في الذكرى العشرون لرحيل شيخ المعماريين العرب
صادف 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الذكرى العشرين لرحيل شيخ المعماريين العرب المعماري المصري حسن فتحي. رحل هذا المعماري الرائد في العام 1989، ولكن فكره العميق يبقى خالدا عقودا وأجيالا ودهورا بعده، كما يظل مجالا خصبا لسلاسل غير منتهية من البحث العميق والجاد لمعماري جاهد خلال حياته العملية بفكره وقلمه ونقل العمارة العربية المعاصرة نقلات كبيرة ووضعها على مرمى حجر من التقديرات والجوائز العالمية. في هذه الذكرى العشرينية ينفتح المجال مجددا لتأملات نقدية ـ لا تنقص منه قيد أنملة بل تزيد فكره وفلسفته قدرا وتقديرا. وفي إطار هذا التكريم والتقدير لفكره وفلسفته للتراث، تجري استعدادات عربية متميزة على مستوى مؤسسات ومنابر ثقافية رائدة، منها المؤتمر الدولي الذي ستعقده مكتبة الإسكندرية، والذي أعلمني به الصديق الدكتور خالد عزب ـ مدير الإعلام بالمكتبة ـ خلال لقائي به في لندن قبل أسبوعين والذي سيكون موضوعه حسن فتحي فكره وأعماله. كذلك علمت من مستشار التحرير بمجلة البناء السعودية الصديق الدكتور مشاري النعيم، في اتصال هاتفي قبل أيام أثناء زيارته لمدينة القاهرة، بأن المجلة ستخصص عددا قادما خاصا في هذه الذكرى لتكريم شيخ المعماريين وعرض أعماله وفكره. هذه المراجعات والندوات، ومنها هذه السطور هي على طريق عرض بعض فكره وأعماله بما تسعه المساحة ولا تفي الراحل الكبير أو فكره وفلسفته حقـه.
كان لكاتب هذه السطور شرف مقابلة حسن فتحي في بيته بالقاهرة في صيف العام 1988 قبل وفاته بعام واحد. بيته كان أثرا مملوكيا يجسد فكره التراثي ورؤيته للفن العربي وضرورة بعث الحياة في هذا الفن وتجديده. عاش المعماري الفذ، الذي حرم ما يستحقه من التقدير العربي في بداية حياته العملية، في بيته بقلب القاهرة الفاطمية على مرمى حجر من مدرسة وجامع السلطان حسن وبين عشرات المآثر المعمارية المملوكية في القاهرة التاريخية. كان بيته محجا معماريا لطلبة العمارة والمهتمين من كافة عواصم العالم. زيارة حسن فتحي في بيته لم تكن تتطلب الكثير من التعقيدات، فهو قد نذر نفسه في حياته وفي أواخرها لنشر علمه وفكره، وكان يدرك لهفة المرتحلين والباحثين لمقابلته والاستماع لحديثه القيم عن العمارة العربية وخواطره وتأملاته المعمارية. بالنسبة لنا كان غرض الزيارة بالإضافة لمقابلته هو استشارته في متعلقات مشروع التخرج للسنة النهائية لنا كطلاب عمارة بالجامعة الأردنية آنذاك. كان يكفي حجز تذكرة الطائرة والوصول لمدينة القاهرة العظيمة، مع خريطة أثرية لقلب القاهرة الفاطمية بآثارها الأخاذة، ثم الوصول لقلعة محمد علي والنزول لموقع مدرسة وجامع السلطان حسن والبحث عن حارة الدرب الأحمر، ليجد الزائر بوّابا طيبا أمينا يجلس على "دكة" مدخل بيت مملوكي أثري يجسد قطعة من التاريخ. كان يكفي الاستئذان من البواب الطيب لمقابلة هذا المعمار المصري الرمز، ليجد الزائر نفسه يصعد مجموعة أدراج تقود لصالون بيت حسن فتحي انتظاراً لقدومه من مخدعه حيث كان يخلد للراحة.
كانت الدقائق القليلة التي تفصل الزائر عن لقيا شيخ المعماريين كافية لتأمل جمال الصالون وتفيؤ أصالة التراث العربي الذي يكاد يندثر في عصر العولمة. جلسنا، واتخذ كل منا متكأه تاركين مقعدا ظنناه لشيخ المعماريين. سبق صوته رؤياه، سمعناه ينادي بصوت هدّته السنون ترافقه وتسنده السيدة الفاضلة نوال حسن التي كانت مديرة مكتبه، فيما كانت مجموعات من القطط تتقافز حوله بحب وتتمسح برجليه: "حاسبي الأطط يا كريمة! إعملي الشاي يا كريمة!" كان بيته كريما وكانت الشغالة التي تقوم على رعايته كريمة أيضا.
جلس المعمار الرمز واحتبست الأنفاس، فهذا المعماري المكافح على مدى حياة طويلة عملية امتدت قبيل قرن كامل، كان ملهما وأستاذا ومنهلا لطلبة ومريدين يدركون "تاريخية" اللقاء وعظمة الموقف. فمعماري تلميذ على مقاعد الدراسة كان يدرك أنه بحضرة أستاذ عظيم، متواضع. جلس حسن فتحي وجلسنا بعد أن انتصبنا قياما، إجلالا وتقديرا، وشكرا لهذا الاستقبال العفوي البسيط دون مقدمات أو سكرتيرات أو حواجز. جلست السيدة نوال حسن وطلبت منا بلطف ألا نثقل طويلا على الشيخ الكبير بأسئلتنا، فحاله كان يغني عن السؤال. كان رحمه الله يمسك سماعة الهاتف بيد هرمة، مرتعشة، امتدت لتناول سماعة الهاتف ردا على مكالمة قطعت اللقاء، ليعود مجددا ويخبرنا عن أصالة البيت العربي وخصوصية الحياة فيه مقارنة بالبيت الغربي، وضرب لنا مثلا البيت الإيطالي حيث يقف الزائر بعتبة الباب الخارجي ليكشف منذ اللحظة الأولى قدرا كبيرا من البيت عامته وخاصته. كان لقاء عابرا عفويا ولكنه كان "محفزا" ومليئا بالخواطر والعظات المعمارية التي كرست فيما بعد حب التراث وأهمية البحث فيه وأصبح منذئذ ديدنا ومشروع بحث يمتد لحياة كاملة. ولذلك لم يكن محض صدفة أن أطروحة الدكتوراه بجامعة لندن لكاتب هذه السطور كان موضوعها حسن فتحي في العام 1996. بعد عام من هذا اللقاء العابر، وأثناء عملي مع راسم بدران بعد التخرج، يرحل هذا المعمار الصبور الرمز عن العالم ويشيعه كبار المعماريين من أنحاء العالم، ولكن يبقى فكره عميقا في عقول وآلاف الطلبة والمريدين ويظل محل تكريم العالم كمجدد العمارة العربية المعاصرة.
حسن فتحي هو واحد من أهم الرموز التي غيّرت الفكر المعماري العربي في فترة السبعينيات وبخاصة متعلقات التراث في مقابل مدّ الحداثة. ولد عام 1900 بمدينة الإسكندرية بمصر وقدّم على مدى أكثر من خمسين عاما أطروحات وتصورات تجمع بين الفلسفة النظرية وبين الممارسة العملية التي راوحت بين "التجربة ـ والخطأ" وبين إحباطات وتداعيات الواقع المناهض للتراث ـ بصفته مرجعية للتخلف عن مواكبة متطلبات العصر وتسارع وتيرة السير نحو حداثة العالم الغربي. وتتجسّد الكثير من أطروحات فتحي النظرية في كتابه (Qurna: A tale of two villages) أو (القرنة ـ قصة قريتين) الذي نشرته جامعة شيكاغو عام 1965، والذي ترجم عام 1991 إلى كتاب (العمارة للفقراء)، حيث يمكن قراءة الكثير من الأفكار المهمة. تعود بداية اهتمام حسن فتحي بالتراث وولعه به لطفولته المبكرة وكما يرويها في كتابه "العمارة للفقراء"، من خلال قصص الريف "الساحر" التي اعتادت والدته أن تصور من خلالها الريف المصري كصورة حالمة تسرح فيها الطيور والحيوانات المنزلية وسط الماء والخضرة والطبيعة الساحرة. تلاشي هذه الصورة الحالمة بالواقع المغاير للريف المصري وكما وجده فتحي دفعه للتقدم لدراسة الزراعة بالجامعة كي يسهم في بناء الصورة النمطية التي طافت بمخيلته طفلا، لكن إخفاقه في الإجابة على اسئلة أساسية في امتحان القبول انتهى بتقدمه لدراسة العمارة.
"يعتقد فتحي بأن العمارة العربية المعاصرة تعاني من حالة "تغريب" ثقافي، وأن "العمارة الإسلامية" قد "توقفت" في الدول العربية قاطبة بدون استثناء منذ القرن الثامن عشر"، فبالنسبة لفتحي تمثل العمارة "الإسلامية" فنا تراثيا وإقليميا حيث تحتفظ كل دولة بفنها الخاص"، ويرى فتحي أن مشكلة العمارة العربية في العالم العربي متعددة الجوانب، حيث ترتبط العمارة بالحضارة، فيما تتشكل الحضارة من نواتج التفاعل بين فكر الإنسان وبيئته لتلبية متطلباته واحتياجاته المادية والروحية، ولذلك يرى فتحي أن تغيرات معينة حدثت في عملية البناء وإفراز العمارة العربية: أولها يتمثل في قلب عملية تصميم المسكن، من الانغلاق للداخل (Introversion) إلى الانفتاح على الخارج (Extroversion). فالأول يمثل المسكن التقليدي "الإسلامي"، والثاني يعكس القيم الغربية. ولذلك فالعمارة العربية المعاصرة في الدول العربية، بالنسبة لفتحي، تواجه تحديات كثيرة في خضم محيط حضري ذي قالب وصبغة غربية. جانب آخر من المشكلة كما يراها فتحي يتمثل في عملية إعادة إنتاج العمارة بين الماضي والحاضر. ويعتقد أن "النظام المعماري" في القديم كان يتمثل في الحرفي، ومعلم البناء، أما اليوم فعملية البناء تشمل المعماري، والحرفي، وطالب الجامعة، والمقاول. ولذلك يعتقد أن المشكلة تكمن اليوم في مجال أن جميع مَن في "عملية البناء" لا دراية لديهم أو خبرة عملية وتواصل معرفي مع مواد البناء أو خبرات البناء التقليدية سواء بسواء. وبكلمات أخرى، فإفرازات التصميم المعماري تتحكم فيها مسطرة الرسم (T-square) والمتوفر من مواد البناء المستوردة. ولذلك فجميع الجهات المرتبطة بعملية البناء مهتمة بالعمارة كوسيلة لكسب المعيشة وتحقيق الربح المادي لا باعتبارها منتجا ثقافيا. ويرى فتحي أن هناك مشكلة في تعليم وتدريب المعماري العربي، حيث تغيب دراسة تاريخ عمارة "البيت" العربي، وحيث تسود دراسة الفترات المعمارية كطرز معمارية، ومن هنا يحصل التباس لدى خريجي العمارة من المعاهد العربية في فهم العمارة العربية ويعتقد معظمهم أنها عبارة عن طرز وأشكال معمارية فحسب، ويسود لديهم الاعتقاد بأن المبنى يمكن أن يتغير طرازه وشكله المعماري كمظهر خارجي كما يغيّر الرجل قميصه. وفي بحثه عن الحل اتجه فتحي للريف المصري لفهم "طريقة البناء" التقليدية السائدة بين الفلاحين في أسوان. وبطريق التجربة والخطأ وبعد محاولات مضنية يسردها فتحي في كتابه "العمارة للفقراء" يتوصل لتطوير مجموعة من العناصر الفراغية التي يستعملها في عمارته والتي لها ارتباطات بتشكيل الحيز الفراغي في عمارة فتحي.
ويعتقد فتحي أن العمارة هي من أكثر الفنون التقليدية تعلقا بالتراث وبالموروث من القديم، ومن هنا كانت دراسته لأصول العمارة الفرعونية، وبيوت النوبة القديمة بأسوان حيث بنى الفلاحون بيوتهم بأنفسهم باستخدام الموارد الطبيعية المتوفرة، لاستخلاص مجموعة من الدروس والأفكار التي استفاد منها لاحقا في تطبيقاته المعمارية. وقد كان دافعه لذلك هو البحث عن بديل لعملية البناء الحديثة باستخدام أخشاب البناء في إقامة السقف للمباني بالطرق الحديثة، والتي تعذر الحصول عليها في الحرب العالمية الثانية إذ احتكرها الجيش آنئذ لاستعمالات حربية. وقد كتب في مذكراته "العمارة للفقراء" عن بحثه المضني إلى أن نصحه أخوه بطريق المصادفة أنه ربما يجد ضالته المنشودة في قرى أسوان. ويسجل فتحي ذهوله من الواقع الرائع والعفوي الذي وجده حين زار لأول مرة تلك القرى التي ترسخ فيها تراث قديم متوارث بالبناء بالطرق التقليدية وبدون أي اعتماد على أخشاب البناء للتدعيم في بيوتهم التي كانت تغطيها القبوات والقباب وبمواد محلية من الطوب الطيني المخلوط بالقش كي يتماسك بعد أن يجف.
وكتابات حسن فتحي في فلسفة "التراث" تظهر إدراكا عميقا لجوانب مهمة في دور التراث في المجتمع، دورته الحركية زمنيا، وفوق ذلك كله متعلقات التراث الاجتماعية الاقتصادية الثقافية. فالتراث يعني لحسن فتحي كل الخبرات الموروثة والتركة التي تناقلتها الأجيال، لكنه ليس بالضرورة يعني القدم بل ترتبط أهميته بدوره المجتمعي أكثر من بعده الزمني. والتراث كما يراه فتحي يعني مجموعة من "القرارات" التي تم اتخاذها لمجابهة إشكاليات معينة في فترة معينة تم تطويرها وتطويعها لتخدم غاية مجتمعية وقبلها المجتمع بمراحل "إجماعية" مما أكسبه خاصية الثبات النسبي. ويميز فتحي "التراث" المعماري في كتاباته عن "التراث" الإنساني، لكنه يربط بينهما بروابط تشابه من حيث احتوائها على "دورة زمنية" تبدأ وتتطور صعودا نحو الاكتمال حيث تسهم الأجيال المتعاقبة في بناء تلك الدورة للتراث. ولكن هناك صورتان من صور التراث الإنساني تعودان لبداية الوجود البشري هما ضرب الطوب وصناعة الخبز.
ويرى فتحي أن ثمة أوجه للتراث رغم أنها لم تظهر إلا حديثا وكان ينبغي أن تكون في الطور الأول من دورتها إلا أنها ولدت ميتة، فهو يرى أن الحداثة لا تعني بالضرورة أن تكون "حيوية"، وأن التغيير لا يكون دوما للأفضل. لكنه مع ذلك يرى أن هناك مواقف تستدعي الحداثة فلا يتوقع أحد من برج مراقبة المطار أن يكون مبنيا بأسلوب ريفي، كما أن الإنشاء الصناعي قد يفرض على المصمم تقليدا جديدا. ويستطرد فتحي في مذكراته فيقول أنه ما إن يتم إرساء وقبول تقليد بذاته حتى يكون من واجب "الفنان" أن يبقى على تواصل مع هذا التراث، على أن يعطيه من ابتكاره الذاتي ما يضمن "حركيته" حتى يصل إلى دورته الكاملة ويستكمل نموّه بالكامل. ويشير فتحي إلى أن الفنان سيتحرر بالتراث من قرارات كثيرة لكنه سيكون مضطرا لاتخاذ قرارات أخرى جديدة بنفس الأهمية ليمنع موت التراث.
"والحداثة" في مقابل التراث كما يراها فتحي هي: "التعايش الزمني في نفس الوقت مع الآخر"، لكن ذلك المفهوم لا يتضمن الاختيار الواعي بالضرورة، وهو مفهوم ينسجم مع أطروحات الكثيرين من المفكرين في فلسفة التراث والحداثة. لكن فتحي يعتقد أن استخدام المعماريين لمفهوم الحداثة يرتبط ارتباطا وثيقا بقيم جمالية وفنية، وتبعا لذلك تتم نسبة العمارة الغربية للحداثة لارتباطاتها الزمنية، في الوقت الذي تتم فيه نسبة العمارة "الإسلامية" للتخلف تبعا لماضيها الزمني. ومن هنا يرى فتحي أن هناك خلطا كبيرا وسوء استعمال لفكرة الحداثة بناء على التسلسل الزمني الخطي "للحداثة" ومعناه الضمني. ولذا يرى فتحي أن التوفيق بين معنيي "الحداثة" الزمني الخطي التسلسلي وبين المعنى المغلوط لدى المعماريين يتم بفهم أن العمل المعماري المنتمي لزمنه أو وقته المعاصر يجب أن يكون جزءا من الحياة اليومية، وأن يكون منسجما مع مستوى الإنجازات البشرية في مختلف صنوف المعرفة والعلم الإنساني وكذلك العلوم الطبيعية التي لا يمكن فصلها عن العمارة والتخطيط. ومن هنا، يرى فتحي أنه من أجل إدراك المعيار الدقيق لمفهوم "الحداثة" يجب علينا إدراك العوامل التي تسبب التغيير، ولا نقوم بالتقليد بدون تقييم أو سيطرة، وألا ننقاد لهذه العوامل.
بالرغم من أن حسن فتحي يتعاطى مع "التراث" كمفهوم وفلسفة مجردة في كتاباته أحيانا، إلا أنه يعمد إلى إسقاطها سريعا على متعلقات العمارة عموما، والبيئة الريفية التي تأثر بها خصوصا. فحسن فتحي يميز في كتاباته عن التراث بين تراث البيئة الحضرية المبنية وبين التراث الريفي حيث يولي الأخير أهمية خاصة، وينظر بعين التعاطف مع حال الريف المتواضع. فنراه يكتب في مذكراته: "والتراث للفلاحين هو الضمان الوحيد لحضارتهم...، وإذا خرجوا عن قضبان التراث فسوف يلقون الهلاك حتما. إن الخروج عن التراث عمدا في مجتمع هو أساسا مجتمع تقليدي كما في مجتمع الفلاحين، لهو نوع من الجريمة الحضارية، ويجب على المهندس المعماري أن يحترم التراث الذي يقتحمه، أما ما يفعله في المدينة فهو أمر آخر، فالجمهور والبيئة المحيطة هناك يستطيعان العناية بنفسيهما(!)". ومفهوم التراث في فكر فتحي يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمارة الريفية التي كانت محور تطبيقاته العملية وفكره النظري وجلّ اهتمامه ـ على الأقل في جزء كبير من حياته العملية ومن خلال كتاباته المختلفة، قبل أن يحوّل عمارة "الفقراء" التي طوّرها في حياته على شكل "نمطي" يسهل تمييزه كعمارة ذات صبغة خاصة به إلى عمارة "الأثرياء" في الخليج العربي في أواخر سنوات ممارسته للمهنة.
وبرغم تطرقه لمفهوم "التراث" في مقابل "البيئية" (The Tradition versus the Vernacular)، إلا أن فتحي يستعمل الاثنين في مواضع محددة تخدم غايات متباينة. فالتراث بالنسبة لحسن فتحي يعني مفهوما نظريا فلسفيا مجردا يعنى بمعالجة واسترجاع مضامين وقيم اجتماعية، بينما يرى أن مفهوم "البيئية" يجسّد التعامل مع عناصر الطبيعة المحيطة ومفاهيم متعلقة بالبيئة "وعملية البناء" وما يهمها ويرتبط بها، بالرغم من أن "البيئية" أو (Vernacular) قد تظل لها متعلقات اجتماعية كما في عملية "التعاون الجماعي" أو (self-help) كعملية اجتماعية مرتبطة بالبناء، لا فقط كمجرد مفهوم مرتبط بمواد البناء المحلية أو القوانين المناخية المحددة للإقليم الجغرافي. ومن هنا يبحث فتحي في كتاباته المختلفة في الأدوار "التاريخية" للعديد من المفردات التقليدية التي حفلت بها العمارة العربية كملقف الهواء والفناء والقاعة وغيرها، وأجرى أبحاثا علمية لقياس سرعة ودرجة حرارة الهواء في هذه العناصر الفراغية التقليدية.
ويرى فتحي أن الفتحات الكبيرة والمنشآت الخرسانية "والصناديق" الواقفة أو (free standing) في العمارة الحديثة ليس لها معنى في المناخات الحارة أو في المجتمعات التي سادت فيها تراثات ضاربة في القدم باستخدام الأفنية والتي تجسد ضروبا من التجارب المجتمعية الرائدة في التعامل مع درجات الحرارة العالية وفي تأمين الخصوصية المطلوبة. ويعلق (Curtis) في كتابه (Modern Architecture since 1900) على مرجعية فتحي للعمارة الفرعونية بأنها "فكرة للعودة لأصول الحضارة المصرية والتي تعاملت مع الطين والعوامل البيئية في الجزء الجنوبي من مصر.
ففتحي كان يأمل أن يعيد بعث العمارة في مصر من جديد من جذورها بتشجيع الفلاح على أن يبني لنفسه بأساليب وأشكال رخيصة غير مكلفة وفي نفس الوقت أثبتت نجاعتها عبر الأجيال"، وللحديث بقية يوم السبت القادم.
بصماته على العمارة العربية المعاصرة لا شك فيها
يرى فتحي أن العمارة التقليدية هي أقرب للبيئة الطبيعية أكثر منها للعمارة العالمية والتي اجتاحت العالم العربي. فالعمارة التقليدية تحترم وتراعي البيئة الطبيعية وخصوصياتها وظروفها المكانية والزمانية الاجتماعية فضلا عن معطيات الجغرافيا والواقع المحلي بما ينتج بالضرورة عمارة "أصيلة" معبرة عن متطلبات واحتياجات واقعها الثقافي والحضاري. في كتابه "الطاقات الطبيعية والعمارة البيئية" يبين حسن فتحي العديد من التجارب التي أجراها على عناصر ومفردات تقليدية في البيت العربي كالملقف والدرقاعة والفناء والمشربية، حيث درس من منطلق علمي سرعة الرياح ودرجة حرارتها في مناطق مختلفة من بيوت كعينات للدراسة. وقد اجتهد في أن يظهر في أبحاثه في الكتاب مدى "التعقيد" من ناحية حرارية وقدرات للعزل الحراري التي تبطنها أبسط البيوت التقليدية مظهرا، والتي تراعي بكفاءة عالية الطبيعة المناخية القاسية وفي نفس الوقت تحافظ على القيم الثقافية للمجتمعات المحلية وتقليل تأثيرها الضار على المحيط.
وبالنسبة لحسن فتحي يعتبر عامل المناخ محوريا في موضوع البيئة والعمارة البيئية، فيراه الدافع الرئيسي لخلق مجموعة من المفردات والعناصر التي ارتبطت بالعمارة التقليدية كالملقف وغيره. يكتب فتحي: "على مدى عدة قرون، يبدو الناس في كل مكان قادرين على اكتساب مهارة التعامل مع معطيات المناخ. فالمناخ حدد طبيعة ونمطية حياتهم وقولب عاداتهم وصنع ملابسهم، ولهذا فقد كانوا دوما قادرين على بناء بيوت (مرضية إلى حد ما) تؤمن لهم (البيئة المناخية الخاصة) التي يحتاجونها". ومن هنا ينادي فتحي بفكرة ضرورة العودة للعمارة الطبيعية التي تجسد الانعكاس الصادق للمتطلبات الاجتماعية. فهو يرى أن الإنسان يقلد الأشكال الطبيعية، سواء كانت آدمية أو حيوانية، في فنه، ولكن في العمارة فالنموذج المقلد ليس هو البيئة الطبيعية ذاتها، بالرغم من أنها تمثل القواعد التي تحترم البيئة المحيطة وقواها الطبيعية بما يسمح بخلافية إنتاج الأشكال. وفي هذا الإطار يجمع فتحي بين الثالوث، الإنسان والطبيعة والعمارة، ويعتقد أنها (يمكنها ـ ويجب أن) تتعايش في تناغم وانسجام، حيث أن العمارة كفن جماعي واجتماعي ينبغي أن تعكس في الوقت ذاته العادات والتقاليد والتراثات "الخاصة" على المستوى الفردي. كما يعتقد فتحي أن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة طيعة في خدمة القيم الاجتماعية وأن تتكيف طبقا للمتطلبات العامة للمجتمع.
يعتقد حسن فتحي أن العمارة "الإسلامية" مرتبطة ارتباطا وثيقا في بنيتها التشكيلية بالحيز الفراغي نفسه وليس بمجرد التلاعب بالحوائط والجدران، وأنها تنشأ من الداخل وتنتهي بالمحيط الخارجي. ويستطيع الباحث قراءة فهم جيد في فكر فتحي للعلاقة بين التكوين الفراغي وبين التشكيل العام المعماري فيما يخص الطبيعة الوظيفية للحيز الفراغي للمبنى. فحسن فتحي يكتب: "وظيفة الحيز الفراغي أساسية، فالتشكيل الخارجي ينبغي أن يعبّر عن القوى والعوامل الداخلية...، فالحيز الفراغي له قوانينه ومنطقه الخاص". ويرى فتحي أن مد الحداثة قد اجتاح المنطقة الجغرافية في العالم العربي مقتحما حدود "الإقليمية" ولهذا يصف فتحي الطابع المعماري في مصر بأنه لا يوجد في مصر المعاصرة طراز تقليدي أصيل، فبيوت الفقراء والأغنياء متشابهة وبدون طابع. ويصف بيوت التخطيط العمراني السائد في قرى مصر بأنها تتميز عن نظيرتها الأوروبية، فالقرى الريفية المصرية تنكفئ على نفسها للداخل، بينما تفتح الأوروبية على الحقول للخارج والمنظر الطبيعي، ويبرر فتحي ذلك لطبيعة الريف الجافة والعدائية ولاعتبارات أمنية ودواعي السلامة. ويمثل بيت "قلليني" الذي صممه حسن فتحي في ريف مصر نموذجا لاستعماله لمجموعة مبتكرة من المفردات الفراغية التي تكررت فيما بعد في "عمارة حسن فتحي" الخاصة والمتميزة والتي تسمها قباب وقبوات وعناصر تشكيلية وفراغية أخرى. ويرى "جيمس ستيل" في كتابه (Haan Fathy) أن هذا البيت هو نمطية نموذجية لعمارة حسن حيث يحوي معظم العناصر التي تكررت في عمارته لاحقا. وهذه العناصر التي بعضها ذات طابع شكلي بصري قوي من الخارج مثل القبة والشخشيخة الخشبية لها ارتباطات فراغية مهمة بالتشكيل الفراغي للبيت في عمارة حسن فتحي بحيث أضحت لها دلالات قوية على طبيعة وأهمية الفراغ الذي تعلوه بمجرد مطالعتها من الخارج. ويجسد هذا البيت أيضا محاولة حسن فتحي الأولى لمزاوجة الطوب الطيني بالحجر الصلب لمحاولة تشكيل فراغي مبتكر في عمارة حسن فتحي والتي أطلق عليها فكرة "أطروحة الحيز الفراغي" أو (thesis of space) والتي وبمرسومها يقصد فتحي خلق نظام جديد للبناء استنادا إلى الطريقة التقليدية التي لم تكن تعتمد "الدعامات" أثناء البناء بل تعتمد على التحميل الطبيعي للعناصر الإنشائية بحيث يتم بناء القباب والقبوات بدون الاعتماد على خشب "الطوبار" أو (scaffolding). وهي طريقة تبناها فيما بعد تلميذه عبد الواحد الوكيل في المساجد التي بناها في المملكة العربية السعودية وتتقنها مجموعة قليلة من الحرفيين ومعلمي البناء ـ وفاز في الثمانينيات بجائزة الآغا خان عن فيلا حلاوة بالعجمي مناصفة مع معلم البناء. وهذه الطريقة التي طوّرها حسن فتحي في عمارته لاحقا تعتمد اعتمادا كبيرا على مجموعة من الجدران الحاملة إنشائيا والتي يتم بناؤها بتنسيق تمهيدا لبناء القبوات والقباب. ونظرا لاعتماد فتحي الأساسي على النواحي الإنشائية لإنشاء المباني بهذه الطريقة، فقد "فرض" أسلوبه هذا نمطا "فراغيا" محددا بأبعاد وقياسات ترتبط ارتباطا وثيقا بمحددات إنشائية. وتبعا لذلك طور نوعا من الموديول (3.6 م) ومشتقاته كي يراعي الاعتبارات الإنشائية لعمارته، وهو ما أثبتته طريقة "التجربة ـ والخطأ" في محاولاته لإنشاء أول قبوة في مشروع عزبة "بهتيم" وكما يروي في مذكراته في "العمارة للفقراء". ويدعو فتحي المعماريين العرب للنظر مليا في التراث حيث يمكنهم المساهمة في تطوير مجتمعاتهم وبعث القيم الأصيلة بها. فهو يشعر أن العديد من المعماريين يعتقدون أن مجتمعات الفلاحين والقرى ليس بها أي شيء يدعو للنظر والاعتبار، ولهذا فهو يعرّف نوعين من العمارة: الأول هو العمارة التقليدية أو (Folk architecture) والثانية هي عمارة المعماري أو (Architects architecture). وفي الحقيقة فإن فتحي يشعر بأن العلاقة بين المعماري والبناء وصاحب العمل أو "الزبون" أو "القاطن" يجب أن يعاد إرساء دعائمها من جديد. ولهذا فهو يعتقد أنه بإعادة ترسيم العلاقة بين هؤلاء من جديد يمكن تحقيق فائدة قصوى باستخدام طرق البناء التقليدية، وهذا يعني "إعفاء" المعماري في وقتنا المعاصر من مجموعة من المهام التي تسلّمها من "البنّاء" التقليدي دون داع. وهذا يظهر الأهمية التي يوليها فتحي في فلسفة فكره النظري لدور المعماري في مقابل عملية البناء التقليدية. فعلى سبيل المثال يقترح فتحي أن مسؤولية المعماري هي في إعادة ثقة الفلاحين بثقافتهم وحضارتهم المحلية وذلك حين يستخدم المعماري الأشكال والطرز الموروثة في تصاميمه مما يجعل الفلاحين ينظرون لما بين أيديهم وما يسود بيئتهم العمرانية الطبيعية التقليدية التي توارثوها بنوع أكبر من الاحترام نظرا للدعم المعنوي الذي يمنحه استعمال المعماري لها، وبذلك يحفّز حرفيي القرية على استخدام وتطوير الأشكال والأنماط المحلية لأنه رآها ببساطة موضع احترام من المعماري. ومن جهة ثانية نراه يعمد للتركيز على البناء والحرفي لتمكينهم من إحياء الطرق التقليدية للبناء في تصاميم جديدة. ولذلك يحاول تطوير "وحدة قياسية" أو (standard unit) وهي "الغرفة" والتي يثق بقدرة البناء على تزويدها بالقيمة النوعية والحجم المناسب لتنافس التكنولوجيا الحديثة وكذلك لتفعيل دور الأنماط الناتجة المطورة. وعلى مستوى ثالث يخاطب صاحب العمل كمنتفع ومستفيد من عملية البناء برمتها، فهو يعتبرها خاضعة للتغيير والتطوير لتحقيق مصلحة ومنفعة صاحب العمل، المستفيد من المشروع أو من سيقطنه. ومن هنا يكتب عن تجربته في قرية القرنة: "من البداية حتى اللحظة الأخيرة كنت دائم التعلم"، أغير وأبدل وأطور تصاميمي المعمارية لجعلها أكثر ملاءمة للعائلات التي ستقطنها. بالنسبة لحسن فتحي كانت جماليات العمارة والمبنى تتجسد في احتياجات المجتمع اليومية، والمواد المستعملة والبيئة المحيطة. ويعتقد أنه بعد بضعة أجيال من العلاقة اللصيقة الفاعلة بين المجتمع والعمارة فإن المباني سيتم تطويعها قلبا وقالبا لشكل المجتمعات التي بنيت بها بما يناسب طبائعها وعاداتها وسلوكياتها وأمزجة وطباع أفرادها. كما أن فتحي يرى أنه بتتبع التاريخ الثقافي والحضاري للمجتمع وبالكلام والحوار مع مسنيها وكبارها من الأجيال السابقة وتتبع العادات والتقاليد الموروثة، وملاحظة الحياة اليومية للمجتمع يمكن تحقيق العمارة الأقرب لحاجاته وتطورات العصر.
من المراجعة السابقة للعديد من الأفكار التي وردت في كتابات حسن فتحي والتي تجسد الكثير من فلسفته الخاصة تجاه التراث ونظرته للعمارة العربية المعاصرة، يمكن تلخيص مجموعة من النقاط المحورية ومناقشتها في هذه المساحة. وهذه جملة من الملاحظات:
أولا ـ تعكس رؤية حسن فتحي للتراث وواقع العمارة العربية في محيطها بتلك الفترة الزمنية في فترة الستينيات والسبعينيات إدراكا عميقا لحقبة مهمة يمكن أن نطلق عليها "عصر التنوير والنهضة المعمارية العربية" لأهميتها في بعث حركة جماعية ونظريات ومفاهيم تناولتها مجموعة من المفكرين والكتاب العرب في الداخل وفي المهجر، نقلت مستوى الخطاب المعماري العربي المعاصر نقلات نوعية بالتضافر مع موجة أكاديمية وفكرية قادتها الندوات المتخصصة في الجامعات ومعاهد الفكر قادت لتخريج دفعات من جيل الشباب المعماريين العرب وتمخضت عنها "ولادة" عسيرة لما نعرفه اليوم بالعمارة العربية المعاصرة ـ على مستوى الفكر التنظيري الذي يعالج أطروحات التراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، أو على مستوى التطبيق والممارسة العملية سواء بسواء. ورؤية حسن فتحي التراثية يمكن النظر إليها على أنها "عودة دفاعية" للتراث في مواجهة مد الحداثة الغامر في تلك الحقبة المهمة. فعودة فتحي لدراسة وإحياء أساليب البناء القديمة التي سادت قرى وريف مصر كانت ضمن رؤيته الخاصة لأهمية التراث المعماري لا كأشكال معمارية فقط، ولكن ضمن نظرة منهجية تعالج "الأسس" وتؤطر التراث بأطر اجتماعية تعني بعث قيم المجتمع الريفي "البكر" الأصيلة في مواجهة "تمازجات" المدينة والمدنية الحديثة وتداعيات التغريب الثقافي مع الآخر. كما أن محاولات فتحي لبعث العلاقة الجدلية والمهمة بين الثالوث (الحرفي ـ والمعماري ـ والمنتفع أو القاطن أو صاحب العمل) هي من صميم إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية والمهنية والحوارية بين العناصر الثلاثة المهمة في عملية البناء والعمارة والتي تكاد تغيب عن ساحة التطبيق العملي في العمارة العربية المعاصرة ـ فضلا عن غيابها عن الفكر النظري والتنظيري.
ثانيا ـ يعتمد حسن فتحي في فلسفته المنهجية على دراسة التاريخ والاستفادة من الموروث القديم لتطويع الأسس والخبرات المتناقلة عبر الأجيال، مع عدم إغفال الحاضر ومتطلباته، وهي منهجية منطقية ومقبولة وشرعية. وبالرغم من ذلك قد يبرز تساؤل عن استعارة الأشكال والمتحورة حول نمطية ترتبط غالبا بالتشكيل أكثر من مراعاتها لتغيرات الظرف والمرحلة من ناحية، ومن ناحية أخرى تعلو بعض الأصوات المتشككة في نجاعة هذه المنهجية ومتعلقاتها في توفير متطلبات البيئة الحضرية المعاصرة والحديثة والتي تتسارع وتيرتها مع عوامل تكنولوجية وتقنية وزيادات مطردة ديموغرافية تتصارع على موارد المدينة الحضرية، مما يقتضي أكثر من مجرد تقديم نمطي لعملية بناء بسيطة سادت في مرحلة زمنية وبيئة بسيطة لفلاحي الريف بمصر!.
وفي الحقيقة قد تعلو أصوات أخرى متشككة بمنهجية حسن فتحي أساسا وبخاصة في المراوحة بين الأفكار النظرية المتعلقة تارة بالتراث وتارة أخرى بمفاهيم البيئة ومتعلقات المناخ بما يوحي بأنه كان يؤسس ويؤطر من خلال الفكر النظري لمتعلقات "عمارة تشكيلية" تعتمد على طريقة بناء تقليدية مما أنتج مجموعة من المفردات التي لم يضف لها شيئا يراعي عامل الوقت والمرحلة بل نقلها كما هي وقام بإعادة استخدامها وإعادة تشكيلها في مشاريعه المختلفة. وبذا فهذه المنهجية التي تعتمد على إعادة صياغة الأشكال تطرح أسئلة متشككة في عمق الطرح المتعلق بإشكالية أبدية أزلية في العمارة كمفهوم فلسفي مجرد وهي إشكالية العلاقة الجدلية بين الشكل والوظيفة. فعمارة حسن فتحي تبدو وكأنها "تجميع لمفردات مسبقة الشكل والأبعاد والموديول والطراز بحيث تنطلق من الجزء باتجاه الكل" أو كما وصفتها في أطروحة الدكتوراه بأنها (boom - up) وهي على النقيض من منهجية راسم بدران مثلا والذي يعتمد نهجا مغايرا في مشاريعه من الكل باتجاه الجزء أو (top-down).
ثالثا ـ تلاحظ نزعة "الفردية" في مدرسة ومنهجية حسن فتحي، بالرغم من طول سنوات الممارسة وهي حقيقة مدهشة! فعلى امتداد عشرات السنين لم يفلح حسن فتحي في حياته أو بعد رحيله من تحويل فكره النظري ومنهجيته الفكرية إلى "مدرسة جماعية" يتخرج منها رواد معماريون فكرا وتطبيقا. فباستثناء حالة الوكيل التي تكاد تكون الوحيدة وكنسخة مطابقة تقريبا في استعمال الأشكال بحذافيرها سواء من الريف المصري أو من نماذج بالقاهرة المملوكية ونسخها ولصقها في أماكن مختلفة من الخليج العربي، تظهر المراجعة الفكرية للساحة المعمارية خلوها من "أنصار فكر حسن فتحي" على المستوى التطبيقي بخاصة. فصراع حسن فتحي الذي يذكره في مذكراته على مدى سنوات طويلة لم يكد يتمخض سوى عن "تقدير شخصي" بدأ بتقدير عالمي من مؤسسات ذات مرجعية معمارية قادت لتقديره على المستوى العربي والمحلي لاحقا.
رابعا ـ بالرغم من المدخل الاجتماعي الذي تبناه حسن فتحي في فكره النظري من أجل إعادة بعث القيم الأصيلة للتراث كعملية حركية متجددة تعني المشاركة الفاعلة من قبل المجتمع المحلي وتوظيف الكثير من القيم والمعاني اللصيقة بالثقافة المحلية والحضارة، إلا أن السؤال الكبير الذي يطرح عمليا هو: بالنظر إلى الإخفاقات المتكررة التي يرويها حسن فتحي في مذكراته هو نفسه في عدم قدرته على تسويق أفكاره النظرية، فضلا عن تطبيقاته العملية في مشاريعه المختلفة وأبرزها قرية القرنة الجديدة، فكيف يمكن النظر لمنهجيته بأنها مرتبطة نظريا وتطبيقيا بمفاهيم توظف لخدمة المجتمع وتكرس المساهمة المجتمعية في إعادة بعث التراث بقيمه ومفاهيمه على مستوى الأسس لا كمفردات شكلية أو تشكيلية سطحية؟ وبكلمات أخرى، كيف يمكن النظر لمنهجية حسن فتحي والحكم على نجاحها في المزج بين الفكر النظري والمشاركة الفاعلة للمجتمع المحلي في واقع أنها كانت مفاهيم نظرية وبقيت كذلك بعد رحيله بأكثر من عشرين عاما اليوم؟.
خامسا ـ يلاحظ من كتابات حسن فتحي وفكره النظري والتطبيقي نزوعه لتفعيل مجموعة من القواعد والمنهجيات التي تكرست في عمارته وفكره سواء بسواء، فمثلا يعمد لتأصيل العمارة بمفهومها المجرد وربطها بأسس ومضامين "إنسانية" قبل أن تأخذ طابعا هوياتيا أيديولوجيا أو قوميا أو إقليميا أو محليا. كذلك يعمد للإشادة بمنهجية عامة "عالمية" وليست محدودة بأطر محلية في تناول العمارة بما يعني تفعيل مختلف العوامل التي تؤثر في صوغ النواتج المعمارية وعدم حصرها في قيم ومحددات وعوامل "جزئية". كما يشيد بضرورة التعامل مع التكنولوجيا "الملائمة" بما يحفظ التطور، وضرورة عدم إهمال العامل الاجتماعي، فضلا عن أهمية دور التراث، وضرورة إعادة تكريس الهوية الوطنية والمحلية من خلال العمارة وطرق البناء.
ويلاحظ المتأمل في فكر حسن فتحي مجموعة من الروابط بين العمارة والمجتمع والتي يوظفها لتكريس هذه العلاقة ومنها: أولا ـ مفهوم الخصوصية والفصل بين الرجال والنساء وعزل بعض الأحيزة الفراغية بالبيت والمباني عموما تبعا لخصوصية الثقافة والعادات والتقاليد وتعاليم الدين. وتكتسب هذه "الانعزالية" طابعا خاصا جدا في المباني السكنية. العامل الثاني ـ يلاحظ أن فتحي درس بعناية العمارة العربية والمحلية بالقاهرة لتحليل خصائص الأبنية التقليدية واستخلاص مجموعة من العناصر كالفناء وغيره والتي استعملت "بنمطية" ذات طابع بيئي وتقليدي مرتبط بقيم اجتماعية وبالتراث كعنصر فلسفي مجرد أو بالأحرى "كأيديولوجية" فكرية ومدرسة مستقلة في مواجهة مد الحداثة أو "العالمية". فالفناء وما يحيط به من إيوانات وعناصر فراغية أخرى كالدرقاعة أصبحت من المكونات الأساسية في "عمارة حسن فتحي" لاحقا. العامل الثالث يمثل تأصيل العلاقة بين البيئة التي خلقها الله في مقابل البيئة المبنية بيد الإنسان، وتجسد فكر حسن فتحي في محتوى ومضمون العمارة البيئية بضرورة الانسجام التام بين هاتين البيئتين. وتظهر العلاقة بين العمارة والمجتمع بجلاء في فكر فتحي من خلال تأكيده على دور التراث في تلبية احتياجات المجتمع المحلي. فحسن فتحي يعتقد أن التراث هو انعكاس طبيعي لمتطلبات المجتمع، ويستعين بأمثلة للدلالة على ضرورة "تطويع" التراث لهذه الغاية حيث أن التراثات القائمة إنما تطورت عبر أجيال بما توافق عليه المجتمع واستحسنه، وفوق ذلك كله ما خدم مصالح فئاته الشعبية وساهم بتطوره. ولذلك يرى فتحي أنه قبل استئصال عنصر ما من عناصر التراث الضارب بالقدم ينبغي النظر في استحداث بدائل تقوم بالغاية نفسها على الأقل أو تراعي متطلبات العصر وتحقق في الوقت ذاته نفس المصلحة التي كان يقوم بها التراث "المستبدَل".
وبالرغم من الملاحظات النقدية والمراجعات والمساجلات التي تعرض لها حسن فتحي في حياته أو بعد رحيله، إلا أن بصماته الفكرية الواضحة على العمارة العربية المعاصرة ليست موضع شك مطلقا بما أسس له من معالم واضحة على طريق تفعيل دور التراث المعماري بالمجتمع وضرورة تبنيه كمنهج لإعادة إحياء قيم أصيلة تكاد تندثر في خضم موجات الحداثة والعولمة التي باتت تغزو أخص المجتمعات التقليدية.
معماري وباحث يقيم في لندن