الرمز الشعري لدى محمود درويش

رشيدة أغبال

إذا كانت اللغة الشعرية هي لغة المجاز، فإنها أيضاً لغة الرمز. ذلك لأن مساحة الرمز في الشعر واسعة وآفاقه رحبة وطاقته الإيحائية كثيفة. وبما أن الرمز بشقيه، الطبيعي والتراثي، من أهم الأسس الأسلوبية التي يقوم عليها تشكيل الصورة عند درويش وأحد مكوناتها الأساسية فسوف نقف عنده لنرى كيف يشتغل، إلى جانب بقية المكونات في بناء الصورة. وسنكتفي بدراسة ـ الرمز الطبيعي. ويشكل الرمز الطبيعي أحد أهم عناصر التصوير الرمزي، وهوشكل يبرز رؤية الشاعر الخاصة تجاه الوجود، ويعمل على تخصيبها، كما أنه يمكن الشاعر من إستبطان التجارب الحياتية، ويمنحه القدرة على استكناه المعاني استكناهاً عميقاً، مما يضفي على إبداعه نوعاً من الخصوصية والتفرد والشاعر إذ يستمد رموزه من الطبيعة، يخلع عليها من عواطفه ويصبغ عليها من ذاته ما يجعلها تنفث إشاعات وتموجات تضخ بالإيحاءات. فتصبح الكلمات الشفافة القريبة المعنى مكثفة ومحملة بالدلالات. ولا فرق بين كلمة وأخرى في هذا المجال، لأن كل مفردات اللغة لها أن تستخدم في الشعر "استخداماً رمزياً. ولا تكون هناك كلمة هي الأصلح من غيرها لكي تكون رمزاً، إذ المعول في ذلك على استكشاف الشاعر للعلاقات الحسية التي تربط الشئ بغيره من الأشياء"(1)

فالشاعر لا ينظر إلى الطبيعة على أنها شئ مادي منفصل عنه وإنما يراها امتدادا لكيانه، تتغذى من تجربته. زيادة على ما تضفيه الأبعاد النفسية على الرمز من خصوصية يلعب السياق أيضاً دورا أساسيا في إذكاء إيحائيته. لقد استوعب درويش هذا الفهم للرمز الطبيعي، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنه تخطاه حين راح ينحت لنفسه رموزا تبدو، حين نقرأها في سياقاتها، وكأنها خرجت لتوها من قاموس جديد هو صانعه. وهي عديدة لا حصر لها حتى يبدو وكأن مفردات اللغة كلها قد آلت إلى رموز بين يديه. ومن الرموز الاثيرة لديه نجد: الأرض، التراب، الزيتون، البرتقال، يافا، حيفا، البداية، والنهاية، الشعر، الأغنية، الحلم، الزمن، الريح، الحريق، المطر، الحمام، المرايا، الليل، الحجر، السنديان، القمر، البحر، الرمل، الفراشة(...) وقد تكررت في نصوصه الشعرية حتى غدت أساسا لصور مهيمنة شكلت صورا رمزيا، سماها نورمان فريد مان من قبل "عناقيد الصور"، وقد أكسبها تكرارها داخل مجموعة من النصوص مفاهيم خاصة تتحدد باستمرار تجدد الشعرية والموقف.

ولما كان عدد الرموز المستخلصة من شعر درويش كبيرا، فقد اقتصرنا على الرمز المهيمن منها داخل المتن الشعري وخاصة ذي الدلالة المتحددة داخل السياقات المختلفة وخصوصا ذلك الذي أخصبته تجاربه الحديثة، مثل البحر والفراشة والقمر.

1 ـ رمزية البحر
يثير البحر في الغالب صورة رمزية توحي بالقوة والعظمة والغموض، وهو من العناصر الطبيعية التي وردت بكثرة في الكتابات الإبداعية المعاصرة واتخذت أبعاد جمالية وإنسانية، ولكنه لم يتقوقع في مدلول واحد وإنما ورد في سياقات مختلفة، وحمل دلالات متباينة تبعا لتجربة كل شاعر ورؤياه الخاصة. وقد تميز استعمال درويش لرمز البحر وتعددت استخداماته بتعدد السياقات، إذ نجده يحتل مساحات مهمة في متنه الشعري، يخترق جملة من الصور الاستعارية ويحضر رمزا نابضا بالحياة. بدءا كانت للبحر دلالات بسيطة، بحيث كان يقدم بوصفه معطى يمثل أحد أهم المكونات المميزة لطبيعة فلسطين كما هو الشأن في هذا المقطع من قصيدة "أغنية إلى الريح الشمالية":

وكسرني الرحيل
وتقاسمتني زرقة البحر البعيد
وخضرة الأرض البعيدة(2).

فهو لم يتجاوز في هذه الصورة الاستعارية بعده الحسي، حيث استعمل لغايات تلوينية محض، وقد استعمل أيضاً أداة مساحية للقياس في إطار هذه العلاقة التشبيهية الدالة على البعد، حيث قال درويش في قصيدة "النزول من الكرمل":

أيها الكرمل المتشعب في كل جسمي
لماذا تحملني كل هذه المسافات
والبحر فاصلة بيننا(3).

في هذه الصورة لم يخرج البحر عن مدلوله المباشر، ولم يمنحه وروده، في إطار هذه العلاقة التشبيهية، أية دلالة إيحائية، على عكس ما نجده عليه في هذه الصورة حيث يقول درويش في قصيدة "الخروج من ساحل المتوسط":

أنا قشرت موج البحر زنبقة لغزة(4).

في هذه الصورة الاستعارية المركبة من استعارة مكنية تطوي تحت جوانحها تشبيهاً بليغاً، يرسم درويش صورة تخيلية للبحر يكفي بعض التجريد للانتقال من معناها المجازي إلى الحقيقي. إلا أنه في المراحل اللاحقة من تجربة درويش الشعرية يتخلى البحر عن دلالاته الأصلية ويمتلئ بدلالات رمزية متنوعة، فبعد أن كان بوابة فلسطين التي تستقبل أبنائها، تحول إلى بوابة نحو المجهول ولم يعد نعتا لجزء جغرافي، وإنما تحول إلى مؤرخ يشهد أحداثا ووقائع يدونها في وثيقة تختزن نبض التاريخ وإيقاعه المتحرك. لقد أصبح شاهدا على الفواجع. يقول درويش في قصيدة "تأملات سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط":

يابحر البدايات، إلى أين تعود
أيها البحر المحاصر
بين اسبانيا وصور
هاهي الأرض تدور
لماذا لا تعود الآن من حيث أتيت؟
آه من ينقذ هذا البحر
دقت ساعة البحر
تراخي البحر؟(5).

تتكئ هذه الصورة على بنية التكرار، تكرار لفظة بحر التي تنتشر بين ثنايا القصيدة للدلالة على الشعب الفلسطيني تارة (أيها البحر المحاصر)، والدلالة على الرحيل تارة أخرى (دقت ساعة البحر). وكأن الرحيل بالنسبة لهذا الشعب قدر لا مفر منه. وجاء البحر في صيغة منادى ليعمق وطأة هذا الرحيل، وزاد في تعميق هذه الدلالة اقترانه بحرف نداء يفيد القريب والبعيد معا، للمناداة على شعب قريب من الوجدان بعيد عن الأرض. أتى البحر في سياقات توحي بالحصار المؤدي إلى التشرد والموت، وأصبح موضعا تتعايش فيه الأزمنة والأمكنة جميعاً (يا بحر البدايات) لتعزف مقطوعة التيه الكوني الأبدي، في رحلة لا تنتهي، رحلة آدم في البراري، ورحلة جلجامش الذي خرج بحثاً عن الخلود، ورحلة عوليس الذي ركب لجج البحر بحثاً عن أبيه، وهاجر التي خرجت في رحلة لا تنتهي. تأتي هذه الصورة الرمزية لمعانقة الهم الفلسطيني المتمثل في التشرد بوصفه حقيقة أزلية يواجهها الإنسان الفلسطيني كما واجهها أجداده في الأندلس (أيها البحر المحاصر بين إسبانيا وصور). وإذا كانت صورة البحر توحي عادة بالقوة والعظمة فهي توحي في هذا السياق بالضعف والتخاذل (تراخي البحر)، بل صارت علامة على الموت. يقول درويش في قصيدة "نزل على البحر":

طالت زيارتنا القصيرة
والبحر فينا مات من سنتين.. مات البحر فينا(6).

كل عظمة وقوة وخلود واتساع وكل صفة إيجابية كان يتصف بها البحر ماتت بعد الهجرات المتكررة والانتقال من شتات إلى شتات. ولكن البحر وإن كان يحمل الموت بين طياته فهو أيضاً يحمل بذرة الحياة في أحشائه، يقول درويش في قصيدة "يكتب الراوي: يموت":

ليس لي وجه على هذا الزجاج
الشظايا جسدي
وخريفي نائم في البحر
والبحر زواج(7).

تتجاوز لفظتا البحر والخريف في هذه الصورة الاستعارية دلالاتها القريبة وتتحولان إلى رمز يمنحها أبعاداً أكثر كثافة وإيحاءات تتطلب من المتلقي جهدا ذهنيا مضاعف ليدرك كنهها. في هذه الصورة، إذن، يتعايش رمزان، رمز "الخريف" ورمز "البحر"، يتفاعلان مع عنصري التشبيه والاستعارة فيؤلف الكل صورة متناسقة، تبدو عناصرها متباينة على مستوى الظاهر وإن كانت موحدة على مستوى الشعور، ويشكل هذان الرمزان محور الصورة باعتبارهما منتجين للحدث. ومعلوم أن الخريف رمز للمساء والشيخوخة، وهو هنا رمز لإنتهاء دورة الحياة، وهو ما تحيلنا عليه الاستعارة المكنية (خريفي نائم) المعطوفة على التشبيه البليغ (الشظايا جسدي)، ولكن دلالته لا تقف عند هذا الحد، وإلا صار مبتذلاً، فقد منحته العلاقة الإسنادية بين الخريف والنوم، والخريف والبحر دلالة جديدة زادت المعنى تكثيفا وإيحاء. فاقتران الخريف بالنوم دلالة على الخمول، والنوم يكون في والمساء يتلوه صباح جديد، كما أن النوم يتلوه استيقاظ، والخمول لابد أن تتبعه يقظة، زهذا ذات أبعاد أسطورية تحيل على البعث والخصب يزكيها ما تحمله دلالة البحر من إيحاءات، فهو بجانب ما يحيل عليه من معاني الغموض والقوة والاتساع، أصبح يحمل مدلولا جنسيا يحيل عليه التشبيه البليغ: (البحر زواج) إيذانا باستمرار دورة الحياة، شتاء، ربيع، صيف، خريف يتلوه أيضاً شتاء وربيع، فالربيع يسبقه خريف، وتمتع الشعب الفلسطيني بالحياة مشروط بالتضحية.

لم يقتصر درويش على صورة البحر باعتباره نعتا لجزء جغرافي معين، وإنما استقى لونه أيضاً، ولكن ليس بهدف التلوين فقط، وإنما حمله دلالات جديدة، بل ومناقضة تماما لما عرف عن هذا اللون من إيحاء بالاطمئنان والهدوء. يقول درويش في قصيدة "أحمد الزعتر":

"لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق
هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق
المتمزق الحالم
وهو الرصاص البرتقالي. البنفسجة الرصاصية
وهو اندلاع ظهيرة حاسم.
في يوم حرية"(8).

لم يعد اللون الأحمر، في أشعار درويش، وحده رمزا للدم وإنما تحولت كل مظاهر الطبيعة في فلسطين من تراب وبنفسج وبرتقال، إلى رموز للتضحية والفداء. وتحول البحر من خلال لونه إلى رمز من رموز العذاب الجسدي والروحي التي يواجهها الشعب الفلسطيني(9). وهو يوحي في هذا المقطع بفلسطين كلها، بدمها السائل ولحمها المحروق ومخيمات الصفيح الضيقة. يستدعي الشاعر في هذا المقطع اسم النبي (ص) لما له من دلالات دينية وروحية ليضفي على شخصية المقاتل الفلسطيني مسحة أسطورية، تجعله منفردا بصفات خارقة( هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق المتمزق الحالم)، فأحمد ابن تل الزعتر، يتحول من إنسان عادي يقطن مخيما من الصفيح إلى مقاتل غير عادي، يحلم بمستقبل أفضل ويفتدي الإنسانية بدمه، فتحل روحه في الطبيعة لتبعث فيها الحياة من جديد. هو تموز جديد يختلط دمه بمختلف بتراب الأرض ويتحول إلى نار تحرق الاحتلال. لم نعد في هذه الصورة الكلية أمام مجازات من النوع العادي( هذا الصفيح الضيق المتمزق الحالم، هو الرصاص البرتقالي، البنفسجة الرصاصة، هو اندلاع ظهيرة حاسم). وإنما صرنا أمام مكان بلا حدود يفسح منافذ لا حدود لها لاشتغال الرمز، فهذا البرتقال يخرج عن إطاره بوصفه ثمرة من ثمارالشتاء ليرتبط بالرصاص (بالدم) وهذا البنفسج الذي تتساقط وريقاته وتمتزج برائحة الأرض المعطرة بدماء الشهداء يرتبط أيضاً بالرصاص وكأن الرصاص هو مصدر الحياة، وهو وحده السبيل إلى الحرية.

2 ـ رمز الفراشة
الفراشة نوع من الحشرات ذات أجنحة وألوان زاهية، اقترن اسمها بالجمال والرقة، والتخبط والطيش، كما كانت رمزاً للخلود(10). عند أفلاطون. وقد استثمر درويش إيحاءتها في بناء عدد من صوره الشعرية. يقول في قصيدة "مقعد في قطار":

كل أهل القطار يعودون للأهل، لكنا لا نعود
إلى أي بيت، نسافر بحثا عن الصفر، كي نستعيد
صواب الفراش(11).

في هذا المقطع يبدأ درويش في رسم صورته من الواقع، غير أنه لا يلبث أن يتجاوزه إلى المجرد. حيث ينطلق من موضوع حسي محدد هو السفر. الكل يسافر بهدف معين، ولكل مسافر محطة أخيرة يعانق فيها الأحبة ويخلد للأستقرار، إلا الفلسطيني، فسفره دائم لا وجهة محددة لديه، وليس وصف السفر هو المقصود هنا، وإنما المقصود مايتركه هذا السفر في النفس من أثر، وذلك من خلال الربط غير المتوقع بين عناصر حسية لا تجانس بينها، استقاها الشاعر من مجالات بعيدة أضفت على الصورة ظلالا من الغموض والغرابة. إن ربط الهدف من السفر بالصفر وإسناد إعادة الصواب للفراشة في هذه الأشعار المزدوجة (نسافر بحثاً عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش)، والجمع بين العبارتين الاستعاريتين بأداة (كي) التي زادت المعنى تغريباً. كلها عناصر تضافرت برمزتها لتوحي بحالة التيه الناتجة عن فقدان الهوية التي يحاول الشاعر أن يتجاوزها بالبحث عما يضمن له الاستمرارية والبدء من جديد (من الصفر)، والتخلي عن الترحال غير المتناهي واللامجدي معاً، فليس ثمة ما سيجنيه من ورائه. لقد طور الشاعر دلالة الفراشة في لغته لتصير رمزا للأرض. يقول في قصيدة "أعراس":

وعلى سقف الزغاريد تجيء الطائرات
طائرات
طائرات
تختطف العاشق من حضن الفراشة ومناديل الحداد(12).

ينطوي تركيب الإضافة في الاستعارة المكنية (حضن الفراشة) على عدة معان يفرزها سياق النص. فقد أدى تحريف لفظة الفراشة عن موضعها إلى توليد معان عديدة ضاعف من إشعاعها تكرار الحال (طائرات، طائرات) وكذا التعبير المجازي المتمثل في المجاز المرسل (تجئ الطائرات طائرات تخطف العاشق... ومناديل الحداد) الذي أخرجها عن معناها المجازي الدال على المرأة إلى معنى رمزي شامل يحيل على الأرض وكل ما يدور في فلكها من معاني الشهادة/ الزغاريد، والاستشهاد/ العاشق الشهيد. طور الشاعر دلالة الفراشة في لغته لتصير رمزا مكثفا تتجاذبه عدة إيحاءات. يقول في قصيدة "من سماء إلى أختها يعبر الحالمون":

يافراشة! يا أخت نفسك، كوني
كما شئت، قبل حنيني، وبعد حنيني،
ولكن خذيني أخا لجناحك يبق جنوني
معي ساخنا! يا فراشة! يا أم.
نفسك لا تتركيني لما صمم الحرفيون
لي من صناديق... لا تتركيني(13).

حين نركز على المركبين (أخت نفسك، أم نفسك)، المعطوفين على الفراشة المقترنة بأداة نداء (نداء غي العاقل)، فإننا نجد بأن اسم الفراشة يتجاوز تعريفه بوصفه اسما لحشرة، ليرمز لمعان عدة توحي بها حياة الفراشة التي تمر عبر أشكال مختلفة انطلاقا من الأسروع (دودة القز) حتى النفغة (عذراء الفراشة)، ومن النفغة إلى الفراشة. بعد أن تنهي دودة القز وظيفتها، بوضع البيض ونسج خيوط الحرير، تخلد للنوم ملتفة بخيوطها لتتحول بعد فترة إلى فراشة، وبذلك تتحرر من شرنقتها الأرضية لتنهي بقية حياتها طليقة، يجذبها الضوء أينما كان، فتحوم حوله حتى الاحتراق. لقد استوحى درويش كل هذه المعاني (التحرر، الانطلاق، الحرية، الاحتراق) ليعبر عن تجربته الذاتية، فحرف النداء يشي بأن استدعاء رمز الفراشة هو نداء للذات أيضاً ومن أجل الذات. كيف ذلك؟ الجواب نجده في السياق من خلال مختلف العلاقات القائمة بين مكونات الصورة الكلية، بدءا بالصيغ الطلبية (صيغ النداء المتعدد، صيغة الأمر: فعل الكينونة، وخذيني، ضيعة النهي، لا تتركني)، مرورا بالكناية (خذيني أخا لجناحيك) الدال على رغبة الشاعر في أن تمنحه الفراشة شيئا من كينونتها الأزلية (الحرية والإنطلاق)، والاستعارة المكنية (ليبق جنوني معي ساخنا) التي جمع فيها بين المجرد (جنوني) والمحسوس (ساخنا) للدلالة على الانطلاق والتحرر من سلطة العقل والجسد معا. وصولا إلى التعبير الكنائي (لا تتركيني لما صمم الحرفيون لي من صناديق) الدال على رغبة الشاعر في التعالي على كل أشكال الغدر المتمثلة في الاتجار بالقضية الفلسطينية التي حولتها بعض القوى السياسية إلى سلعة تقايض عليها، دون مراعاة لمعاناة شعب يعاني من التشريد والقتل اليومي.

كل هذه المكونات تصب في اتجاه النواة الرمزية، الفراشة، التي تختزل معان لا متناهية، يتجاوز فيها الشاعر تلك العلاقة السطحية بين الفراشة والاحتراق ليتمثل دلالات أكثر عمقا تربط الفراشة بسياق الموت/ التضحية والاستشهاد من أجل القضية وكذا ما يحيل عليه الاستشهاد من دلالات روحية تتمثل في الخلود.

3 ـ رمزية القمر
عودنا الشعراء العرب أن يتخذوا من القمر أداة تؤدي عدة أغراض في شعر الغزل فقد كان القمر هو المشبه به المثالي في وصف محاسن المحبوبة، والصدر الرحب الذي يبثونه شكواهم، والخل الوفي في ليالي الوحدة والسهاد، ولكن القمر في شعر درويش كان مختلفاً في أغراضه واستعمالات إذ انتقل من مجرد رمز طبيعي إلى رمز يوحي بدلالات عدة. يقول درويش في قصيدة "خائف من القمر":

خبئيني أتى القمر
ليت مرآتنا حجر!
(...)
وجه أمسى مسافر
ويدانا على سفر

يتقاطع القمر مع رمزين آخرين، هما المرايا والحجر، لعل الأول يدل في هذا السياق على الحقيقة. بينما يدل الثاني على الصمود والثبات، وهما رمزان كثيرا ما تكررا في شعر درويش، وقد جاءا في هذا المقطع في صيغة تشبيه بليغ مقترن بأداة التمني (ليت) للإيحاء برغبة الشاعر في الاتحاد بالأرض والتوحد مع عناصرها لكي لا تتحول حقيقته إلى سراب بسبب محاولات المستعمر المتكررة لاقتلاعه من الجذور والإلقاء به في المنافي. يستمد القمر، إذا، دلالته من هذين الرمزين ليصبح شكلا من أشكال الحقيقة المخيفة التي كانت متوارية فانكشفت، وهي حقيقة لا تكذب، كما أن المرايا لا تكذب، بل تكتفي بعكس الحقيقة، كيفما كانت. إن القمر هو الغد الذي لا مفر منه، غد الشتات والسفر إلى المجهول، وكأن قدر سكان تلك الأرض هو السفر الأبدي، وأن السفر هو الحقيقة الوحيدة التي يمتلكونها، في الأرض (وجه أمسى مسافر)، والوجه يساوي أيضاً الحقيقة في هذه الاستعارة المكنية
والحاضر (خبئيني أتي القمر) والمستقبل (ويدانا علي السفر). وإذا كان القمر مصدر إشعاع ونور فإن درويش لا يكتفي منه بالإشارة المادية ي ليل الدجي، وإنما يستعمله في سياق أخر يكتسب فيه دلالات جديدة. يقول درويش في قصيدة "لحن غجري":

شارع واضح
وبنت
خرجت تشعل القمر
وبلاد بعيدة
وبلاد بلا أثر(14).

إن اول ما يسترعي انتباهنا في هذا المقطع هو ورود جمل خيرية قصيرة، تربط بينها أدوات العطف وتبدو في ظاهرها بسيطو، وكأن الشاعر يكتفي برصد حالة معينة أو وصف معين. ولكن سرعان ما يطالعنا الرمز، من وسط هذا المقطع، ملفعا في هذه الاستعارة المكنية (وبنت خرجت تشغل القمر) ليكشف عن المعني الخامد خلف تلك البساطه المفتعله، ويرسل بإشعاعاته في أوصال النص، فيصبح بوصلة توجه مساره، وتدعونا إالي التأمل في أبعاده. ففي هذه الاستعارة المكنية تستوقفنا طبيعة العلاقة التخييلية التي تتحقق بإسناد الاشتغال إالي القمر التي ترمز إالي اشتغال من نوع خاص، اشتعال يتعدي الحيز المكاني الضيق إالي كل الأمكنة التي يطالها ضوء القمر. إن القمر في هذه الصورة ذات الطابع الاستعاري قد تجاوز مدلوله القريب ليتحول إالي رمز لكل ما ينير الدرب ماديا ومعنويا . إن محموله الرمزي هنا يحيل علي كل ما ينير النفس ويشرع ابواب الامل ويعيد الثقة في المستقبل والحل مبالنصير الذي أصبح يبدو مستحيلا.

وفي سياق أخر تتطور دلالة القمر فيصبح معادلا للأرض التي تحولت إالي مجرد حلم وذكري بعيدة، يقول درويش في قصيدة "البئر":

اختار يوما غائما لأمر بالبئر القديمة.
ربما امتلأت سماء. ربما فاضت عن المعني وعن
أمثولة الراعي، سأشرب حفنة من مائها.
أقول للموتي حواليها: سلاما أيها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة ! أرفع الطيون
عن حجر: سلاما أيها الحجر الصغير ! لعلنا
كنا جناحي طائر ما زال وجعنا، سلاما
أيها القمر المحلق حول صورته التي لن يلتقي
أبدا بها (...)(15).

تحضر في هذا المقطع مختلف اشكال الطبيعه من بئر وحجر وماء وطيور وفراشات، تنبعث من الذاكرة لتشكل عالما جميلا بكل اشيائع وبكل دقائقه وتفاصيله، إنه عالم الحلم الجميل الذي لم يعد للشاعر سواه وسط هذا الغياب/ المنفي. ولتسليط الضوء علي هذا النص، ومن خلاله علي دلالة القمر، ارتأينا أن نقتحمه من العنوان باعتباره طرفا أساسيا في أي نص، وبؤرة إشعاعية تضيء جنباته، وعتبة أولي لولوجه. انطلاقا من العنوان التالي: البئر (خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه البئر)، نستشف أن هذا الاسم يتجاوز دلالاته الأصلية باعتباره جزءا من الأرض، يحتوي علي مياه جوفية ليرمز إلي أرض فلسطين كلها، فتسري بذلك شحناته الدلالية في عموم النص، واذا كانت البئر جالبة بمائها لكل ظمأن او عابر سبيل فانها في النص تومض في احدي الاستعارات الرمزية، وتدخل في علاقات تجاذب مع الصور الاستعارية والتشبيهية والرمزية الاخري في النص: (وأقول للموتي حواليها: سلاما، أيها الباقور حول البئر في ماء الفراشة).

اذا فككنا هذه الجملة الاستعارية مثلا سنجد انها مكثفة غنية بالدلالات. فالماء في هذا السياق يوحي بالحياة والاستمرارية أما الفراشة فتوحي بالانطلاق والتحرر وهي هنا ربما توحي بتحرر الجسد من سجن البدن. او ترمز الي الخلود اذا قرناها بلفظة الباقون الدالة علي البقاء والثبات والاستمرارية والجملة الاستعارية كلها ترمز الي أن الارض ليست مجرد تراب وانما هي هوية يحملها الفلسطينيون أينما حلوا وارتحلو، يفتدونها بأرواحهم التي لا بدن لها إلا هذه الأرض، ولا مستوطن لها إلا حول هذه البئر (لم يقل قرب وإنما قال حول: وهي تعني الإحاطة والشمول). وإذا كان اقتران البئر برمز الماء والفراشة قد لون رمزيتها، فإن السياق بدوره قد غذاها بشحنة إضافية. إذ تبدو كجسر بين متتاليات من الجمل الشعرية والأنساق الأسلوبية المثقلة بالنفي، الغنية بالتكرار (سلام أيها الباقون سلام سلام أيها الحجر...)، الذي تلوح بين طياته عدة صور تشبيهية واستعارية مفعمة بالرمز تغذيها شرارات العنوان المشتعلة في تلافيف النص.
وإذا وقفنا عند أجزاء هذه الصورة التشبيهية: (سلاما أيها الحجر الصغير! لعلنا كنا جناحي طائر ما زال يوجعنا) وجدناها حافلة بدلالات غنية بالإيحاء. ففي هذا التشبيه الموحي يشبه الشاعر نفسه والحجر بجناحي طائر، واقتران الشاعر بالحجر (كنا) يحمل عدة دلالات، بحيث يتعامل معه الشاعر لا بوصفه جمادا، وإنما يرى فيه كائنا يتحرك، له ماض وذاكرة وتاريخ يرتبط بتاريخ المنطقة، يستعيد معه الشاعر طفولة كان يسودها الأمان والاطمئنان في احضان ارض (والحصي جزء من الارض) كانت تنعم بالحرية، كانت له طفولة بريئة وديعه وداعة طائر يقفز من غصن لغصن ويغرد جذلا طليقا،ولكن هذه الطفولة أصبحت مجرد ذكري موجعة تضاف إلي هذه الصورة التشبيهية صورة استعارية أخري تغني النص بدلالاتها الثرية:

(سلاما أيها القمر المحلق حول صورته التي لن يلتفي أبدا بها!)فهذه الصورة الاستعارية ترتبط بالصورة الأساسية أو الصورة الأم ( سلاما ! أيها الباقون حول البئر في ماء الفراشة). وتصب في نفس السياق، حيث يشبه الشاعر القمر بطائر يحلق حول صورته المنطبعه علي صفحة الماء، وما البئر إلا صورة للقمر، وما القمر إلا وجه آخر للأرض السليبة البعيدة عن الشعب الفلسطيني بعد السماء عن الأرض، يستحيل بينهما اللقاء.

خلاصة:
تاكد لنا علي ضوء ما سبق، الدور البارز الذي تضطلع به الصورة الرمزية الطبيعيه في متن الشعري الدرويشي، بما تتيحة من تأويلات وما تزخر به من احتمالات. هكذا إذن، تولد نصوص من رحم خيال الشاعر الذي تتلاقح فيه القصص وتتداخل وتتشابك لإنتاج دلالات جديدة انطلاقا من معاناة الشاعر المزدوجة، معاناته مع تجربته الخاصة، بإعتباره ذاتا مبدعة تبحث عن الجديد وتطمح إالي التجاوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ظواهره وقضاياه الفنية والمعنوية ـ دار العودة ـ بيروت 1972م ـ ص: (198).
(2) ـ م. درويش: حبيبتي تنهض من نومها ـ المجلد الاول ـ دار العودة ـ بيروت ـ الطبعه 14 ـ 1994 ـ ص (430).
(3) ـ مزدرويش: محاولة رقم 7 ـ المجلد 1 ـ ص: (473 ـ 474).
(4) ـ محمود درويش: محاولة رقم 7 ـ المجلد 1 ـ ص: (482).
(5) ـ م. درويش: حصار لمدائح البحر ـ المجلد 2 ـ دار العودة ـ بيروت ـ الطبعه الأولي ـ 1994 ـ ص: (158).
(6) ـ محمود درويش: هي اغنية... هي أغنية ـ المجلد 2 ـ ص: (237).
(7) ـ محمود درويش: المرجع السابق ـ ص: (293).
(8) ـ محمود درويش: أعراس ـ المجلد 1 ـ ص: (615).
(9) ـ شاكر النابلسي: مجنون التراب ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ ط1 ـ 1987 ـ ص: (276).
(10) ـ Nadia Julien: Dictionnaire Marabout des symbols End Marabout Blegique: 278-
(11) ـ محمود درويش: هي أغنية.... اغنية المجلد 2 ـ ص: (255).
(12) ـ محمود درويش: أعراس ـ المجلد 1 ـ ص: (592).
(13) ـ محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا ـ رياض الريس ـ لندن/ بيروت ـ الطبعه 2 ـ 1996 ـ ص: (107).
(14) ـ محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا ـ ص: (69).
(15) ـ محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا ـ ص: (69).