ستحيا فينا كما تشتهي لغتك
يقولون: علينا أن ننتظر موت الشخص لنستطيع أن نتبيّن قيمة حياته بعدما توقف المسار. لكنك، بشعرك ورمزيتك، تجعل مستقبلك مفتوحا بعد موتك، لأنك ستحيا فينا وفي أجيال آتية كما تشتهي لغتك. تحديتَ الموت وراهنت على زمن آتٍ يضاعف حضورك عبر قرّائك، عبر صوغك لأحلام شعبك ونفاذك إلى مسالك النفس، ومحاورتك للآخر، ومواجهاتك مع الموت. رحلتَ منذ الصبا على جناح الكلمة وفضاءات الشعر اللاتنتهي. استحضرتَ الطفولة وبكارة الأصباح في وطن يحلم بالحرية والعيش الهنيّ. عانقتَ البطولات اليومية لأبناء فلسطين وبناتها وتغنّيتَ بالأرض السيدة، وغصت في بلّور الأساطير وساءلتَ لغزيّتها وخضتَ غمار التراجيديا لتستكشف أصل المأساة ولعنتها القدرية. ابن فلسطين أنت، فلسطين المشدودة إلى صخرة سيزيف في عالم يُغمض العين على من يستعمرون بالقوة شعبا يتشبث بأرضه وحقه في الوجود. يغمضون العين عن متاهة المأساة التي تبدأ من ظلم يحميه تواطؤ الماسكين بزمام السلطة في عالم يبشر بمبادئ إنسانية ويقترف عكسها. وأنت، الشاعر المصبوب من شغف وضوء، كان عليك أن تعيش مغامرة الكتابة لحسابك الخاص، أن تنوّع البدايات، أن تستدرج اللغة في تلاوينها وموسيقاها لتقترب من شفافية تسرق الوجدان قبل السمع، وتحرك الفكر فيما هي تناغي مشاعر الذات العميقة... الصورة ونقيضها، الكلمة ومقاماتها المتداخلة. وأنت بإحساسك الذكيّ تناغم الأوتار: تقطف الغيم، تسرج الخيل، تمتطي فرس الماء و"تؤثّث النهار بدخان من لازورد" وتعتلي شجر السنديان "لتطلّ على شقوق المكان" تسرج مخيلتك وتتوغل في الأعالي ونحن وراءك نستدل بأثر خطاك مشدودين إلى مغناطيس الصور والاستعارات التي تشقّ هجير اليوم العربي، وتبدد بعضا من عتمة لياليه المستدامة. تكتب وترتّل، قرار صوتك الشجي يهدهدنا، قصائدك تتتالى، وأنت تكبر في أعيننا وعيون العالم. وفي لحظات التعب والفسولة وفقدان اليقين، تتباطأ خطواتنا وتتحرك دودة اليأس في دواخلنا فيأتي صوتك ليقول بلساننا: "ونحن نواصل ما يشبه الموت نحيا. وهذا الذي يشبه الموتَ نصْرُ". لكنك حين عايشت الموت عن قرب وبدأ صراعكما يراوح بين مدّ وجزْر، عناق وتحدّ، مناجاة وسخرية، أحسسنا أنك تتوغل في سموات لا تقوى عليها أجنحتنا الطينية. وحدك كنت: مفتح العينين والقلب، متوحدا، متحفزا، واجهتَ تجربة الموت، بارزتَ "ملك الملوك المعظم عاهل الموتى القوي" و"قائد الجيش الأشوري العنيد"، بارزتَهُ فارغ اليدين، سلاحك الشعر الشغوف بالاستمرار على هذه الأرض، صائحا في وجهه: "وأنا أريد، أريد أن أحيا وأن أنساك/ أن أنسى علاقتنا الطويلة". منذ ذاك، تباعدتَ عنا، انطلقت وراء مصيرك المتفرد. تآخيتَ مع جدلية الوجود والعدم، الحضور والغياب، وأصبحت طائر الفينيق بامتياز: من رماد آلامك ومراوغتك للموت تستولد قصائد تذكّرنا بالوجه المأسوي الآخر القابع في أجسادنا الهشة العليلة. اكتملت الرؤيا: مأساة تعانق أخرى، شعب يُقـتّل وجسم يصارع الموت، الموت القاتل المتسلل عبر الردهات... عانقَ شعرُك الأوج: عين على الأرض وأخرى مصوّبة نحو السماء. تكتب شعرا ونثرا كأنك تكتب من وراء القبر، فتطلّ علينا من عالم أُخرويّ، ثاقبَ النظرة نافذ البصيرة. لا أحد، كما قلتَ، يستطيع أن يمنع شاعرا ينتمي إلى شعب مقهور، مهمش، من أن يحلق عاليا في سماء الإبداع معانقا قضايا الإنسان وأسئلته الكونية. تهمس في أُذن العالم: "إني أصالح نفسي فتدخل كل الشعوب مدائحَ خمري". وهويتك، كما قلتَ، هي في صيرورتك. وأضيفُ: هي سرُّ الوردة اليتيمة في البراري المتوحشة وقطرةُ ماء في قاع رمل متيبّس. هي ما يحفزنا على أن نعيش في زمن سديمي بلا أفق أو نوافذ، متحدّين العماء، مصرّين على أن نبتدع لحنا أو نصا أو لوحة لنقاوم العقم وأعداء الحياة. ولِمَ لا أقول إن الهوية هي "عسل الشهوات" الذي يجعلنا نرفض الرجوع إلى أجسادنا الثابتة كما كتبتَ ذات يوم؟ من صلب جداريتك خرجتَ موقنا بتعدّد "الأنا" واستظلال أكثر من ذات بالذات الواحدة، لأن الهوية مترحلة بطبيعتها لا تكاد تعرف مستقرا. وعبر دفق شعري يزاوج الملحمي بالغنائي والمنطقي بالعبثيّ، انطلقتَ تذرع أركان جداريتك لتمسك بالعناصر المضمرة التي تراكمت في أعماقك، بعدما نبش الموتُ مكمنها، فاستطعتَ أن تتخطى شرَكه لتقترب من الذات الجديدة فيك، الذات التي تخايلتْ لك من خلالها أصقاع مجهولة هي العتبة المفضية إلى برزخ مخيلة تشيّد التعدد وتعانق الإنسان المدفون تحت ركام الظلم والعنف والتسلط... رحلتك إلى المجهول عبر مصارعة الموت، بلورتْ أفقا ممكنا لـ"أنسنة" ما تبقّى من العائشين في عالم من دون بوصلة. قرأتُ بين سطور جداريتك، تعلقك بانبعاث الفرد الواعي، الجسور على طرح أسئلة جذرية شمولية. الفرد الواعي لقيمته الذي لم يعد يرضى أن يُستعمـَل حطبا في معارك لا تتكشف إلا عن سراب، ونكون فيها نحن طعاما لوليمة هزائمهم. غدونا نردد معك في "الجدارية": "كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي. كأني حاضر أبداً كأني طائر أبداً كأني مذ عرفتك أدمنتْ لغتي هشاشتها على عرباتك البيضاء، أعلى من غيوم النوم أعلى عندما يتحرر الإحساس من عبء العناصر كلها...". منذ ذاك، تأكد لدينا مرة أخرى أن اللغة المبدعة، المنعتقة من عقابيل الماضوية وتأويلات المتفيقهين، سدنة المعابد، هي السبيل إلى تشييد وطن الفرد الواعي المتطلع إلى تغيير علائق الاستبداد والاحتقار. يغدو وعي الكينونة عبر مواجهة الموت، جسرا لوصل ما انقطع، لترميم الهوية وضخّها بدم المستقبل وجسارة التحدي. أليست اللغة الشاعرة الهشة التي تتهجّى الخرائب المحيطة بنا، هي الطريق إلى تحرير "الإحساس من عبء العناصر كلها"؟ أيها المحمود تمهّل إذاً، لا تُمعن في الغياب. غرباء نحن في أول النهار وعند الأصيل، على السرير وأمام الشاشة الصغيرة، أمام سيل الخطب المتخشبة وعبر مشاهد التقتيل وتدمير البيوت واحتراب الإخوة... أيها المحمود تمهّل وتذكّر أن هناك من جعلوا شعرك جزءاً من قوتهم اليوميّ، يسترجعون من خلال نسائمه "شهوة لغتك" التي تسعفهم على رفع التحدّي ليعيشوا لأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". لا تمعن في الغياب أيها المحمود، وابعثْ قصائدك من وراء القبر، كلما استطعتَ إلى ذلك سبيلا.
يقولون: علينا أن ننتظر موت الشخص لنستطيع أن نتبيّن قيمة حياته بعدما توقف المسار. لكنك، بشعرك ورمزيتك، تجعل مستقبلك مفتوحا بعد موتك، لأنك ستحيا فينا وفي أجيال آتية كما تشتهي لغتك. تحديتَ الموت وراهنت على زمن آتٍ يضاعف حضورك عبر قرّائك، عبر صوغك لأحلام شعبك ونفاذك إلى مسالك النفس، ومحاورتك للآخر، ومواجهاتك مع الموت. رحلتَ منذ الصبا على جناح الكلمة وفضاءات الشعر اللاتنتهي. استحضرتَ الطفولة وبكارة الأصباح في وطن يحلم بالحرية والعيش الهنيّ. عانقتَ البطولات اليومية لأبناء فلسطين وبناتها وتغنّيتَ بالأرض السيدة، وغصت في بلّور الأساطير وساءلتَ لغزيّتها وخضتَ غمار التراجيديا لتستكشف أصل المأساة ولعنتها القدرية. ابن فلسطين أنت، فلسطين المشدودة إلى صخرة سيزيف في عالم يُغمض العين على من يستعمرون بالقوة شعبا يتشبث بأرضه وحقه في الوجود. يغمضون العين عن متاهة المأساة التي تبدأ من ظلم يحميه تواطؤ الماسكين بزمام السلطة في عالم يبشر بمبادئ إنسانية ويقترف عكسها.
وأنت، الشاعر المصبوب من شغف وضوء، كان عليك أن تعيش مغامرة الكتابة لحسابك الخاص، أن تنوّع البدايات، أن تستدرج اللغة في تلاوينها وموسيقاها لتقترب من شفافية تسرق الوجدان قبل السمع، وتحرك الفكر فيما هي تناغي مشاعر الذات العميقة... الصورة ونقيضها، الكلمة ومقاماتها المتداخلة. وأنت بإحساسك الذكيّ تناغم الأوتار: تقطف الغيم، تسرج الخيل، تمتطي فرس الماء و"تؤثّث النهار بدخان من لازورد" وتعتلي شجر السنديان "لتطلّ على شقوق المكان" تسرج مخيلتك وتتوغل في الأعالي ونحن وراءك نستدل بأثر خطاك مشدودين إلى مغناطيس الصور والاستعارات التي تشقّ هجير اليوم العربي، وتبدد بعضا من عتمة لياليه المستدامة.
تكتب وترتّل، قرار صوتك الشجي يهدهدنا، قصائدك تتتالى، وأنت تكبر في أعيننا وعيون العالم. وفي لحظات التعب والفسولة وفقدان اليقين، تتباطأ خطواتنا وتتحرك دودة اليأس في دواخلنا فيأتي صوتك ليقول بلساننا: "ونحن نواصل ما يشبه الموت نحيا. وهذا الذي يشبه الموتَ نصْرُ".
لكنك حين عايشت الموت عن قرب وبدأ صراعكما يراوح بين مدّ وجزْر، عناق وتحدّ، مناجاة وسخرية، أحسسنا أنك تتوغل في سموات لا تقوى عليها أجنحتنا الطينية. وحدك كنت: مفتح العينين والقلب، متوحدا، متحفزا، واجهتَ تجربة الموت، بارزتَ "ملك الملوك المعظم عاهل الموتى القوي" و"قائد الجيش الأشوري العنيد"، بارزتَهُ فارغ اليدين، سلاحك الشعر الشغوف بالاستمرار على هذه الأرض، صائحا في وجهه: "وأنا أريد، أريد أن أحيا وأن أنساك/ أن أنسى علاقتنا الطويلة". منذ ذاك، تباعدتَ عنا، انطلقت وراء مصيرك المتفرد. تآخيتَ مع جدلية الوجود والعدم، الحضور والغياب، وأصبحت طائر الفينيق بامتياز: من رماد آلامك ومراوغتك للموت تستولد قصائد تذكّرنا بالوجه المأسوي الآخر القابع في أجسادنا الهشة العليلة.
اكتملت الرؤيا: مأساة تعانق أخرى، شعب يُقـتّل وجسم يصارع الموت، الموت القاتل المتسلل عبر الردهات... عانقَ شعرُك الأوج: عين على الأرض وأخرى مصوّبة نحو السماء. تكتب شعرا ونثرا كأنك تكتب من وراء القبر، فتطلّ علينا من عالم أُخرويّ، ثاقبَ النظرة نافذ البصيرة. لا أحد، كما قلتَ، يستطيع أن يمنع شاعرا ينتمي إلى شعب مقهور، مهمش، من أن يحلق عاليا في سماء الإبداع معانقا قضايا الإنسان وأسئلته الكونية. تهمس في أُذن العالم: "إني أصالح نفسي فتدخل كل الشعوب مدائحَ خمري".
وهويتك، كما قلتَ، هي في صيرورتك. وأضيفُ: هي سرُّ الوردة اليتيمة في البراري المتوحشة وقطرةُ ماء في قاع رمل متيبّس. هي ما يحفزنا على أن نعيش في زمن سديمي بلا أفق أو نوافذ، متحدّين العماء، مصرّين على أن نبتدع لحنا أو نصا أو لوحة لنقاوم العقم وأعداء الحياة. ولِمَ لا أقول إن الهوية هي "عسل الشهوات" الذي يجعلنا نرفض الرجوع إلى أجسادنا الثابتة كما كتبتَ ذات يوم؟
من صلب جداريتك خرجتَ موقنا بتعدّد "الأنا" واستظلال أكثر من ذات بالذات الواحدة، لأن الهوية مترحلة بطبيعتها لا تكاد تعرف مستقرا. وعبر دفق شعري يزاوج الملحمي بالغنائي والمنطقي بالعبثيّ، انطلقتَ تذرع أركان جداريتك لتمسك بالعناصر المضمرة التي تراكمت في أعماقك، بعدما نبش الموتُ مكمنها، فاستطعتَ أن تتخطى شرَكه لتقترب من الذات الجديدة فيك، الذات التي تخايلتْ لك من خلالها أصقاع مجهولة هي العتبة المفضية إلى برزخ مخيلة تشيّد التعدد وتعانق الإنسان المدفون تحت ركام الظلم والعنف والتسلط... رحلتك إلى المجهول عبر مصارعة الموت، بلورتْ أفقا ممكنا لـ"أنسنة" ما تبقّى من العائشين في عالم من دون بوصلة.
قرأتُ بين سطور جداريتك، تعلقك بانبعاث الفرد الواعي، الجسور على طرح أسئلة جذرية شمولية. الفرد الواعي لقيمته الذي لم يعد يرضى أن يُستعمـَل حطبا في معارك لا تتكشف إلا عن سراب، ونكون فيها نحن طعاما لوليمة هزائمهم. غدونا نردد معك في "الجدارية":
"كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي. كأني حاضر أبداً كأني طائر أبداً كأني مذ عرفتك أدمنتْ لغتي هشاشتها على عرباتك البيضاء، أعلى من غيوم النوم أعلى عندما يتحرر الإحساس من عبء العناصر كلها...".
منذ ذاك، تأكد لدينا مرة أخرى أن اللغة المبدعة، المنعتقة من عقابيل الماضوية وتأويلات المتفيقهين، سدنة المعابد، هي السبيل إلى تشييد وطن الفرد الواعي المتطلع إلى تغيير علائق الاستبداد والاحتقار. يغدو وعي الكينونة عبر مواجهة الموت، جسرا لوصل ما انقطع، لترميم الهوية وضخّها بدم المستقبل وجسارة التحدي. أليست اللغة الشاعرة الهشة التي تتهجّى الخرائب المحيطة بنا، هي الطريق إلى تحرير "الإحساس من عبء العناصر كلها"؟
أيها المحمود تمهّل إذاً، لا تُمعن في الغياب. غرباء نحن في أول النهار وعند الأصيل، على السرير وأمام الشاشة الصغيرة، أمام سيل الخطب المتخشبة وعبر مشاهد التقتيل وتدمير البيوت واحتراب الإخوة... أيها المحمود تمهّل وتذكّر أن هناك من جعلوا شعرك جزءاً من قوتهم اليوميّ، يسترجعون من خلال نسائمه "شهوة لغتك" التي تسعفهم على رفع التحدّي ليعيشوا لأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". لا تمعن في الغياب أيها المحمود، وابعثْ قصائدك من وراء القبر، كلما استطعتَ إلى ذلك سبيلا.