رسالة مصر
جمهور محمود درويش
في حوار مع محمود درويش يعد الأول له في الصحافة العربية وأجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968، تساءل "كيف أوفق بين شق الطريق أمام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟" ربما تغيرت مفردات السؤال واتسع لكنه ظل ما يحدد رهان درويش الشعري، فمنذ البداية كان محمود يعي أن الجماهير لها حق عليه وأن التأثير فيها بقصائده جزء من عملية الكتابة، خاصة وأنه شاعر له جمهوره الذي كان يملأ القاعات أو الساحات التي ألقى فيها شعره.ويقلق كما أبدى في هذا الحوار من الفتور الذي استقبل به الجمهور ديوان آخر الليل ويوضح "من المكابرة أن أقول إني لم اشعر بعذاب نفسي". هل يترتب علي، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلي التعبير المباشر، والحث الصريح علي الكفاح والتمسك بالأمل والعقيدة؟ ففرق كبير بين شاعر يكتب وصورة جمهوره تملأ عينيه وآخر مازالت صورة قارئه غامضة أو متوارية بعيدا. ومحمود درويش له مكانة خاصة بين الشعراء العرب ذوي الجمهور العريض، فنزار قباني مثلا كان متصالحا مع جمهوره، ولم يصدمه بتغيرات في قصيدته تجعل محبيه يتساءلون أين نزار القديم؟ ولماذا هجر ما نحبه؟ ولم يضطر إلى مطالبتهم بـ "انقذونا من هذا الحب القاسي". محمود درويش خاض مسارا مختلفا لم يركن إلى عقد دائم ثابت مع جمهوره كان يفاجؤه بتغيرات في قصيدته تنحو إلى تجربة إنسانية أوسع من مجرد شعر القضية الفلسطينية، واضطر إلى مواجهة جمهوره المطالب بقصائده الحماسية فكان يلبي رغباتهم لكن سرعان في الأمسية نفسها يدفعهم إلى سماع منجزه الشعري الجديد المفارق للحماسة، وتدريجيا استطاع الشاعر إلى أن يجعل جمهوره يطل معه "على ما يريد". فهناك اختلاف واضح بين المرحلة التي كان يبدأ فيها لقاءه بجمهوره بـ "سجل أنا عربي" أو "باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقا" وبين حفلة توقيعه لأخر دواوينه أثر الفراشة والتي بدأها بقصيدة "البعوضة" رغم أن الديوان يضم قصائد تلهب حماس المستمعين أكثر. والمتابع للكتابات التي كتبت بعد رحيله سيلحظ طبيعة العلاقة التي ربطت بين الشاعر وجمهوره. فهناك من يؤبن شاعر القضية الفلسطينية، ويذكر مقاطع من القصائد النضالية، واخرون يرون شعره في رحلته نحو افق اكثر رحابة، ومحاولاته ليخرج من اطار التنميط. وامتد الامر في الاقوال التي يتذكر الكتاب انهم سمعوها من درويش في جلساتهم الخاصة، فكل واحد يتذكر ما يؤيد ضمنيا المرحلة التي يحبها في شعره والصورة التي يرغب في أن تظل من محمود درويش. إن ما نشر عن محمود ردويش بقدر ما يكشف عن ثراء نصه فانه في الوقت نفسه يؤكد انه سيظل جزءا أساسيا في الحوار حول الشعر العربي ورهاناته الفنية المختلفة. مختارات مما نشر في الصحافة المصرية بعد رحيل محمود دويش كتب الروائي خيري شلبي في جريدة البديل تحت عنوان "الهدهد": وأنت بعد قراءتك لمحمود درويش لابد أن تختلف عنك قبل قراءته اختلافاً كبيراً. بعد قراءته ستشعر بالعزة والسموق، ستشعر بمعني الكرامة، بروح الإباء بالسؤدد بالارتفاع فوق صغائر الأمور، ستشعر بأنك تستطيل وأن قامتك تتصاعد مع الشعر إلي ما يشبه الإسراء والمعراج، حيث ستري ما لم تكن تحلم بالسفر إليه، وتشعر بما لم تكن تظن أنك قادر علي الشعور به. في شعر محمود درويش تنفك عنك كل القيود، إذ هو لا يحمل البعيد إليك بل يحملك إلي البعيد البعيد. ثم إنه لن يعيدك إلي سابق حالتك، لأنه يترك فيك لقاح روحه ليشحنك بطاقة تؤهلك للانطلاق إلي آفاق مترامية، حيث تشعر ربما لأول مرة في حياتك بمعني الوطن. الشعر هو وطن محمود درويش الحقيقي، ذلك أن الوطن قد بات شعره منذ نعومة أظافره كما يقول التعبير العربي القديم. بشعر محمود درويش ترتفع قيمة الوطن، الدليل علي ذلك هو شعر محمود درويش فيه يبقي الوطن حياً إلي ما لا نهاية. تلده القصائد كل يوم، قديماً جديداً معاً، تلده كاملاً غير منقوص تلده كبيراً متطوراً مطهراً. وشعر محمود درويش هو التطور الأمثل للشعر العربي القديم تجد فيه الملك الضليل والنابغة، وجرير، والفرزدق وابن أبي ربيعة، وبشار ابن برد وأبا نواس، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وابن الملوح، وابن الرومي، والحمداني، وابن زيدون، وشوقي، والرصافي، والجواهري، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، تجد كل هؤلاء وغيرهم، ولكن في صورة جديدة متطورة مزودة بالثقافة الحديثة منصهرين جميعاً في بوتقة تغلي بنار المحنة اسمها محمود درويش. هو شاعر واضح الأصول والأنساب، في شعره هويته العربية الأصيلة، تتعرف فيه علي آبائه وأجداده وأعمامه وأخواله. ربما كان علي رأس هذه القلة القليلة من فرسان الشعر العربي الحديث الذين نجوا من الرطانات الأجنبية، فرغم استفادته من الشعر العالمي ـ والفرنسي خاصة ـ يظل شعره نفساً عربياً خالصاً. إن عروبية شعره لا تقبل جسماً غريباً. شعره ملكه وحده، نابع من ضميره هو، من عالمه الخاص، بل الشديد الخصوصية.. حتي المفردات العربية التي يستخدمها غيره من الشعراء العرب تبدو لفرط امتلائها بشحنات جديدة وألوان طازجة كأنها من اختراعه فكأنه جمع هذه المفردات وهي بعد مجرد بيض، ثم حضنها وبعث فيها حرارته حتي فقست مفردات ككائنات حية تسعي في فناء داره كالكتاكيت، ثم راح يطعمها ويسقيها حتي نمت أفراخاً تملأ الدار لوحات تشكيلية مرئية تمتع البصر والفؤاد وتضج بالموسيقي. يقول في بعض حواراته: ''الشعر ليس فقط وسيلة الشاعر واللغة قبل ذلك لأن علاقة الشاعر باللغة ليست من أجل إيصال شحنة أو فكرة أو غموض أو وضوح، علي شذوذ اللغة أن توصل وأن توضح ما هو غامض في وجودنا، الداخلي ولكن أيضاً علي اللغة أن تكون غرضاً في حد ذاتها في العملية الشعرية، الكلمات ليست فقط أدوات اتصال، ليست أرقاماً وإلا كنا نستغني عن الشعر بالتعبير المباشر عما نريد من مطالبنا أو من شهواتنا أو من رسالتنا، ولكن في العملية الشعرية، اللغة الشعرية هي أيضاً مادة عمل وأيضاً غرض العمل''. ولكن كيف نبعت قصيدة محمود درويش من المحنة الفلسطينية لتتجاوز المحنة وتصبح خطاباً إنسانياً عاماً يخاطب الإنسانية في كل مكان وكل زمان، وتصبح القضية الفلسطينية هماً إنسانياً معاصراً بقدر ما هي زاد جمالي تستضيء بنوره الإنسانية. يجيب هو قائلاً: إنني نتاج تلك الأرض عناصرها وطبيعتها نتاج حركة التاريخ فيها ونتاج لقاء الحضارات والثقافات فيها فأنا استوعب كل تلك الثقافات علي أساس أنها عنصر مكون لثقافتي، هذا النتاج كله ملكي فأنا تعبير عن كل هذا الاختلاف ومن كل هذا الاختلاف ومن كل هذه الأبعاد في الزمن وفي التاريخ ولكن هذا لا يكفي لكي يكون النص الشعري ملكية جمالية إنسانية فلو كان تعبيري محصوراً في وصف أطراف الصراع، والصراع وحده، لسقط النص أتوماتيكياً بعد سقوط الصراع، أنا لست أحادياً ولست مراسلاً حربياً للقضية الفلسطينية، وأنا أتكلم عن إنسانية هذه الأرض وإنسانها وعن نزوعه الإنساني نحو تحقيق قيم من حقه أن يتمتع بها وهي الحرية والاستقلال، وإبداع حياته ومصيره كما يشاء. أي الجانب الإنساني في القضية الفلسطينية وهو جانب عملي الشعري وليس الجانب الوصفي لوثائق تطورات هذه القضية ولجانبها العسكري أيضاً. فمجال عمل هذا النص هو القدرة علي كشف جماليات الحياة في تلك الأرض بحيث تتحول هذه الجماليات إلي ملكية إنسانية عامة ولا نستطيع حينذاك أن نقول إن هذا الشاعر فلسطيني، وهذا الشاعر سوري وهذا الشاعر تونسي، يصبح النص الجمالي يخاطب ما فينا من هشاشة الإنسانية وقوتها أيضاً ونزوع الحرية والإبداع. تعرفت علي شعر درويش والقاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو بينما كنت في المدرسة الثانوية في الخليل، كنت مشاركاً فعالاً في المظاهرات ضد الاحتلال، وذات مرة قدم لي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الإبراهيمية بعض الدواوين لشعراء فلسطينيين، وقد أحببتهم، والتصقت بهم وحفظت الكثير من قصائدهم، لأني كنت أحس أنهم يرفعون يدي عالياً وهي تحمل راية فلسطين، ويشدون من قبضتي علي الحجر. أضف إلي ذلك أننا كفلسطينيين ليس لدينا تاريخ طويل من الشعراء والأدباء وكلهم جاؤوا أو ولدوا خلال الانتداب وبعده، فكنا حريصين علي التقاط أي اسم فلسطيني يأخذنا إلي الأدب والشعر، ويشكل هوية ثقافية للشعب الفلسطيني. كنت أحب تلك القصائد التي تفوح منها رائحة فلسطين، وبينما كنت أتعرض لضرب الجنود الإسرائيليين وأستنشق غازهم وضرب هراواتهم، كانت تلك القصائد الوطنية - ومنها قصائد إبراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود - تشكل لي حرزاً داخلياً كبيراً وواقياً من الخوف ودافعاً لمواجهة كل هذه الآلة العسكرية الجبارة ببيت شعر أو لحن مقاوم. وكنا نردد: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف لمحمود، أو منتصب القامة أمشي لسميح، أو أناديكم، أشد علي أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم لزياد وحتي الثلاثية الحمراء لطوقان وغيرها الكثير. من هنا تعرفت علي درويش، أما كيف أقرؤه الآن، فلم أكن أحب الاقتراب كثيراً من شعره، حتي مرحلة الجدارية، كما كتبت له مرة في قصيدة (كلما أحببتك أكثر ابتعدت عنك، لم تترك الحصان ربما آثر الهروب.....الخ)، لأنني كنت حريصاً ألا أقع تحت تأثيره أو أن يتسرب لما أكتب دون معرفة، وبذلك حميت نفسي منه لأني أحبه ولا أحب أن يتملكني لا هو ولا غيره. كان ذلك حتي عام ألفين تقريباً، بعدها لم أعد أخشي من قراءته حيث بدأت أشعر أنني صرت قادراً علي عدم الوقوع في أسره. والحق يقال، إن أهمية درويش وفرادته، تأتي من كونه يمتلك قدرة علي الابتعاد عن نفسه وشعره دائماً، ولا يتشبث بمكان إقامة محدد، وأعترف أنني في كل مرة كنت أتخلص فيها من بعض القناعات وأطلع إلي شرفة جديدة، كنت أجده قد ابتعد عن موقفه السابق ونمطيته واتخذ مجلساً متقدماً هناك، والغريب أنه يرافقنا دائماً إلي التطور والنضج، وهذه ميزة تحسب له كما قال مرة إنه سعيد لأن قارئه يتطور مثله، وإن كان بالنسبة لي العكس، فأنا أري أنه يحل باستمرار في تلك الشرفة التي أصل إليها في الابتعاد عما رسخ وقال في الحياة وفي الشعر، هو وغيره، وعدم البقاء في المربع الأول والنفور من التقليد والتكرار، واجتراح المستقبل والغد. هذه ميزة تحسب له، وقد ارتقي بشعره تماماً كما يقول ويري، ولذا وجدت سلاسة في مجموعاته الأخيرة، منذ (سرير الغريبة، ولماذا تركت الحصان وحيداً، والجدارية ولا تعتذر عما فعلت وعمله الأخير كزهر اللوز أو أبعد) وابتعاداً عما كنت لا أحب في مجاميعه السابقة، والتي صارت تقليدية بالنسبة له أيضاً، هكذا أنا منحاز لجديده دائماً، وتجربته تتعمق كلما كبر، وهو يطبق بذلك نظريته: إن الشعراء نوعان الأول يولد مرة واحدة ويموت بسرعة والثاني يولد علي مهل ويكبر علي مهل، ولعله من النوع الثاني إن شاء الله. لا يفاجئني محمود في الكثير من آرائه في الحياة وفي الشعر وأكاد أعرف ما سيقول، وذلك يعجبني أكثر لكي أصقل ذاتي مجدداً، وأجد هناك تطابقاً حتي في النظرة للعدو والحياة ولكنْ هناك اختلاف كبير أيضاً، فليس كل ما يقوله إنجيل مقدس، ومما آخذه عليه، أنه يتجاوز في تصريحاته وكلامه، بقية الشعراء الفلسطينيين وحتي العرب، ومن بينهم تجارب رائعة وكبيرة، ويعتبر نفسه ممثل الشعر الفلسطيني، والعربي، ولا يكاد يعترف بأحد سواه، هذه نرجسية تقترب من الديكتاتورية السياسية، وليس من فضاء الشاعر الذي يهمه أن تتنوع المعرفة والحياة وتتجدد كريات الدم في جسد القصيدة، وإن قال إنه يريد التخلص من القصيدة الوطنية وكتابة قصيدة حب، لكن ذلك لا يتجسد في قناعاته تماماً، فهو في العمق يحرص علي بقائه نجم الشعر الفلسطيني وممثل فلسطين الشعري الأوحد، ويجد في الساحة العربية من يعمل لهذا الإقصاء للآخرين، ليس حباً بدرويش فقط ولكن اختصاراً للمشهد الشعري الفلسطيني، وربما العربي، وحين يتحدث درويش عن تطور الشعر الفلسطيني يريد لهذا الشعر ان يشذب حسب رغبته هو لا حسب نضوج القصيدة الفلسطينية والظرف الفلسطيني نفسه، لهذا أجده أنضج أفكاره ورؤيته قبل أن يتبلور شكل ما لحرية الفلسطيني، وهو لم يحسم أمره تماماً من أنه ليس شاعراً إقليمياً أو قطرياً، فبينما يلتفت ليرضي مداره الشعري ومسار الكون نفسه، والكثير من المنابر العالمية، مازال يخشي خسران شعبيته التي نالها وما زال من الباب الوطني، إنه يمسك العصا من المنتصف لا يريد أن يخسر تمثيله لفلسطين كقضية وشعب ولا يريد أن يخسر وهج الشعر وتطور قصيدته وإنضاجها، لكنه قطع مسافة في إقناع الطرفين، ولا أعرف إن كان للنجومية التي يتمتع بها دور في هذا الإقناع، ولا أدري إن كان في هذه النجومية الأقرب للفنية منها للثقافية، خطر علي شعره مستقبلاً وشعر غيره حاضراً، وإن كانت تدفعه دائماً لاستلاب الآخرين حقهم ووهجهم. وهذا مما يؤخذ عليه، كما أنه يمتدح قصيدة النثر كثيراً ويقترب منها لكنه ما زال تقليدياً في التفعيلة، ولم يكرس آراءه عمليا، فيبدو توفيقياً في مغازلة شعراء النثر وكتابة شعر مفعل، لم تشفع تلك الاقتباسة من أبي حيان التوحيدي، في مجموعته الأخيرة، وإن كان النثر يتدفق علي شفتيه بشكل أجمل من الشعر أحياناً، لكنه لم ولا يريد أن يحسم رأيه في هذه المسألة، كما لم يحسمها في القول بوجود ميليشيات لقصيدة النثر يتفاداهم، أو مثل تلك التصريحات التي أدلي بها في تونس حول الشعر العربي، لكنه عموماً يتكلم في الحياة والسياسة والصراع العربي الإسرائيلي أجمل مما يتحدث في التنظير لشعره وللشعر عموماً. وعلي كل يظل محمود شاعراً كبيراً نحبه ونختلف معه ونحترم تجربته لكن دون تقديس أو تأليه ودون تكريس للوحدانية، فهناك شعراء كبار لم تتح لهم فرص مثالية كما أتيحت لمحمود، الذي ما زال أمامه الوقت لتصحيح الماضي والعودة إلي الشعر الذي لايبرزه نجماً جماهيرياً، بل شاعراً قريباً من العشب الندي أكثر. وكتب الشاعر عبد المنعم رمضان تحت عنوان "غياب الرمز" محمود درويش لم يعد شاعراً فقط، هو شاعر ورمز لوطن فقدناه بفعل قياداتنا السياسية وسنظل فاقدين له بفعل هذه القيادات المستمرة والدائمة والتي لا تنوي أن تزول. مات آخر الشعراء النجوم، هناك شعراء ليسوا نجوماً، وهم شعراء كبار جداً لا يعرفهم العامة والبسطاء، وهناك نجوم باسم الشعر، علي سبيل المثال: سعاد الصباح الكويتية، أحمد مطر، وفاروق جويدة المصري إلي آخره، أما درويش فقد جمع بين الأمرين، هو شاعر كبير وفي الوقت ذاته نجم كبير، لهذا أشعر أن خسارتنا فيه فادحة، لأن الشعراء النجوم يصلوننا بالجمهور، الجمهور يتماس ويتلامس مع الشعر عن طريقهم، خطر جداً أن يتلامس الجمهور مع الشعر عن طريق النجوم الذين ليسوا بشعراء، لأنهم سيهبطون بذائقتهم. خسارة درويش أيضاً تؤلمني علي المستوي الشخصي، لقد حدث اختلاف بيننا حول مفهوم كل منا للشعر، ولا أستطيع أن أعتب عليه الآن غضبه الشديد من بعض آرائي، لأنها آراء لم تمس قيمته الحقيقية داخلي. قابلت محمود في مدن كثيرة، خاصة في القاهرة، ولم أصادف شاعراً في ذكائه علي الإطلاق، لم أصادف شاعراً في وسامته وفي عدم ترخصه. ماذا أتمني لدرويش إلا أن تتغير أنظمتنا ونتغير نحن، حتي يتحقق ما كان يحلم به النجاة بالشعر من المعركة وفي جريدة الأهرام كتب الشاعر حسن طلب: محمود درويش يحتل مكانة مخصوصة ومتميزة في الشعر العربي، ولماذا يحتل هذه المكانة، لأنه أصر منذ البداية شأنه شأن كل فنان كبير علي أن يكون هو نفسه. صنع من نفسه كهرباء نفسه وتمرد علي كل ما يمكن أن يحبسه داخل إطار، أو داخل أي تصنيف. نحن عرفناه في البداية تحت لافتة شعراء الأرض المحتلة من دواوينه الأولى عاشق من فلسطين وأوراق الزيتون وغيرهما. لكنه تمرد علي هذه اللافتة ليخرج علينا بوجه جديد ولكن فيه شيئا من الجذور الأولي، ولكن الجديد فيه هو الأوضح والأكثر لفتا للنظر قدم لنا أيضا في هذه المرحلة من منتصف السبعينيات المحاولة رقم7 وخرج علينا بقصيدة عربية جديدة من فكرة المقاومة المباشرة عن فكرة المرحلة الأولى.لأن المقاومة اتسعت وأصبحت مقاومة إنسانية ضد كل ما يقيد حرية الإنسان في كل مكان أصبحت أنشودة للحرية وأصبحت أغنية للحياة يستطيع أن يرددها البشر في كل مكان ويتغني بها المقهورون الواقعون تحت نير الاستبداد والطغيان مهما يكن دينهم ولونهم، وهذه المرحلة تجسدت في قصيدة بيروت. محمود درويش يمتاز أيضا بالإضافة إلي التجدد والتمرد المستمرين يمتاز بأنه من نسيج وحده عاشق وحده وكتب قصيدته وحده ومات وحده. لم يتحرك في حماية كوكبة المنتفعين وأدعياء الشعر ولم يصنع لنفسه حاشية كما يفعل البعض وإنما أصر علي أن يكون هو صديق نفسه وحاشية نفسه فكسب احترام الجميع والتفت إلي الذات في مرحلته الأخيرة منذ ديوان جدارية فاكتشف كنزا خبيئا قدمه لنا وأدهشنا به ومات وهو في غمرة هذا الكشف مات وقلمه في يده، مات دون أن يكمل لنا هذه الكشوف التي وعدنا بها ثم تركنا وغاب فجأة. ولكن غياب محمود درويش سيظل حضورا دائما متجددا لأنه ترك لنا ما يضمن به البقاء والخلود. وفي جريدة أخبار الأدب كتب الشاعر أحمد يماني: سيقتصر الحضور الثقافي العربي عموما، في بلد كإسبانيا، علي اسمين كبيرين، الروائي والشاعر، رغم ما في هذا من إجحاف أو تجاهل لأسماء أخري، ربما جاورتهما في الحضور بدرجات أقل: نجيب محفوظ راوي المدينة، محمود درويش شاعر القضية. كليشيهات بها ما بها من عمومية فاضحة إلا أن الأمر لا يخرج عن هذا حتي داخل أشد الدوائر تخصصا. محفوظ له النصيب الأكبر في الحضور العام، علي الأقل هو الأكثر قراءة خارج الأوساط الأكاديمية. ولكن الإسبانية ستكون أكثر حنوا علي درويش بغنائيتها وعاطفيتها، ستقرب الترجمة درويش كثيرا من شاعر مقاومة آخر، من لوركا، لن ترده إليه كما فهم البعض خطأ علاقة الراحل الكبير بشعر فيديريكو جارثبا لوركا، العائد هو نفسه إلي تقاليد شعرية أندلسية كمصدر أساسي لعمله. ستقربه كذلك من شاعر مقاومة آخر، من بابلو نيرودا. اختزالات معيبة يصنعها الآخرون بكل سهولة واضعين الشاعر وشعره في خانة ضيقة تحت يافطات تكذبها قصائد لا يرونها: شاعر مقاومة. باقتضاب، لكن بحسم، يرد الشاعر. في حوار مع محمود دوريش لجريدة L_Humanit الفرنسية عام 2004، قال الشاعر بعدم اعتقاده أن للشعر دورا بديهيا في المقاومة الوطنية وأن تأثيراته ليست فورية، كذلك لا يؤمن بما يسمي بالشعر الوطني، يقول: في سنوات الخمسينات، دون شك، في العالم العربي والعالم أجمع أفكر في كل الشعر الملتزم وخصوصا في لويس أراجون، فيما بينكم كان للشاعر دور سياسي مباشر. كان العالم أقل تعقيدا مما هو عليه الآن، وفي حالتنا فإن الاحتلال الإسرائيلي احتلال طويل، بخلاف الاحتلال الألماني لفرنسا، أي فنان يمكنه أن يمثل دون انقطاع دور الشاعر الملتزم، بالمعني القديم للكلمة؟ إذا كان في نيته أن يلعب هذا الدور، فإن الاحتلال سيكون قد تحصل علي قتل الشعر كذلك. ربما كان هذا هاجس درويش الأساسي: النجاة بالشعر من المعركة، وربما ردد كثيرا الكلمات الأخيرة من قصيدة خورخي لويس بورخيس مديح الظل باحثا عن ظله العالي: أصل إلي مركزي، إلي جبري ومفتاحي وإلي مرآتي. قريبا سأعرف من أنا. وفي جريد أخبار الادب كتبت الشاعرة إيمان مرسال "مأساة أن تكون محمود درويش": ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثٌل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا: لكن كلمة شاعر في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها بقدر ما تصيب من يحدق فيها بالعمي، شاعر بالمعني الجيد للكلمة: تعني إلها يخلق لغة أو يدمرها، تعني نبيا يحمل رسالة يعيش ويموت من أجلها، تعني صوتا يمثل أمة لا صوت لها أو متصوفا يعلٌم القساة الحب، تعني الرائي والفيلسوف والمبشر والنذير (يمكن للقاريء أن يجد أوصاف كلمة شاعرالسابقة هذه في مقالات كثيرة عن محمود درويش وأدونيس تحديدا). شاعر كلمة مفردة ولكنها ـ كي تتحقق كما يجب ـ قد تدل علي جمع، تماما مثل كلمة أمة وكلمة جيش. درويش يمثل أحد أهم الشعراء الكبار في ثقافتنا الحديثة إذن، ويضاف إلي ذلك أنه شاعر تاريخي أيضا، ليس فقط لأنه يمثل صوت مأساة تاريخية من أبشع مآسي القرن العشرين (وهو أخلص لذلك وكان كلما حاول الخروج أحضرته الجماهير واستمرارية المأساة)، وليس لأنه تمرد أحيانا علي ما يجب أن يمثله من مأساة (وهو ما أنتج أجمل قصائده)، وليس لأن قصائده دخلت تاريخ ثقافته وذاكرتها ومستقبلها (وهي قد دخلت قبل أن يموت بسنين)، ولكن لأنه ابن لحظة تاريخية ـ مأساة، أصبح عبر الزمن شاهدا عليها وممثلا لها بقدر ما كانت قصيدته نفسها تمثيلا لأحلامها ولخيباتها معا، شاء هو أم أبي (أحيانا قبل أن يجحب لارتباطه بالقضية وأحيانا اشتكي من الحب القاسي)، وشئنا نحن قراؤه أم أبينا (بعضنا يحبه كشاعر المقاومة وبعضنا لا يحب إلا قصائده البعيدة عن ما يسمي المقاومة). تاريخية درويش لم تمنحها له واقعية المأساة التي مثلها، بل بحثه المتوتر عن جماليات خاصة بها، جماليات تحرر صوته من وطأتها (بالطبع ليس كل شاعر كبير تقف خلفه مأساة وليس كل من خلفه مأساة يستطيع أن يجد جماليات لها). ولهذا ليس مبالغة أن أقول أن درويش ظل يطور قصيدته جماليا بأقصي قدر يمكن لشاعر مسجون في وضعيته التاريخية أن يقوم به. أي وضع تاريخي هذا أن يكون الواحد محمود درويش؟. أن يكون الواحد شاعرا، أن تكون خلفه مأساة وأن يستقبل ويجحب لأنه صوتها؟. أية مأساة تلك أن يكون الشاعر صوت مأساة لأكثر من أربعين عاما، مأساة لا تتحرك في أي اتجاه إلا لتزداد مأساوية؟. أي مأزق أن يكون الشاعر موهوبا وذكيا ووسيما وذا كاريزما وإنسانيا وفرديا وصعلوكا ومحبا للحياة ومع كل ذلك يمثل شعبا وتاريخا ومنافي وهوية وأحيانا سلطة بلا أرض تتسلط عليها؟ أي عبث أن يكون الشاعر ضحية مأساة وأن يكون جزءا من مجده أنه صوت الضحية وأن تكون جماهيره هي نفسها ضحايا ؟. بالطبع أنا لا أرثي محمود درويش، أنا فقط أفكر فيه مجددا لأنه ببساطة مات، أفكر فيه لا كأب بل كحبيب قديم. ولقد فكرت فيه من قبل مرات: كمراهقة تحفظ شعره وتعلق صورته في غرفتها كما تعلق أخريات صور المغنين، وكشاعرة صغيرة تنجرف بعيدا عن عالمه وتصدق أنه يجب أن يكون هناك مخرج من قصيدته الجميلة بحق حتي وإن كان لا يوجد مخرج من المأساة التي تقف خلفها. ربما لم أفكر فيه لسنوات وربما تعاطفت معه عندما هاجم قصيدة النثر فكان ذلك دليلا علي أن الزمن قاسي. ولكني بدأت أفكر فيه مجددا منذ سنتين لأنه أربكني: عندما درست قصائده المترجمة للانجليزية لطلبة لا يعرفون موقعه في الثقافة العربية ولا يعرفون إلا القليل عن المأساة، طلبة أستخدم هنا كلمة كريهة أجانب، ورأيت بعضهم يدمع وبعضهم يسأل أسئلة لا أعرف كيف أرد عليها وبعضهم يريد أن يقرأ قصائده الأخري وبعضهم يبحث عن معلومات أكثر عن المأساة. أربكني درويش لأني رأيت صوته يصل إلي غرباء عنه، غرباء لا يعرفون موسيقاه ولا تموج صوته ولا وقفته علي المسرح ولا يعرفون كيف يمكن أن تكون ثقافة ما بكامل شعرائها مسجونة في لحظة تاريخية مأساة. ورأيت نفسي تائهة في الفصل لا أعرف كيف أتحدث عن قصيدته، لا أعرف كيف أفسرها أو حتي أنقدها، واقفة أسأل نفسي إذا كان حقا محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من حبيب قديم؟. كون محمود درويش ابن مأساة لحظته التاريخية لا يجعله محظوظا: ما يجب أن نحزن لأجله أنه لم يكتب الكثير من القصائد العظيمة الممكنة لموهبة عظيمة مثله لأنه ابن هذه اللحظة بالذات، ابن المأساة. أي عبث في أن يتخيل الواحد نفسه في وضع درويش التاريخي؟. أي كابوس؟. ربما لو كنت طفلا طرد من قريته وعندما عاد لم يجدها لظللت أبحث عن الغياب، ربما لو كان هناك من يشكون في وجودي وفي وجود أهلي لكتبت شيئا من قبيل سجل أنا عربيٌ، ربما لو كنت شابا وذكيا ومثقفا وأكتب الشعر واسأل عن العدل لكان أفضل ما يمكنني أن أنتمي إليه هو الحزب الشيوعي، ربما لو كنت كل ذلك وفقدت الأمل في العدل لتركت الحزب الشيوعي، ربما لو كنت منفيا من بلد إلي بلد لحلمت أن أخلد الحنين. ربما لو كنت هناك في نهاية الستينيات لانضممت إلي منظمة التحرير الفلسطينية، ربما لو كان لديٌ الموهبة الجبارة والمأساة و جمهور عريض يريد أن يبكي ويطرب ويتذكر طفولته المسروقة وأرضه الضائعة وأن يغضب ويثور وينتصر ويتحرر في مساء واحد، لكنت غنيت لمن هم مثلي يبنون وطنا من الكلمات ولما كنت تنازلت عن موقعي كشاعر قضية من أجل ما لم أكتبه بعد. ربما لو كنت لا أعرف كم أنا موهوب ومحبوب وعندي ما يستحق من الانسانية أن تنصت إليه لكنت قبلت كل هذه الجوائز من كل هذه الحكومات. ربما لو كنت هربت واختفيت عن عيون من أمثلهم أينما كانوا لكنت لحظتها فقط كتبت ما لم أكتبه. ربما لو كنت كتبت ما لم أكتبه ما كنت احتجت لآذانكم علي الإطلاق ولقلت لكم اقرأوني لأن ما لم أكتبه ليس مناسبا للجماهير. ربما لو كان ألمي أقل ومحبتي لألمي أكبر ما كنت دمرت قلبي هكذا. ربما بعد أن عشت كل هذه السنوات أتحدث باسمكم جميعا ثم رأيتكم تتقاتلون في غزة وفي غيرها لكنت قررت أن أموت. وفي جريدة الدستور كتب الكاتب وائل عبد الفتاح تحت عنوان "درويش مات": لم يخدعنا محمود درويش. أقصد لم يخدعني. ترك قبل الرحيل قصيدة الوداع وتسلل صوته الي أصدقاء يحدثهم عن مفاوضات الموت. أخبره الأطباء بأنه يعيش وفي صدره قنبلة قد تنفجر الآن وربما تؤجل انفجارها عشر سنوات. اختار مواجهتها.. رغم أن احتمال النجاح 10% درويش انسحب قبل أن تظهر النتيجة. ترك سريره في المستشفي الأمريكي وتابع جسده وهو يعمل بالأسلاك والأجهزة. وسافر.. قبل إعلان موته بساعات أو دقائق. لكي لا يودع أحدًا.. أويسمع صوت بكاء.. أو يرتبط عاطفيًا.. بمن سيتسلمون جسده. لم يتحمل درويش الانتظار.. وتسلل وحيدًا.. غريبًا.. في رحلة هزمه فيها الموت بعد جولات انتصر هو فيها عندما توقف قلبه دقيقتين سنة 1984 ورأي نفسه علي غمامة بيضاء.. يستعيد طفولته كلها. لكنه ترك الغمامة وهرب.. ليواجه الموت في جولة أخري سنة 1998. ويعود من الجولة ليقول له «هزمتك يا موت..» هو الآن يبتسم. ويترك للآخرين ان يعلنوا عن خسارته أمام الموت. هناك ثأر قديم إذن بين الشاعر والموت. هو الذي انتصر علي كل من أراد وضعه في قالب أصغر من حجمه. قالوا عنه شاعر القضية.. مغني الثورة.. اتهموه بالخيانة لأنه ترك فلسطين إلي القاهرة في أول السبعينيات.. وعندما كتب وثيقة الاستقلال الفلسطينية في الجزائر(1990). درويش خدع القوالب كلها وهرب من قبور صنعت له وهو حي.. هرب لأنه يحب الحياة.. يحبها لدرجة أنه لم يتحمل مفاوضات أخري عن موقع قبره.. لم يهتم أين يدفن الآن! وهو الذي عاش يبحث عن قريته وسط غابة المستوطنات.. اختفت قريته بعد لحظات من قرار جده بالرحيل خوفًا من دبيب جنود وصلوا فلسطين تحركهم خرافة استعادة أرضهم بعد 2000 سنة. القرية تحولت الي مستوطنة والطفل إلي شاعر توجع قلبه، هويته الجديدة «لاجيء». وانتسب طوال عمره إلي «فلسطيني 48» أي أنه كتب عليه الحياة بنصف حق، ومرتبطًا بنكبة لم تمح آلامها إلي الآن. لكنه آثر أن يغير الكتابة المفروضة عليه بكتابة تفتح أمماه مصيرًا مختلفًا.. انضم إلي الحزب الشيوعي الإسرائيلي (كان يضم عربًا ويهودًا). وكتب مقالات وأشعارًا تحاول صنع مصير مختلف له.. فهو ليس الهارب من أرضه أو الغريب في بلده.. انه الشاعر الذي تتقاطع عنده مأساة شعبه.. لم يكن صوت أحد.. رغم أن الفلسطينيين اعتبروه صوتهم. عشرات الشعراء تنافسوا علي أن يكونوا صوت القضية. لكن درويش ظل صوتها المتفرد. لأنه لم يستسلم لها. قادها هو إلي مساحة أرحب. غير شكل الخطاب السياسي الفلسطيني وكانت في كل قصيدة خيانة لمن ينتظر منه أن يكون علي هوي الآخرين. رأي درويش أنهم يحبونه ميتًا. لكي يقولوا كان منا وكان لنا.. إنه لم يدخل العلب المحفوظة للقضية.. وكما نال محبة وشهرة وعشاقًا.. لم ينج من اللعنات والاتهامات.. قال عاشق آخر نحبه هو ناجي العلي «محمود خيبتنا الأخيرة». وقتها كان درويش بجوار زعماء منظمة التحرير في واحدة من تنقلاته. وكانت كلمة ناجي العلي موتًا أكيدًا لدرويش.. وكالمعتاد لم تكن هذه هي النهاية.. تسلل صوته ليعلن عن أنه مازال حيًا في مكان آخر.. علي أرض أخري.. وعندما كتب عن الحب فقط في ديوانه «سرير الغريبة» قالوا باع القضية تمامًا ودفنها.. ونسي المقاومة. لكن القصائد كانت درسًا في مقاومة أخري.. إعلان بأن الفلسطيني إنسان.. يحب.. يخاف.. يهرب إلي المتع كما يهرب العشاق. تحررت المقاومة من التخصص في مشروع واحد لتحرير فلسطين. درويش رأي تحرير الفلسطينيين أولاً من مصير الضحية المستسلمة. لم يستسلم هو.. ترك جسده يستسلم وركب غمامته البيضاء.. ليطل علي جنة عدن التي طرد منها آدم وأصبح أول لاجيء في الدنيا. وفي جريدة المصري اليوم كتبت الناقدة شيرين ابو النجا: كم مرة ينتهي أمرنا؟ وكم مرة اعتقدنا أن أمرنا انتهي؟ كم صوت رحل فكتبنا نعينا بأنفسنا؟ وكم مرة تمكن الوجع من نفوسنا فصدقنا أن أمرنا انتهي؟ وكم مرة توقف قلم أو انحبست قصيدة أو لم يكتمل فيلم فصدقنا أن أمرنا انتهي؟ عندما رحل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد منذ بضعة أعوام اعتقدنا أن أمرنا انتهي، وجزمنا أن الزمن لن يجود بعقل مثل عقله، لكن الزمن لم يبخل علينا بأفكاره المسجلة في كتب، والتي كان أولها «الاستشراق» عام 1978، والحوارات التي أجريت معه، وسيرته الذاتية التي تركها بعنوان «خارج المكان». ظل أدوارد سعيد حاضرا حتي الآن، في أساس النقد المابعد استعماري، في دور المثقف، في مفهوم الهيمنة الثقافية، في الدراسات النقدية والأكاديمية، في أهم المؤتمرات، في محاضرات سنوية باسمه، في دراسات تكتب عنه، في استشهادات من أقواله، في ترجمة كتبه وفكره. لم ولن يرحل اسمه وفكره. لم ينته أمرنا ولم ينته أمره رغم كل ما قلناه حين غاب شهيقه وزفيره. وبأناقة شديدة رحل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، هكذا رحل بهدوء، لكننا لم نهدأ من حينها. والحق أنني حين سمعت الخبر في التليفزيون المصري شعرت بوخزة وجع شديد في قلبي، ولأنني كنت أجلس وحيدة تماما، فقد قررت أن أقوم برد فعل ملائم للموقف. لم يكن أمامي سوي أن أستدير بكرسي المكتب لأواجه المكتبة وألتقط ديواناً له وأبدأ القراءة. وكان ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا» الذي صدر عام 1995، وربما أشهر قصيدة في ذلك الديوان هي «تعاليم حورية» ـ التي كتبها الشاعر الراحل عن والدته، وقال فيها: «ويكفي أن تجيء رسالة مني لتعرف أن/ عنواني تغير، فوق قارعة السجون، وأن/ أيامي تحوم حولها... وحيالها». مع كل قصيدة كنت أدرك فداحة الخسارة، وقصر الزمن الذي لا يمهلنا دائما المساحات الكافية لننجز ما نحلم به. كان محمود درويش من الشعراء القلائل الذين لم يفقدوا القدرة علي إقناعنا بأن الشعر والكلمة تساوي قوة السلاح، وفي البدء كانت الكلمة. ظل جمهوره عريضا يزداد مع الأيام، جمهور جاء ليسمع الشعر، شعر هذا الرجل، رغم أن زماننا لم يعد زمن الشعر ولا زمن القراءة. بالإضافة إلي الأمسيات الشعرية القليلة التي استمعت فيها لشعر الراحل محمود درويش في القاهرة، أتيحت لي الفرصة لحضور أمسية له في أمستردام. كانت المناسبة هي حصوله علي جائزة الأمير كلاوس (زوج ملكة هولندا)، وهي جائزة سنوية معروفة بقيمتها الأدبية في أنحاء أوروبا وتمنح سنويا لأحد المبدعين الذين نجحوا في تغيير المنظومة الفكرية السائدة، وقدموا إسهاما حقيقيا في الارتقاء بالعقل والروح. وكان أن حصل الراحل علي الجائزة وأقيمت له أمسية شعرية ألقي فيها العديد من القصائد التي طبعت وترجمت ووزعت علي الحضور مع «سي.دي» بصوته. كان الحضور فوق المتوقع من قبل منظمي الأمسية، فقد كان في أكبر قاعة بأمستردام إلا أن العديد لم يتمكنوا من الدخول نتيجة الازدحام الشديد. كان يلقي الشعر وكأنه جزء من طقوسه اليومية، لا يستحضر الشعر، الشعر كامن فيه، فتبدو القصيدة وكأنها منه أو هو منها. محمود درويش رحل، ولم يرحل. فأشعاره وقصائده ستبقي دوما لتعلم المقاومة والحب وتشرح معني الأرض والبلاد وأشجار الزيتون. كان واعيا بالزمن، مستعدا لمواجهته، في قصيدة «كم مرة ينتهي أمرنا...»: يتأمل أيامه في دخان السجائر، ينظر في ساعة الجيب: لو أستطيع لأبطأت دقاتها كي أؤخر نضج الشعير!... ويخرج من ذاته مرهقا نزقا: جاء وقت الحصاد السنابل مثقلة، والمناجل مهملة، والبلاد تبعد الآن عن بابها النبوي. يحدثني صيف لبنان عن عنبي في الجنوب يحدثني صيف لبنان عما وراء الطبيعة لكن دربي إلي الله يبدأ من نجمة في الجنوب. وفي جريدة المصري اليوم كتب الناقد السينمائي سمير فريد: فقدت مملكة الشعر مساء أمس الأول «السبت» أميراً من أمراء الشعر العربي في كل تاريخه، هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وفقدت فلسطين صوتاً عظيماً من أصواتها في العالم.. فقد تجاوز محمود درويش الحدود الفلسطينية والعربية منذ عقود، وصار من شعراء الدنيا الكبار، وكتب بعض النقاد الكبار، من طوكيو إلي لندن، أنه جدير بالفوز بجائزة نوبل. عرفت محمود درويش الشاعر، مثل كل القراء العرب، من خلال كتاب رجاء النقاش عنه، الذي صدرت طبعته الأولي في كتاب الهلال في يوليو 1969، وتشاء الأقدار أن يرحل الشاعر بعد شهور من رحيل ناقده، ولم يكن غريباً أن يصف درويش رجاء النقاش في رثائه بأنه «أخي الذي لم تلده أمي»، وعرفت محمود درويش الإنسان في مكتب لطفي الخولي في أول أيامه بالقاهرة عام 1971، وكانت أول زيارة في حياته لمدينة عربية، وأيامها قال ما دهشنا له جميعاً، وما لا أنساه أبداً: «فرحتي غامرة بوجودي في مدينة عربية عظيمة كل اللافتات فيها باللغة العربية». وكان موعد المهرجان القومي الأول للأفلام الروائية الطويلة، الذي رأسه سعد الدين وهبة وعقد في بلطيم من أول أغسطس إلي الحادي عشر، قد اقترب، واقترحت دعوة درويش لحضور الافتتاح، ورحب وهبة كثيراً، وكان فيلم الافتتاح «زوجتي والكلب» إخراج سعيد مرزوق وتمثيل سعاد حسني ومحمود مرسي ونور الشريف وتصوير عبدالعزيز فهمي، وبُهر محمود درويش بالفيلم، وعَّرفته علي سعاد حسني بعد العرض، فقالت له: «للوهلة الأولي تصورت أنك من نجوم السينما، وكان رده: «هذه أعظم شهادة ترضي غروري كرجل، ولكن الشهادة الأعظم أن تلقي بعض قصائدي بصوتك»، وقلت: «هل تعرف أن والد سعاد من أعلام الخطاطين العرب في يافا ويوقع باسم حسني»، فزاد ابتهاجه، وقال هذه ليلة من أجمل ليالي حياتي»، ولم يكن قد بلغ الثلاثين مثلي ومثلها، وقلت: «وهي متزوجة من علي بدرخان حفيد كبير أكراد مصر»، وعلق: «هذه هي مصر.. نجمة مصرية من أصل فلسطيني ومتزوجة من كردي مصري هذه هي الحضارة».واقتربت من محمود درويش عندما عملنا معاً في مكتب واحد في مجلة «الطليعة» بالأهرام لإصدار «ملحق الأدب والفن» الذي صدر عدده الأول في يناير 1971، وفي الترويسة أن مجلس التحرير من: «لطيفة الزيات وغالي شكري ومحمود درويش وسمير فريد وصبري حافظ»، وكانت أول قصيدة اختارها درويش للنشر «اشتهاء الملكة» للشاعر «الشاب» محمد عفيفي مطر، وتطول الذكريات مع فقيد الشعر وفقيد فلسطين الذي لم يحتمل قلبه ما يدور في بلاده، وأوجع قلبي فراقه كما أوجع قلوب ملايين.
في حوار مع محمود درويش يعد الأول له في الصحافة العربية وأجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968، تساءل "كيف أوفق بين شق الطريق أمام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟" ربما تغيرت مفردات السؤال واتسع لكنه ظل ما يحدد رهان درويش الشعري، فمنذ البداية كان محمود يعي أن الجماهير لها حق عليه وأن التأثير فيها بقصائده جزء من عملية الكتابة، خاصة وأنه شاعر له جمهوره الذي كان يملأ القاعات أو الساحات التي ألقى فيها شعره.ويقلق كما أبدى في هذا الحوار من الفتور الذي استقبل به الجمهور ديوان آخر الليل ويوضح "من المكابرة أن أقول إني لم اشعر بعذاب نفسي". هل يترتب علي، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلي التعبير المباشر، والحث الصريح علي الكفاح والتمسك بالأمل والعقيدة؟ ففرق كبير بين شاعر يكتب وصورة جمهوره تملأ عينيه وآخر مازالت صورة قارئه غامضة أو متوارية بعيدا. ومحمود درويش له مكانة خاصة بين الشعراء العرب ذوي الجمهور العريض، فنزار قباني مثلا كان متصالحا مع جمهوره، ولم يصدمه بتغيرات في قصيدته تجعل محبيه يتساءلون أين نزار القديم؟ ولماذا هجر ما نحبه؟ ولم يضطر إلى مطالبتهم بـ "انقذونا من هذا الحب القاسي".
محمود درويش خاض مسارا مختلفا لم يركن إلى عقد دائم ثابت مع جمهوره كان يفاجؤه بتغيرات في قصيدته تنحو إلى تجربة إنسانية أوسع من مجرد شعر القضية الفلسطينية، واضطر إلى مواجهة جمهوره المطالب بقصائده الحماسية فكان يلبي رغباتهم لكن سرعان في الأمسية نفسها يدفعهم إلى سماع منجزه الشعري الجديد المفارق للحماسة، وتدريجيا استطاع الشاعر إلى أن يجعل جمهوره يطل معه "على ما يريد". فهناك اختلاف واضح بين المرحلة التي كان يبدأ فيها لقاءه بجمهوره بـ "سجل أنا عربي" أو "باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقا" وبين حفلة توقيعه لأخر دواوينه أثر الفراشة والتي بدأها بقصيدة "البعوضة" رغم أن الديوان يضم قصائد تلهب حماس المستمعين أكثر. والمتابع للكتابات التي كتبت بعد رحيله سيلحظ طبيعة العلاقة التي ربطت بين الشاعر وجمهوره. فهناك من يؤبن شاعر القضية الفلسطينية، ويذكر مقاطع من القصائد النضالية، واخرون يرون شعره في رحلته نحو افق اكثر رحابة، ومحاولاته ليخرج من اطار التنميط. وامتد الامر في الاقوال التي يتذكر الكتاب انهم سمعوها من درويش في جلساتهم الخاصة، فكل واحد يتذكر ما يؤيد ضمنيا المرحلة التي يحبها في شعره والصورة التي يرغب في أن تظل من محمود درويش. إن ما نشر عن محمود ردويش بقدر ما يكشف عن ثراء نصه فانه في الوقت نفسه يؤكد انه سيظل جزءا أساسيا في الحوار حول الشعر العربي ورهاناته الفنية المختلفة.
مختارات مما نشر في الصحافة المصرية بعد رحيل محمود دويش كتب الروائي خيري شلبي في جريدة البديل تحت عنوان "الهدهد": وأنت بعد قراءتك لمحمود درويش لابد أن تختلف عنك قبل قراءته اختلافاً كبيراً. بعد قراءته ستشعر بالعزة والسموق، ستشعر بمعني الكرامة، بروح الإباء بالسؤدد بالارتفاع فوق صغائر الأمور، ستشعر بأنك تستطيل وأن قامتك تتصاعد مع الشعر إلي ما يشبه الإسراء والمعراج، حيث ستري ما لم تكن تحلم بالسفر إليه، وتشعر بما لم تكن تظن أنك قادر علي الشعور به. في شعر محمود درويش تنفك عنك كل القيود، إذ هو لا يحمل البعيد إليك بل يحملك إلي البعيد البعيد. ثم إنه لن يعيدك إلي سابق حالتك، لأنه يترك فيك لقاح روحه ليشحنك بطاقة تؤهلك للانطلاق إلي آفاق مترامية، حيث تشعر ربما لأول مرة في حياتك بمعني الوطن.
الشعر هو وطن محمود درويش الحقيقي، ذلك أن الوطن قد بات شعره منذ نعومة أظافره كما يقول التعبير العربي القديم. بشعر محمود درويش ترتفع قيمة الوطن، الدليل علي ذلك هو شعر محمود درويش فيه يبقي الوطن حياً إلي ما لا نهاية. تلده القصائد كل يوم، قديماً جديداً معاً، تلده كاملاً غير منقوص تلده كبيراً متطوراً مطهراً. وشعر محمود درويش هو التطور الأمثل للشعر العربي القديم تجد فيه الملك الضليل والنابغة، وجرير، والفرزدق وابن أبي ربيعة، وبشار ابن برد وأبا نواس، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وابن الملوح، وابن الرومي، والحمداني، وابن زيدون، وشوقي، والرصافي، والجواهري، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، تجد كل هؤلاء وغيرهم، ولكن في صورة جديدة متطورة مزودة بالثقافة الحديثة منصهرين جميعاً في بوتقة تغلي بنار المحنة اسمها محمود درويش.
هو شاعر واضح الأصول والأنساب، في شعره هويته العربية الأصيلة، تتعرف فيه علي آبائه وأجداده وأعمامه وأخواله. ربما كان علي رأس هذه القلة القليلة من فرسان الشعر العربي الحديث الذين نجوا من الرطانات الأجنبية، فرغم استفادته من الشعر العالمي ـ والفرنسي خاصة ـ يظل شعره نفساً عربياً خالصاً. إن عروبية شعره لا تقبل جسماً غريباً. شعره ملكه وحده، نابع من ضميره هو، من عالمه الخاص، بل الشديد الخصوصية.. حتي المفردات العربية التي يستخدمها غيره من الشعراء العرب تبدو لفرط امتلائها بشحنات جديدة وألوان طازجة كأنها من اختراعه فكأنه جمع هذه المفردات وهي بعد مجرد بيض، ثم حضنها وبعث فيها حرارته حتي فقست مفردات ككائنات حية تسعي في فناء داره كالكتاكيت، ثم راح يطعمها ويسقيها حتي نمت أفراخاً تملأ الدار لوحات تشكيلية مرئية تمتع البصر والفؤاد وتضج بالموسيقي.
يقول في بعض حواراته: ''الشعر ليس فقط وسيلة الشاعر واللغة قبل ذلك لأن علاقة الشاعر باللغة ليست من أجل إيصال شحنة أو فكرة أو غموض أو وضوح، علي شذوذ اللغة أن توصل وأن توضح ما هو غامض في وجودنا، الداخلي ولكن أيضاً علي اللغة أن تكون غرضاً في حد ذاتها في العملية الشعرية، الكلمات ليست فقط أدوات اتصال، ليست أرقاماً وإلا كنا نستغني عن الشعر بالتعبير المباشر عما نريد من مطالبنا أو من شهواتنا أو من رسالتنا، ولكن في العملية الشعرية، اللغة الشعرية هي أيضاً مادة عمل وأيضاً غرض العمل''.
ولكن كيف نبعت قصيدة محمود درويش من المحنة الفلسطينية لتتجاوز المحنة وتصبح خطاباً إنسانياً عاماً يخاطب الإنسانية في كل مكان وكل زمان، وتصبح القضية الفلسطينية هماً إنسانياً معاصراً بقدر ما هي زاد جمالي تستضيء بنوره الإنسانية. يجيب هو قائلاً: إنني نتاج تلك الأرض عناصرها وطبيعتها نتاج حركة التاريخ فيها ونتاج لقاء الحضارات والثقافات فيها فأنا استوعب كل تلك الثقافات علي أساس أنها عنصر مكون لثقافتي، هذا النتاج كله ملكي فأنا تعبير عن كل هذا الاختلاف ومن كل هذا الاختلاف ومن كل هذه الأبعاد في الزمن وفي التاريخ ولكن هذا لا يكفي لكي يكون النص الشعري ملكية جمالية إنسانية فلو كان تعبيري محصوراً في وصف أطراف الصراع، والصراع وحده، لسقط النص أتوماتيكياً بعد سقوط الصراع، أنا لست أحادياً ولست مراسلاً حربياً للقضية الفلسطينية، وأنا أتكلم عن إنسانية هذه الأرض وإنسانها وعن نزوعه الإنساني نحو تحقيق قيم من حقه أن يتمتع بها وهي الحرية والاستقلال، وإبداع حياته ومصيره كما يشاء. أي الجانب الإنساني في القضية الفلسطينية وهو جانب عملي الشعري وليس الجانب الوصفي لوثائق تطورات هذه القضية ولجانبها العسكري أيضاً. فمجال عمل هذا النص هو القدرة علي كشف جماليات الحياة في تلك الأرض بحيث تتحول هذه الجماليات إلي ملكية إنسانية عامة ولا نستطيع حينذاك أن نقول إن هذا الشاعر فلسطيني، وهذا الشاعر سوري وهذا الشاعر تونسي، يصبح النص الجمالي يخاطب ما فينا من هشاشة الإنسانية وقوتها أيضاً ونزوع الحرية والإبداع.
تعرفت علي شعر درويش والقاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو بينما كنت في المدرسة الثانوية في الخليل، كنت مشاركاً فعالاً في المظاهرات ضد الاحتلال، وذات مرة قدم لي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الإبراهيمية بعض الدواوين لشعراء فلسطينيين، وقد أحببتهم، والتصقت بهم وحفظت الكثير من قصائدهم، لأني كنت أحس أنهم يرفعون يدي عالياً وهي تحمل راية فلسطين، ويشدون من قبضتي علي الحجر. أضف إلي ذلك أننا كفلسطينيين ليس لدينا تاريخ طويل من الشعراء والأدباء وكلهم جاؤوا أو ولدوا خلال الانتداب وبعده، فكنا حريصين علي التقاط أي اسم فلسطيني يأخذنا إلي الأدب والشعر، ويشكل هوية ثقافية للشعب الفلسطيني.
كنت أحب تلك القصائد التي تفوح منها رائحة فلسطين، وبينما كنت أتعرض لضرب الجنود الإسرائيليين وأستنشق غازهم وضرب هراواتهم، كانت تلك القصائد الوطنية - ومنها قصائد إبراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود - تشكل لي حرزاً داخلياً كبيراً وواقياً من الخوف ودافعاً لمواجهة كل هذه الآلة العسكرية الجبارة ببيت شعر أو لحن مقاوم. وكنا نردد: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف لمحمود، أو منتصب القامة أمشي لسميح، أو أناديكم، أشد علي أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم لزياد وحتي الثلاثية الحمراء لطوقان وغيرها الكثير.
من هنا تعرفت علي درويش، أما كيف أقرؤه الآن، فلم أكن أحب الاقتراب كثيراً من شعره، حتي مرحلة الجدارية، كما كتبت له مرة في قصيدة (كلما أحببتك أكثر ابتعدت عنك، لم تترك الحصان ربما آثر الهروب.....الخ)، لأنني كنت حريصاً ألا أقع تحت تأثيره أو أن يتسرب لما أكتب دون معرفة، وبذلك حميت نفسي منه لأني أحبه ولا أحب أن يتملكني لا هو ولا غيره. كان ذلك حتي عام ألفين تقريباً، بعدها لم أعد أخشي من قراءته حيث بدأت أشعر أنني صرت قادراً علي عدم الوقوع في أسره.
والحق يقال، إن أهمية درويش وفرادته، تأتي من كونه يمتلك قدرة علي الابتعاد عن نفسه وشعره دائماً، ولا يتشبث بمكان إقامة محدد، وأعترف أنني في كل مرة كنت أتخلص فيها من بعض القناعات وأطلع إلي شرفة جديدة، كنت أجده قد ابتعد عن موقفه السابق ونمطيته واتخذ مجلساً متقدماً هناك، والغريب أنه يرافقنا دائماً إلي التطور والنضج، وهذه ميزة تحسب له كما قال مرة إنه سعيد لأن قارئه يتطور مثله، وإن كان بالنسبة لي العكس، فأنا أري أنه يحل باستمرار في تلك الشرفة التي أصل إليها في الابتعاد عما رسخ وقال في الحياة وفي الشعر، هو وغيره، وعدم البقاء في المربع الأول والنفور من التقليد والتكرار، واجتراح المستقبل والغد.
هذه ميزة تحسب له، وقد ارتقي بشعره تماماً كما يقول ويري، ولذا وجدت سلاسة في مجموعاته الأخيرة، منذ (سرير الغريبة، ولماذا تركت الحصان وحيداً، والجدارية ولا تعتذر عما فعلت وعمله الأخير كزهر اللوز أو أبعد) وابتعاداً عما كنت لا أحب في مجاميعه السابقة، والتي صارت تقليدية بالنسبة له أيضاً، هكذا أنا منحاز لجديده دائماً، وتجربته تتعمق كلما كبر، وهو يطبق بذلك نظريته: إن الشعراء نوعان الأول يولد مرة واحدة ويموت بسرعة والثاني يولد علي مهل ويكبر علي مهل، ولعله من النوع الثاني إن شاء الله.
لا يفاجئني محمود في الكثير من آرائه في الحياة وفي الشعر وأكاد أعرف ما سيقول، وذلك يعجبني أكثر لكي أصقل ذاتي مجدداً، وأجد هناك تطابقاً حتي في النظرة للعدو والحياة ولكنْ هناك اختلاف كبير أيضاً، فليس كل ما يقوله إنجيل مقدس، ومما آخذه عليه، أنه يتجاوز في تصريحاته وكلامه، بقية الشعراء الفلسطينيين وحتي العرب، ومن بينهم تجارب رائعة وكبيرة، ويعتبر نفسه ممثل الشعر الفلسطيني، والعربي، ولا يكاد يعترف بأحد سواه، هذه نرجسية تقترب من الديكتاتورية السياسية، وليس من فضاء الشاعر الذي يهمه أن تتنوع المعرفة والحياة وتتجدد كريات الدم في جسد القصيدة، وإن قال إنه يريد التخلص من القصيدة الوطنية وكتابة قصيدة حب، لكن ذلك لا يتجسد في قناعاته تماماً، فهو في العمق يحرص علي بقائه نجم الشعر الفلسطيني وممثل فلسطين الشعري الأوحد، ويجد في الساحة العربية من يعمل لهذا الإقصاء للآخرين، ليس حباً بدرويش فقط ولكن اختصاراً للمشهد الشعري الفلسطيني، وربما العربي، وحين يتحدث درويش عن تطور الشعر الفلسطيني يريد لهذا الشعر ان يشذب حسب رغبته هو لا حسب نضوج القصيدة الفلسطينية والظرف الفلسطيني نفسه، لهذا أجده أنضج أفكاره ورؤيته قبل أن يتبلور شكل ما لحرية الفلسطيني، وهو لم يحسم أمره تماماً من أنه ليس شاعراً إقليمياً أو قطرياً، فبينما يلتفت ليرضي مداره الشعري ومسار الكون نفسه، والكثير من المنابر العالمية، مازال يخشي خسران شعبيته التي نالها وما زال من الباب الوطني، إنه يمسك العصا من المنتصف لا يريد أن يخسر تمثيله لفلسطين كقضية وشعب ولا يريد أن يخسر وهج الشعر وتطور قصيدته وإنضاجها، لكنه قطع مسافة في إقناع الطرفين، ولا أعرف إن كان للنجومية التي يتمتع بها دور في هذا الإقناع، ولا أدري إن كان في هذه النجومية الأقرب للفنية منها للثقافية، خطر علي شعره مستقبلاً وشعر غيره حاضراً، وإن كانت تدفعه دائماً لاستلاب الآخرين حقهم ووهجهم.
وهذا مما يؤخذ عليه، كما أنه يمتدح قصيدة النثر كثيراً ويقترب منها لكنه ما زال تقليدياً في التفعيلة، ولم يكرس آراءه عمليا، فيبدو توفيقياً في مغازلة شعراء النثر وكتابة شعر مفعل، لم تشفع تلك الاقتباسة من أبي حيان التوحيدي، في مجموعته الأخيرة، وإن كان النثر يتدفق علي شفتيه بشكل أجمل من الشعر أحياناً، لكنه لم ولا يريد أن يحسم رأيه في هذه المسألة، كما لم يحسمها في القول بوجود ميليشيات لقصيدة النثر يتفاداهم، أو مثل تلك التصريحات التي أدلي بها في تونس حول الشعر العربي، لكنه عموماً يتكلم في الحياة والسياسة والصراع العربي الإسرائيلي أجمل مما يتحدث في التنظير لشعره وللشعر عموماً.
وعلي كل يظل محمود شاعراً كبيراً نحبه ونختلف معه ونحترم تجربته لكن دون تقديس أو تأليه ودون تكريس للوحدانية، فهناك شعراء كبار لم تتح لهم فرص مثالية كما أتيحت لمحمود، الذي ما زال أمامه الوقت لتصحيح الماضي والعودة إلي الشعر الذي لايبرزه نجماً جماهيرياً، بل شاعراً قريباً من العشب الندي أكثر.
وكتب الشاعر عبد المنعم رمضان تحت عنوان "غياب الرمز" محمود درويش لم يعد شاعراً فقط، هو شاعر ورمز لوطن فقدناه بفعل قياداتنا السياسية وسنظل فاقدين له بفعل هذه القيادات المستمرة والدائمة والتي لا تنوي أن تزول. مات آخر الشعراء النجوم، هناك شعراء ليسوا نجوماً، وهم شعراء كبار جداً لا يعرفهم العامة والبسطاء، وهناك نجوم باسم الشعر، علي سبيل المثال: سعاد الصباح الكويتية، أحمد مطر، وفاروق جويدة المصري إلي آخره، أما درويش فقد جمع بين الأمرين، هو شاعر كبير وفي الوقت ذاته نجم كبير، لهذا أشعر أن خسارتنا فيه فادحة، لأن الشعراء النجوم يصلوننا بالجمهور، الجمهور يتماس ويتلامس مع الشعر عن طريقهم، خطر جداً أن يتلامس الجمهور مع الشعر عن طريق النجوم الذين ليسوا بشعراء، لأنهم سيهبطون بذائقتهم.
خسارة درويش أيضاً تؤلمني علي المستوي الشخصي، لقد حدث اختلاف بيننا حول مفهوم كل منا للشعر، ولا أستطيع أن أعتب عليه الآن غضبه الشديد من بعض آرائي، لأنها آراء لم تمس قيمته الحقيقية داخلي. قابلت محمود في مدن كثيرة، خاصة في القاهرة، ولم أصادف شاعراً في ذكائه علي الإطلاق، لم أصادف شاعراً في وسامته وفي عدم ترخصه. ماذا أتمني لدرويش إلا أن تتغير أنظمتنا ونتغير نحن، حتي يتحقق ما كان يحلم به النجاة بالشعر من المعركة
وفي جريدة الأهرام كتب الشاعر حسن طلب: محمود درويش يحتل مكانة مخصوصة ومتميزة في الشعر العربي، ولماذا يحتل هذه المكانة، لأنه أصر منذ البداية شأنه شأن كل فنان كبير علي أن يكون هو نفسه. صنع من نفسه كهرباء نفسه وتمرد علي كل ما يمكن أن يحبسه داخل إطار، أو داخل أي تصنيف. نحن عرفناه في البداية تحت لافتة شعراء الأرض المحتلة من دواوينه الأولى عاشق من فلسطين وأوراق الزيتون وغيرهما. لكنه تمرد علي هذه اللافتة ليخرج علينا بوجه جديد ولكن فيه شيئا من الجذور الأولي، ولكن الجديد فيه هو الأوضح والأكثر لفتا للنظر قدم لنا أيضا في هذه المرحلة من منتصف السبعينيات المحاولة رقم7 وخرج علينا بقصيدة عربية جديدة من فكرة المقاومة المباشرة عن فكرة المرحلة الأولى.لأن المقاومة اتسعت وأصبحت مقاومة إنسانية ضد كل ما يقيد حرية الإنسان في كل مكان أصبحت أنشودة للحرية وأصبحت أغنية للحياة يستطيع أن يرددها البشر في كل مكان ويتغني بها المقهورون الواقعون تحت نير الاستبداد والطغيان مهما يكن دينهم ولونهم، وهذه المرحلة تجسدت في قصيدة بيروت. محمود درويش يمتاز أيضا بالإضافة إلي التجدد والتمرد المستمرين يمتاز بأنه من نسيج وحده عاشق وحده وكتب قصيدته وحده ومات وحده. لم يتحرك في حماية كوكبة المنتفعين وأدعياء الشعر ولم يصنع لنفسه حاشية كما يفعل البعض وإنما أصر علي أن يكون هو صديق نفسه وحاشية نفسه فكسب احترام الجميع والتفت إلي الذات في مرحلته الأخيرة منذ ديوان جدارية فاكتشف كنزا خبيئا قدمه لنا وأدهشنا به ومات وهو في غمرة هذا الكشف مات وقلمه في يده، مات دون أن يكمل لنا هذه الكشوف التي وعدنا بها ثم تركنا وغاب فجأة. ولكن غياب محمود درويش سيظل حضورا دائما متجددا لأنه ترك لنا ما يضمن به البقاء والخلود.
وفي جريدة أخبار الأدب كتب الشاعر أحمد يماني: سيقتصر الحضور الثقافي العربي عموما، في بلد كإسبانيا، علي اسمين كبيرين، الروائي والشاعر، رغم ما في هذا من إجحاف أو تجاهل لأسماء أخري، ربما جاورتهما في الحضور بدرجات أقل: نجيب محفوظ راوي المدينة، محمود درويش شاعر القضية. كليشيهات بها ما بها من عمومية فاضحة إلا أن الأمر لا يخرج عن هذا حتي داخل أشد الدوائر تخصصا. محفوظ له النصيب الأكبر في الحضور العام، علي الأقل هو الأكثر قراءة خارج الأوساط الأكاديمية. ولكن الإسبانية ستكون أكثر حنوا علي درويش بغنائيتها وعاطفيتها، ستقرب الترجمة درويش كثيرا من شاعر مقاومة آخر، من لوركا، لن ترده إليه كما فهم البعض خطأ علاقة الراحل الكبير بشعر فيديريكو جارثبا لوركا، العائد هو نفسه إلي تقاليد شعرية أندلسية كمصدر أساسي لعمله. ستقربه كذلك من شاعر مقاومة آخر، من بابلو نيرودا. اختزالات معيبة يصنعها الآخرون بكل سهولة واضعين الشاعر وشعره في خانة ضيقة تحت يافطات تكذبها قصائد لا يرونها: شاعر مقاومة. باقتضاب، لكن بحسم، يرد الشاعر. في حوار مع محمود دوريش لجريدة L_Humanit الفرنسية عام 2004، قال الشاعر بعدم اعتقاده أن للشعر دورا بديهيا في المقاومة الوطنية وأن تأثيراته ليست فورية، كذلك لا يؤمن بما يسمي بالشعر الوطني، يقول: في سنوات الخمسينات، دون شك، في العالم العربي والعالم أجمع أفكر في كل الشعر الملتزم وخصوصا في لويس أراجون، فيما بينكم كان للشاعر دور سياسي مباشر.
كان العالم أقل تعقيدا مما هو عليه الآن، وفي حالتنا فإن الاحتلال الإسرائيلي احتلال طويل، بخلاف الاحتلال الألماني لفرنسا، أي فنان يمكنه أن يمثل دون انقطاع دور الشاعر الملتزم، بالمعني القديم للكلمة؟ إذا كان في نيته أن يلعب هذا الدور، فإن الاحتلال سيكون قد تحصل علي قتل الشعر كذلك. ربما كان هذا هاجس درويش الأساسي: النجاة بالشعر من المعركة، وربما ردد كثيرا الكلمات الأخيرة من قصيدة خورخي لويس بورخيس مديح الظل باحثا عن ظله العالي: أصل إلي مركزي، إلي جبري ومفتاحي وإلي مرآتي. قريبا سأعرف من أنا.
وفي جريد أخبار الادب كتبت الشاعرة إيمان مرسال "مأساة أن تكون محمود درويش": ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثٌل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا: لكن كلمة شاعر في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها بقدر ما تصيب من يحدق فيها بالعمي، شاعر بالمعني الجيد للكلمة: تعني إلها يخلق لغة أو يدمرها، تعني نبيا يحمل رسالة يعيش ويموت من أجلها، تعني صوتا يمثل أمة لا صوت لها أو متصوفا يعلٌم القساة الحب، تعني الرائي والفيلسوف والمبشر والنذير (يمكن للقاريء أن يجد أوصاف كلمة شاعرالسابقة هذه في مقالات كثيرة عن محمود درويش وأدونيس تحديدا). شاعر كلمة مفردة ولكنها ـ كي تتحقق كما يجب ـ قد تدل علي جمع، تماما مثل كلمة أمة وكلمة جيش.
درويش يمثل أحد أهم الشعراء الكبار في ثقافتنا الحديثة إذن، ويضاف إلي ذلك أنه شاعر تاريخي أيضا، ليس فقط لأنه يمثل صوت مأساة تاريخية من أبشع مآسي القرن العشرين (وهو أخلص لذلك وكان كلما حاول الخروج أحضرته الجماهير واستمرارية المأساة)، وليس لأنه تمرد أحيانا علي ما يجب أن يمثله من مأساة (وهو ما أنتج أجمل قصائده)، وليس لأن قصائده دخلت تاريخ ثقافته وذاكرتها ومستقبلها (وهي قد دخلت قبل أن يموت بسنين)، ولكن لأنه ابن لحظة تاريخية ـ مأساة، أصبح عبر الزمن شاهدا عليها وممثلا لها بقدر ما كانت قصيدته نفسها تمثيلا لأحلامها ولخيباتها معا، شاء هو أم أبي (أحيانا قبل أن يجحب لارتباطه بالقضية وأحيانا اشتكي من الحب القاسي)، وشئنا نحن قراؤه أم أبينا (بعضنا يحبه كشاعر المقاومة وبعضنا لا يحب إلا قصائده البعيدة عن ما يسمي المقاومة). تاريخية درويش لم تمنحها له واقعية المأساة التي مثلها، بل بحثه المتوتر عن جماليات خاصة بها، جماليات تحرر صوته من وطأتها (بالطبع ليس كل شاعر كبير تقف خلفه مأساة وليس كل من خلفه مأساة يستطيع أن يجد جماليات لها). ولهذا ليس مبالغة أن أقول أن درويش ظل يطور قصيدته جماليا بأقصي قدر يمكن لشاعر مسجون في وضعيته التاريخية أن يقوم به.
أي وضع تاريخي هذا أن يكون الواحد محمود درويش؟. أن يكون الواحد شاعرا، أن تكون خلفه مأساة وأن يستقبل ويجحب لأنه صوتها؟. أية مأساة تلك أن يكون الشاعر صوت مأساة لأكثر من أربعين عاما، مأساة لا تتحرك في أي اتجاه إلا لتزداد مأساوية؟. أي مأزق أن يكون الشاعر موهوبا وذكيا ووسيما وذا كاريزما وإنسانيا وفرديا وصعلوكا ومحبا للحياة ومع كل ذلك يمثل شعبا وتاريخا ومنافي وهوية وأحيانا سلطة بلا أرض تتسلط عليها؟ أي عبث أن يكون الشاعر ضحية مأساة وأن يكون جزءا من مجده أنه صوت الضحية وأن تكون جماهيره هي نفسها ضحايا ؟.
بالطبع أنا لا أرثي محمود درويش، أنا فقط أفكر فيه مجددا لأنه ببساطة مات، أفكر فيه لا كأب بل كحبيب قديم. ولقد فكرت فيه من قبل مرات: كمراهقة تحفظ شعره وتعلق صورته في غرفتها كما تعلق أخريات صور المغنين، وكشاعرة صغيرة تنجرف بعيدا عن عالمه وتصدق أنه يجب أن يكون هناك مخرج من قصيدته الجميلة بحق حتي وإن كان لا يوجد مخرج من المأساة التي تقف خلفها. ربما لم أفكر فيه لسنوات وربما تعاطفت معه عندما هاجم قصيدة النثر فكان ذلك دليلا علي أن الزمن قاسي. ولكني بدأت أفكر فيه مجددا منذ سنتين لأنه أربكني: عندما درست قصائده المترجمة للانجليزية لطلبة لا يعرفون موقعه في الثقافة العربية ولا يعرفون إلا القليل عن المأساة، طلبة أستخدم هنا كلمة كريهة أجانب، ورأيت بعضهم يدمع وبعضهم يسأل أسئلة لا أعرف كيف أرد عليها وبعضهم يريد أن يقرأ قصائده الأخري وبعضهم يبحث عن معلومات أكثر عن المأساة. أربكني درويش لأني رأيت صوته يصل إلي غرباء عنه، غرباء لا يعرفون موسيقاه ولا تموج صوته ولا وقفته علي المسرح ولا يعرفون كيف يمكن أن تكون ثقافة ما بكامل شعرائها مسجونة في لحظة تاريخية مأساة. ورأيت نفسي تائهة في الفصل لا أعرف كيف أتحدث عن قصيدته، لا أعرف كيف أفسرها أو حتي أنقدها، واقفة أسأل نفسي إذا كان حقا محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من حبيب قديم؟.
كون محمود درويش ابن مأساة لحظته التاريخية لا يجعله محظوظا: ما يجب أن نحزن لأجله أنه لم يكتب الكثير من القصائد العظيمة الممكنة لموهبة عظيمة مثله لأنه ابن هذه اللحظة بالذات، ابن المأساة. أي عبث في أن يتخيل الواحد نفسه في وضع درويش التاريخي؟. أي كابوس؟. ربما لو كنت طفلا طرد من قريته وعندما عاد لم يجدها لظللت أبحث عن الغياب، ربما لو كان هناك من يشكون في وجودي وفي وجود أهلي لكتبت شيئا من قبيل سجل أنا عربيٌ، ربما لو كنت شابا وذكيا ومثقفا وأكتب الشعر واسأل عن العدل لكان أفضل ما يمكنني أن أنتمي إليه هو الحزب الشيوعي، ربما لو كنت كل ذلك وفقدت الأمل في العدل لتركت الحزب الشيوعي، ربما لو كنت منفيا من بلد إلي بلد لحلمت أن أخلد الحنين. ربما لو كنت هناك في نهاية الستينيات لانضممت إلي منظمة التحرير الفلسطينية، ربما لو كان لديٌ الموهبة الجبارة والمأساة و جمهور عريض يريد أن يبكي ويطرب ويتذكر طفولته المسروقة وأرضه الضائعة وأن يغضب ويثور وينتصر ويتحرر في مساء واحد، لكنت غنيت لمن هم مثلي يبنون وطنا من الكلمات ولما كنت تنازلت عن موقعي كشاعر قضية من أجل ما لم أكتبه بعد. ربما لو كنت لا أعرف كم أنا موهوب ومحبوب وعندي ما يستحق من الانسانية أن تنصت إليه لكنت قبلت كل هذه الجوائز من كل هذه الحكومات. ربما لو كنت هربت واختفيت عن عيون من أمثلهم أينما كانوا لكنت لحظتها فقط كتبت ما لم أكتبه. ربما لو كنت كتبت ما لم أكتبه ما كنت احتجت لآذانكم علي الإطلاق ولقلت لكم اقرأوني لأن ما لم أكتبه ليس مناسبا للجماهير. ربما لو كان ألمي أقل ومحبتي لألمي أكبر ما كنت دمرت قلبي هكذا. ربما بعد أن عشت كل هذه السنوات أتحدث باسمكم جميعا ثم رأيتكم تتقاتلون في غزة وفي غيرها لكنت قررت أن أموت.
وفي جريدة الدستور كتب الكاتب وائل عبد الفتاح تحت عنوان "درويش مات": لم يخدعنا محمود درويش. أقصد لم يخدعني. ترك قبل الرحيل قصيدة الوداع وتسلل صوته الي أصدقاء يحدثهم عن مفاوضات الموت. أخبره الأطباء بأنه يعيش وفي صدره قنبلة قد تنفجر الآن وربما تؤجل انفجارها عشر سنوات. اختار مواجهتها.. رغم أن احتمال النجاح 10% درويش انسحب قبل أن تظهر النتيجة. ترك سريره في المستشفي الأمريكي وتابع جسده وهو يعمل بالأسلاك والأجهزة. وسافر.. قبل إعلان موته بساعات أو دقائق. لكي لا يودع أحدًا.. أويسمع صوت بكاء.. أو يرتبط عاطفيًا.. بمن سيتسلمون جسده. لم يتحمل درويش الانتظار.. وتسلل وحيدًا.. غريبًا.. في رحلة هزمه فيها الموت بعد جولات انتصر هو فيها عندما توقف قلبه دقيقتين سنة 1984 ورأي نفسه علي غمامة بيضاء.. يستعيد طفولته كلها. لكنه ترك الغمامة وهرب.. ليواجه الموت في جولة أخري سنة 1998. ويعود من الجولة ليقول له «هزمتك يا موت..» هو الآن يبتسم. ويترك للآخرين ان يعلنوا عن خسارته أمام الموت. هناك ثأر قديم إذن بين الشاعر والموت. هو الذي انتصر علي كل من أراد وضعه في قالب أصغر من حجمه. قالوا عنه شاعر القضية.. مغني الثورة.. اتهموه بالخيانة لأنه ترك فلسطين إلي القاهرة في أول السبعينيات.. وعندما كتب وثيقة الاستقلال الفلسطينية في الجزائر(1990). درويش خدع القوالب كلها وهرب من قبور صنعت له وهو حي.. هرب لأنه يحب الحياة.. يحبها لدرجة أنه لم يتحمل مفاوضات أخري عن موقع قبره.. لم يهتم أين يدفن الآن! وهو الذي عاش يبحث عن قريته وسط غابة المستوطنات.. اختفت قريته بعد لحظات من قرار جده بالرحيل خوفًا من دبيب جنود وصلوا فلسطين تحركهم خرافة استعادة أرضهم بعد 2000 سنة. القرية تحولت الي مستوطنة والطفل إلي شاعر توجع قلبه، هويته الجديدة «لاجيء». وانتسب طوال عمره إلي «فلسطيني 48» أي أنه كتب عليه الحياة بنصف حق، ومرتبطًا بنكبة لم تمح آلامها إلي الآن.
لكنه آثر أن يغير الكتابة المفروضة عليه بكتابة تفتح أمماه مصيرًا مختلفًا.. انضم إلي الحزب الشيوعي الإسرائيلي (كان يضم عربًا ويهودًا). وكتب مقالات وأشعارًا تحاول صنع مصير مختلف له.. فهو ليس الهارب من أرضه أو الغريب في بلده.. انه الشاعر الذي تتقاطع عنده مأساة شعبه.. لم يكن صوت أحد.. رغم أن الفلسطينيين اعتبروه صوتهم. عشرات الشعراء تنافسوا علي أن يكونوا صوت القضية. لكن درويش ظل صوتها المتفرد. لأنه لم يستسلم لها. قادها هو إلي مساحة أرحب. غير شكل الخطاب السياسي الفلسطيني وكانت في كل قصيدة خيانة لمن ينتظر منه أن يكون علي هوي الآخرين. رأي درويش أنهم يحبونه ميتًا. لكي يقولوا كان منا وكان لنا.. إنه لم يدخل العلب المحفوظة للقضية.. وكما نال محبة وشهرة وعشاقًا.. لم ينج من اللعنات والاتهامات.. قال عاشق آخر نحبه هو ناجي العلي «محمود خيبتنا الأخيرة». وقتها كان درويش بجوار زعماء منظمة التحرير في واحدة من تنقلاته. وكانت كلمة ناجي العلي موتًا أكيدًا لدرويش.. وكالمعتاد لم تكن هذه هي النهاية.. تسلل صوته ليعلن عن أنه مازال حيًا في مكان آخر.. علي أرض أخري.. وعندما كتب عن الحب فقط في ديوانه «سرير الغريبة» قالوا باع القضية تمامًا ودفنها.. ونسي المقاومة. لكن القصائد كانت درسًا في مقاومة أخري.. إعلان بأن الفلسطيني إنسان.. يحب.. يخاف.. يهرب إلي المتع كما يهرب العشاق. تحررت المقاومة من التخصص في مشروع واحد لتحرير فلسطين. درويش رأي تحرير الفلسطينيين أولاً من مصير الضحية المستسلمة. لم يستسلم هو.. ترك جسده يستسلم وركب غمامته البيضاء.. ليطل علي جنة عدن التي طرد منها آدم وأصبح أول لاجيء في الدنيا.
وفي جريدة المصري اليوم كتبت الناقدة شيرين ابو النجا: كم مرة ينتهي أمرنا؟ وكم مرة اعتقدنا أن أمرنا انتهي؟ كم صوت رحل فكتبنا نعينا بأنفسنا؟ وكم مرة تمكن الوجع من نفوسنا فصدقنا أن أمرنا انتهي؟ وكم مرة توقف قلم أو انحبست قصيدة أو لم يكتمل فيلم فصدقنا أن أمرنا انتهي؟ عندما رحل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد منذ بضعة أعوام اعتقدنا أن أمرنا انتهي، وجزمنا أن الزمن لن يجود بعقل مثل عقله، لكن الزمن لم يبخل علينا بأفكاره المسجلة في كتب، والتي كان أولها «الاستشراق» عام 1978، والحوارات التي أجريت معه، وسيرته الذاتية التي تركها بعنوان «خارج المكان». ظل أدوارد سعيد حاضرا حتي الآن، في أساس النقد المابعد استعماري، في دور المثقف، في مفهوم الهيمنة الثقافية، في الدراسات النقدية والأكاديمية، في أهم المؤتمرات، في محاضرات سنوية باسمه، في دراسات تكتب عنه، في استشهادات من أقواله، في ترجمة كتبه وفكره. لم ولن يرحل اسمه وفكره. لم ينته أمرنا ولم ينته أمره رغم كل ما قلناه حين غاب شهيقه وزفيره. وبأناقة شديدة رحل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، هكذا رحل بهدوء، لكننا لم نهدأ من حينها. والحق أنني حين سمعت الخبر في التليفزيون المصري شعرت بوخزة وجع شديد في قلبي، ولأنني كنت أجلس وحيدة تماما، فقد قررت أن أقوم برد فعل ملائم للموقف. لم يكن أمامي سوي أن أستدير بكرسي المكتب لأواجه المكتبة وألتقط ديواناً له وأبدأ القراءة. وكان ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا» الذي صدر عام 1995، وربما أشهر قصيدة في ذلك الديوان هي «تعاليم حورية» ـ التي كتبها الشاعر الراحل عن والدته، وقال فيها: «ويكفي أن تجيء رسالة مني لتعرف أن/ عنواني تغير، فوق قارعة السجون، وأن/ أيامي تحوم حولها... وحيالها». مع كل قصيدة كنت أدرك فداحة الخسارة، وقصر الزمن الذي لا يمهلنا دائما المساحات الكافية لننجز ما نحلم به. كان محمود درويش من الشعراء القلائل الذين لم يفقدوا القدرة علي إقناعنا بأن الشعر والكلمة تساوي قوة السلاح، وفي البدء كانت الكلمة. ظل جمهوره عريضا يزداد مع الأيام، جمهور جاء ليسمع الشعر، شعر هذا الرجل، رغم أن زماننا لم يعد زمن الشعر ولا زمن القراءة. بالإضافة إلي الأمسيات الشعرية القليلة التي استمعت فيها لشعر الراحل محمود درويش في القاهرة، أتيحت لي الفرصة لحضور أمسية له في أمستردام. كانت المناسبة هي حصوله علي جائزة الأمير كلاوس (زوج ملكة هولندا)، وهي جائزة سنوية معروفة بقيمتها الأدبية في أنحاء أوروبا وتمنح سنويا لأحد المبدعين الذين نجحوا في تغيير المنظومة الفكرية السائدة، وقدموا إسهاما حقيقيا في الارتقاء بالعقل والروح. وكان أن حصل الراحل علي الجائزة وأقيمت له أمسية شعرية ألقي فيها العديد من القصائد التي طبعت وترجمت ووزعت علي الحضور مع «سي.دي» بصوته. كان الحضور فوق المتوقع من قبل منظمي الأمسية، فقد كان في أكبر قاعة بأمستردام إلا أن العديد لم يتمكنوا من الدخول نتيجة الازدحام الشديد. كان يلقي الشعر وكأنه جزء من طقوسه اليومية، لا يستحضر الشعر، الشعر كامن فيه، فتبدو القصيدة وكأنها منه أو هو منها. محمود درويش رحل، ولم يرحل. فأشعاره وقصائده ستبقي دوما لتعلم المقاومة والحب وتشرح معني الأرض والبلاد وأشجار الزيتون. كان واعيا بالزمن، مستعدا لمواجهته، في قصيدة «كم مرة ينتهي أمرنا...»:
يتأمل أيامه في دخان السجائر، ينظر في ساعة الجيب: لو أستطيع لأبطأت دقاتها كي أؤخر نضج الشعير!... ويخرج من ذاته مرهقا نزقا: جاء وقت الحصاد السنابل مثقلة، والمناجل مهملة، والبلاد تبعد الآن عن بابها النبوي. يحدثني صيف لبنان عن عنبي في الجنوب يحدثني صيف لبنان عما وراء الطبيعة لكن دربي إلي الله يبدأ من نجمة في الجنوب.
وفي جريدة المصري اليوم كتب الناقد السينمائي سمير فريد: فقدت مملكة الشعر مساء أمس الأول «السبت» أميراً من أمراء الشعر العربي في كل تاريخه، هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وفقدت فلسطين صوتاً عظيماً من أصواتها في العالم.. فقد تجاوز محمود درويش الحدود الفلسطينية والعربية منذ عقود، وصار من شعراء الدنيا الكبار، وكتب بعض النقاد الكبار، من طوكيو إلي لندن، أنه جدير بالفوز بجائزة نوبل. عرفت محمود درويش الشاعر، مثل كل القراء العرب، من خلال كتاب رجاء النقاش عنه، الذي صدرت طبعته الأولي في كتاب الهلال في يوليو 1969، وتشاء الأقدار أن يرحل الشاعر بعد شهور من رحيل ناقده، ولم يكن غريباً أن يصف درويش رجاء النقاش في رثائه بأنه «أخي الذي لم تلده أمي»، وعرفت محمود درويش الإنسان في مكتب لطفي الخولي في أول أيامه بالقاهرة عام 1971، وكانت أول زيارة في حياته لمدينة عربية، وأيامها قال ما دهشنا له جميعاً، وما لا أنساه أبداً: «فرحتي غامرة بوجودي في مدينة عربية عظيمة كل اللافتات فيها باللغة العربية». وكان موعد المهرجان القومي الأول للأفلام الروائية الطويلة، الذي رأسه سعد الدين وهبة وعقد في بلطيم من أول أغسطس إلي الحادي عشر، قد اقترب، واقترحت دعوة درويش لحضور الافتتاح، ورحب وهبة كثيراً، وكان فيلم الافتتاح «زوجتي والكلب» إخراج سعيد مرزوق وتمثيل سعاد حسني ومحمود مرسي ونور الشريف وتصوير عبدالعزيز فهمي، وبُهر محمود درويش بالفيلم، وعَّرفته علي سعاد حسني بعد العرض، فقالت له: «للوهلة الأولي تصورت أنك من نجوم السينما، وكان رده: «هذه أعظم شهادة ترضي غروري كرجل، ولكن الشهادة الأعظم أن تلقي بعض قصائدي بصوتك»، وقلت: «هل تعرف أن والد سعاد من أعلام الخطاطين العرب في يافا ويوقع باسم حسني»، فزاد ابتهاجه، وقال هذه ليلة من أجمل ليالي حياتي»، ولم يكن قد بلغ الثلاثين مثلي ومثلها، وقلت: «وهي متزوجة من علي بدرخان حفيد كبير أكراد مصر»، وعلق: «هذه هي مصر.. نجمة مصرية من أصل فلسطيني ومتزوجة من كردي مصري هذه هي الحضارة».واقتربت من محمود درويش عندما عملنا معاً في مكتب واحد في مجلة «الطليعة» بالأهرام لإصدار «ملحق الأدب والفن» الذي صدر عدده الأول في يناير 1971، وفي الترويسة أن مجلس التحرير من: «لطيفة الزيات وغالي شكري ومحمود درويش وسمير فريد وصبري حافظ»، وكانت أول قصيدة اختارها درويش للنشر «اشتهاء الملكة» للشاعر «الشاب» محمد عفيفي مطر، وتطول الذكريات مع فقيد الشعر وفقيد فلسطين الذي لم يحتمل قلبه ما يدور في بلاده، وأوجع قلبي فراقه كما أوجع قلوب ملايين.