ولتأكيد حضور محمود درويش وفاعليته في الثقافة العربية والإنسانية رغم رحيله. ولهذا تغير فيه (الكلمة) تبويبها المألوف ليستوعب العدد بعض ما أثاره رحيل الشاعر وليجسد الق حضوره الدائم والمستمر.

محمود درويش: لماذا؟

فداحة الغياب / ألق الحضور - (1941 - 2008)

صبري حافظ

لماذا محمود درويش؟ لماذا تخصص (الكلمة) التي حرصت من بداية مسيرتها القصيرة على أن تكون مجلة لكل الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج عددا بأكمله له، وقد رحل الكثيرون منذ صدورها، وكان أكثر ما فعلته إزاء فداحة الفقدان أن خصصت ملفا داخل العدد العادي لوداع الفقيد والحديث عن مناقبه. ألم يكن تخصيص ملف خاص عن محمود درويش داخل العدد العادي كافيا؟ وبداية فإن جواب هذا العدد هو لا! ولأن (الكلمة) مجلة لكل الثقافة العربية تستشعر نبضها، وتعبر عن أدق خلجاتها، كان عليها أن تستجيب لبنية مشاعر تلك الثقافة ولعمق صدمتها بفقدان أحد أهم أعلام هذه الثقافة في العصر الحديث. فلم تعبر الثقافة العربية طوال العقود الخمسة الأخيرة على الأقل عن لوعة الفقد بهذه القوة وهذا الشمول من قبل. لذلك لم يكن ممكنا أن نكتفي بملف عن درويش داخل العدد، إلا إذا التهم الملف العدد كله واستولى عليه كما حدث في العدد الذي نطرحه بين يدي القراء في هذا الشهر.

إنه عدد استثنائي في مسيرة (الكلمة) لأن محمود درويش كان شاعرا ومبدعا ومفكرا استثنائيا في مسيرة ثقافتنا العربية الحديثة. فقد استطاع درويش ـ كما استطاع الراحل الكبير إدوارد سعيد قبله ـ أن يكون تجسيدا حيا لأفضل ما يمكن أن تقدمه الثقافة العربية والقضية الفلسطينية لثقافتنا وللعالم معا. فلايمكن حقيقة سبر أغوار أهمية أي منهما، وحقيقة المشاعر التي احاطتهما الثقافة العربية بها، دون فلسطين: جرح العرب الدامي، والتجلي المأساوي لإخفاقهم الموجع في تحقيق حداثتهم ـ بالمعنى الشامل والعميق للحداثة، والعصب العاري الذي يستشعر عبره كل العرب ـ على مد الساحة العربية من المحيط إلى الخليج ـ هزيمتهم المزرية في التاريخ الحديث. لذلك لايمكن إغفال فلسطين كعامل من العوامل المهمة التي ساهمت في بلورة مكانة محمود درويش وصاغت تجربته. فقد عاش محمود درويش الفلسطيني تجربة فلسطيني الأسر وتجربة فلسطيني الشتات، وعبر عنهما معا بعمق وأصالة وتلقائية. وعاش محمود درويش العربي تجربة الحداثة العربية المعطوبة، واشتبك مع الكثير من أعراضها المرضية، وقطرها في شعر بالغ النصاعة والعمق والصفاء. لذلك كان رحيل محمود درويش إثر عملية جراحية مخفقة في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر خسارة لحقت بالقضية الفلسطينية منذ موت إدوارد سعيد، بل وفي حالة محمود درويش خاصة وبالثقافة العربية ذاتها.

1 ـ المثقف العضوي الجديد
ومثل إدوارد سعيد كان محمود درويش واعيا بدور المثقف وبأليات عملية السلطة والهيمنة حسب مفهوم جرامشي، وعلى وعي بالعلاقة بين المعرفة والقوة في بعديها الفوكودي والجرامشي معا. ويعرف الكثيرون تفريق جرامشي المشهور بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي. فالمثقف التقليدي هو أقرب ما يكون إلى المثقف المحترف الذي يعتبر نفسه مستقلا عن الطبقة المسيطرة، أو جزءا من جماعة مستقلة عابرة للطبقات وتتذرع بوهم باستقلالها النسبي عنها، وتشكل نوعا من الاستمرارية والصيرورة التاريخية لجماعة المثقفين باعتبارهم نوعا من النخبة المغلقة. أما المثقف العضوي فهو الذي ينتمي لطبقة ويصبح جزءا من سعيها الواعي لفرض هيمنتها، فكل طبقة صاعدة تسعي في رأي جرامشي لاستيعاب المثقفين التقليدين والسيطرة عليهم أيديولوجيا، ويضرب مثلا بطبقة اللاهوتيين التي قامت بوظيفة المثقف العضوي للإقطاع، والتي كانت مسيطرة حينما صعدت البرجوازية وسعت للهيمنة عليها. ويكشف بذلك عن أن المثقف التقليدي هو في الوقت نفسه المثقف العضوي لنمط من الانتاج تم تجاوزه، بينما يسعى المثقف العضوي لتحقيق هيمنة الطبقة التي صعدت مع نمط الإنتاج الجديد(1).

فماهية المثقف لا تحددها إذن معرفته وطريقة تفكيره، فهذه من الأمور التي تنطبق على كل البشر، وإنما طبيعة الدور الذي يلعبه. وكان في كل من إدوار سعيد ومحمود درويش شيء من المثقف التقليدي الذي يعتبر نفسه مستقلا عن الطبقة المسيطرة، أو جزءا من جماعة مستقلة تترفع عن الانخراط في بنية تلك الطبقة السائدة، أو المعبر السياسي عنها. وتشكل نوعا من الاستمرارية والصيرورة التاريخية لجماعة المثقفين باعتبارهم نوعا من الضمير الجمعي المستقل. كما كان فيهما أشياء من المثقف العضوي ـ حسب تعريف جرامشي له ـ والذي ينوب عن طبقة ويتصرف كمندوبها لتحقيق هيمنتها في المجتمع المدني، وسيطرتها من خلال جهاز الدولة. فالمثقف العضوي هو المثقف المشغول بتحقيق هيمنة الطبقة التي يتصل بها اتصالا عضويا ويمثلها فكرا وعملا. لكن الأمر بالنسبة لهما معا لم يكن أمر طبقة بل أمر شعب بأكمله تحتاج قضيته التي عانت من المحو والتشويه إلى من يضعها على خريطة الضمير الإنساني. بهذه الطريقة يمكن القول بأنهما طورا مفهوم المثقف العضوي عند جرامشي تطويرا أساسيا، ليحرراه من علاقته العضوية بطبقة محددة، أو بسلطة موقوتة، ويربطاه بقضية وطن وشعب. وهذا ما يفسر في وقت واحد سحرهما وسلطتهما الطاغية على الوعي العربي بأكمله، لأنهما ارتبطا عضوية بأهم قضايا الوعي العربي، ألا وهي قضية فلسطين، وكانا مثقفيّها العضويين. وبدون الوعي بنلك الإضافة الأساسية التي شارك محمود درويش في صياغتها مع إدوارد سعيد لايمكن استيعاب الدور الجبار الذي لعبه محمود في توسيع جمهور الشعر والارتقاء بالذائقة الشعرية على مد الوطن العربي بأكمله.

والواقع أن ما ساهم في توسيع قاعدة شعبية كل منهما، ليس فقط تطوير كل منهما الخلاق، كل على طريقته لمفهوم جرامشي عن المثقف العضوي فحسب، وإنما لأنهما ظهرا، ولعب كل منهما دوره المختلف، في مرحلة تعاني من ـ ونستفيد هنا في توصيفها من مصطلح آخر لجرامشي هو السلطة الخاوية Interregnum. ـ الفراغ السياسي البنيوي، وهو مفهوم استمده جرامشي من التاريخ الأوروبي في العصور الوسطى، وما عرف فيه باسم مرحلة الفراغ البنيوي أو العروش الخاوية Interregnum حينما كان الحاكم الطبيعي يموت دون أن يخلف وريثا شرعيا للعرش. كانت الإقطاعيات والممالك الصغيرة تعاني حينذلك من فقدان الشرعية، ويصيبها الخلل والفوضى، وتصبح نهبا لمطامع الطامعين. وهو وضع عاشه العالم العربي كثيرا في فترة المماليك. ولايزال يعاني منه منذ عقود، حيث يفتقر العالم العربي كله إلى سلطة لها شرعيتها ومصداقيتها في نظر جماهيره العريضة على الأقل. ويعاني من الخلل والفوضى، بعد أن انقض عليه الطامعون من كل حدب وصوب. بدءا من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وليس انتهاءا بالاحتلال الأمريكي للعراق، مرورا بالأنظمة والإرادات السياسية المحتلة منذ آماد طويلة. وسط هذا الفراغ السياسي البنيوي والافتقار للشرعية ظهر إدوار سعيد على ساحة الثقافة العربية والدولية معا ليكون المثقف الذي يطرح الحقيقة في مواجهة القوة أو السلطة الغاشمة، حسب تعبير عزيز على سعيد Speak truth to power كذلك سعى محمود درويش ـ بدرجة أقل وتحت تأثير إدوارد سعيد ـ إلى أن يفعل الشيء نفسه، بطريقته الشعرية والاستعارية الخاصة، في واقع فلسطيني والغ في الفساد والتعقيد معا. ولكن دعنا الآن من كل هذا التنظير، ولنتريث قليلا عند فداحة الفقد وتأثيرها الشخصي عليّ.

2 ـ ثالوث الإنجاز وفداحة الفقد
جاءني الخبر كالصاعقة وأنا مشغول به وقلق عليه، فلم أستطع أنه أستوعبه. هل توقف حقا قلب الشاعر عن الخفقان؟ وهل استطاع الموت الذي راوغه أكثر من مرة أن يصرع الشاعر وهو يواصل انطلاقاته برغم الوجع الشخصي والقومي في أصقاع شعرية لم تسمع فيها وقع لقدم عربية قبله؟ هل انتصر الموت في نهاية المطاف على الشاعر الذي اثبت بقوة موهبته، وعمق حدوسه، ونفاذ بصيرته، أن في الهوان العربي المنقسم على ذاته من المحيط إلى الخليج، والفاقد للرؤية والبوصلة معا، شعر وحياة؟ وكان الخبر صاعقا، لأنني كنت ـ كما سأوضح بعد قليل مشغول به وقلق عليه ـ أتابع انطلاقته من ذروة إلى أخرى. فقد كانت السنوات الأخيرة بحق، وبالتحديد منذ (جدارية) عام 2000، هي سنوات انطلاق محمود درويش في فتوة إبداعية جديدة من ذروة شعرية غير مسبوقة إلى ذروة أخرى غير مسبوقة. ومن تحقق شعري وإنساني إلى تحقق شعري وإنساني أكبر.

فقد استطاع محمود درويش ـ على مد مسيرته الشعرية الخصيبة ـ أن يحقق ثلاث أنجازات شعرية كبيرة لم تجتمع قبله في شاعر عربي واحد. وهي أن يكون شاعر قضية بأرقى معاني هذا المصطلح فأصبح هو الشعر وفلسطين معا، وتماهى الشاعر مع الرمز في كيان واحد. وأن يكون شاعرا شعبيا له سلطة واسعة على جمهور الشعر والأدب ترتقي به إلى مرتبة الشاعر النجم الذي يعشقه جمهوره ويتكبد المشقة للذهاب للاستماع إليه. وأن يكون شاعرا طليعيا مهموما بتوسيع أفق القصيدة وإرهاف قدراتها التعبيرية والبنيوية عمقا ونفاذا. وفي الجمع بين هذه الإنجازات الثلاث يكمن سحر محمود درويش وإنجازه المعجز. فهي إنجازات تبدو وكأنها تتناقض مع بعضها البعض في موروثنا العربي ـ بل حتى في موروث الشعر الإنساني ـ لأن من المستحيل على الشاعر أن يكون شعبيا وطليعيا، يرضى الجماهير الواسعة، ويعبر عن رؤاها وصبواتها، ويستقطب اهتمام النخبة المثقفة التي ترنوا إلى مستويات شعرية أعمق، وتحن إلى ارتياد اصقاع الشعر والمعنى المجهولة على الدوام. فقد قرّ في المحفوظ الأدبي أن الأمرين متناقضان، وأن من ينجح في تحقيق أحدها يخفق في إنجاز الآخر، حتى أثبت محمود درويش عكس ذلك، وأن الشاعر الحريص على جمهوره، يمكنه أن يرتقي بذائقته، وأن يأخذه معه في بحثه المخلص عن شعر جديد. لكن هناك تعارضا ظاهريا آخر، وهو أنه من المستحيل أيضا أن يكون الشاعر مهموما بقضية ورمزا بارزا من رموزها السياسية دون أن يورطه هذا الهم في رمال الأيديولوجية الناعمة، خاصة وأن القضايا العربية ارتبطت بعلو النبرة والمباشرة وبنوع من الجعجعة التي يرفدها الشعر بصخب موسيقى رنان. لكن درويش ـ مثله في ذلك مثل الشعراء الكبار بحق كبابلو نيرودا أو ناظم حكمت ـ أستطاع أن يرتقى بقضيته، وهي قضية العرب قاطبة، إلى آفاق الهم الإنساني الأكبر بالحق والعدل والحرية.

فكل واحد من هذه الإنجازات الثلاثة كفيل بأن يمنح محققه مكانة الشاعر الكبير. فقد أستطاع كثير من شعرائنا المحدثين أن يتبوأوا مكانة كبيرة بتحقيق واحد من إنجازاته الثلاثة تلك. فقد استطاع أحمد شوقي أو نزار قباني أن يكون شاعرا شهيرا بتحقيقه هذا التأثير الجماهيري الواسع، وبلغته السلسة القادرة على مخاطفة مشاعر الجماهير وعواطفهم. وهو الأمر الذي حققه درويش، بل فاق فيه ما أنجزه الشاعرين الكبيرين، لأنه لم يقع في أسر تلك الجماهيرية كما وقع فيها نزار قباني مثلا، ولم يستسلم لمطالب الجماهير وذوقها وهو أمر شديد الإغراء والغواية، وإنما تحرر منها، وصحب جمهوره معه في مغامرة شيقة تستحق دراسة وحدها. كما استطاع أدونيس مثلا أن يكون شاعرا كبيرا من خلال اهتمامه بتوسيع أفق القصيدة وإرهاف إمكانياتها الشعرية والانطلاق بها في أصقاع تعبيرية جديدة. ولكنه بقي شاعر النخبة، لا تستسيغه إلا مجموعة محدودة من القراء والمتخصصين. وظل أسير إنجازاته المحدودة يجترها ويكررها ويكرس جهده النقدي لحمايتها وتثبيت مكانتها في واقع يقاومها، أو لايعبأ بها إلا قليلا. أما شعراء القضايا السياسية والفكرية فكثيرون، لعل أبرزهم محمد مهدي الجواهري، الذي حصرته قضيته في قالب شعري واحد كي يرفدها بما تحتاجه من الصوت الجهير والموسيقى الصاخبة. ومع مراوحته الشعرية في مكانه كان حتما أن تسوخ به قضيته في رمال الأيديولوجيات الناعمة حتى لم تبق له على ذكر.

قلت كنت في الشهر الأخير مشغولا بمحمود درويش برغم أن صلتي به ومعرفتي الشخصية به تعود إلى عدة عقود. فقد تلقفت شعره في مطالع الشباب ضمن مجموعة ما عرف بشعراء المقاومة في الأرض المحتلة ـ توفيق زياد، راشد حسين، سالم جبران، سميح القاسم وآخرين ـ حينما هبت علينا أشعارهم عقب جائحة 1967 لترد إلينا الأمل بعد ضربة حزيران المصمية. وكتبت عنه وعن رفاقه من الشعراء في مجلة (الآداب) عقب النكسة وقبل أن ألتقي به حينما وفد إلى القاهرة عام 1971 وكان أول عمل له فيها أن أنضم إلى هيئة تحرير الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة) بجريدة (الأهرام) والذي كنت أحد محرريه. منذ هذا الوقت عرفته وتابعت شعره، والتقيت به لماما في بيروت وباريس وتونس وغيرها من المنافي التي توزعت عليها أطراف رحلته. ولكني في الشهر الأخير كنت مشغولا به بشكل استثنائي. فقبل أقل من شهر من رحيله، وبالتحديد في السابعة مساء يوم 14 يوليو الماضي، حضرت، ما أصبح الآن آخر أمسيات محمود درويش الشعرية، في مدينة «آرل» بجنوب فرنسا. كان الصديق محمد برادة قد أخبرني بأنباء هذه الأمسية، وكنت في مدينة آفينيون القريبة أتابع مهرجانها المسرحي السنوي، فقررت حضورها معه. وكنت قد استمعت بمحض المصادفة في الأسبوع نفسه ـ على قناة الجزيرة مباشر ـ إلى أمسية محمود درويش الشعرية التي عقدت بمناسبة الذكرى المئوية لبلدية رام الله، والتي تضمنت ضمن ما تضمنت من قصائد قصيدته الجديدة الجميلة «لاعب نرد» التي يؤكد فيها أنه ـ كأي شاعر كبير ـ يواصل باستمرار تجديد شعره واكتشاف اصقاع شعرية خصيبة وجديدة، وإدخال الشعر العربي في حوار تناصي خلاق مع أحد أبرز منجزات الشعر الأوروبي وهي قصيدة «رمية نرد» للشاعر الفرنسي الأشهر ستيفن مارلاميه، والتي ترجمها للعربية مؤخرا الشاعر المغربي الشهير محمد بنيس.

و«آرل» مدينة صغيرة في الجنوب الفرنسي تتميز بضوئها النقى الساطع الذي شد له التأثيريون الفرنسيون الرحال، وأقام بها الرسام الهولندي الشهير فينسينت فان جوخ ردحا من حياته. وبأنها من المدن الفرنسية القليلة التي تقام فيها مباريات مصارعة الثيران. وسط هذا الضوء الرقيق الصافي وقبيل المغيب بساعتين وقف محمود درويش، وقد أطرته أشعة الشمس الرقيقة التي تتسلل من بين أغصان الشجرتين الضخمتين خلفه بـ«دنانيرها التي تفر من البنان» في أمسيته ـ التي لم يعرف أحد، ولا محمود نفسه أنها أمسيته الشعرية الأخيرة ـ يلقى قصائده الجميلة علي حشد كبير من الجمهور الفرنسي، كان بينهم عدد من المثقفين المعروفين، فقد التقيت فيها بالناقد الفرنسي البلغاري الشهير تزفتيان تودوروف وبالشاعر الكبير بريتين بريتينباخ أشهر شعراء جنوب أفريقيا، وبعدد من السفراء والمثقفين ـ شكرا للسفيرة الفلسطينية النشيطة ليلى شهيد ـ ناهيك عن جمهور غفير من عشاق الشعر ومتذوقيه. فقد عقدت الأمسية في المسرح الروماني القديم في «آرل»، وحضرها ما يقرب من ألف شخص، بالرغم من أن سعر تذاكرها لم يكن رخيصا، فقد كان ثمن التذكرة حوالي عشرين يورو (أي ما يعادل 150 جنيه مصري). أقول أنه برغم ارتفاع ثمن التذكرة تقاطر الكثيرون على الأمسية. وكان بينهم عدد من العرب بلاشك، ولكن الأغلبية كانت من عشاق الشعر من الفرنسيين. فقد استطاع هذا المزيج الراقي من الشعر العميق الذي يلقيه محمود درويش بالعربية، ثم يلقي ممثل فرنسي محترف هو ديدييه ساندر ترجمته الجميلة التي قام بها الشاعر الفلسطيني إلياس صنبر، يتخلله عزف على العود من الأخوين جبران، أو يصاحب الإلقاء كما حدث مع قصيدة جيتارتان، استطاع هذا المزيج الراقي أن يأسر الجمهور وأن يرد للشعر قيمته واحترام الجمهور له. فقد برهنت تلك الأمسية على أن للشعر قدرة سحرية على التأثير في متلقيه، خاصة وأن قصائد درويش المنتقاة استطاعت برغم عذوبتها اللغوية وأحيانا لعبها اللفظي على تركيبات المفردات العربية أن تعبر حاجز اللغة بسهولة بفضل بنيتها المركزة ومفارقاتها الدالة، وأن تستقطب إعجاب الجمهور الفرنسي وتقديره.

ولم أكن أعرف وقتها أن لقائي به في «آرل»، والكلمات القليلة التي تبادلتها معه فيها، والأمسية الشعرية التي امتدت لأكثر من تسعين دقيقة، هي أخر ما سأتبادل معه من كلمات، وآخر ما سأحضره له من أمسيات. أفضيت له بإعجابي الشديد بقصائده الأخيرة، وكنت قد نشرت «لاعب نرد» في (الكلمة)، وبأنني سأتوجه بعد شهر إلى إدنبره للحديث عنه بمناسبة عرض المسرح القومي الفلسطيني لعمل مسرحي مأخوذ عن قصيدته الطويلة (جدارية) ضمن وقائع مهرجان إدنبرة المسرحي لهذا العام. وأنني اعتزم وضع كل أعداد مجلته المهمة (الكرمل) على موقع (الكلمة) الإليكتروني حتى تصبح متاحة للجيل الجديد الذي لم يقرأها وللأجيال القادمة بعده، وهو الأمر الذي سر به كثيرا واوصاني بالمسارعة بإنجازه. ولم أعرف وقتها أيضا أن هذه من آخر وصاياه. بل إنني خرجت ليلتها من المسرح الروماني في «آرل»، وقد غابت الشمس، ولم أفكر كثيرا في اختيارات محمود من القصائد التي قرأها في تلك الأمسية، لأن استجابة الجمهور الفرنسي والعربي لها استحالت إلى موجة كاسحة تؤكد سلطة الشعر على البشر، وقدرته على الارتقاء بهم وبالحياة معا. ولكني حينما أستعيد الآن ما جرى، وأتذكر أن القصيدة التي ختم بها امسيته كانت المقطع الأخير من (جدارية)، حيث بدأه بـ

ومثلما سار المسيح على البحيرة
سرت في رؤياي، لكني نزلت عن
الصليب لأنني أخشى العلو، ولا
أبشر بالقيامة، لم أغير غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحا

بهذه البداية الرؤيوية والبالغة الخصوصية معا من تلك القصيدة الحافلة بالرؤى والرؤى المضادة، بمقارعاته للموت وتحديه المستمر له إبان معركته معه عقب عملية القلب المفتوح التي أجراها في باريس عام 1998، باستعادات الأشعار والقراءات والأساطير التي ينتصر بها للحياة على الموت، وأهم من هذا كله بتلك النبرة التي يمتزج فيها الإعجاز بالبساطة، والروح التنبئية بالتهكم، والواقع بالحلم بدأ هذا المقطع، وهو المقطع الذي يتوسطه التغني باسمه، وكأنه كان كان بلاوعي منه يتشبث على الملأ باسمه:

واسمي وإن اخطأت لفظ اسمي
بخمسة أحرف أفقية التكوين لي
ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى
حاء الحديقة، والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم المغامر، والمُعَد، المستعد لموته
الموعود، منفيا، مريض المشتهى
واو الوداع، الوردة الوسطى
ولاء للولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال الدليل، الدرب، دمعة
دارة دَرَست، ودوري يُدللني ويُدميني
وهذا الإسم لي..
ولأصدقائي أينما كانوا ولي

ويؤكد مع هذا التشبث الذي يمتزج فيه الغنائي بالدرامي بالاستشرافي أنه اختار في هذا التغني باسمه أن يفتح الأفق على كل الاحتمالات وكأنها يعدنا لنهاية المقطع والقصيدة الملحمية معه يحنما يتخلى عن هذا كله: المغامر المعد المستعد لموته الموعود، فهو المتيم والميتم والمتمم ما مضى، ولكنه لعمق المفارقة يدرك في الوقت نفسه:

أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي

هكذا ينتهي هذا المقطع الأخير وتنتهي به القصيدة (الجدارية) الكبيرة التي أحال فيها الشاعر تجربته شديدة الخصوصية إلى جدارية لمقارعة الموت والانتصار للحياة. ينتهي بامتلاء الشاعر بكل أسباب الرحيل، وبوعيه معه بأنه ليس لنفسه، وإنما للشعر وللحياة. كان هذا المقطع الذي انهى به أمسيته اختيارا يوشك أن يكون الآن استشرافيا لما سيجيء. وحينما استعاد الجمهور بمواصلة التصفيق الشاعر للمسرح من جديد كي يقرأ قصيدة أخرى قرأ «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا»

وها أنا إدرك الآن وأنا استعيد اللحظة واختياراتها أنه كان يحدس ـ وقد كان مشغولا بفحوصاته الطبية التي سيجريها في باريس واحتمالات عملية فتح قلب أخرى ـ أن أمامه معركة مع الموت، وأنه يؤكد له ولنا ضرورة انتصار الحياة. وإذا كان الموت قد انتصر على «الجسد المؤقت حاضرا أو غائبا» فإنه قد انهزم أمام الشعر الجميل الذي سيبقى وسيبقى معه اسم محمود درويش خالدا محفورا في ذاكرة الشعر العربي للأبد.

3 ـ مسيرة حياتية وشعرية:
والآن كفى مواساة للنفس عن فداحة الفقد باستعادة آخر لقاء معه، ولنعد لمحمود درويش الذي وضع الموت الغاشم نهاية لحياته الحافلة. ولد محمود درويش في 13 مارس 1941 في قرية البروة التي تبعد تسعة كيلومترات شرق عكا، ومات في 9 أغسطس 2008 في مستشفى «ميموريال هيرمان» في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية. وبين الموت والميلاد عاش الكثير من أحداث عالمنا العربي وتحولاته، وأنجز الكثير على صعيد الشعر والفكر معا. ويبدو أنه ومنذ بواكير حياته كان على موعد مع القدر. فلم يولد قبل ولادة دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة بسبع سنوات ـ ولرقم سبعة دلالاته الشعرية والأسطورية الواسعة ـ ليكون شاهدا علي أهم أحداث الواقع العربي في العصر الحديث فحسب، أو ليكون دائما أكبر من دولة الاغتصاب الصهيوني، ولكن أيضا أباه تزوج أمه في عام 1936 وهو عام الثورة الفلسطينية الشهيرة. وما أن بلغ السابعة من عمره حتى وقعت النكبة، ولم يستطع الصبي الصغير أن يفهم وقع أحداثها المزلزلة التي أنهت طفولته قبل الأوان، وغيرت حياته إلى غير رجعة. انتهى زمن الرخاء الذي وفرته له أرض الأب «سليم درويش» وبساتينه في البروة، أو جاه جده لأمه «أديب البقاعي» الذي كان مختار (عمدة) قرية الدامون المجاورة. وأصبح الأب بعد تجريف البروة بسبب مقاومتها الباسلة للعصابات الصهيونية عاملا في محجر، يقطع من الصخر ـ فعلا لا مجازا ـ قوت أولاده الثمانية. وبدأ عهد جديد، عهد الطفولة الخالية من الطفولة، بعدما استحالت أسرته إلى أسرة من المتسللين ـ بسبب أنها تركت قريتها بعدما استعادها أهلها من أيدي الصهاينة، وسلمتها لجيش الإنقاذ العربي، الذي سرعان ما خسرها بدوره، فأزالها الصهاينة، بسبب مقاومة أهلها الباسلة من على الخريطة. ورحلت إلى لبنان لما يقرب من العام ثم عادت من جديد لتتحول إلى «متسللين» لاحق لهم في أرضهم، التي ينص دستورها الجائر على أن لكل يهودي حقا فيها. ولذلك لم يستطع محمود الصبي أن يندرج، كأي طفل عادي في المدرسة، وإنما كان يتسلل إليها دون أن يكون مدرجا على كشوف تلاميذها. فقد أنكرت سلطات الاستيطان الصهيوني وجوده نفسه، أنكرت عليه حق الحياة في وطنه وحق الوجود. أرادت محوه كما محت قريته عن وجه الخريطة، وهو الذي سيفرض في نهاية رحلته وجوده على العالم كله، وسيحظى نبأ رحيلة بتغطية دولية لم يحظ بها عربي من قبل، كاتبا كان أو سياسيا. فرحلة محمود درويش رحلة تنطلق من المحو الجغرافي والإنساني على السواء، وتنتهي بأبهى أشكال التحقق والوجود في قلب العالم وفي وعيه معا.

لكن محمود الصبي، وهو الإبن الثاني للأسرة، ربى ذاكرته على حكايات جده ومخزونه الشفهي الخصب من الحكايات والأشعار التي تقاوم المحو وتعيد كتابة الممحو في الذاكرة. فذاكرة الفلسطيني هي حصنه أمام عوادي الاغتصاب الصهيوني للأرض والتاريخ. وهي سبيله الأول للمقاومة والتصدي لمخططات محوه واستلاب أراضيه. وفي عام 1953 وكان لايزال في الثانية عشرة من عمره كتب قصيدة في احتفال مدرسي، كان لمرارة المفارقة بمناسبة تأسيس دولة الاغتصاب الصهيوني، كتب فيها ببراءة صبي عن معاناة الطفل الذي شرد وعاد ليجد الآخر يقيم في بيته، ويلعب أطفاله بألعابه، ويحرث حقل أبيه. وفي اليوم التالي استدعاه الحاكم العسكري، ولنتركه هو يصف لنا ما جرى «وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها. وهكذا علّمني الاضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحا»(2). لكنه سلاح ذو حدين، لأنه جر عليه المتاعب. فقد سجن بسببه بين عام 1961 و1967 خمس مرات، غير عمليات تحديد الإقامة الجبرية.

وكان محمود قد انتمى للحزب الشيوعي وأخذ يعمل في جريدته (الاتحاد) التي كان يرأس تحريرها إميل حبيبي، والذي جعلها هي ورديفها الأدبي (الجديد) منفذ التعبير العربي عن الهوية الفلسطينية التي كانت عملية محوها هي سياسية دولة الاستيطان في فلسطين منذ بدايات المشروع الصهيوني، وحتى الآن. وفي عام 1971 أرسله الحزب في دروة دراسية مع الكموسمول في موسكو، وقرر بعد انتهائها ألا يعود إلى الأسر الصهيوني مرة أخرى، بل توجه إلى القاهرة التي استقبلته مفتوحة القلب والذراعين. وقد ثار بعض اللغط وقتها بشأن خروجه من الأسر الصهيونيز وهنا يجيب درويش نفسه على أسئلة الصحفي حول خروجه من إسرائيل قائلا: «ببساطة شديدة، صرت مليئا بالإحساس بأنني عاجز عن الاستمرار في الحياة، في قفص العدو الذي يسمح لي بممارسة التعبير عن ثورتي، ووطنيتي، وكأنني تحولت إلي حيوان قادر علي الصراخ، ولكنه عاجز عن الحركة والتأثير»(3).

وفي عام 1973 انتقل إلى بيروت وعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني ثم رئيسا لتحرير (شؤون فلسطينية)، ثم أسس درويته المهمة (الكرمل) عام 1981. وبعد اجتياح بيروت عام 1982 غادرها إلى تونس ثم إلى فيينا لأجراء عملية تدخل جراحي في القلب عام 1984. عاد بعدها إلى باريس وبقي فيها حتى عام 1995، حين عاد إلى رام الله واستأنف إصدار (الكرمل) من هناك حتى توقفت من جديد عام 2006. لكنه عاد إلى باريس مرة أخرى عام 1998 لإجراء جراحة ثانية للقلب المفتوح هذه المرة، وهي الجراحة التي كتب عنها قصيدته الطويلة (جدارية). رجع بعدها ليعيش بين رام الله وعمان، حتى كانت رحلته الأخيرة إلى فرنسا، ثم الولايات المتحدة حيث تمت جراحة تغيير 26 سنتيمترا من شريانه الأبهر في 6 أغسطس، والتي مات بعدها بأيام ثلاثة. ولا يمكنني هنا مقاومة السؤال الذي يتخلق من ملابسات الجراحة والموت ـ وقد كنت خائفا من أن يجري درويش رمز فلسطين وتجسيدها الأنقى، أي جراحة في أمريكا: ميتروبوليتان دولة الاستيطان الصهيوني وحاميته وشريان حياته الغاشمة ـ هل أجهز العراقي الأمريكي، ويا ويلنا حينما يصبح العراقي أمريكيا، على الرمز الفلسطيني؟ أقول وأنا لا أريد أن أظلم الجراح «العراقي الأمريكي» أن الرمزية التي تنطوي عليها الملابسات مرعبة ومترعة بالقسوة. فلو لو لم يكن الجراح «عراقيا أمريكيا» وكان أمريكيا خالصا، هل كان باستطاعته إقناع الشاعر بعملية كان شديد التردد إزاءها، وحذره منها طبيبه الفرنسي؟

هذه الحياة التي توزعت بين المنافي، استحالت إلى رحلة إوديسية كبيرة في البحث عن الشعر والوطن والحقيقة، وشكلت على صعيد الإبداع واحدة من أغنى مسيرات الشعر العربي في العصر الحديث. ورفدت شاعرنا الذي أخلص للشعر ولقضيته معا، وواصل تكوينه الثقافي بالقراءة الجادة والبحث العميق، بحصاد وفير من الأعمال الشعرية التي بلغت خمسة وعشرين عملا شعريا(4). توزعت بين الدواووين والقصائد الطويلة التي صدرت في دواوين مستقلة، وثمانية أعمال نثرية(5). استطاعت (ذاكرة للنسيان) أن تتألق بينها كعمل سردي إبداعي متميز. واستطاعت عبر هذا التراكم الإبداعي الخصب أن تعيد طرح القضية الفلسطينية ـ قضية العرب الأساسية مع التاريخ ومع الحداثة معا ـ كقضية إنسانية كبرى لها أبعادها العامة والخاصة، المشخصنة أحيانا في معاناة الشاعر/ الإنسان، والإنسان العادي معا (لماذا تركت الحصان وحيدا)، والمفتوحة أحيانا أخرى على التاريخي والفلسفي والمطلق (في حضرة الغياب)، والقادرة في أحيان ثالثة ـ وهذا من أبرز إنجازاته الفكرية والشعرية معا ـ على أن تخلق أساطيرها الخاصة، وأن تقارع بتلك التواريخ أساطير العالم الراسخة من زمن الكنعانيين حتى زمن الهنود الحمر، ومن تشرد أوديسيوس حتى تصالح الشاعر مع المنافي المتجسدة في قلب الوطن. ليضيف الواقعي للأسطوري أبعادا جديدة، بينما يحقق الواقعي انفتاحه على الإنساني والكوني، بصورة تتحول معها القضية الفلسطينية الخاصة إلى تجل جديد من تجليات المأساة الإنسانية عبر التاريخ. ولم يكتف بتحويل قضيته العادلة إلى قضية إنسانية كبرى فحسب، بل ساهم بها وعبرها في الأضافة إلى ضمير الشعر نفسه من خلال مغامراته الإبداعية المستمرة مع شكل القصيدة وبنيتها ولغتها معا. بصورة جعلته شاعرا فاعلا في الساحة الشعرية الدولية، اهتمت كل الصحف الدولية في أوروبا وأمريكا بنبأ رحيله ودلالات انجازه الكبير. وأنقذ بذلك الشعر العربي نفسه من كثير من التهم التي طالما وجهت له على أكثر من صعيد. 

4 ـ أرق البحث والسؤال:
ويوشك محمود درويش في هذا المجال أن يكون الرديف الشعري لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ من حيث مروره بعدد من المراحلة الأدبية المختلفة، وتجاوزه المستمر لأنجازة في زمن يستنيم فيه المبدعون لدعة ما يحققون. فبينما نجد لدى أكثر كتابنا المجيدين مرحلة أو مرحلتين، يمر أنتاج نجيب محفوظ مثلا بخمس مراحلة أو ستة من الرواية التاريخية إلى الواقعية، الى الرواية النقدية، إلى الرواية الحداثية، إلى الرواية التي تحاور التراث وتحقق تناصها الفريد مع روائعه. وهذا هو الحال مع محمود درويش. الذي بدأ في ديوانيه الأولين شاعرا أقرب ما يكون إلى شعراء الرومانسية والتحدي الانفعالي، وإن كتب في هذه المرحلة الباكرة قصيدة الشهيرة «بطاقة هوية» التي اشتهرت بسجل أنا عربي، وأصبحت راية على العصيان الفلسطيني أمام محاولات الصهاينة المستمرة لمحو هويتهم في زمن كان الصهاينة يعلنون فيه أن الفلسطينيين لاوجود لهم، حسب مقولات الصهيونية البشعة جولدا مائير. في هذه المرحلة كان درويش يحول المعاناة الفلسطينية إلى أغنية عذبة استطاعت أن تستقطب الجماهير لها وأن تعبر عن صبواتهم. ثم تحول في دواوينه الثلاثة التالية ـ وخاصة بعد نكسة حزيران 1967 ووقوع بقية الوطن الفلسطيني في الأسر الصهيوني ـ إلى شاعر للمقاومة بكل ما ينطوي عليه معنى المقاومة من تمرد على المحفوظ الشعري والفكري على السواء، وليس مجرد الثورة على وضع جائر فحسب.

في هذه المرحلة كان الشاعر يؤسس لغته الخاصة وبنيته الشعرية المتفردة، واستعاراته التي تتجذر فيها فلسطين وتتخلق بها الذاكرة المضادة لكل محاولات الطمس والنسيان. وفي هذه المرحلة أيضا بلور درويش ما يمكن تسميته بالحس الجماهيري لشعره، أي القدرة على التعبير عن الوجدان الفلسطيني الجمعي ـ والعربي بالضرورة ـ ومنح قارئه نوعا من التماهي مع رؤاه التي يرى نفسه فيها، ويجد في شعر درويش التعبير الأمثل عما تريد الجماعة صياغته ولا تستطيع بدون شاعرها. كان الواقع الجمعي قد وجد نفسه غيلة في نفق الهزيمة المظلم، ولم يعرف كيف يعبر عن نفسه حيال ورطتها. وجاء شعراء المقاومة الطالعين من الأسر الصهيوني الجديد، ليقدموا له مخرجا. رفض الأسر وهوان الهزيمة، واعتبار المقاومة انجيلا للخروج من مهاوي النكسة وإحباطاتها. كانت صدمة هزيمة 1967 المدوية والجارحة معا تتطلب صرخة تتسم بالأمانة وإن تضمخت بالألم واتسمت بشيء من المباشرة من نوع: «سجل أنا عربي». ومع أن سخرية إيميل حبيبي المرة في (سداسية الأيام الستة) ثم في (سعيد إبي النحس المتشائل) كانت أكثر عمقا وحكمة، إلا أن الواقع العربي كان في حاجة إلى صوت شعر المقاومة غير الملتبس، ونبرته الجهيرة. كان هذا الواقع مستعدا للتماهي مع من رفضوا الاقتلاع وقاوموا أشرس احتلال استيطاني في التاريخ القريب.

ووالواقع أن تماهي الواقع العربي مع تجربته الفريدة، كان نابعا من أنه عبر عن تلك التجربة بإخلاص لم يضع في اعتباره إلا التعبير الصادق عن تجربة يعيشها ويعانيها. يقول محمود درويش في المقدمة التي كتبها للمختارات الشعرية التي ترجمت للفرنسية « حين بدأت الكتابة، كنت مسكونا بهاجس التعبير عن خسارتي، عن حواسي، عن حدود وجودي المحدد، وعن ذاتي في محيطها وجغرافيتها المحددين، دون أن أنتبه إلى تقاطع هذه الذات مع ذات جماعية. كنت أسعي إلى التعبير، غير حالم بتغيير أي شيء سوى نفسي، ولكن قصتي الشخصية، الاقتلاع الكبير من المكان، كانت قصة شعب كامل. لذلك، وجد القراء في صوتي الخاص صوتهم الخاص والعام. فعندما كتبت حنيني إلى خبز أمي وقهوتها، داخل السجن، لم أقصد تجاوز تلك المساحة العائلية، وحين كتبت اغترابي في بلادي وشقاء الحياة والتوق إلى الحرية، لم أقصد إلى كتابة "شعر مقاومة" كما سماه النقد العربي، ووجد في القراء العرب تعويضاً شعرياً مبالغاً فيه عن هزيمة العرب في ما سمي بحرب الأيام الستة»(6) .

وهذا التماهي أو العلاقة العضوية التي أخذت تتخلق وتتوطد منذ استقبال الواقع العربي الحماسي له ولشعراء المقاومة في الأرض المحتلة معه، باعتباره النور الذي ظهر في نفق الهزيمة المظلم، هي التي أسست بداية شعبية محمود درويش الكاسحة. خاصة وأنه كان أكثر شعراء هذه الجماعة موهبة، وأذكاهم حسا في استخدام تلك الموهبة وتطويرها. ثم أنه كان أكثرهم مغامرة، لا في تجربته الشعرية فحسب، وإنما في تجربته الحياتية حيث غامر بالخروج الذي يعرف ألا عودة بعده. وقد طرحته هذه المغامرة في قلب الواقع العربي كممثل لفسطيني الأسر الذي انضم لفلسطيني الشتات، فأصبح المعبر الفعلي عن كل فلسطين/ ومن ورائها عن كل العرب. فاستطاع بسرعة أن يكون حادي الجماعة ومغنيها، بل أكثر مغنييها قدرة على تلمس حاجاتها والاستجابة الخلاقة لبنية مشاعرها ـ بالمعنى العميق لهذا المصطلح عند رايموند وليامز ـ في تلك المرحلة. والواقع أن هذه المقدرة الشعرية على استشعار بوصلة مزاج الجماهير والاقتراب الفعال من بنية مشاعرها. هي التي دفعت مؤسسات السلطة العربية للاحتفال به والحرص على احتوائه وتبنيه. سواء أتعلق الأمر بالمؤسسة المصرية التي حل ضيفا مدللا عليها حينما قرر عدم العودة إلى الأسر في الأرض المحتلة بعد رحلته التدريبية في روسيا، أو السلطة الفلسطينية التي حرصت على استقطابه منذ انتقاله إلى بيروت عام 1974. لكن درويش استطاع في هذا المجال أن يركب الأسد ـ وفق استعارة ابن المقفع الشهيرة ـ بمهارة نادرة. وأن يستخدم حرص السلطة عليه لصالح مشروعه الشعري والفكري على السواء، وأن يحقق المعادلة الصعبة بين السلطة السياسية والسلطكة الشعبية التي تكفلها له جماهيريته الواسعة، وأن يقبض على استقلاله الفني والفكري، برغم موقفه الضعيف بسبب افتقاده للاستقلال الاقتصادي عن تلك المؤسسات(7).

والواقع أنني ـ كما ذكرت من قبل ـ كنت قريبا من موقع محمود درويش في مرحلة (الأهرام) تلك، حيث وضعه محمد حسنين هيكل ـ رئيس تحريرها الشهير الذي كان وقتها في أوج سلطته ـ في غرفة الكبار بالأهرام، وهي الغرفة التي كانت فيها مكاتب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وحسين فوزي وعائشة عبدالرحمن. وهي الغرفة المجاورة لغرفة توفيق الحكيم التي كانت تتحول كل يوم إلى صالون أدبي يؤمه أبرز الفاعلين في الحقل الثقافي. وكنت أتردد يوميا تقريبا على تلك الغرفة بحكم عملي في ملحق مجلة (الطليعة) الأدبي آنذاك. وأظن أن هذه التجربة كان لها دور تثقيفي كبير في حياة محمود درويش، لايقل أهمية عن تجربته الصعبة في الأرض المحتلة. فقد علمته طبيعة الحراك الثقافي العربي، ودور السلطة البارز فيه. ووضعته في قلب خريطة ثقافية معقدة استطاع قراءتها بمهارة والاستفادة من دروسها فيما بعد. كان محمود درويش وقتها في الثلاثين من عمره، ولكنه وجد نفسه فجأة ليس مع أبناء جيله من الكتاب والمثقفين المصريين من جيل السيتينات، وكانوا يعرفون وقتها بالكتاب الشبان، وكان أغلبهم في المعارضة للمؤسسة أو لهم تحفظات أساسية عليها، ولكن وسط نجوم الحياة الثقافية المصرية الكبار الذين احتضنتهم المؤسسة في قلب قلعتها الأعلامية (الأهرام). وكانت الشقة المفروشة التي استأجرها على النيل تقع بالصدفة في نفس البيت الذي يسكنه توفيق الحكيم، مما جعله يدور أكثر في فلك تلك الدائرة الثقافية.

وقد استطاع محمود بسرعة التأقلم مع هذا المناخ المتميز الذي وجد نفسه فيه، ولكنه حافظ في الوقت نفسه على علاقة ما بأبناء جيله. وتمكن من الاستفادة من علاقته بهم في قراءة الخريطة الثقافية المعقدة في مصر وقتها. فثمة طريقة الموظف الحريص على ألا يدخل أبدا في مواجهة من السلطة، وأن يستفيد قدر الإمكان مما توفره له، والتي تمثلت في منهج كل من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. ولكن كانت هناك أيضا طريقة يوسف إدريس بتمردها الصدامي، ونقدها الحاد للمؤسسة ـ خاصة بعدما تسلمها السادات ـ ودفعه المستمر للثمن الباهظ لهذا الصدام من دمه وأعصابه. وكان هناك أيضا في الدور السادس من (الأهرام) حيث كانت مجلة (الطليعة) ومكتب لويس عوض، من يمكن اعتبارهم أقرب الناس إلى محمود درويش الشيوعي القادم من موسكو مباشرة، وإن حرص محمود درويش من البداية على أيضع مسافة بينه وبينهم. راقب محمود كل هذا عن كثب، وتذرع بفلسطينيته كي تمكنه من كسب ود الجميع، وعرف أيضا طريقة بين ألغام ذلك الواقع. كان لايريد أن يكون سلبيا كنجيب محفوظ ولا متمردا كيوسف إدريس، ولكن أراد أن يشق طريقا بين الطريقين. واستفاد كثيرة من دروس تلك التجربة حينما انتقل إلى بيروت عام 1973، وكانت غابة متشابكة من القوي الفلسطينية المتصارعة. فاستخدم ذكاءه العملي إلى أقصى حد كي يحافظ على مسافة نسبية تفصله عن المؤسسة السياسية، وإن لم تحرمه من فيوضها التي توفر له الراحة والدور. كان يدرك أنه لو استسلم لغوايات السلطة، وهي كثيرة فإنه سيفقد فسما لا بأس به من جماهيره الواسعة التي كان أحرص عليها من أي شيء آخر، فهي سر أهميته ومكانته بالنسبة للسلطة، بل هي في مستوى من المستويات حاميته من احتواءاتها.

لذلك أخذ محمود درويش بالتدريج ـ وخاصة على الصعيد الشعري ـ يضع مسافة بينه وبين السلطة من ناحية، وبينه وبين التغني الشعاري بقواسم الجماهير المشتركة من ناحية أخرى، وراهن على القدرة على الحفاظ على دوره النقدي المقاوم الذي تحتاجه جماهيره، وعلى إرضاء ربات الشعر التي لاترضى بغير الإخلاص الكلي والتفاني الكامل في محرابها، بصورة تتقدم فيه الأنا على النحن الجمعية، دون أن تتخلى عنها، بل لتشدها معها إلى آفاق جديدة، وبقاع لم تعتد عليها. وهنا يقول لنا «من مفارقات تجربتي الشعرية أنها كلما طورت أدواتها التعبيرية وأسلوبيتها، كلما حفزت قارئها إلى القبول بالمزيد من التجديد. فتقاربت ذائقة الشاعر والقارئ الجمالية. ربما لأن أقتراحاتي الشعرية تنبع من سياق تاريخ الشعر العربي وإيقاعاته ومن داخل جماليات اللغة العربية»(8). وهذه الربما هي حقيقة سر قدرة درويش المدهشة على الجمع بين رضى ربات الشعر والحفاظ على الجماهيرية الواسعة التي لم يحافظ ع ليها حتى نهاية حياته فحسب، بالرغم من تجاربه الشعرية الأخيرة وذراها غير المسبوقة، بل أضاف إليها جماهيرية أوسع لمست شخصيا بعدها الإنساني العريض في أمسية «آرل» الشعرية الأخيرة.

ومع مجموعته السادسة (حبيبتي تنهض من نومها) وحتى مجموعته العاشرة (تلك صورتها، وهذا انتحار العاشق) بدأت مرحلة جديدة دعاها الصديق صبحي حديدي بمرحلة البحث الجمالي التي يؤسس فيها محمود درويش مشروعا جماليا موازيا لمشروع القضية الفلسطينية ومتفاعلا معه باستمرار. بدأ الاهتمام بالصوت والمعنى الخافت الموارب المضمر، وتجنب الأصوات والمعاني الجهيرة الشعارية الصارخة أحيانا، والتي تستثير هيسيريا الجماهير. وللجماهير سحر وسلطان حينما تملأ القاعات الكبرى وتنشد لكل كلمة من كلمات الشاعر، وتعلن بالتصفيق المدوى اختياراتها. بدأ يتجنب كل ما يستدعي التصفيق المباشر دون أن يتخلى عن الهم القومي والفلسطيني، بل العكس ينطلق به في آفاق توصله لكل قراء الشعر في العالم. أخذ يبحث عن كيمياء جديدة قادرة على تقطير الغنائي وصبه في آنية مغايرة ذات طبيعة سردية تركيبية وتفكيكية معا، وكأنه يريد أن يعيد تثقيف جماهيره. والواقع أن بداية انفصال الأنا عن النحن الغنائية كان بداية لتخلق حوارية من نوع جديد في عالمه الشعري، وبداية لبنية تعدد الأصوات التي ستغني هذا البحث الجمالي وتثريه بالعديد من الاستقصاءات الشعرية المهمة، وبداية لطرح الأنا والنحن معا في أفق دلالي ورؤيوي جديد، وضع الشاعر والقضية معا في قلب العالم.

وقد اخذ هذا البحث الجمالي منعطفا جديدا بعد اجتياح بيروت عام 1982 وبداية تخلق نفس ملحمي متميز بدأ مع قصيدته الطويلة (مديح الظل العالي) واستمر بعد ذلك في قصائد طويلة أخرى تشكل نوعا من الصيرورة الشعرية المتواصلة التحولات والتي أخذت فيها القصيدة تزداد مع الزمن كثافة وعمقا وتعقيدا وعنادا. ويصل هذا المسار في قصائد من نوع (جدارية) أو (حالة حصار) إلى نوع من البناء الملحمي الجديد الذي يعتمد على جماليات التراكم والتجاور وتحاور الجزئيات، وعلى التوتر الداخلي الذي يخلق دراميته الخاصة والمتفردة. في هذه الأعمال يعيد محمود درويش للقصيدة الطويلة ذات النفس الملحمي ـ أو بالأحرى معلقة العصر الحديث ـ أهميتها ووجودها الفاعل في الواقع وفي الوجدان معا.

وبموازاة هذه الانعطافة نحو البنية الملحمية والتي تشكل مرحلة استمرت في انتاجه حتى بدايات القرن الجديد ووصولا إلى (حالة حصار) و(لاعب نرد)، تتخلق في أعماله انعطافة خامسة ربما هي ما أحب أن أدعوها بمرحلة التقطير والتكثيف وتنقية اللغة والقصيدة والموسيقى معا، تبدأ مع (ورد أقل) وتستمر حتى (أثر الفراشة). وهي مرحلة تتسم بالصفاء والسلاسة والتخلص من فوائض اللغة، والتكثيف والتركيز على عناصر الكتابة عند درجة صفر الوجود. سواء أتعلق الأمر بلقطة مركزة صغيرة أم ببنوراما عريضة ممترامية الأطراف في الزمان أو المكان. في هذه المرحلة استطاع درويش أن يخلق في قصائده المعادل الشعري لكرونوتوب باختين في الرواية. فقد تضافرت الغنائية بالدرامية وسلاسة التدفق الشعري بتوترات المواقف ومفارقات الصور لتموضع الزمان في المكان، والزمكان في الذات والنحن معا، ولتقوم تلك البنية الكرونوتوبية الجديدة بنوع من التركيب والتفكيك الشعري للمواقف والوحدات، والدخول بها في جدل حواري مع نظائرها على مدى التاريخ يوسع من أفقها ويعمق من إدراكنا لخوافيها. بل لابد أيضا من الوعي في نهاية الأمر بإن هذا التحول مبني على التداخل والتمازج بين تلك المراحل المختلفة كما يقول لنا نفسه: « لأن كل عمل جديد لي ينزع إلى قطيعة ما قائمة على استمرارية. في كل عمل جديد محاولة لهدم ما سبق، من خلال تطوير ما كان يبدو لي هامشياً وثانوياً، وتقريبه من المركز. ربما لأنني لا أسكن النهر، بل أقيم على الضفاف. وربما لأن الزمن يعلمني الحكمة، بينما يعلمني التاريخ السخرية، أو ربما لأنني أكبر واقترب من أسئلة ميتافيزيقية تتلاءم مع حيرة الوجود، وقد تحمي اللغة الشعرية من سرعة الراهن»(9) .

لهذا كله انطلق محمود درويش من البروة التي محاها الصهاينة إلى العالم، فخلق عبر إبداعه قرية من الشعر، توشك أن تكون قرية ممحوة تخايل كل مخيلة تحس الشعر وتتلقاه، فهي قرية كونية راسخة أبدا في الضمير الإنساني، يتشوف للتعرف عليها الناس في أربعة أركان المعمورة(10). فعندما ذهبت قبل أسبوعين إلى إدنبره، كي اتحدث لجمهور مغاير كلية عنه، ونشاهد معا في المساء (جداريته) التي مسرحها خليفة الناطور على المسرح ضمن فعاليات مهرجان إدنبرة الدولي المسرحي. تأكد لي بشكل ملموس أنه استطاع بحق أن يعيد خلق قريته الممحوة في ضمير العالم، وأن يرقش ملامحها على جغرافيا إنسانية عامة، يتشوف إليها إنسانها وهي يستمع إليه وهو يصرخ في وجه الموت:

هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك
الخلود
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد
وأنا أريد أن أحيا!

عندئذ سنردد جميعا! نعم ستحيا يا محمود، ستحيا وسيكتب لك الخلود، فقد هزمت الموت بشعرك الجميل الذي ينفتح على العالم من آرل في جنوب فرنسا حتى اسكتلندا في شمال بريطانيا، ويتجذر في كل نفس عربية تتوق للعدل والخير والحرية. 

5 ـ في قلب العالم
تبقى بعد ذلك مجموعة من الملاحظات التي تحتاج إلى المزيد من الدرس والتمحيص حول دوره وإنجازه. يتعلق أولها بمحمود الناثر الذي يحتاج نثره الجميل إلى دراسة متأنية تتأمل علاقته الوطيدة بمشروعه الشعري، ومشروعه الأكبر كمثقف فلسطيني عضوي بالمعنى الذي بدأت به هذه المقالة. هنا أود الإشارة إلى محمود درويش الناقد. فقد كان ناقدا ثاقب البصيرة، شديد الحساسية والتجرد في آن. ومع أنني كناقد اتحفظ كثيرا على نقد المبدعين، إلا أنني استطيع أن استثني نقد محمود درويش من هذا التحفظ. فنقده عكس نقد كل من أدونيس أو إدوار الخراط مثلا حيث النقد عندهما نوع من الكتابة التي تهدف لتكريس مشروع كل منهما الإبداعي وهدم ماعداه. النقد عندهما نوع من الترويج للذات والتمركز حول مشروعها الأدبي، ومحاولة طمس ما عداه من مشاريع أو على الأقل العمى النقدي عنها. هو نقد ضيق الأفق محدود الغاية، لأنه يريد في نهاية المطاف أن يقول أن الحداثة والتجديد قاصران على الكتابة بالطريقة التي أكتب بها، سواء أتعلق الأمر بالشعر عن أدونيس أو بالنثر عند الخراط. محمود درويش كان النقيض لهما في نقده، فهو نقد ناقد أكثر مما هو نقد مبدع، بمعنى أنه لا يدور حول مشروعه، وإن كان شديد الوعي بطبيعة مشروعه، وهو الوعي الذي تكشف عنه نصوص مختلف الحوارات التي درات معه. هو نقد مبدع حقا، ولكنه مبدع يريد أن يبدع في مجال النقد، وألا يجعل نقده مجرد هامش على مشروعه الشعري.

وهذا التصور النقدي هو الذي يفسر سحر مجلته (الكرمل) التي تختلف هي الأخرى كثيرا عن مجلة مثل (مواقف) من حيث أنها استطاعت أن تلعب دورا واسعا في الثقافة العربية وحرصت على أن تضعها في قلب العالم. وقد قيض له أن يساعده فيها قامتان سامقتان: سليم بركات في الإصدار الأول، وصبحي حديدي في الإصدار الثاني، فتمكنت (الكرمل) من أن تكون نافذة العرب على أهم ما في الإبداع والفكر الأدبي والنقدي المعاصر، ونافذة الغرب على أهم ما في الإبداع الأدبي والنقدي العربي معا. لهذا حرصت في (الكلمة) على أن أضعها على الموقع كأحد أهم أسلاف (الكلمة) في هذا المجال. وسوف نفعل ذلك في أقرب وقت، فهذه الآن وصية محمود درويش.

ويبقى أخيرا جانب كشف عنه رحيل محمود درويش، وهو أنه استطاع حقا أن يكون ملء قلب العالم في حياته، وبعد مماته. هذا الشاعر الذي ولد في قرية البروة التي محاها الصهاينة، فخلق عبر إبداعه عوالم ممحوة ولكن وجودها أكثر صلابة من كل أساطير أعدائه وجرافاتهم التي تمحو التواريخ والحيوات، وتحترف تقتيل البشر. عوالم تتألق بقوة الشعر فتخايل كل مخيلة تحس الشعر وتتلقاه، فهي أبدا راسخة أبدا في الضمير الإنساني، يتشوف للتعرف عليها الناس في أربعة أركان المعمورة. وليست هذه مجرد استعارة بليغة لمدى انتشار شعر محمود درويش وتأثيره، ولكنها مجرد توصيف دقيق وحرفي لمكانة هذا الشاعر العربي الكبير التي فاجأت الكثيرين. فحينما قررت إعداد عدد خاص من (الكلمة) عنه قمت بالبحث في الإنترنيت عن أصداء تلقي حبر رحيله، حتى لا أعتمد على الذاكرة وحدها، أو على ما تابعته من ردود أفعال على موته في الصحافة البريطانية وحدها. وقد عثرت على أكثر من مئة وخمسين كتابا من الترجمات له في مختلف اللغات الأوروبية، كان بينها عشرة باللغة الانجليزية، بعضها ترجمات لقصيدة واحدة من قصائده الطويلة، مثل (جدارية) و(حالة حصار) والأخرى مختارات لقصائد من دواويين متعددة، فضلا عن كتابه الشهير (ذاكرة للنسيان). والواقع أنني كنت على وعي بأن محمود درويش لم يأخذ حقه من الترجمة والتقديم في اللغة الانجليزية، على عكس ما هو الحال في اللغة الفرنسية أو الألمانية مثلا. وكان الراحل الكبير إدوار سعيد يعي هو الآخر ذلك، ويلح على ضرورة أن تصدر ترجمات جيدة لأعماله في الإنجليزية. فأكثر ما ترجم لم يترجم ترجمة تليق به من ناحية، أو لو كانت الترجمة جيدة فإنها تطبع في طبعات محدودة للمختصين، ولا تصل لقراء الشعر العامين. وهو الأمر الذي مايزال يتطلب منا المزيد من العمل في هذا المجال كي يأخذ هذا الشعر حقه، ويحتل المكانة الجدير بها في اللغة الانجليزية.

أما ردود الفعل على موته فهي الأمر المفاجئ حقا. فعلى مد حياتي الطويلة في الغرب لم يحظ موت أي كاتب أو مثقف عربي بمثل تلك التغطية الواسعة التي حظي بها رحيل محمود درويش. كان الخبر في نشرات الأخبار الانجليزية هنا، وفي كل الصحف. حتى خبر موت نجيب محفوظ لم يحظ بمثل تلك التغطية الإعلامية الواسعة. كما أن كثيرا من الصحف كتبت عن الحدث، وكأنه حدث سياسي. والواقع أن رحيل محمود درويش حدث سياسي بكل معاني الكلمة. فلم يكن محمود درويش مجرد شاعر، بل كان ضمير أمة بأكملها، وتجسيدا حيا لأفضل ما في القضية الفلسطينية من تجسدات. كان صوت فلسطين المبدع، وضميرها الحي الذي ـ كما يقول إدوار سعيد ـ يطرح الحقيقة في مواجهة السلطة، ولا يهادن. استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية احتجاجا على اتفاقيات أوسلو المعيبة، ودفع ثمنا فادحا لاستقالته تلك(11) . واعترض على استشراء الفساد في السلطة الفلسطينية، وعلى انقسام الفلسطيني على الفلسطيني واستباحة الدم الفلسطيني في العامين الأخيرين. وكان موقفه السياسي الصلب ذاك هو الذي جعل منه مثقفا عاما ومناضلا جديرا بشرف الكلمة. ولذلك التف حوله الجمهور العربي الواسع، وليس الجمهور الفلسطيني وحده، كما لم يلتف حول شاعر من قبله. وتحول إلى أقرب ما يكون إلى النجم الثقافي المرموق، إلى الحد الذي كانت الاشادة التي تتكرر به في الصحف الأجنبية بمناسبة رحيله، أنه آخر الشعراء الذين يمكنهم ملء ملعب لكرة القدم حينما يلقون قصائدهم. وهذه الجماهيرية الواسعة هي السر في أن تغطية حدث رحيله المفاجئ كانت واسعة وغير مسبوقة، لا بالنسبة لمثقف عربي، وإنما حتى لأي مثقف غربي، أنها تضارع تغطية غياب مثقفي الغرب الكبار.

فلم يقتصر خبر رحيله على الصحف الجادة مثل الجارديان والتايمز والإنديبندنت والسكوتسمان التي نشرت بعضها عنه مقالات طويلة، مثل مقالة أهداف سويف عنه في صحيفة الجارديان. ولكنها تجاوزتها إلى بعض الصحف الإقليمية والصغيرة نسبيا، كصحف الولايات في أمريكا. وقد فاجأني البحث في الإنترنت بنتائح فاقت حدود خيالاتي في هذا المجال. حيث وجدت تغطية لرحيله في كبريات الصحف الأوروبية من الفرنسية إلى الألمانية والاسكندينافية (الدنمارك والسويد، والنرويج التي كتبت فيها المستعربة المعروفة جونفور ميديل مقالا ضافيا عنه، وفنلندا) والأسبانية والإيطالية والنمساوية والبولندية والبرتغالية، ناهيك عن وكالات الأنباء والإذاعات، ولكنني وجدت أن تغطية الحدث قد تجاوزت حدود أوروبا، فقد كانت هناك مقالات تمتد من الصين وتايوان وهونج كونج واليابان وأندونيسيا وماليزيا وحتى كوبا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين، ناهيك عن بلدان صغيرة لاتخطر على البال مثل مالطة وغيرها. لذلك فإنني لا أغالي بأي حال من الأحوال حينما أقول أنها تغطية غير مسبوقة، ولا أظن أنها ستحدث مرة أخرى بهذا الشمول والاتساع بالنسبة لأي مثقف عربي. مما يؤكد أن هذا الشاعر الكبير كان بحق نسيج وحده. 

وأخيرا إذا كان الوقت قد آن ليستريح قلب درويش المتعب بعدما أثرى وجداننا ووجدان العالم بشعره الجميل، ألا يستحق هذا القلب المتعب، وبعد كل هذا العطاء الخضب، أن يؤوب إلى مسقط رأسه في البروة وإلى الجليل التي أراد أن يوارى في ثراه؟ لقد نادى أصدقاؤه بذلك عقب وفاته، ولكن لاحيان لم تنادي! فالمؤسسة السياسية التي رفضها محمود درويش واستقال منها عقب أوسلو أرادت أن تنتقم منه بعد موته، وقد عجزت عن ترويضه حيا، وقررت دفنه في رام الله التي قال أكثر من مرة أنها لاتعني له شيئا. حتى جريدة هاآرتس الصهيونية نادت بدفنه في البروة، بينما لم تجرؤ السلطة الفلسطينية على إزعاج العدو الصهيوني بمثل هذا الطلب، وأرادت أيضا أن تتاجر به، ولكن العزاء أن وثيقة إدانته الدامغة لكل من السلطة وحماس معا في قصيدته قبل الأخيرة تعلن تنصله من كل العروش الخاوية! وإذا كان للفن الجميل، وللحق والعدل أن ينتصرا في نهاية المطاف ومهما طال الأمد، فإن محمود درويش سيعود إلى الجليل! حتما سيعود... كما سيعود الحق الذي لن يضيع أبدا طالما وراءه شعب واع وأدب عظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ للمزيد من التفاصيل راجع القسم الأول من Antonio Gramsci, Selections from Prison Note Books
(2) ـ محمود درويش/ «لهم الليل والنهار لي»، من حديث أجري معه، ونشر في مجلة (الآداب) البيروتية عدد أبريل/ نيسان 1970، ص 5.
(3) ـ راجع كتابه من يوميات الحزن العادي
(4) ـ هذه الدواوين هي بترتيب صدروها عصافير بلا أجنحة (1960)، أوراق الزيتون (1964)، عاشق من فلسطين (1966)، آخر الليل (1967)، العصافير تموت في الجليل (1969)، حبيبتي تنهض من نومها (1970)، أحبك أو لا أحبك (1972)، محاولة رقم 7 (1973)، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق (1975)، أعراس (1977)، مديح الظل العالي (1982)، حصار لمدائح البحر (1984)، هي أغنية.. هي أغنية (1986)، ورد أقل (1986)، مأساة النرجس، ملهاة الفضة (1989)، أرى ما أريد (1990)، أحد عشر كوكبا (1992)، لماذا تركت الحصان وحيدا (1995)، سرير الغريبة (1999)، جدارية (2000)، حالة حصار (2002)، لاتعتذر عما فعلت (2004)، كزهر اللوز أو أبعد (2005)، في حضرة الغياب (2006)، أثر الفراشة (2008).
(5) ـ هذه الأعمال النثرية الثماني هي: (شيء عن الوطن)، (يوميات الحزن العادي)، (ذاكرة للنسيان)، (في وصف حالتنا)، (عابرون في كلام عابر)، (رسائل مع سميح القاسم)، (وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام)، (بحيرة العائد).
(6) ـ راجع المقدمة التي كتبها لترجمة المختارات الشعرية التي صدرت بالفرنسية عن دار جاليمار تحت عنوان "تضيق بنا الأرض، وقصائد أخرى"، وترجمها الكاتب والمؤرخ اليأس صنبر.
(7) ـ على العكس من إدوار سعيد مثلا، الذي كفل له عمله أستاذا في جامعة كولومبيا استقلالا اقتصاديا عن المؤسسة الفلسطينية وحرية واسعة في انتقادها، أصبح محمود درويش شديد الاعتماد على المؤسسة الفلسطينية، وعانى من هذا الوضع بصلابة نادرة حينما مارس عرفات ضغوطه الاقتصادية عليه واضطره لمغادرة باريس التي يحبها. راجع في هذا الأمر مقال عبدالباري عطوان، «محمود درويش الذي عرفت» (القدس العربي) اللندنية 11 أغسطس 2008.
(8) ـ راجع نفس المقدمة المشار إليها من قبل للمجموعة الفرنسية.
(9) ـ راجع نفس المقدمة المشار إليها من قبل للمجموعة الفرنسية.
(10) ـ بالإضافة إلى هذا الوجود الملموس لشعره في العالم، كانت هناك تلك التغطية غير المسبوقة لرحيله في كل صحف العالم، لا الصحف والمنابر العربية وحدها، ولكن صحف العالم ومنابره الإعلامية من الصين وأندونيسيا حتى البرازيل والأرجنتين وكوبا، ومن كل أصقاع أوروبا من شمالها الاسكندينافي في السويد والنرويج وفنلندا والدنمارك حتى جنوبها المتوسطي في أسبانيا وإيطاليا، ناهيط عن بلدانها الكبرى من ألمانيا إلى فرنسا وبريطانيا، ثم في أمريكا الشمالية من كندا مرورا بالولايات المتحدة حتى المكسيك. وهي تغطية لم يحظ بها من قبل أي كاتب عربي، ولا حتى أي زعيم عربي.
(11) ـ للتعرف على بعص تفاصيل الثمن الذي دفعه في هذا المجال راجع مقال عبدالباري عطوان عنه «محمود درويش الذي عرفت» الذي نشر في صحيفة (القدس) اللندنية في 11 أغسطس 2008م.