محمود درويش في "خيمته" البيروتية
ساجل شعراء قصيدة النثر وصادق ياسر عرفات وعاش رعب الحصار
لم يمرَّ محمود درويش في بيروت. تقول سيرته الحياتية والشعرية إنه أقام في وطن بديل يُدعى لبنان. وحين خرج من هنا خرج إلى المنفى. بخروجه من بيروت أضاف انسلاخاً آخر لا يقلُّ تراجيدية عن انسلاخه من وطنه الأول، من طفولته الأولى، من مكانه اللصيق. صحيح أن علاقة درويش بلبنان ظلت علاقة ملتبسة بين الحب واللاحب، بين الإقامة والمغادرة الاضطرارية، بين النضج والولادة الثانية، لكن الثابت أن هذه المدينة، جذبت إليها الشاعر بتعويذاتها العصية على القراءة والفهم. كان محمود درويش يميز ما بين لبنان وبيروت. لبنان كان بالنسبة إليه كياناً للبنانيين. بيروت كانت مدينة العرب. لم تكن عاصمة لبنان بقدر ما كانت عاصمة العرب، عاصمة المنفيين قسراً وطوعاً، المكان الذي يفعل فيه الاختلاط فعله السحري. وأكثر من ذلك: كانت بيروت حاضنة المقاومة الفلسطينية. هنا أقام الفلسطينيون دولتهم المؤقتة. هنا تشاجروا وتصارعوا وقُتلوا وقتلوا بين أعداء دائمين وأعداء متنقلين. وهنا أيضاً وجدوا من يضاهيهم في فلسطينيتهم، من يزايد عليهم ومن يتفوق عليهم معاً. هكذا كانت بيروت فلسطيناً أخرى لشاعر غدا رمزاً فلسطينياً، وغراماً آخر لشاعر لم تأخذ منه الأرض عشقه النسوي، وسجالاً آخر لشاعر كانت قصيدته سجالاً مع الآخرين ومع الذات خصوصاً. خطوات الطفل جاء محمود درويش إلى لبنان ثلاث مرات: قسراً وطوعاً وحباً. في المرة الأولى هرب مع عائلته من قريته البروة في الجليل بعد نكبة عام 1948. وقتها كان عمره ست سنوات. مشت العائلة إلى قرية رميش قرب مدينة بنت جبيل سيراً على الأقدام. وهناك نام ليلته الأولى قرب بركة القرية قرب الخنازير والأبقار. أكملت العائلة مسيرتها إلى صور حيث قطف التوت ومنها إلى جزين. في جزين )شمال صيدا) رأى الثلج للمرة الأولى، ورأى الشلال للمرة الأولى. رأى التفاح يتدلى من الأغصان، وكان من قبل يعتقد أن التفاح "ينبت في الصناديق" كما ذكر في كتابه "ذاكرة للنسيان" الذي كتبه في باريس عام 1985 خلال 90 يوماً، وتحدث فيه عن علاقته ببيروت ويوميات الحصار في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. يذكر الروائي اللبناني الفلسطيني الهوى والممارسة الياس خوري رحلة قام بها مع الشاعر وباسكال فغالي وماهر جرار إلى جزين: "كان يبحث عن ذكريات الذاكرة، في البلدة اللبنانية التي جاءها في السابعة من عمره. مشينا في الطرق لكننا لم نهتد إلى البيت الذي عاشت فيه العائلة. وسط البحث التفت إلي وقال: بلاش ذكريات، الكبة النية أفضل من الذكريات. وذهبنا إلى مطعم يشرف على واد سحيق، وأكلنا الكبة، وشربنا العرق البلدي، واستمعنا إلى حكايات الكبة النيئة الجليلية التي تصنعها حورية، والدة الشاعر". أقامت العائلة فترة قصيرة في جزين لتنتقل بعدها إلى الدامور (بين بيروت وصيدا). حين كبر الطفل السابق لم يذكر من الدامور إلا البحر وبساتين الموز. حين جاء للمرة الثانية إلى لبنان، نزل في الفندق في شارع الحمرا، وضع ثيابه في الخزانة، هبط إلى الشارع، أوقف سيارة تاكسي، وقال للسائق: خذني إلى الدامور. في بيروت، ركب ابن السنوات الست الترام (ساحة البرج) للمرة الأولى أيضاً. ضاع في جولته تلك، ظلَّ في مقعده إلى أن عاد الترام إلى محطته الأولى. هناك لاقاه جده واحتضنه بقوة. رحلة صغيرة كانت تمريناً على الضياع. الأحرى كانت استعادة بريئة للمنفى الذي سيصاحب الشاعر من مكان إلى مكان. بعد سنة واحدة أمضاها الطفل في لبنان عاد خفية إلى فلسطين: "قيل لي في مساء ذات يوم... الليلة نعود إلى فلسطين. وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل. في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟ ولكن أين هي؟ لقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدّمت وحرقت". بعدما اكتشف الطفل هذه الحقيقة، حقيقة بناء بلدة يهودية مكان البروة اسمها أحيهود وكيبوتس اسمه يسعور، سكن سراً في بلدة دير الأسد (شمال بلدة مجد كروم في الجليل) وهناك درس الابتدائية، قبل أن ينتقل إلى قرية كفر ياسيف لدراسة الثانوية، لتستقر العائلة أخيراً في قرية الجديدة. وهناك عاش درويش حياته الجديدة كلاجئ فلسطيني داخل فلسطين، لينتسب لاحقاً (1961) إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح" الذي تأسس بعد خروج العرب، ونحو مئتي يهودي من الحزب الشيوعي السابق، وذلك على أثر صراع داخلي بعيد ظهور "منظمة التحرير الفلسطينية" صيف 1964. وقتها عمل درويش في منابر الحزب الإعلامية: صحيفة "الاتحاد" ومجلتي "الغد" و "الجديد". وقد سجن الشاعر ثلاث مرات في الأعوام 1961، 1965، 1967، بسبب خرقه حظر التحرك داخل بلده. وفي عام 1970 سافر إلى موسكو ليدرس الاقتصاد السياسي، فلم يجدها "جنة" كما تخيلها ابن التربية الشيوعية، فغادرها إلى مصر عام 1971 حيث عمل في صحيفة "الأهرام" وقد سبقته شهرته إلى هناك بعدما كان الناقد الفلسطيني محمد خالد البطراوي جمع مجموعة من صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، تضم قصائد لكل من توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، وسلمها للروائي الفلسطيني غسان كنفاني الذي أطلق على هؤلاء الشعراء لقب "شعراء المقاومة". كما كان الناقد المصري المعروف رجاء النقاش نشر كتاباً عام 1969 بعنوان "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة". ولم يطل مكوث الشاعر في القاهرة، ليس بسبب كتابة الناقدة فريدة النقاش مقالاً تلومه فيه على تركه فلسطين، وإنما بسبب عرض فلسطيني أتاه من بيروت. على كل حال، "كان هناك موقف لدى عرب الخارج يعتبرون فيه أن فلسطينيي الـ 48 خونة، بدل اعتبارهم مناضلين. من غادر وطني، ومن تثبت بأرضه خائن. هذا موقف جرت مراجعته ضمناً. لم يكن اللوم يقع على محمود درويش فقط، بل على مئات الألوف من الذين كان ينبغي لهم ترك بلادهم" بحسب صديقه، أحد مؤسسي "منظمة العمل الشيوعي"، الكاتب فواز طرابلسي. في كل حال، هناك من كان يلوم أيضاً الفلسطينيين الذين يغادرون كما جرى لدرويش نفسه، يعني الفلسطيني عرضة للوم سواء غادر بلده أم بقي فيها. لهذا يعتقد طرابلسي أن "مشكلة محمود درويش كانت مع الحزب الشيوعي، ولا سيما بعد حادثة بلغاريا (يوم سار الشاعر تحت العلم الإسرائيلي أثناء وجوده في مؤتمر للشبيبة العالمية في صوفيا مع وفد من الحزب الشيوعي الإسرائيلي ضم أيضاً سميح القاسم). كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي متعهداً خدمة دولة إسرائيل، لهذا غادره درويش للالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية (التحق بها عام 1973) التي كانت أرقى بالطبع من الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يشبه نقابة للدفاع عن العرب في إسرائيل". دخول بيروت عام 1972 كان أنيس صايغ في القاهرة للمشاركة في أحد المؤتمرات بوصفه مديراً عاماً لمركز الأبحاث الفلسطيني. وهناك "تمنى" على صديق له يقيم في مصر أن يرتب له موعداً مع محمود درويش ليقنعه بالانتقال إلى بيروت للعمل في مجلة "شؤون فلسطينية" التي صدرت عام 1971، وكانت أول مجلة عربية شهرية متخصصة بالمسألة الفلسطينية. "وقتها كانت الرواتب ضئيلة جداً". كان صايغ يخشى ألا يقتنع درويش بهذا الانتقال. وهكذا ذهب إلى بيته، وحين دخل كان الشاعر "يودع الفنانة وردة الجزائرية على الباب". المفاجئ أن درويش "أبدى استعداده للمجيء إلى بيروت فوراً، تاركاً لي التفاصيل وتحديد الموقع" يقول صايغ. هكذا انتقل إلى العاصمة اللبنانية مستشاراً لرئيس تحرير "شؤون فلسطينية" قبل أن يصبح عام 1974 نائب المدير العام لمركز الأبحاث الفلسطيني. حين وصل درويش إلى بيروت انتقل ما بين شقق مفروشة عدة قبل أن يستقر في شقة مستقلة. نزل بداية في مبنى ستراند في شارع الحمرا حيث كان مقهى ستراند سابقاً. انتقل بعد ذلك إلى عمارة دبوس المؤلفة من 11 طبقة، قرب المعهد البريطاني سابقاً، أي في شارع متفرع من الحمرا (شارع جاندارك). في فترات الحرب انتقل إلى فندق "وايت بالاس" المحاذي للبناية التي يسكن فيها أنيس صايغ حيث سكن في شقة مفروشة. الفندق نفسه سكن فيه رئيس المجلس النيابي الأسبق كامل الأسعد عام 1981 قبل انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. "ربما اطمأن إلى الحراسة التي كانت حول منزلي" يقول صايغ معلقاً على هذا الانتقال، قبل أن يستطرد واصفاً شقته في بناية دبوس: "كانت شقة صغيرة، غرفة نوم وصالون وسفرة، بسيطة لكنها أنيقة. محمود بطبيعته أنيق. لم يكن بوهيمياً كما هي حال الشعراء. كان يختار ألواناً معينة ومتناسقة. يحب اللون الأزرق. يحب البحر والسماء. كل ما له علاقة بالصفاء. في تونس مرة جاء ببدلة زرقاء أعجبتني. سألته من أين اشتراها. لم يخبرني لئلا أشتري مثلها كما قال ممازحاً. في مركز الأبحاث كان يأتي أنيقاً ومنضبطاً. مكتبه دائماً نظيف ومرتب. في المركز القائم في شارع كولومباني (متفرع من شارع السادات الملاصق للحمرا) كان مكتبه في الطابق الخامس قرب مكتبي، لا يفصل بيننا إلا غرفة السكرتيرة". يبدو أن الشاعر كان حريصاً على ألا يلبس أصدقاؤه ثياباً مشابهة لثيابه. في إشبيلية كان فواز طرابلسي برفقة الشاعر مع الباحث الفلسطيني الياس صنبر. "دخلنا متجراً للألبسة ـ يقول ـ وقد اختار كلٌّ منا، من غير انتباه، السترة الجلدية نفسها التي اختارها الآخر. لم يرق لمحمود التشابه، فلم يطل به الأمر حتى أهدى سترته إلى أحد الأصدقاء". هذه الأناقة يؤكدها أيضاً الشاعر بول الشاعر الذي لم تكن تربطه علاقة شخصية بدرويش في البداية. "كان جاري. مطبخ بيتي يطل على مطبخ بيته في شارع جاندارك. كل يوم أحياناً كنت أراه صباحاً يحضّر القهوة. كان أنيقاً في الأكل والثياب. يحب الحياة بأناقة". "تعرفت إليه ـ يقول الياس خوري ـ عام 1972 عندما كنت في مركز الأبحاث الفلسطيني. كان هو يكتب مقالاً شهرياً بعنوان "إسرائيليات" بينما كنت أكتب مقالاً بعنوان "ثقافة". ثم صرنا صديقين. كان هو في الطابق الثاني وأنا في الطابق السادس. بعد ذلك أصبح في الطابق الخامس. ثم انتقلنا معاً إلى الطابق السادس. في مرحلة لاحقة انضممنا إلى هيئة تحرير مجلة "مواقف" التي يصدرها أدونيس. كنا نقيم اجتماعاً أسبوعياً يضم عدداً من المثقفين أمثال هشام شرابي ومنى السعودي وخالدة سعيد وكمال بلاطة وكمال أبو ديب وسمير صايغ. كنا أصدقاء أكثر منا هيئة تحرير. نجتمع في بيت أدونيس في الأشرفية كل أحد. بعدها تزوج رنا قباني (ابنة أخ الشاعر نزار قباني) مدة ثلاث سنوات. لكن التطور الأساسي بيننا حدث في الحرب الأهلية. عملياً استلمنا المجلة ("شؤون فلسطينية") والمركز. أصبح هو مديراً عاماً وصرت أنا نائب المدير العام للمركز، أما المجلة فكان هو يشغل موقع رئيس التحرير بينما شغلت أنا موقع سكرتير التحرير". مع المؤسسات الفلسطينية كيف أصبح محمود درويش مديراً عاماً لمركز الدراسات الفلسطيني؟ لهذا أيضاً قصة مثلما هناك قصة لتركه المركز و "شؤون فلسطينية". كان المدير العام السابق أنيس صايغ على خلاف مع عرفات منذ عام 1969. بعدما حاول الإسرائيليون اغتياله عام 72، رُشح لرئاسة مركز الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، لكنه رفض الذهاب إلى القاهرة لئلا يُقال إنه هرب جبناً. عندها قال لعرفات: "عليك أن تتحملني، وعليَّ أن أتحملك". إلى أن جاءت سنة 1976 فانفجر الخلاف بين عرفات وصايغ الذي قدّم استقالته من المركز التابع أصلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. انتظر عرفات سنة قبل أن يحل درويش مديراً عاماً للمركز، لكن "الضغوطات السياسية، والأهم مزاج الشاعر" بحسب صايغ جعلته يقدّم استقالته. أقنع درويش عرفات بتعيين صبري جريس مكانه، بينما اكتفى هو برئاسة تحرير "شؤون فلسطينية". كما يرى الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر أن محمود درويش "منح المجلة نفساً أدبياً بعدما كانت تقتصر على السياسة والأبحاث. منحها الابتهاج بعدما كانت متجهمة". عرف أبو فخر درويش عام 1972 فور وصوله إلى لبنان: "كنت أسير ليلاً مع صديق عائدين من الروشة إلى الحمرا مشياً. في شارع كاراكاس، سمعنا وقع أقدام خلفنا. التفت فإذا به محمود درويش. توقفنا جانباً ريثما يصل. وحينما بات قربنا اقتربت منه وقلت: مرحبا أستاذ محمود. قال بجفلة ودهشة: أهلاً. عرّفته إلى نفسي، وكنت وقتها طالباً في الجامعة، ثم سرنا معاً قليلاً. وعندما أراد الافتراق، قال لي: لقد أرعبتني. يا أخي أنا ماشي بالليل، اتنين قدامي، يلتفتان إلى الوراء ثم يقفان إلى جانب الطريق. كان يعتقد أننا نريد قتله أو اختطافه. لكنه لم يتراجع على خوفه. قال: فكرت في التراجع لكنني أقدمت وأنا خائف". في هذه السنة كانت إسرائيل قد اغتالت عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الروائي غسان كنفاني. كما حاولت اغتيال أنيس صايغ عبر طرد بريدي. وكذلك بسام أبو شريف. ما بدا خوفاً غير مبرر في حادثة صقر أبو فخر، بات خوفاً حقيقياً في لحظات أخرى. بعد محاولتي اغتيال مرة بإصبع ديناميت عام 1971 ومرة بطرد مفخخ عام 1972 أرسل لأنيس صايغ، وضعت سيارة تحتوي على ثلاثة صواريخ موجهة مقابل مركز الدراسات الفلسطيني في 12/ 12/ 1974. في الساعة الثامنة والنصف انطلقت الصواريخ كما يخبر صايغ. صاروخ أصاب شقة سكنية في المبنى في الطابق الرابع، صاروخ أصاب مكتبة المركز والصاروخ الثالث أصاب مكتب المدير العام. نجا صايغ بأعجوبة، ونجا محمود درويش أيضاً لأنه كان يأتي إلى المركز في الساعة التاسعة صباحاً. في كل حال، لنعد إلى قصة درويش مع المؤسسات الثقافية الفلسطينية في لبنان. لقد استمر في عمله في "شؤون فلسطينية" حتى سنة 1979. في هذه السنة نشر العاملون في المركز مذكرة، بتوقيعاتهم، في مجلة "الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين" في بيروت، ضد تصرفات مدير المركز الجديد صبري جريس، فأرسل مستشار عرفات فاروق القاضي، قوة من حرس الرئاسة (القوة 17). استجوب وقتها الروائي الياس خوري بعدما جُلب للتحقيق. أوسع درويش القاضي شتماً، لكن رسالة شفهية وصلته من عرفات عبر رئيس تحرير أسبوعية "فلسطين الثورة" أحمد عبد الرحمن، تقول بتمني عرفات مثول العاملين في المركز أمام القاضي، حفاظاً على ماء وجه أبو عمار. وبحسب الياس خوري فقد تدخل وقتها أبو جهاد وأبو إياد لإنهاء المسألة، وبعد ذلك بعث أبو عمار للقاء خوري وطلب منه عدم الاستقالة. مع ذلك، قدّم محمود درويش استقالته مع الياس خوري. درويش هجر بيروت إلى باريس حيث كتب في أسبوعية "الوطن العربي"، وكانت أول قصيدة نشرها في المجلة بعنوان "رحلة المتنبي إلى مصر" شبّه فيها نفسه بالمتنبي، وبيروت بمصر، وعرفات بكافور الإخشيدي: "أبيع القصر أغنية/ وأهدمه بأغنية". أما الياس خوري فهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث درّس في جامعة كولومبيا ليعود إلى بيروت رئيسَ تحريرٍ للقسم الثقافي في صحيفة "السفير". إلى جانب القائد العام علاقة محمود درويش بعرفات كانت من أكثر المآخذ التي أخذها أعداؤه على الشاعر. كانت علاقة بين رمزين، يُعدان من أكثر الرموز الفلسطينية شعبية. ولم يُجمع الفلسطينيون على شخصية مثل إجماعهم على عرفات ودرويش باستثناء ربما جورج حبش. صديقه فواز طرابلسي الذي تعرّف إليه في منتصف السبعينات خلال ندوة من ندوات مركز الدراسات الفلسطيني، ثم طلب منه الكتابة لاحقاً في "الكرمل" لأنه كان يعتبره، هو الكاتب السياسي، "مصاباً بشذوذ أدبي"، هذا الصديق يصف علاقة درويش بعرفات على النحو الآتي: "أبو عمار كان يشبه الأب بالنسبة إلى محمود. علاقة أب بولد ذكي ومتمرد. هذه العلاقة الأبوية العاطفية كانت معززة بالتزام واعٍ عند محمود بمنظمة التحرير الفلسطينية. في النهاية هو نتاج حركة تحرر وطني، وبالتالي فإن التزامه بمنظمة التحرير هو التزام بحركة تحرر وطني. ثم إنه كان على صلة بكل التنظيمات الفلسطينية. عند الانشقاق الفلسطيني (عام 1984) لم يكن مع جماعة الرفض بل من دعاة الدولة الفلسطينية. ورغم أنه قدّم استقالته بعد أوسلو 1993، إثر خلاف مدوٍّ مع عرفات على هذا الاتفاق، بقي على علاقة بمنظمة التحرير مع عدم تحمّل مسؤوليات لأنه لم يكن مقتنعاً بأشكال وطرق صياغة المعاهدة. يجب القول هنا إن هذه العلاقة كانت صعبة لأنه عاش بكثير من التوتر بسبب رغبته في الموازنة ما بين الالتزام العام كمثقف فلسطيني وبين الاستقلالية الشخصية. أعتقد أن إسهامه الرئيسي في السياسة ما عدا الشعر، كان مجلة "الكرمل". وربما كان عيشه في باريس تأكيداً على خلق مسافة عن منظمة التحرير الفلسطينية". "حضر ياسر عرفات عرسه الأول" ـ يقول الياس خوري ـ "وكان ياسر عرفات يزوره في البيت. كانا صديقين. كان هناك تنافس بين الاثنين على من هو رمز فلسطين. كان محمود درويش إلى جانب عرفات باستثناء أوسلو، وهو من ساهم في كتابة "وثيقة الاستقلال" (أقرها "المجلس الوطني الفلسطيني" بالإجماع في 15/ 12/ 1988)". في انشقاق فتح عام 1984 رفض درويش الانشقاق وبقي مع عرفات. عموماً، الناس يحبون محمود درويش أكثر من القيادات الفلسطينية". في كل حال، يذكر شفيق الحوت في مذكراته "بين الوطن والمنفى" أن عرفات رفض نص الوثيقة التي كتبها درويش "لعدم تقيدها بحرفية النص على الرغم من رفعة لغتها. ويرى الحوت الذي مثل منظمة التحرير الفلسطينية مع محمود درويش في أكثر من مناسبة دولية منها مؤتمر الإسكان في فانكوفر في كندا عام 1976 وقمة دول عدم الانحياز في نيودلهي في السنة نفسها، يرى أن هذه الوثيقة "دعت إلى قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف"، لكنها حملت "تلميحات واضحة تتعلق بتنازلات تاريخية عن بعض حقوقنا الوطنية، وفي مقدمها تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني". كما هاجمت هذه الوثيقة الفصائل الفلسطينية الراديكالية. وهذا ما يستدركه الياس خوري بقوله " بعض الإسلاميين (حماس تحديداً) اتخذ موقفاً من درويش بسبب نصه عن انقلاب غزة، مع أنه كان دائماً يرى إلى السياسة من منظور كبير، على مستوى فلسطين". العلاقة بين القائد العام و "الشاعر العام" كما أطلق عليه الشاعر معين بسيسو بعدما ألقى درويش قصيدته "كان ما سوف يكون" في رثاء راشد حسين في مؤتمر اتحاد الكتاب الفلسطينيين الذي عقد في الجزائر عام 1977. "كان مزيجاً من الغيرة والخبث والإعجاب يقف خلف إطلاق هذه المداعبة" بحسب الياس خوري، هذه العلاقة يراها رفيق دربه أنيس صايغ على طريقته في الكلام": علاقة محمود درويش بياسر عرفات تشبه علاقة شفيق الحوت بعرفات: حب مع عدم إخفاء انتقادات له. شفيق الحوت ينتقد عرفات في مذكراته لكنه يحبه في الوقت نفسه. لم يكن محمود درويش قبل سنة 1980 يدافع عن عرفات ولم يكن ينتقده. لكن عرفات كان يحب محمود أكثر. كان الابن المدلل بالنسبة إليه. لهذا السبب ربما يأخذ عليه بعض معارضي عرفات. بدا هذا واضحاً للأسف بعد موت محمود. بعضهم لم يشارك إطلاقاً في ذكره أو الكتابة عنه. لم يكن محمود عرفاتياً لأنه لم يوافق على سياسة عرفات موافقة كاملة. مثلاً اتفاق أوسلو. محمود كان مع مبدأ التفاوض مع إسرائيل، لكنه ضد المفاوضات التي أنتجت اتفاق أوسلو. كان يعتقد أن هذه المفاوضات غير حكيمة وفاشلة وأدت إلى التفريط بحقوق كان من الممكن عدم التفريط بها". وبحسب صايغ لم يكن درويش "فتحاوياً". الآخرون لم يعتبروه هكذا. "لكنه كان يقيم علاقات يتحكم بها مزاجه. كان يميل إلى قيادات دون أخرى بصرف النظر عن يسارية هذه القيادات أو يمينيتها". مسألة أخرى يثيرها أنيس صايغ حول شاعر المقاومة الفلسطينية: "كان يُؤخذ عليه أنه بعيد عن المخيم هو صاحب "سجل أنا عربي". هناك نظرة ضيقة عند بعض الفلسطينيين من قيادات، تعتبر أن علاقتك بالمخيم هي علاقة موقع جغرافي. ما دمتَ موجوداً في المخيم أو زائراً له فأنت أقرب إلى الثورة الفلسطينية من الذي يقيم خارجه. ومحمود لم يكن مقيماً ولا زائراً. كان يُحكم عليه أنه بعيد عن الجماهير، لكن الجماهير لم تكن تنظر إليه على هذا النحو". "الكرمل" كتعويض وجد محمود درويش في بيروت خصومات سياسية وثقافية، مثلما وجد أرضاً مؤهلة لقصيدته، سواء بالمعنى السياسي أو بالمعنى الجمالي. في السياسة، كانت بيروت بداية السبعينات مكاناً للثورة الفلسطينية التي انتقلت من الأردن إلى هنا بعد اتفاق القاهرة عام 1969. هنا كان اليساريون أيضاً الذين وجدوا في الثورة الفلسطينية معادلاً ليساريتهم ومناداتهم بالتحرر السياسي والاجتماعي. لكن بيروت أيضاً كانت مدينة اليمين اللبناني ومدينة الحداثة الوافدة من الغرب ومدينة الأهواء الأدبية والفنية والتبرّم من كل التزام. لكن خصومات درويش الفعلية لم تكن مع اللبنانيين، ولا سيما أن بيروت بسبب تناقضاتها الكثيرة، كانت تستوعب كل وافد إليها على ميوله السياسية والفكرية. كانت الخصومات غالباً مع فلسطينيين منافسين. كان الشاعر نشر في مجلة "اليوم السابع" رسائل متبادلة مع مواطنه سميح القاسم. لكن بوصول درويش إلى بيروت حدث خلاف بين الاثنين انتقل إلى سجال حاد على صفحات الجرائد. "عانى محمود درويش من العنصرية اللبنانية. لم يكن كل اللبنانيين محبين له. ثم كان هناك عداء من بعض الفلسطينيين، ولا سيما من حماس مؤخراً. حماس تتقبل التهاني بنفوق محمود درويش. هذا ما كتب في الصحافة. لكن هذا الأمر حدث مؤخراً. في البداية كان ثمة تنافس بينه وبين معين بسيسو وسميح القاسم. وزاد من غيرة البعض انتشاره الكبير وشهرته الواسعة. كثيرون كانوا يحسدونه على هذه الشهرة ويغارون من وجهه الجميل. كان يُنظر إليه من قبل عديدين على أنه بطريرك. يعني يمكن أن يطوّب شاعراً ما. لهذا كان يتردد في إعطاء رأي كفاءة في شاعر ما، مع أنه كان مجاملاً لئلا يجرح أحداً. كان يقول لي: أنا لا أكتب النقد لئلا أجرح أحداً". هكذا يرى الأمر الكاتب المعروف والناشر الشهير رياض نجيب الريس. بالنسبة إلى صقر أبو فخر "لا أحد ينافسه على المستوى الفلسطيني بالمعنى الإبداعي. كان هناك معين بسيسو، لكن هذا الأخير كان يُغرق في قصائده السياسية المباشرة، بينما كان درويش يرتقي بلغته الشعرية نحو اللغة الصافية. ربما هناك عداوات سياسية على خلفية اتهامه بخروجه من فلسطين. أصحاب العقول القومية كانوا يذكرونه دائماً بأنه مشى تحت العلم الإسرائيلي في صوفيا". في كل حال، لم تكن المنافسة مع معين بسيسو سراً. الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين (مجلة الهلال، أيلول/ سبتمبر 2008) تحدث عن هذه المنافسة: "اعترض درويش على تمويل عرفات لمعين بسيسو، حتى يصدر مجلة ثقافية شهرية، باسم "دفاتر فلسطينية"، واقتنع عرفات بالاكتفاء بشهرية "شؤون فلسطينية". وكان عرفات يؤجج في ذلك المعركة بين الشاعرين". ويسرد الباحث حادثة الوفد الشعري الفلسطيني إلى يوغسلافيا برئاسة بسيسو عام 1979: "أرغى درويش وأزبد، وتجلت ذاتيته، على نحو غير مسبوق. بينما اعتبر بسيسو نفسه المنتصر في معركة السباق على حضن عرفات". على كلٍّ، عاد عرفات وأرضى محمود درويش بعد حادثة اقتحام "قوة 17" مجلة "شؤون فلسطينية" و "مركز الدراسات الفلسطيني" والتحقيق مع الياس خوري، بأن أعطاه تمويلاً لتأسيس مجلة. هكذا عاد درويش إلى بيروت قادماً هذه المرة من تونس، ليؤسس مجلة "الكرمل" عام 1980، وليعين الياس خوري مديراً للتحرير. وفي سنة 1988 أصبح درويش عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، كما عيّنه عرفات مستشاراً له، إلى أن استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ليستقرَّ بعد سنة بين رام الله وعمّان، على قاعدة جملته "غيّرت موقعي ولم أغير موقفي". التجربة المدينية أصيب محمود درويش بغرام بيروت ما إن جاء إليها. مدينة مجنونة يتصارع فيها كل شيء. دراما من التناقضات. حيوية يصنعها متطرفون ومتسامحون، يساريون ويمينيون، عروبيون وقطريون، جماعات وأفراد، مسحوقون ومترفون، مقيمون وعابرون. "كنت وقتها طالباً حين بدأت أكتشف الحياة الثقافية في بيروت ـ يقول صقر أبو فخر ـ حاولت التحرش بهذه الحياة. ومن حسن حظي أن كان لي أصدقاء في تلك الفترة كصادق جلال العظم الذي كان منزله (بناية أديسون شارع بلس) يجمع الكثير من مثقفي البلد. صحيح أن مجلة "شعر" كانت توقفت، لكن أدونيس كان لا يزال في بيروت. كانت لا تزال تستقبل محمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري. وكان هنا عمر أبو ريشة وخليل حاوي وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج. في هذا الجو جاء محمود درويش إلى بيروت التي احتفت به كشاعر مقاومة. وقد منحته المدينة الاحتكاك بالتجارب الشعرية والثقافات المختلفة. هذه المدينة هي التي أمدته ببداية التجديد في شعره، والتي عبر عنها في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا". الياس خوري بدوره يعتبر أن "تجربته البيروتية صقلته وفتحت أمامه آفاق التجريب الشعري. دخل في معادلة الغنائي الذي يتشكل في داخل البعد الملحمي". منذ دخوله المدينة قرر درويش ربما التخلص من مرحلته الشعرية السابقة. في أول أمسية له في الأونيسكو، مع خليل حاوي وبلند الحيدري ونزار قباني ومحمد الفيتوري، بتنظيم من اتحاد الكتّاب اللبنانيين برئاسة الروائي والناشر المعروف سهيل إدريس، رفض درويش قراءة "بطاقة هوية" أو "سجل أنا عربي" بعدما طلبها الجمهور مراراً. وعندما أصر أحد الحاضرين رد درويش بانفعال: "سجل أنت". لاحقاً برر موقفه هذا بأن القصيدة لا معنى لها في ظل جمهور عربي، فقد كتبها أثناء وجوده في إسرائيل كتأكيد على هويته. كما أقام لاحقاً أمسيات جماهيرية في الجامعة اللبنانية في كلية التربية وكلية الحقوق وكلية الآداب وفي الجامعة العربية وغيرها من الأمكنة. ورغم جماهيريته كان يخشى الجماهير. يروي الياس خوري: "الطريف أنه كان يخاف قبيل الأمسيات الشعرية. كانت تلعي نفسه (يشعر بالغثيان) أو يرتجف ويضطرب. في البداية اعتقدت أنه يمزح. لكنني اكتشفت فعلاً أنه كان يخاف من المنبر". وعن تأثير بيروت على محمود درويش يقول خوري: "انتقل من حيفا إلى بيروت بعد مرور قصير في القاهرة. يعني انتقل من مدينة صغيرة إلى مدينة مدنية حيث الأنماط المختلفة. نتائج عيشه في بيروت كتابه "محاولة رقم 7" الذي هو أول كتاب يختبر فيه التجريب كحصاد لعلاقته بهذه المدينة وثقافتها. لم يعمل في بيروت في الصراعات الثقافية، لكن صداقاته اقتصرت على مجلات "الطريق" و "الآداب" و "مواقف". عموماً، لم يكن جزءاً من التحزب الثقافي هنا. لا تنس أن بيروت كانت حاضنة العرب. تجربة بيروت لدى درويش هي مزيج من الغنائية القديمة والسياسة وتجريبية مجلة "شعر" كما أرى". يوافق فواز طرابلسي وصف الياس خوري لعلاقة درويش ببيروت: "هي المدينة التي انتقل إليها بعدما ترك إسرائيل. إنها المدينة العربية لشخص لا يعرف ما هي المدينة العربية. جاء إلى بيروت في الفترة التي كان يحق فيها للغرب أن يطل على الشرق، ويحق للشرق أن يطل على الغرب. هي تجربة في الحداثة العربية بلا أدنى شك. من قبل كان محمود في عالم ليس فيه "الآداب" و "شعر". ثم إن هذه المدينة بالنسبة إليه هي التي احتضنت المقاومة الفلسطينية. وهنا تعرف على عرب من سوريين وعراقيين ومصريين وغيرهم من خارج إسرائيل. بيروت ليست المنفى وليست الوطن البديل. لم يستقر محمود بعد الخروج من بيروت. باريس كانت تجربة في المنفى والوحدة (كان طرابلسي صديقه أيضاً في باريس). محمود كان حساساً تجاه المدن، كانت علاقته بالمدن مرضية. ألخصه بعلاقة استثنائية بين "الأنا" و "هنا"، بين الجسد والمكان. طفل فصل عن قريته ولم يستطع الخروج من هذه الفكرة". لم تكن بيروت تصنع الشعراء. كانت تحفّزهم فقط. تجعلهم أكثر جرأة. تمنحهم مدى ضمن نطاقهم الخاص. وهذا ما عايشه محمود درويش في بيروت. بالنسبة إلى الشاعر بول شاوول "كانت هذه المدينة مظلة للقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية. هذا الأمر أساسي في سياق الحديث عن محمود درويش قبل الحديث عن الأثر الأدبي لبيروت عليه. كان جزءاً من السجال بيننا وبينه بوصفه شاعر ثورة. طبعاً، لم يكن في بيروت السبعينات والثمانينات تحزب شعري. لم تكن المعركة في بيروت بل بين بيروت والمدن العربية الأخرى. كانت معركة قصيدة النثر حُسمت لصالح قصيدة النثر. انتقلت المعركة إلى داخل قصيدة النثر حول قضايا مثل الغموض والمجانية والهلوسة. انتقلت المعركة من الشكل إلى المضمون. والبعض خلط ما بين الغموض وقصيدة النثر. كان النقاش وقتها حول ما إذا كان الشعر للجماهير أم للنخبة، للوضوح أم للالتباس، للقراءة المتعددة والحفريات أم للطبقة الواحدة التي يتساوى فيها المثقف والعامل والفلاح. في كل حال، كان قدر محمود درويش الجماهيرية. هو ابن فلسطين وصاحب قضية وليس شاعراً أوروبياً يعيش مرتاحاً من الأزمات الوطنية والاجتماعية. محمود درويش مسيس بالمعنى العميق للكلمة. هو ابن أيديولوجيا، ابن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وابن منظمة التحرير الفلسطينية. الخلفية الفكرية والنضالية كانت تحرّك شعره. من هنا جاء إلى بيروت مجهزاً سياسياً وفكرياً وشعرياً. وكانت بيروت السبعينات في مرحلة التألق الكبير. كانت الطليعية العربية كلها هنا. جميع الهاربين من سجون الأنظمة العربية كانوا في هذه المدينة. ورغم أنه كان منحازاً إلى خلفيات شعرية معينة، إلا أن التعدد السياسي والفكري والأدبي والمسرحي تراكم داخله. جنون بيروت تراكم لديه. ثم إنه قارئ كبير. يقرأ كل يوم. يقرأ بالإنكليزية والعربية شعراً ورواية ومسرحاً. قراءاته الدائمة وقلقه عوامل تفسر هذا التطور الكبير في شعره". "من دون أي تردد ـ يؤكد رياض نجيب الريس ـ كانت بيروت المدينة الأثيرة إلى قلب محمود درويش. مدينتان أحبهما كثيراً: بيروت وباريس. كان يتأفف من رام الله. أما عمّان فكانت بالنسبة إليه صغيرة. سكنه في رام الله كان بسبب وظيفته في السلطة الفلسطينية". يعود الريس بالذاكرة إلى بداية السبعينات للحديث عن محمود درويش الذي لم تكن تربطه صلة به في ذلك الوقت: "كانت تلك الفترة الأخيرة من مجلة "شعر". كان يوسف الخال ما زال حياً. وكانت "شعر" صدرت للمرة الثانية بعد توقفها للمرة الأولى بهيئة تحرير جديدة كنت أنا أحد أعضائها. لم يكن لجماعة "شعر" وتحديداً يوسف الخال بحسب ذاكرتي أي علاقة بمحمود درويش لأسباب منها البعد النفسي ومنها التوجهات السياسية المختلفة. معظم جماعة "شعر" كانت توجهاتهم السياسية تختلف عن توجهات الفلسطينيين. لكنهم جميعاً تقريباً كانوا يشعرون بحميمية تجاه شعر محمود درويش من دون أي صلة قربى. وقتها كانت الجماعة تبحث عن اسم بارز يحل محل أدونيس الذي أصدر مجلة "مواقف". كان يوسف الخال نشر في العدد الأول أول قصيدة لسعدي يوسف الشيوعي العراقي. لم يكن لـ "شعر" تحفظ على محمود درويش لكنه لم يكن ينتمي إلى هذه المجلة. هذه انطباعات عن مشاعر ولت. عندما وقعت الحرب عام 1975، تفرق شمل الفلسطينيين واللبنانيين والشعراء. رحلت أنا إلى لندن. وبعدما انتقل محمود درويش إلى تونس، وكنت وقتها كثير الأسفار، التقيت به هناك. في السبعينات كانت معرفتي به تقتصر على الاسم، لأنني كنت بعيداً عن موضة من الأشطر في الارتماء في الحضن الفلسطيني. كان الجميع يسعى وصلاً بـ "ليلى الفلسطينية". توفي يوسف الخال عام 1987. كان صديقاً عزيزاً واكبته حتى فترة مرضه حين سافر للعلاج في لندن ثم باريس. عندما توفي الخال كنت في بداية دخولي عالم النشر عام 1986. وقد لمعت في ذهني فكرة إقامة "مهرجان الشعر العربي الأول" في لندن صيف 1987. كان هذا المهرجان تكريماً ليوسف الخال تحديداً، وقد دعونا إليه محمود درويش. في السنة التالية أقمنا "مهرجان لندن للثقافة العربي" الذي شارك فيه إلى درويش كل من نزار قباني وسميح القاسم وبلند الحيدري وأنسي الحاج ونخبة من الشعراء العرب الكبار، باستثناء جبرا إبراهيم جبرا الذي لم تسمح له السلطات العراقية بالمغادرة. منذ ذلك الوقت توطدت علاقتي بمحمود درويش". الاجتياح يوقف معارك الشعراء هل فعلاً كانت بيروت بلا معارك أيام محمود درويش؟ ومنذ متى كانت بيروت بلا معارك؟ أليس العراك السياسي والثقافي والاجتماعي جزءاً من حيوية هذه العاصمة؟ ألم يكتب عباس بيضون في مجلة "مواقف" مقالاً يسخر فيه من مفهوم الثقافة الوطنية حمل عنوان "النص والواقع"؟ ألم تنقسم الثقافة إلى ثقافة وطنية وأخرى انعزالية؟ ألم يكن هناك نقاش حول دور المثقف الطليعي بتأثير من نظريات غرامشي وممارسات الأحزاب اليسارية؟ ألم يكن هناك سجال حول قصيدة الهامش والتفاصيل وقصيدة الظواهر والمجانية في الأدب من جهة وحول وظيفة الأدب والالتزام والقضايا الكبرى من جهة أخرى؟ ألم يكتب سليم بركات ملمحاً إلى نشوء المثقف الطائفي، غامزاً من طرف واحد فقط؟ ألم يكتب محمود درويش مقالاً نشر في "الكرمل" و "السفير" بعنوان "أنقذونا من هذا الشعر"؟ بلى. وقد انبرى وقتها شخصان للرد على درويش: بول شاوول وعباس بيضون. الأول رد في "النهار" والأخير رد في "السفير". بعد ذلك دخل الناقد السوري، القومي الهوى، محي الدين صبحي، على الخط ليرد على عباس بيضون بمقال نشرته "السفير" بعنوان "أجل، الشعر ديوان العرب". قرأ بيضون المقال في الملجأ لأن إسرائيل كانت قد بدأت اجتياحها وأنقذت الطرفين من معركة ربما كانت ستطول. في تلك الفترة كانت نزعة لبنانية بدأت بالظهور، نزعة ترى إلى الحرب كعبث، وتنتقد ديكتاتورية العسكر، مقابل المفهوم القومي للثقافة. يتذكر بول شاوول تلك المرحلة بالقول: "تعرّض درويش في مقالته تلك لشعري وشعر آخرين كعباس بيضون مثلاً. كنت وقتها إلى حد ما متطرفاً في آرائي أكثر من اللزوم حول الشعر والوظيفة والقضية. وكان محمود في تلك المرحلة مع الشعراء الفلسطينيين والعرب في خدمة القضية. هذا كان قدرهم الفلسطيني. قصائد مثل "أحمد الزعتر" و "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" و "بطاقة هوية" صنعت محمود درويش آنذاك. إذاً، كنا على تناقض شعري نوعاً ما. لم تسمح الظروف لكي يُحيّد هذا الخلاف الشعري لصالح علاقة شخصية. ربما لأنه كان محاطاً بأناس لم تكن علاقتي بهم آنذاك على ما يرام، ربما. في كل حال، حدثت سجالات كثيرة بيننا وبينه. كان يأتي وقتها إلى مقهى الأكسبرس (قرب جريدة النهار، في أول شارع الحمرا) مع أدونيس وبعض الأصدقاء. ولم يكن بيننا كلام. وبحكم الجيرة كنا نلتقي أحياناً من دون أن نلقي التحية. وعندما أصبحنا صديقين قال لي: لا أعرف يا بول لماذا لم نكن نسلم على بعضنا. أنا عنطوز وأنت عنطوز (نمرود). الخلاف بيني وبين محمود درويش كان شعرياً وليس سياسياً لأنني كنت مع القضية الفلسطينية من غير أن أكون مع مؤسساتها. لاحقاً حين أصدر "سرير الغريبة" و "الجدارية" ثم "كزهر اللوز أو أبعد" لاحظت تغيراً لديه من القصيدة العمومية إلى القصيدة الخاصة. لا أتكلم عن الموضوع بل عن اللغة. وفي إحدى المرات أجرت معي جريدة "القبس" الكويتية حواراً سألني المحاور فيه سؤالاً عن درويش، فقلت إنه يبدأ مرحلة كبيرة من التحولات الشعرية، ينفض الكثير من رماد الماضي وينبعث في تجارب جديدة. صدر الحوار بمانشيت: محمود درويش بدأ اليوم يكتب القصيدة. بعد ذلك التقينا في القاهرة، عاتبني على ذلك. عرفت أنه لم يقرأ الحوار فأوضحت له ما قلت في تلك الجريدة. وقلت له إن معظم الشعراء العرب كتبهم الأولى هي الأجمل. أنت بالعكس. بدأت تتجلى اليوم في حداثة جديدة هي حداثتك والتي لا تنفصل عن حداثة السبعينات والستينات. في تجارب درويش الأخيرة اقترب من قصيدة النثر. وكما أعرف كان يحب نماذج معينة من قصيدة النثر أمثال تجارب أمجد ناصر وعباس بيضون ووديع سعادة وقصيدتي أيضاً ونصوص آخرين. في كل حال، منذ ذلك الوقت، نشأت بيننا علاقة صداقة لا كذب فيها ولا نفاق". بيروت وبيروته هذا كله استنطاق لمحمود درويش واستنطاق لبيروت في علاقتهما أحدهما بالآخر. إذا حيّدنا هذا الاستنطاق، سنكون مباشرة أمام النطق. لقد كتب محمود درويش عن بيروت، خصص لها مجموعة "مديح الظل العالي"، تلك القصيدة التسجيلية التي كتبها أثناء حصار عام 1982 ونشرها بعد سفره إلى باريس. يذكر فواز طرابلسي أن الشاعر تلا عليه وعلى سعدي يوسف الجمل الأولى من هذه الملحمة حين كانوا محاصرين في فندق بيروتي يرجمون الاجتياح الإسرائيلي بشرب الخمر والاستماع إلى الموسيقى: "إقرأ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جزمة أفقا". وقتها وصف بيروت بأنها "تفاحة للبحر/ نرجسة الرخام/ فراشة حجرية بيروت/ شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الأولى/ ورائحة الغمام/ بيروت من تعب/ ومن ذهب/ وأندلس وشام". لكن ما سجّله الشاعر شعراً في بيروت عاد وكتبه بلغة نثرية لا تقل رفعة عن الشعر وذلك في كتابه "ذاكرة للنسيان". تحدث درويش في هذا الكتاب عن يوميات الحصار، عن النقاش الثقافي في العاصمة اللبنانية عشية الاجتياح الإسرائيلي لها، عن مشاعره تجاه هذه المدينة الغامضة. ذات يوم من أيام الحصار كان يمشي في بيروت. رأى للمرة الأولى الأرصفة واضحة. وللمرة الأولى رأى الأشجار أشجاراً واضحة. "كانت الحركة، والحوار، والزحام، وضوضاء التجارة تخفي هذه الملاحظة، وتحول بيروت من مدينة إلى مفهوم، ومعنى، ومصطلح، ودلالة. كانت تطبع الكتب، وتوزع الصحف، وتعقد الندوات والمؤتمرات لتعالج قضايا العالم ولا تنتبه إلى ذاتها. كانت مشغولة بمد لسان السخرية لما حولها من رمل وقمع. كانت ورشة حرية. وكانت جدرانها تحمل موسوعة العالم الحديث. وكانت مصنع ملصقات. وقد تكون هي أول مدينة في العالم طوّرت صناعة الملصقات إلى مستوى الجريدة اليومية. ولعل قدراتها التعبيرية المتشكلة من تنوع، وموت، وفوضى، وحرية، وغربة، وهجرة، وشعوب، قد امتلأت وفاضت عن جميع أشكال التعبير المعروفة، فوجدت في الملصق ما يستوعب فائض التعبير عن اليومي، حتى أصبح الملصق لفظة دارجة في القصائد والقصص ليشير إلى خصوصية. وجوه على الجدران، شهداء طازجون خارجون للتو من الحياة ومن المطبعة، موت يعيد إنتاج موته. شهيد يزيح وجه شهيد آخر عن الحائط ويجلس مكانه إلى أن يزيحه شهيد جديد أو مطر. وشعارات تمحو شعارات، تتبدل، وترتب أولويات الحماسة والواجبات الأممية اليومية. كل ما يحدث في العالم يحدث هنا، انعكاساً تارة، ونموذجاً تارة، وقد يتشاجر مثقفان في مقهى باريسي، فينقلب شجارهما الكلامي إلى اشتباك مسلح هنا. لأن على بيروت أن تتضامن أو تتزامن مع كل جديد، ومع كل قديم يتجدد، ومع كل حركة جديدة ونظرية جديدة". وفي مقطع آخر بعد عشرات الصفحات يستأنف الشاعر تأمله في هذه المدينة. كان يتأملها مدركاً أنه يغاردها، أنه يرثيها، يرثي نفسه المطرودة من "خيمته الأخيرة" كما وصف هذه المدينة من قبل: "ونادراً ما تحتاج إلى التأكد من أنك في بيروت، لأنك موجود فيها بلا دليل، وهي موجودة فيك بلا برهان، وتذكر أن مثل هذا السؤال في القاهرة ينتهي بالخروج إلى الشرفة للتأكد من وجود النيل. إذا رأيت النيل فهذا يعني أنك في القاهرة. أما هنا، فإن صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت. صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران.... أنا لا أعرف بيروت. ولا أعرف إن كنت أحبها أم لا أحبها.... أما بيروت فلا أحد يعرفها. ولا أحد يبحث عنها. ولعلها لعلها ليست هنا أبداً. وفي الحرب فقط عرف الجميع أنهم لا يعرفونها. وعرفت بيروت أنها ليست مدينة واحدة، ولا وطناً واحداً، وأنها ليست بلاداً متجاورة، وأن ما بين هذه النافذة والنافذة المقابلة من التناقض ما يفوق التناقض بيننا وبين واشنطن، وأن التناحر بين هذا الشارع والشارع الموازي يفوق التناحر بين الصهيوني والقومي العربي". لم يمنع حصار بيروت الحياة الثقافية من الاستمرار وإن في حدها الأدنى. بالنسبة إلى شاعر مثله لم يكن يطيق الجلوس في المقاهي باستثناء مقهى فندق الكومودور في الحمرا، لم يتغير الكثير عليه. ظلَّ يداوم على جلساته في بيوت أصدقاء من بينهم فواز طرابلسي أو غانم زريقات. انتقل في الحصار إلى فندق "كافالييه" بسبب قطع الماء من قبل صاحب البناية التي يسكن فيها: "حاصرنا صاحبها قبل حصار بيروت بسنين، منذ انحلت السلطة، فجُنَّ هو بسلطته: السلطة على الماء. ما إن يتشاجر مع أحد المستأجرين، أو مع زوجته، أو مع حسابه في البنك، حتى يهب إلى قطع الماء عنا جميعاً. لذلك ربى فينا، من زمان، هذا الصبر على الماء. ربى فينا مدائح الماء". إلى انقطاع الماء، يذكر فواز طرابلسي أن درويش انتقل إلى الفندق حيث توجد بيرة مثلجة وامرأة تعزف على البيانو. كان الاجتياح حالة من التضامن والامتلاء الداخلي والمعنويات العالية وليس رعباً. كنا ننتقل من مكان إلى آخر بشكل طبيعي إلا في أيام القصف الشديد. وكان معنا بشكل دائم سعدي يوسف وسليم بركات ومحمد الفيتوري وشيوعيون عراقيون ومصريون ومن دول عربية أخرى. كما أن محمود لم يغير عاداته في الاجتياح، فقد ظل يقرأ ويكتب". "ذاكرة للنسيان" حافل بيوميات الاجتياح. في هذا الكتاب تحدث درويش عن القذائف التي أصابت المكتب، عن رعبه من الزجاج المواجه للبحر، الزجاج الذي كان يجعله مفضوحاً، عن سليم بركات (اسمه "س" في الكتاب) الذي كان يحمل مسدساً ينزل به إلى المقاهي ليربي النقاد الذين ينتقدون كتبه، وعندما كان يسأله لماذا يفعل ذلك، كان سليم يرد: هذا هو نقد النقد الوحيد الآن. تحدث عن خليل حاوي الذي انتحر لحظة الاجتياح على بعد بضع بنايات تبعد عنه، وكيف كانا يلعبان الشطرنج. تحدث عن علي فودة الشاعر المصري الصعلوك الذي أصدر مجلة "الرصيف" وقتلته قذيفة على الرصيف. تحدث درويش عن ذهابه برفقة صديق إلى الروشة حيث كانات البنايات تحترق بعد غارة عليها، عن خوفه من موت عرفات في مبنى قصفه الطيران بقنبلة فراغية في منطقة الصنايع كان غادره عرفات قبل دقيقة واحدة، عن المقابلة التي أجراها صحافي أجنبي مع أبو عمار في حضور الشاعر، وحين سأله الصحافي إلى أين سيخرج حين يخرج من بيروت، أجاب أبو عمار بلا تردد: سأذهب إلى بلادي. سأذهب إلى القدس. يعلق درويش: "لم أتأثر بهذه اللغة بقدر ما تأثر بها الإسرائيلي (الصحافي) واغرورقت عيناه بدموع الخجل". في هذا الكتاب تحدث درويش أيضاً في ظل الحصار عن الأوساط الأدبية العربية التي اعتادت أن تطرح سؤال الشعر في سياق الحرب المندلعة، "استجابة للراسب الثقافي فينا الذي يربط صيحة الحرب بحماسة الشعر، باعتبار الشاعر معلقاً على الأحداث، حاضّاً على الجهاد، أو مراسلاً حربياً. في كل معركة يقولون أين القصيدة؟ لقد اختلط مفهوم الشعر السياسي بمفهوم الحدث، معزولاً عن السياق التاريخي". في منزل رياض الريس أدّى حصار بيروت إلى خروج الفلسطينيين إلى تونس عبر البحر. لم يرد درويش المغادرة مع الفلسطينيين. كتب قصيدة مشتركة مع معين بسيسو ونشراها في "السفير". وصلته تحذيرات بأنه مطارد من قبل الإسرائيليين. هكذا غادر بيروت بعد 20 يوماً من خروج الفلسطينيين. أحد الضباط اللبنانيين عمل على تهريبه عبر سيارة دبلوماسية ليبية يُقال إنها سيارة الشاعر محمد الفيتوري الذي كان يشغل منصب سفير ليبيا في لبنان. هرب محمود درويش إلى طرابلس شمال لبنان، ومنها إلى دمشق، ثم إلى تونس، قبل أن يستقر أخيراً في باريس. هكذا أقفلت صفحة طويلة من حياة الشاعر متراكمة الصفحات. كان رياض نجيب الريس أول من أعاد محمود درويش إلى بيروت عام 1999. تكررت زياراته إلى العاصمة اللبنانية، ولا سيما في مناسبة إحياء أمسيات شعرية أو توقيع كتب. قرأ في "الأونيسكو" جداريته بعكس رغبة الجمهور. قرأ في المدينة الرياضية أمام جمهور فاق عدده مشجعي كرة القدم في لبنان. المدينة الرياضية ملاصقة لمخيمي صبرا وشاتيلا. حين سمع الفلسطينيون بالخبر جاؤوا أرتالاً يحملون علم بلادهم. اللبنانيون أيضاً كانوا بالمئات. وقتها رضخ درويش لمشيئة الجماهير وقرأ "سجل أنا عربي" وغيرها من قصائده الثورية، وذلك تحت وطأة الانتفاضة الثانية التي لم تمض سنتان على اندلاعها. قرأ لاحقاً في مركز "بيال" في معرض "الكتاب العربي الدولي". في أحد توقيعات كتبه الصادر عن "رياض الريس للكتب والنشر" اغتيل رئيس تحرير جريدة "النهار" النائب جبران تويني. ليست المرة الأولى التي يواجه فيها درويش مثل هذا الحدث. يذكر الريس أنه أثناء إقامة "مهرجان لندن للثقافة العربي" اغتيل في اليوم نفسه رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية. اتصلت الشرطة البريطانية برياض الريس وقالوا له: يوجد شخص هنا جاء من إسرائيل يقول إنك أنت من دعاه. ذهب الريس برفقة درويش إلى مقر الشرطة فإذا هو سميح القاسم. قال لنا: يعتقدون أنني من اغتال ناجي العلي. علاقة الريس بدرويش لم تبدأ كما ذكرنا بالنشر بل بأنشطة لندن. لكنها منذ التسعينات أخذت مساراً آخر: "كان محمود استقر بين باريس وعمّان، في منتصف التسعينات، كان ينشر في أمكنة عدة. اقترحت عليه أن نتولى نحن كشركة نشر عملية إصدار كتبه المنشور منها وغير المنشور. أعتقد أن كتب درويش في السنوات العشر الأخيرة كانت أنجح عملية نشر لأي شاعر أو كاتب، ونحن فخورون بهذه الفرصة التاريخية التي أتيحت لنا. في هذه المرحلة توطدت العلاقة الشخصية بيننا حتى وصلت إلى هذه المرحلة الرائعة من الحب والأخوة". حين كان درويش يزور بيروت لم يكن يجلس في المقاهي. معظم جلساته كانت في البيوت، ولا سيما في بيت رياض الريس. كان يُدعى إلى هذه السهرات عدد قليل من الأصدقاء من بينهم جودت فخر الدين، بول شاوول، حسن عبدالله، حسن داوود، شوقي بزيع، عصام العبدالله، عماد العبدالله وغيرهم. "كان يستلطف عماد العبدالله كثيراً لخفة دمه ـ يقول الريس ـ وكان يمزح بالسؤال مثلاً: ماذا تفعل؟ أكتب الشعر. ما اسمك: ناظم السيد مثلاً. عندها يعلق على الفور: غير صحيح، ينبغي لكي تكون شاعراً أن يكون اسمك ناظم السيد العبدالله. عموماً، كان يحب الناس اللطفاء، وكان يميز الغث من السمين، والمدّعي من الفهيم، وثقيل الدم من خفيف الدم. لكنه كان دمث الأخلاق لدرجة كنت أسأله: كيف تستطيع تحمل هذا الغليظ؟". ويستطرد رياض الريس حول أجواء تلك السهرات: "في الأماكن الخاصة ـ كما تعرف ـ تحدث النميمة. وفي النميمة الكثير من الطرافة إذا كان المشاركون واسعي الصدور. أما إذا كانوا مرضى نفسيين فيختلف الأمر. في هذه الجلسات كانت تحدث معارك حول الشعر الموزون وشعر التفعيلة وقصيدة النثر لدرجة يُصاب الجميع بالملل. كان أيضاً يحب النبيذ، وكان يعتقد أن النبيذ الأحمر يقوّي القلب. أنا كنت من شاربي الفودكا. وكان هو يزجرني على تخلفي في شرب الفودكا. يقول لي: سر انهيار الاتحاد السوفييتي هو شرب الفودكا، وأنت ستنهار مثل الاتحاد السوفييتي إذا بقيت تشرب الفودكا لأنه شعبوي بينما النبيذ أرستوقراطي". بورتريه الرجل الوحيد في حين ينكر فواز طرابلسي مزاجية محمود درويش كما يُشاع، يؤكد أنه كان "نقيض الصورة النمطية عن الشاعر: منتظم، دقيق بمواعيده، يسيطر على وقته. إذا كان مزاجه- مثل كل الناس- عكراً، لا يظهر على الآخرين. لديه ما يكفي من الذكاء والدبلوماسية ليتغلب على أي موضوع بنكتة. محمود شخص خجول. في النهاية هو شاعر وفرد استثنائي وليس قائداً سياسياً. مع ذلك لا يفوّت طلباً من طلبات المعجبين. يعيش حياة اجتماعية وفيرة. ربما له عدد محدود من الأصدقاء مثل كل الناس. أحياناً ينتخب أصدقاء محددين ومفاجئين وليسوا شعراء بالضرورة". أسأل طرابلسي عن نسائه فيقول: "علاقته بالنساء خاصة وحميمة. المرأة تلعب دوراً في شعره. له علاقات نسائية عديدة أمر مؤكد. زيجاته مختصرة وقصيرة (تزوج بعد انفصاله عن رنا قباني المصرية حياة بلحيني في الثمانينات). وبالتالي فإن حياته الخاصة عبارة عن علاقات طويلة مع النساء. لكن القراءة الفعلية لعلاقاته بالنساء هي شعره". بطريقة قريبة يصفه الياس خوري مع بعض التنويعات: "محمود درويش رجل مهذب ولطيف ودمث. كان يحب المزاح كثيراً. يحب النكات كثيراً. والنكتة عموماً تكون عدوانية. كان يحب الأكل. أطيب طبخة فاصوليا في حياتي أكلتها عنده، وكذلك كتف الخروف. كان يجيد الطبخ. أيضاً يحب النبيذ الفاخر. طبعاً هو متوتر كثيراً. لكن لهذا التوتر أسباب منها وحدته. تصرفاته وطقوسه وعاداته بناء على رجل وحيد. لم يكن يخبر عن علاقاته النسائية. عموماً كان يخجل ويضيق صدره بالمعجبين ويملُّ من الأضواء رغم أنه يحب الأمسيات الناجحة". بعكس طرابلسي وخوري، يرى أنيس صايغ أن محمود درويش "كان مزاجياً كأي شاعر. يحب الناس لكنه لا يحب الكثرة في الجلسات. يحب الكثرة في الأمسيات الشعرية. كان يهرب من الدعوات. ذات مرة دعاه صديق إلى عشاء، حين دخل بيته ووجد عجقة خرج من باب المطبخ من دون أن يودّع صاحب الدعوة. مرة أخرى كان مدعواً إلى أمسية شعرية في دمشق، فإذا بي أفاجأ به الساعة التاسعة ليلاً في بيروت، لأعرف أنه دخل القاعة، نظر من خلف الستار، ثم عاد إلى بيروت من غير أن يقرأ في الأمسية. عموماً، يكون محمود درويش مكتئباً في الصباح. أعني حين يأتي صباحاً إلى مكتبه. كان زملاؤه يتضايقون من ذلك. وكنت أقنعهم بأنه شاعر كبير وعلينا تقبّل هذا الأمر. لكنه عند الساعة الحادية عشرة تقريباً، كنا نلتقي في غرفة الطعام في مبنى مركز الدراسات الفلسطيني فنشرب القهوة أو الشاي، لأنه كان من الممنوع تقديم هذه الأشياء في المكاتب، باستثناء مكتب محمود درويش، عندها كان يأتي منشرحاً وفرحاً. شخصياً، اعتدت على محمود ربما لأنني كنت معتاداً على أخي توفيق صايغ". وبعد، هذه بيروت محمود درويش التي منحته نفسها كما سواه. في هذه المدينة خرج صوته بأصوات آخرين بينهم مارسيل خليفة وماجدة الرومي وخالد الهبر وأحمد قعبور. والطريف أن مارسيل خليفة ظلَّ يلحن أغاني درويش سبع سنوات من غير أن يتعرف عليه شخصياً مع أنهما كانا يعيشان هنا. وهنا صارت كلمات الشاعر أوسع وعلى كل شفة مع أغانٍ مثل "أحن إلى خبز أمي" و "جواز السفر" و "سلام عليك"، "حاصر حصارك" و "ريتا" و "وعود من العاصفة" و "نشيد السلام" الذي غنته ماجدة الرومي لكن الموت لم يمنحه فرصة سماعه. هذه مدينته التي قال فيها في احتفال في فندق البريستول نظمه له رياض نجيب الريس: "في كل مرة أزور بيروت لا أستطيع التحرر من حبها في علاقة يكتنفها الكثير من الالتباس والتأويلات والتناقضات. ولكن أحب بيروت وأرى فيها ما أريد. وأن يرى المرء ما يريد ليس خداعاً للنفس بل هو موقف. أرى في بيروت القدرة على تجديد حيوية الأسئلة والنقد والنقد الذاتي. أرى فيها صناعة الكتاب الأرقى في العالم العربي. أرى فيها منابر الحوار وهوامش الاختلاف. أرى فيها تمكن ثقافة الديقراطية على المشترك وتعايش الأضداد. أرى فيها تعايش الماضي مع المستقبل وسجال التعددية مع الحصرية. وأرى في بيروت القدرة على المقاومة. وأرى في بيروت ما لا تحبه بيروت".
لم يمرَّ محمود درويش في بيروت. تقول سيرته الحياتية والشعرية إنه أقام في وطن بديل يُدعى لبنان. وحين خرج من هنا خرج إلى المنفى. بخروجه من بيروت أضاف انسلاخاً آخر لا يقلُّ تراجيدية عن انسلاخه من وطنه الأول، من طفولته الأولى، من مكانه اللصيق. صحيح أن علاقة درويش بلبنان ظلت علاقة ملتبسة بين الحب واللاحب، بين الإقامة والمغادرة الاضطرارية، بين النضج والولادة الثانية، لكن الثابت أن هذه المدينة، جذبت إليها الشاعر بتعويذاتها العصية على القراءة والفهم. كان محمود درويش يميز ما بين لبنان وبيروت. لبنان كان بالنسبة إليه كياناً للبنانيين. بيروت كانت مدينة العرب. لم تكن عاصمة لبنان بقدر ما كانت عاصمة العرب، عاصمة المنفيين قسراً وطوعاً، المكان الذي يفعل فيه الاختلاط فعله السحري. وأكثر من ذلك: كانت بيروت حاضنة المقاومة الفلسطينية. هنا أقام الفلسطينيون دولتهم المؤقتة. هنا تشاجروا وتصارعوا وقُتلوا وقتلوا بين أعداء دائمين وأعداء متنقلين. وهنا أيضاً وجدوا من يضاهيهم في فلسطينيتهم، من يزايد عليهم ومن يتفوق عليهم معاً. هكذا كانت بيروت فلسطيناً أخرى لشاعر غدا رمزاً فلسطينياً، وغراماً آخر لشاعر لم تأخذ منه الأرض عشقه النسوي، وسجالاً آخر لشاعر كانت قصيدته سجالاً مع الآخرين ومع الذات خصوصاً.
خطوات الطفل جاء محمود درويش إلى لبنان ثلاث مرات: قسراً وطوعاً وحباً. في المرة الأولى هرب مع عائلته من قريته البروة في الجليل بعد نكبة عام 1948. وقتها كان عمره ست سنوات. مشت العائلة إلى قرية رميش قرب مدينة بنت جبيل سيراً على الأقدام. وهناك نام ليلته الأولى قرب بركة القرية قرب الخنازير والأبقار. أكملت العائلة مسيرتها إلى صور حيث قطف التوت ومنها إلى جزين. في جزين )شمال صيدا) رأى الثلج للمرة الأولى، ورأى الشلال للمرة الأولى. رأى التفاح يتدلى من الأغصان، وكان من قبل يعتقد أن التفاح "ينبت في الصناديق" كما ذكر في كتابه "ذاكرة للنسيان" الذي كتبه في باريس عام 1985 خلال 90 يوماً، وتحدث فيه عن علاقته ببيروت ويوميات الحصار في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. يذكر الروائي اللبناني الفلسطيني الهوى والممارسة الياس خوري رحلة قام بها مع الشاعر وباسكال فغالي وماهر جرار إلى جزين: "كان يبحث عن ذكريات الذاكرة، في البلدة اللبنانية التي جاءها في السابعة من عمره. مشينا في الطرق لكننا لم نهتد إلى البيت الذي عاشت فيه العائلة. وسط البحث التفت إلي وقال: بلاش ذكريات، الكبة النية أفضل من الذكريات. وذهبنا إلى مطعم يشرف على واد سحيق، وأكلنا الكبة، وشربنا العرق البلدي، واستمعنا إلى حكايات الكبة النيئة الجليلية التي تصنعها حورية، والدة الشاعر".
أقامت العائلة فترة قصيرة في جزين لتنتقل بعدها إلى الدامور (بين بيروت وصيدا). حين كبر الطفل السابق لم يذكر من الدامور إلا البحر وبساتين الموز. حين جاء للمرة الثانية إلى لبنان، نزل في الفندق في شارع الحمرا، وضع ثيابه في الخزانة، هبط إلى الشارع، أوقف سيارة تاكسي، وقال للسائق: خذني إلى الدامور. في بيروت، ركب ابن السنوات الست الترام (ساحة البرج) للمرة الأولى أيضاً. ضاع في جولته تلك، ظلَّ في مقعده إلى أن عاد الترام إلى محطته الأولى. هناك لاقاه جده واحتضنه بقوة. رحلة صغيرة كانت تمريناً على الضياع. الأحرى كانت استعادة بريئة للمنفى الذي سيصاحب الشاعر من مكان إلى مكان.
بعد سنة واحدة أمضاها الطفل في لبنان عاد خفية إلى فلسطين: "قيل لي في مساء ذات يوم... الليلة نعود إلى فلسطين. وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل. في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟ ولكن أين هي؟ لقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدّمت وحرقت". بعدما اكتشف الطفل هذه الحقيقة، حقيقة بناء بلدة يهودية مكان البروة اسمها أحيهود وكيبوتس اسمه يسعور، سكن سراً في بلدة دير الأسد (شمال بلدة مجد كروم في الجليل) وهناك درس الابتدائية، قبل أن ينتقل إلى قرية كفر ياسيف لدراسة الثانوية، لتستقر العائلة أخيراً في قرية الجديدة. وهناك عاش درويش حياته الجديدة كلاجئ فلسطيني داخل فلسطين، لينتسب لاحقاً (1961) إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح" الذي تأسس بعد خروج العرب، ونحو مئتي يهودي من الحزب الشيوعي السابق، وذلك على أثر صراع داخلي بعيد ظهور "منظمة التحرير الفلسطينية" صيف 1964.
وقتها عمل درويش في منابر الحزب الإعلامية: صحيفة "الاتحاد" ومجلتي "الغد" و "الجديد". وقد سجن الشاعر ثلاث مرات في الأعوام 1961، 1965، 1967، بسبب خرقه حظر التحرك داخل بلده. وفي عام 1970 سافر إلى موسكو ليدرس الاقتصاد السياسي، فلم يجدها "جنة" كما تخيلها ابن التربية الشيوعية، فغادرها إلى مصر عام 1971 حيث عمل في صحيفة "الأهرام" وقد سبقته شهرته إلى هناك بعدما كان الناقد الفلسطيني محمد خالد البطراوي جمع مجموعة من صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، تضم قصائد لكل من توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، وسلمها للروائي الفلسطيني غسان كنفاني الذي أطلق على هؤلاء الشعراء لقب "شعراء المقاومة". كما كان الناقد المصري المعروف رجاء النقاش نشر كتاباً عام 1969 بعنوان "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة". ولم يطل مكوث الشاعر في القاهرة، ليس بسبب كتابة الناقدة فريدة النقاش مقالاً تلومه فيه على تركه فلسطين، وإنما بسبب عرض فلسطيني أتاه من بيروت. على كل حال، "كان هناك موقف لدى عرب الخارج يعتبرون فيه أن فلسطينيي الـ 48 خونة، بدل اعتبارهم مناضلين. من غادر وطني، ومن تثبت بأرضه خائن. هذا موقف جرت مراجعته ضمناً. لم يكن اللوم يقع على محمود درويش فقط، بل على مئات الألوف من الذين كان ينبغي لهم ترك بلادهم" بحسب صديقه، أحد مؤسسي "منظمة العمل الشيوعي"، الكاتب فواز طرابلسي.
في كل حال، هناك من كان يلوم أيضاً الفلسطينيين الذين يغادرون كما جرى لدرويش نفسه، يعني الفلسطيني عرضة للوم سواء غادر بلده أم بقي فيها. لهذا يعتقد طرابلسي أن "مشكلة محمود درويش كانت مع الحزب الشيوعي، ولا سيما بعد حادثة بلغاريا (يوم سار الشاعر تحت العلم الإسرائيلي أثناء وجوده في مؤتمر للشبيبة العالمية في صوفيا مع وفد من الحزب الشيوعي الإسرائيلي ضم أيضاً سميح القاسم). كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي متعهداً خدمة دولة إسرائيل، لهذا غادره درويش للالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية (التحق بها عام 1973) التي كانت أرقى بالطبع من الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يشبه نقابة للدفاع عن العرب في إسرائيل".
دخول بيروت عام 1972 كان أنيس صايغ في القاهرة للمشاركة في أحد المؤتمرات بوصفه مديراً عاماً لمركز الأبحاث الفلسطيني. وهناك "تمنى" على صديق له يقيم في مصر أن يرتب له موعداً مع محمود درويش ليقنعه بالانتقال إلى بيروت للعمل في مجلة "شؤون فلسطينية" التي صدرت عام 1971، وكانت أول مجلة عربية شهرية متخصصة بالمسألة الفلسطينية. "وقتها كانت الرواتب ضئيلة جداً". كان صايغ يخشى ألا يقتنع درويش بهذا الانتقال. وهكذا ذهب إلى بيته، وحين دخل كان الشاعر "يودع الفنانة وردة الجزائرية على الباب". المفاجئ أن درويش "أبدى استعداده للمجيء إلى بيروت فوراً، تاركاً لي التفاصيل وتحديد الموقع" يقول صايغ. هكذا انتقل إلى العاصمة اللبنانية مستشاراً لرئيس تحرير "شؤون فلسطينية" قبل أن يصبح عام 1974 نائب المدير العام لمركز الأبحاث الفلسطيني.
حين وصل درويش إلى بيروت انتقل ما بين شقق مفروشة عدة قبل أن يستقر في شقة مستقلة. نزل بداية في مبنى ستراند في شارع الحمرا حيث كان مقهى ستراند سابقاً. انتقل بعد ذلك إلى عمارة دبوس المؤلفة من 11 طبقة، قرب المعهد البريطاني سابقاً، أي في شارع متفرع من الحمرا (شارع جاندارك). في فترات الحرب انتقل إلى فندق "وايت بالاس" المحاذي للبناية التي يسكن فيها أنيس صايغ حيث سكن في شقة مفروشة. الفندق نفسه سكن فيه رئيس المجلس النيابي الأسبق كامل الأسعد عام 1981 قبل انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. "ربما اطمأن إلى الحراسة التي كانت حول منزلي" يقول صايغ معلقاً على هذا الانتقال، قبل أن يستطرد واصفاً شقته في بناية دبوس: "كانت شقة صغيرة، غرفة نوم وصالون وسفرة، بسيطة لكنها أنيقة. محمود بطبيعته أنيق. لم يكن بوهيمياً كما هي حال الشعراء. كان يختار ألواناً معينة ومتناسقة. يحب اللون الأزرق. يحب البحر والسماء. كل ما له علاقة بالصفاء. في تونس مرة جاء ببدلة زرقاء أعجبتني. سألته من أين اشتراها. لم يخبرني لئلا أشتري مثلها كما قال ممازحاً. في مركز الأبحاث كان يأتي أنيقاً ومنضبطاً. مكتبه دائماً نظيف ومرتب. في المركز القائم في شارع كولومباني (متفرع من شارع السادات الملاصق للحمرا) كان مكتبه في الطابق الخامس قرب مكتبي، لا يفصل بيننا إلا غرفة السكرتيرة". يبدو أن الشاعر كان حريصاً على ألا يلبس أصدقاؤه ثياباً مشابهة لثيابه. في إشبيلية كان فواز طرابلسي برفقة الشاعر مع الباحث الفلسطيني الياس صنبر. "دخلنا متجراً للألبسة ـ يقول ـ وقد اختار كلٌّ منا، من غير انتباه، السترة الجلدية نفسها التي اختارها الآخر. لم يرق لمحمود التشابه، فلم يطل به الأمر حتى أهدى سترته إلى أحد الأصدقاء". هذه الأناقة يؤكدها أيضاً الشاعر بول الشاعر الذي لم تكن تربطه علاقة شخصية بدرويش في البداية. "كان جاري. مطبخ بيتي يطل على مطبخ بيته في شارع جاندارك. كل يوم أحياناً كنت أراه صباحاً يحضّر القهوة. كان أنيقاً في الأكل والثياب. يحب الحياة بأناقة".
"تعرفت إليه ـ يقول الياس خوري ـ عام 1972 عندما كنت في مركز الأبحاث الفلسطيني. كان هو يكتب مقالاً شهرياً بعنوان "إسرائيليات" بينما كنت أكتب مقالاً بعنوان "ثقافة". ثم صرنا صديقين. كان هو في الطابق الثاني وأنا في الطابق السادس. بعد ذلك أصبح في الطابق الخامس. ثم انتقلنا معاً إلى الطابق السادس. في مرحلة لاحقة انضممنا إلى هيئة تحرير مجلة "مواقف" التي يصدرها أدونيس. كنا نقيم اجتماعاً أسبوعياً يضم عدداً من المثقفين أمثال هشام شرابي ومنى السعودي وخالدة سعيد وكمال بلاطة وكمال أبو ديب وسمير صايغ. كنا أصدقاء أكثر منا هيئة تحرير. نجتمع في بيت أدونيس في الأشرفية كل أحد. بعدها تزوج رنا قباني (ابنة أخ الشاعر نزار قباني) مدة ثلاث سنوات. لكن التطور الأساسي بيننا حدث في الحرب الأهلية. عملياً استلمنا المجلة ("شؤون فلسطينية") والمركز. أصبح هو مديراً عاماً وصرت أنا نائب المدير العام للمركز، أما المجلة فكان هو يشغل موقع رئيس التحرير بينما شغلت أنا موقع سكرتير التحرير".
مع المؤسسات الفلسطينية كيف أصبح محمود درويش مديراً عاماً لمركز الدراسات الفلسطيني؟ لهذا أيضاً قصة مثلما هناك قصة لتركه المركز و "شؤون فلسطينية". كان المدير العام السابق أنيس صايغ على خلاف مع عرفات منذ عام 1969. بعدما حاول الإسرائيليون اغتياله عام 72، رُشح لرئاسة مركز الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، لكنه رفض الذهاب إلى القاهرة لئلا يُقال إنه هرب جبناً. عندها قال لعرفات: "عليك أن تتحملني، وعليَّ أن أتحملك". إلى أن جاءت سنة 1976 فانفجر الخلاف بين عرفات وصايغ الذي قدّم استقالته من المركز التابع أصلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. انتظر عرفات سنة قبل أن يحل درويش مديراً عاماً للمركز، لكن "الضغوطات السياسية، والأهم مزاج الشاعر" بحسب صايغ جعلته يقدّم استقالته. أقنع درويش عرفات بتعيين صبري جريس مكانه، بينما اكتفى هو برئاسة تحرير "شؤون فلسطينية".
كما يرى الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر أن محمود درويش "منح المجلة نفساً أدبياً بعدما كانت تقتصر على السياسة والأبحاث. منحها الابتهاج بعدما كانت متجهمة". عرف أبو فخر درويش عام 1972 فور وصوله إلى لبنان: "كنت أسير ليلاً مع صديق عائدين من الروشة إلى الحمرا مشياً. في شارع كاراكاس، سمعنا وقع أقدام خلفنا. التفت فإذا به محمود درويش. توقفنا جانباً ريثما يصل. وحينما بات قربنا اقتربت منه وقلت: مرحبا أستاذ محمود. قال بجفلة ودهشة: أهلاً. عرّفته إلى نفسي، وكنت وقتها طالباً في الجامعة، ثم سرنا معاً قليلاً. وعندما أراد الافتراق، قال لي: لقد أرعبتني. يا أخي أنا ماشي بالليل، اتنين قدامي، يلتفتان إلى الوراء ثم يقفان إلى جانب الطريق. كان يعتقد أننا نريد قتله أو اختطافه. لكنه لم يتراجع على خوفه. قال: فكرت في التراجع لكنني أقدمت وأنا خائف". في هذه السنة كانت إسرائيل قد اغتالت عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الروائي غسان كنفاني. كما حاولت اغتيال أنيس صايغ عبر طرد بريدي. وكذلك بسام أبو شريف.
ما بدا خوفاً غير مبرر في حادثة صقر أبو فخر، بات خوفاً حقيقياً في لحظات أخرى. بعد محاولتي اغتيال مرة بإصبع ديناميت عام 1971 ومرة بطرد مفخخ عام 1972 أرسل لأنيس صايغ، وضعت سيارة تحتوي على ثلاثة صواريخ موجهة مقابل مركز الدراسات الفلسطيني في 12/ 12/ 1974. في الساعة الثامنة والنصف انطلقت الصواريخ كما يخبر صايغ. صاروخ أصاب شقة سكنية في المبنى في الطابق الرابع، صاروخ أصاب مكتبة المركز والصاروخ الثالث أصاب مكتب المدير العام. نجا صايغ بأعجوبة، ونجا محمود درويش أيضاً لأنه كان يأتي إلى المركز في الساعة التاسعة صباحاً.
في كل حال، لنعد إلى قصة درويش مع المؤسسات الثقافية الفلسطينية في لبنان. لقد استمر في عمله في "شؤون فلسطينية" حتى سنة 1979. في هذه السنة نشر العاملون في المركز مذكرة، بتوقيعاتهم، في مجلة "الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين" في بيروت، ضد تصرفات مدير المركز الجديد صبري جريس، فأرسل مستشار عرفات فاروق القاضي، قوة من حرس الرئاسة (القوة 17). استجوب وقتها الروائي الياس خوري بعدما جُلب للتحقيق. أوسع درويش القاضي شتماً، لكن رسالة شفهية وصلته من عرفات عبر رئيس تحرير أسبوعية "فلسطين الثورة" أحمد عبد الرحمن، تقول بتمني عرفات مثول العاملين في المركز أمام القاضي، حفاظاً على ماء وجه أبو عمار. وبحسب الياس خوري فقد تدخل وقتها أبو جهاد وأبو إياد لإنهاء المسألة، وبعد ذلك بعث أبو عمار للقاء خوري وطلب منه عدم الاستقالة. مع ذلك، قدّم محمود درويش استقالته مع الياس خوري. درويش هجر بيروت إلى باريس حيث كتب في أسبوعية "الوطن العربي"، وكانت أول قصيدة نشرها في المجلة بعنوان "رحلة المتنبي إلى مصر" شبّه فيها نفسه بالمتنبي، وبيروت بمصر، وعرفات بكافور الإخشيدي: "أبيع القصر أغنية/ وأهدمه بأغنية". أما الياس خوري فهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث درّس في جامعة كولومبيا ليعود إلى بيروت رئيسَ تحريرٍ للقسم الثقافي في صحيفة "السفير".
إلى جانب القائد العام علاقة محمود درويش بعرفات كانت من أكثر المآخذ التي أخذها أعداؤه على الشاعر. كانت علاقة بين رمزين، يُعدان من أكثر الرموز الفلسطينية شعبية. ولم يُجمع الفلسطينيون على شخصية مثل إجماعهم على عرفات ودرويش باستثناء ربما جورج حبش. صديقه فواز طرابلسي الذي تعرّف إليه في منتصف السبعينات خلال ندوة من ندوات مركز الدراسات الفلسطيني، ثم طلب منه الكتابة لاحقاً في "الكرمل" لأنه كان يعتبره، هو الكاتب السياسي، "مصاباً بشذوذ أدبي"، هذا الصديق يصف علاقة درويش بعرفات على النحو الآتي: "أبو عمار كان يشبه الأب بالنسبة إلى محمود. علاقة أب بولد ذكي ومتمرد. هذه العلاقة الأبوية العاطفية كانت معززة بالتزام واعٍ عند محمود بمنظمة التحرير الفلسطينية. في النهاية هو نتاج حركة تحرر وطني، وبالتالي فإن التزامه بمنظمة التحرير هو التزام بحركة تحرر وطني. ثم إنه كان على صلة بكل التنظيمات الفلسطينية. عند الانشقاق الفلسطيني (عام 1984) لم يكن مع جماعة الرفض بل من دعاة الدولة الفلسطينية. ورغم أنه قدّم استقالته بعد أوسلو 1993، إثر خلاف مدوٍّ مع عرفات على هذا الاتفاق، بقي على علاقة بمنظمة التحرير مع عدم تحمّل مسؤوليات لأنه لم يكن مقتنعاً بأشكال وطرق صياغة المعاهدة. يجب القول هنا إن هذه العلاقة كانت صعبة لأنه عاش بكثير من التوتر بسبب رغبته في الموازنة ما بين الالتزام العام كمثقف فلسطيني وبين الاستقلالية الشخصية. أعتقد أن إسهامه الرئيسي في السياسة ما عدا الشعر، كان مجلة "الكرمل". وربما كان عيشه في باريس تأكيداً على خلق مسافة عن منظمة التحرير الفلسطينية".
"حضر ياسر عرفات عرسه الأول" ـ يقول الياس خوري ـ "وكان ياسر عرفات يزوره في البيت. كانا صديقين. كان هناك تنافس بين الاثنين على من هو رمز فلسطين. كان محمود درويش إلى جانب عرفات باستثناء أوسلو، وهو من ساهم في كتابة "وثيقة الاستقلال" (أقرها "المجلس الوطني الفلسطيني" بالإجماع في 15/ 12/ 1988)". في انشقاق فتح عام 1984 رفض درويش الانشقاق وبقي مع عرفات. عموماً، الناس يحبون محمود درويش أكثر من القيادات الفلسطينية".
في كل حال، يذكر شفيق الحوت في مذكراته "بين الوطن والمنفى" أن عرفات رفض نص الوثيقة التي كتبها درويش "لعدم تقيدها بحرفية النص على الرغم من رفعة لغتها. ويرى الحوت الذي مثل منظمة التحرير الفلسطينية مع محمود درويش في أكثر من مناسبة دولية منها مؤتمر الإسكان في فانكوفر في كندا عام 1976 وقمة دول عدم الانحياز في نيودلهي في السنة نفسها، يرى أن هذه الوثيقة "دعت إلى قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف"، لكنها حملت "تلميحات واضحة تتعلق بتنازلات تاريخية عن بعض حقوقنا الوطنية، وفي مقدمها تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني". كما هاجمت هذه الوثيقة الفصائل الفلسطينية الراديكالية. وهذا ما يستدركه الياس خوري بقوله " بعض الإسلاميين (حماس تحديداً) اتخذ موقفاً من درويش بسبب نصه عن انقلاب غزة، مع أنه كان دائماً يرى إلى السياسة من منظور كبير، على مستوى فلسطين".
العلاقة بين القائد العام و "الشاعر العام" كما أطلق عليه الشاعر معين بسيسو بعدما ألقى درويش قصيدته "كان ما سوف يكون" في رثاء راشد حسين في مؤتمر اتحاد الكتاب الفلسطينيين الذي عقد في الجزائر عام 1977. "كان مزيجاً من الغيرة والخبث والإعجاب يقف خلف إطلاق هذه المداعبة" بحسب الياس خوري، هذه العلاقة يراها رفيق دربه أنيس صايغ على طريقته في الكلام": علاقة محمود درويش بياسر عرفات تشبه علاقة شفيق الحوت بعرفات: حب مع عدم إخفاء انتقادات له. شفيق الحوت ينتقد عرفات في مذكراته لكنه يحبه في الوقت نفسه. لم يكن محمود درويش قبل سنة 1980 يدافع عن عرفات ولم يكن ينتقده. لكن عرفات كان يحب محمود أكثر. كان الابن المدلل بالنسبة إليه. لهذا السبب ربما يأخذ عليه بعض معارضي عرفات. بدا هذا واضحاً للأسف بعد موت محمود. بعضهم لم يشارك إطلاقاً في ذكره أو الكتابة عنه. لم يكن محمود عرفاتياً لأنه لم يوافق على سياسة عرفات موافقة كاملة. مثلاً اتفاق أوسلو. محمود كان مع مبدأ التفاوض مع إسرائيل، لكنه ضد المفاوضات التي أنتجت اتفاق أوسلو. كان يعتقد أن هذه المفاوضات غير حكيمة وفاشلة وأدت إلى التفريط بحقوق كان من الممكن عدم التفريط بها". وبحسب صايغ لم يكن درويش "فتحاوياً". الآخرون لم يعتبروه هكذا. "لكنه كان يقيم علاقات يتحكم بها مزاجه. كان يميل إلى قيادات دون أخرى بصرف النظر عن يسارية هذه القيادات أو يمينيتها".
مسألة أخرى يثيرها أنيس صايغ حول شاعر المقاومة الفلسطينية: "كان يُؤخذ عليه أنه بعيد عن المخيم هو صاحب "سجل أنا عربي". هناك نظرة ضيقة عند بعض الفلسطينيين من قيادات، تعتبر أن علاقتك بالمخيم هي علاقة موقع جغرافي. ما دمتَ موجوداً في المخيم أو زائراً له فأنت أقرب إلى الثورة الفلسطينية من الذي يقيم خارجه. ومحمود لم يكن مقيماً ولا زائراً. كان يُحكم عليه أنه بعيد عن الجماهير، لكن الجماهير لم تكن تنظر إليه على هذا النحو".
"الكرمل" كتعويض وجد محمود درويش في بيروت خصومات سياسية وثقافية، مثلما وجد أرضاً مؤهلة لقصيدته، سواء بالمعنى السياسي أو بالمعنى الجمالي. في السياسة، كانت بيروت بداية السبعينات مكاناً للثورة الفلسطينية التي انتقلت من الأردن إلى هنا بعد اتفاق القاهرة عام 1969. هنا كان اليساريون أيضاً الذين وجدوا في الثورة الفلسطينية معادلاً ليساريتهم ومناداتهم بالتحرر السياسي والاجتماعي. لكن بيروت أيضاً كانت مدينة اليمين اللبناني ومدينة الحداثة الوافدة من الغرب ومدينة الأهواء الأدبية والفنية والتبرّم من كل التزام. لكن خصومات درويش الفعلية لم تكن مع اللبنانيين، ولا سيما أن بيروت بسبب تناقضاتها الكثيرة، كانت تستوعب كل وافد إليها على ميوله السياسية والفكرية. كانت الخصومات غالباً مع فلسطينيين منافسين. كان الشاعر نشر في مجلة "اليوم السابع" رسائل متبادلة مع مواطنه سميح القاسم. لكن بوصول درويش إلى بيروت حدث خلاف بين الاثنين انتقل إلى سجال حاد على صفحات الجرائد. "عانى محمود درويش من العنصرية اللبنانية.
لم يكن كل اللبنانيين محبين له. ثم كان هناك عداء من بعض الفلسطينيين، ولا سيما من حماس مؤخراً. حماس تتقبل التهاني بنفوق محمود درويش. هذا ما كتب في الصحافة. لكن هذا الأمر حدث مؤخراً. في البداية كان ثمة تنافس بينه وبين معين بسيسو وسميح القاسم. وزاد من غيرة البعض انتشاره الكبير وشهرته الواسعة. كثيرون كانوا يحسدونه على هذه الشهرة ويغارون من وجهه الجميل. كان يُنظر إليه من قبل عديدين على أنه بطريرك. يعني يمكن أن يطوّب شاعراً ما. لهذا كان يتردد في إعطاء رأي كفاءة في شاعر ما، مع أنه كان مجاملاً لئلا يجرح أحداً. كان يقول لي: أنا لا أكتب النقد لئلا أجرح أحداً". هكذا يرى الأمر الكاتب المعروف والناشر الشهير رياض نجيب الريس. بالنسبة إلى صقر أبو فخر "لا أحد ينافسه على المستوى الفلسطيني بالمعنى الإبداعي. كان هناك معين بسيسو، لكن هذا الأخير كان يُغرق في قصائده السياسية المباشرة، بينما كان درويش يرتقي بلغته الشعرية نحو اللغة الصافية. ربما هناك عداوات سياسية على خلفية اتهامه بخروجه من فلسطين. أصحاب العقول القومية كانوا يذكرونه دائماً بأنه مشى تحت العلم الإسرائيلي في صوفيا". في كل حال، لم تكن المنافسة مع معين بسيسو سراً. الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين (مجلة الهلال، أيلول/ سبتمبر 2008) تحدث عن هذه المنافسة: "اعترض درويش على تمويل عرفات لمعين بسيسو، حتى يصدر مجلة ثقافية شهرية، باسم "دفاتر فلسطينية"، واقتنع عرفات بالاكتفاء بشهرية "شؤون فلسطينية". وكان عرفات يؤجج في ذلك المعركة بين الشاعرين". ويسرد الباحث حادثة الوفد الشعري الفلسطيني إلى يوغسلافيا برئاسة بسيسو عام 1979: "أرغى درويش وأزبد، وتجلت ذاتيته، على نحو غير مسبوق. بينما اعتبر بسيسو نفسه المنتصر في معركة السباق على حضن عرفات". على كلٍّ، عاد عرفات وأرضى محمود درويش بعد حادثة اقتحام "قوة 17" مجلة "شؤون فلسطينية" و "مركز الدراسات الفلسطيني" والتحقيق مع الياس خوري، بأن أعطاه تمويلاً لتأسيس مجلة. هكذا عاد درويش إلى بيروت قادماً هذه المرة من تونس، ليؤسس مجلة "الكرمل" عام 1980، وليعين الياس خوري مديراً للتحرير. وفي سنة 1988 أصبح درويش عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، كما عيّنه عرفات مستشاراً له، إلى أن استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ليستقرَّ بعد سنة بين رام الله وعمّان، على قاعدة جملته "غيّرت موقعي ولم أغير موقفي".
التجربة المدينية أصيب محمود درويش بغرام بيروت ما إن جاء إليها. مدينة مجنونة يتصارع فيها كل شيء. دراما من التناقضات. حيوية يصنعها متطرفون ومتسامحون، يساريون ويمينيون، عروبيون وقطريون، جماعات وأفراد، مسحوقون ومترفون، مقيمون وعابرون. "كنت وقتها طالباً حين بدأت أكتشف الحياة الثقافية في بيروت ـ يقول صقر أبو فخر ـ حاولت التحرش بهذه الحياة. ومن حسن حظي أن كان لي أصدقاء في تلك الفترة كصادق جلال العظم الذي كان منزله (بناية أديسون شارع بلس) يجمع الكثير من مثقفي البلد. صحيح أن مجلة "شعر" كانت توقفت، لكن أدونيس كان لا يزال في بيروت. كانت لا تزال تستقبل محمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري. وكان هنا عمر أبو ريشة وخليل حاوي وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج. في هذا الجو جاء محمود درويش إلى بيروت التي احتفت به كشاعر مقاومة. وقد منحته المدينة الاحتكاك بالتجارب الشعرية والثقافات المختلفة. هذه المدينة هي التي أمدته ببداية التجديد في شعره، والتي عبر عنها في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا". الياس خوري بدوره يعتبر أن "تجربته البيروتية صقلته وفتحت أمامه آفاق التجريب الشعري. دخل في معادلة الغنائي الذي يتشكل في داخل البعد الملحمي".
منذ دخوله المدينة قرر درويش ربما التخلص من مرحلته الشعرية السابقة. في أول أمسية له في الأونيسكو، مع خليل حاوي وبلند الحيدري ونزار قباني ومحمد الفيتوري، بتنظيم من اتحاد الكتّاب اللبنانيين برئاسة الروائي والناشر المعروف سهيل إدريس، رفض درويش قراءة "بطاقة هوية" أو "سجل أنا عربي" بعدما طلبها الجمهور مراراً. وعندما أصر أحد الحاضرين رد درويش بانفعال: "سجل أنت". لاحقاً برر موقفه هذا بأن القصيدة لا معنى لها في ظل جمهور عربي، فقد كتبها أثناء وجوده في إسرائيل كتأكيد على هويته. كما أقام لاحقاً أمسيات جماهيرية في الجامعة اللبنانية في كلية التربية وكلية الحقوق وكلية الآداب وفي الجامعة العربية وغيرها من الأمكنة. ورغم جماهيريته كان يخشى الجماهير. يروي الياس خوري: "الطريف أنه كان يخاف قبيل الأمسيات الشعرية. كانت تلعي نفسه (يشعر بالغثيان) أو يرتجف ويضطرب. في البداية اعتقدت أنه يمزح. لكنني اكتشفت فعلاً أنه كان يخاف من المنبر".
وعن تأثير بيروت على محمود درويش يقول خوري: "انتقل من حيفا إلى بيروت بعد مرور قصير في القاهرة. يعني انتقل من مدينة صغيرة إلى مدينة مدنية حيث الأنماط المختلفة. نتائج عيشه في بيروت كتابه "محاولة رقم 7" الذي هو أول كتاب يختبر فيه التجريب كحصاد لعلاقته بهذه المدينة وثقافتها. لم يعمل في بيروت في الصراعات الثقافية، لكن صداقاته اقتصرت على مجلات "الطريق" و "الآداب" و "مواقف". عموماً، لم يكن جزءاً من التحزب الثقافي هنا. لا تنس أن بيروت كانت حاضنة العرب. تجربة بيروت لدى درويش هي مزيج من الغنائية القديمة والسياسة وتجريبية مجلة "شعر" كما أرى".
يوافق فواز طرابلسي وصف الياس خوري لعلاقة درويش ببيروت: "هي المدينة التي انتقل إليها بعدما ترك إسرائيل. إنها المدينة العربية لشخص لا يعرف ما هي المدينة العربية. جاء إلى بيروت في الفترة التي كان يحق فيها للغرب أن يطل على الشرق، ويحق للشرق أن يطل على الغرب. هي تجربة في الحداثة العربية بلا أدنى شك. من قبل كان محمود في عالم ليس فيه "الآداب" و "شعر". ثم إن هذه المدينة بالنسبة إليه هي التي احتضنت المقاومة الفلسطينية. وهنا تعرف على عرب من سوريين وعراقيين ومصريين وغيرهم من خارج إسرائيل. بيروت ليست المنفى وليست الوطن البديل. لم يستقر محمود بعد الخروج من بيروت. باريس كانت تجربة في المنفى والوحدة (كان طرابلسي صديقه أيضاً في باريس). محمود كان حساساً تجاه المدن، كانت علاقته بالمدن مرضية. ألخصه بعلاقة استثنائية بين "الأنا" و "هنا"، بين الجسد والمكان. طفل فصل عن قريته ولم يستطع الخروج من هذه الفكرة".
لم تكن بيروت تصنع الشعراء. كانت تحفّزهم فقط. تجعلهم أكثر جرأة. تمنحهم مدى ضمن نطاقهم الخاص. وهذا ما عايشه محمود درويش في بيروت. بالنسبة إلى الشاعر بول شاوول "كانت هذه المدينة مظلة للقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية. هذا الأمر أساسي في سياق الحديث عن محمود درويش قبل الحديث عن الأثر الأدبي لبيروت عليه. كان جزءاً من السجال بيننا وبينه بوصفه شاعر ثورة. طبعاً، لم يكن في بيروت السبعينات والثمانينات تحزب شعري. لم تكن المعركة في بيروت بل بين بيروت والمدن العربية الأخرى. كانت معركة قصيدة النثر حُسمت لصالح قصيدة النثر. انتقلت المعركة إلى داخل قصيدة النثر حول قضايا مثل الغموض والمجانية والهلوسة. انتقلت المعركة من الشكل إلى المضمون. والبعض خلط ما بين الغموض وقصيدة النثر. كان النقاش وقتها حول ما إذا كان الشعر للجماهير أم للنخبة، للوضوح أم للالتباس، للقراءة المتعددة والحفريات أم للطبقة الواحدة التي يتساوى فيها المثقف والعامل والفلاح. في كل حال، كان قدر محمود درويش الجماهيرية. هو ابن فلسطين وصاحب قضية وليس شاعراً أوروبياً يعيش مرتاحاً من الأزمات الوطنية والاجتماعية. محمود درويش مسيس بالمعنى العميق للكلمة. هو ابن أيديولوجيا، ابن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وابن منظمة التحرير الفلسطينية. الخلفية الفكرية والنضالية كانت تحرّك شعره. من هنا جاء إلى بيروت مجهزاً سياسياً وفكرياً وشعرياً. وكانت بيروت السبعينات في مرحلة التألق الكبير. كانت الطليعية العربية كلها هنا. جميع الهاربين من سجون الأنظمة العربية كانوا في هذه المدينة. ورغم أنه كان منحازاً إلى خلفيات شعرية معينة، إلا أن التعدد السياسي والفكري والأدبي والمسرحي تراكم داخله. جنون بيروت تراكم لديه. ثم إنه قارئ كبير. يقرأ كل يوم. يقرأ بالإنكليزية والعربية شعراً ورواية ومسرحاً. قراءاته الدائمة وقلقه عوامل تفسر هذا التطور الكبير في شعره".
"من دون أي تردد ـ يؤكد رياض نجيب الريس ـ كانت بيروت المدينة الأثيرة إلى قلب محمود درويش. مدينتان أحبهما كثيراً: بيروت وباريس. كان يتأفف من رام الله. أما عمّان فكانت بالنسبة إليه صغيرة. سكنه في رام الله كان بسبب وظيفته في السلطة الفلسطينية". يعود الريس بالذاكرة إلى بداية السبعينات للحديث عن محمود درويش الذي لم تكن تربطه صلة به في ذلك الوقت: "كانت تلك الفترة الأخيرة من مجلة "شعر". كان يوسف الخال ما زال حياً. وكانت "شعر" صدرت للمرة الثانية بعد توقفها للمرة الأولى بهيئة تحرير جديدة كنت أنا أحد أعضائها. لم يكن لجماعة "شعر" وتحديداً يوسف الخال بحسب ذاكرتي أي علاقة بمحمود درويش لأسباب منها البعد النفسي ومنها التوجهات السياسية المختلفة. معظم جماعة "شعر" كانت توجهاتهم السياسية تختلف عن توجهات الفلسطينيين. لكنهم جميعاً تقريباً كانوا يشعرون بحميمية تجاه شعر محمود درويش من دون أي صلة قربى. وقتها كانت الجماعة تبحث عن اسم بارز يحل محل أدونيس الذي أصدر مجلة "مواقف". كان يوسف الخال نشر في العدد الأول أول قصيدة لسعدي يوسف الشيوعي العراقي. لم يكن لـ "شعر" تحفظ على محمود درويش لكنه لم يكن ينتمي إلى هذه المجلة.
هذه انطباعات عن مشاعر ولت. عندما وقعت الحرب عام 1975، تفرق شمل الفلسطينيين واللبنانيين والشعراء. رحلت أنا إلى لندن. وبعدما انتقل محمود درويش إلى تونس، وكنت وقتها كثير الأسفار، التقيت به هناك. في السبعينات كانت معرفتي به تقتصر على الاسم، لأنني كنت بعيداً عن موضة من الأشطر في الارتماء في الحضن الفلسطيني. كان الجميع يسعى وصلاً بـ "ليلى الفلسطينية". توفي يوسف الخال عام 1987. كان صديقاً عزيزاً واكبته حتى فترة مرضه حين سافر للعلاج في لندن ثم باريس. عندما توفي الخال كنت في بداية دخولي عالم النشر عام 1986. وقد لمعت في ذهني فكرة إقامة "مهرجان الشعر العربي الأول" في لندن صيف 1987. كان هذا المهرجان تكريماً ليوسف الخال تحديداً، وقد دعونا إليه محمود درويش. في السنة التالية أقمنا "مهرجان لندن للثقافة العربي" الذي شارك فيه إلى درويش كل من نزار قباني وسميح القاسم وبلند الحيدري وأنسي الحاج ونخبة من الشعراء العرب الكبار، باستثناء جبرا إبراهيم جبرا الذي لم تسمح له السلطات العراقية بالمغادرة. منذ ذلك الوقت توطدت علاقتي بمحمود درويش".
الاجتياح يوقف معارك الشعراء هل فعلاً كانت بيروت بلا معارك أيام محمود درويش؟ ومنذ متى كانت بيروت بلا معارك؟ أليس العراك السياسي والثقافي والاجتماعي جزءاً من حيوية هذه العاصمة؟ ألم يكتب عباس بيضون في مجلة "مواقف" مقالاً يسخر فيه من مفهوم الثقافة الوطنية حمل عنوان "النص والواقع"؟ ألم تنقسم الثقافة إلى ثقافة وطنية وأخرى انعزالية؟ ألم يكن هناك نقاش حول دور المثقف الطليعي بتأثير من نظريات غرامشي وممارسات الأحزاب اليسارية؟ ألم يكن هناك سجال حول قصيدة الهامش والتفاصيل وقصيدة الظواهر والمجانية في الأدب من جهة وحول وظيفة الأدب والالتزام والقضايا الكبرى من جهة أخرى؟ ألم يكتب سليم بركات ملمحاً إلى نشوء المثقف الطائفي، غامزاً من طرف واحد فقط؟ ألم يكتب محمود درويش مقالاً نشر في "الكرمل" و "السفير" بعنوان "أنقذونا من هذا الشعر"؟ بلى. وقد انبرى وقتها شخصان للرد على درويش: بول شاوول وعباس بيضون. الأول رد في "النهار" والأخير رد في "السفير". بعد ذلك دخل الناقد السوري، القومي الهوى، محي الدين صبحي، على الخط ليرد على عباس بيضون بمقال نشرته "السفير" بعنوان "أجل، الشعر ديوان العرب". قرأ بيضون المقال في الملجأ لأن إسرائيل كانت قد بدأت اجتياحها وأنقذت الطرفين من معركة ربما كانت ستطول.
في تلك الفترة كانت نزعة لبنانية بدأت بالظهور، نزعة ترى إلى الحرب كعبث، وتنتقد ديكتاتورية العسكر، مقابل المفهوم القومي للثقافة. يتذكر بول شاوول تلك المرحلة بالقول: "تعرّض درويش في مقالته تلك لشعري وشعر آخرين كعباس بيضون مثلاً. كنت وقتها إلى حد ما متطرفاً في آرائي أكثر من اللزوم حول الشعر والوظيفة والقضية. وكان محمود في تلك المرحلة مع الشعراء الفلسطينيين والعرب في خدمة القضية. هذا كان قدرهم الفلسطيني. قصائد مثل "أحمد الزعتر" و "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" و "بطاقة هوية" صنعت محمود درويش آنذاك. إذاً، كنا على تناقض شعري نوعاً ما. لم تسمح الظروف لكي يُحيّد هذا الخلاف الشعري لصالح علاقة شخصية. ربما لأنه كان محاطاً بأناس لم تكن علاقتي بهم آنذاك على ما يرام، ربما. في كل حال، حدثت سجالات كثيرة بيننا وبينه. كان يأتي وقتها إلى مقهى الأكسبرس (قرب جريدة النهار، في أول شارع الحمرا) مع أدونيس وبعض الأصدقاء. ولم يكن بيننا كلام. وبحكم الجيرة كنا نلتقي أحياناً من دون أن نلقي التحية. وعندما أصبحنا صديقين قال لي: لا أعرف يا بول لماذا لم نكن نسلم على بعضنا. أنا عنطوز وأنت عنطوز (نمرود). الخلاف بيني وبين محمود درويش كان شعرياً وليس سياسياً لأنني كنت مع القضية الفلسطينية من غير أن أكون مع مؤسساتها.
لاحقاً حين أصدر "سرير الغريبة" و "الجدارية" ثم "كزهر اللوز أو أبعد" لاحظت تغيراً لديه من القصيدة العمومية إلى القصيدة الخاصة. لا أتكلم عن الموضوع بل عن اللغة. وفي إحدى المرات أجرت معي جريدة "القبس" الكويتية حواراً سألني المحاور فيه سؤالاً عن درويش، فقلت إنه يبدأ مرحلة كبيرة من التحولات الشعرية، ينفض الكثير من رماد الماضي وينبعث في تجارب جديدة. صدر الحوار بمانشيت: محمود درويش بدأ اليوم يكتب القصيدة. بعد ذلك التقينا في القاهرة، عاتبني على ذلك. عرفت أنه لم يقرأ الحوار فأوضحت له ما قلت في تلك الجريدة. وقلت له إن معظم الشعراء العرب كتبهم الأولى هي الأجمل. أنت بالعكس. بدأت تتجلى اليوم في حداثة جديدة هي حداثتك والتي لا تنفصل عن حداثة السبعينات والستينات. في تجارب درويش الأخيرة اقترب من قصيدة النثر. وكما أعرف كان يحب نماذج معينة من قصيدة النثر أمثال تجارب أمجد ناصر وعباس بيضون ووديع سعادة وقصيدتي أيضاً ونصوص آخرين. في كل حال، منذ ذلك الوقت، نشأت بيننا علاقة صداقة لا كذب فيها ولا نفاق".
بيروت وبيروته هذا كله استنطاق لمحمود درويش واستنطاق لبيروت في علاقتهما أحدهما بالآخر. إذا حيّدنا هذا الاستنطاق، سنكون مباشرة أمام النطق. لقد كتب محمود درويش عن بيروت، خصص لها مجموعة "مديح الظل العالي"، تلك القصيدة التسجيلية التي كتبها أثناء حصار عام 1982 ونشرها بعد سفره إلى باريس. يذكر فواز طرابلسي أن الشاعر تلا عليه وعلى سعدي يوسف الجمل الأولى من هذه الملحمة حين كانوا محاصرين في فندق بيروتي يرجمون الاجتياح الإسرائيلي بشرب الخمر والاستماع إلى الموسيقى: "إقرأ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جزمة أفقا". وقتها وصف بيروت بأنها "تفاحة للبحر/ نرجسة الرخام/ فراشة حجرية بيروت/ شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الأولى/ ورائحة الغمام/ بيروت من تعب/ ومن ذهب/ وأندلس وشام". لكن ما سجّله الشاعر شعراً في بيروت عاد وكتبه بلغة نثرية لا تقل رفعة عن الشعر وذلك في كتابه "ذاكرة للنسيان". تحدث درويش في هذا الكتاب عن يوميات الحصار، عن النقاش الثقافي في العاصمة اللبنانية عشية الاجتياح الإسرائيلي لها، عن مشاعره تجاه هذه المدينة الغامضة. ذات يوم من أيام الحصار كان يمشي في بيروت. رأى للمرة الأولى الأرصفة واضحة. وللمرة الأولى رأى الأشجار أشجاراً واضحة. "كانت الحركة، والحوار، والزحام، وضوضاء التجارة تخفي هذه الملاحظة، وتحول بيروت من مدينة إلى مفهوم، ومعنى، ومصطلح، ودلالة.
كانت تطبع الكتب، وتوزع الصحف، وتعقد الندوات والمؤتمرات لتعالج قضايا العالم ولا تنتبه إلى ذاتها. كانت مشغولة بمد لسان السخرية لما حولها من رمل وقمع. كانت ورشة حرية. وكانت جدرانها تحمل موسوعة العالم الحديث. وكانت مصنع ملصقات. وقد تكون هي أول مدينة في العالم طوّرت صناعة الملصقات إلى مستوى الجريدة اليومية. ولعل قدراتها التعبيرية المتشكلة من تنوع، وموت، وفوضى، وحرية، وغربة، وهجرة، وشعوب، قد امتلأت وفاضت عن جميع أشكال التعبير المعروفة، فوجدت في الملصق ما يستوعب فائض التعبير عن اليومي، حتى أصبح الملصق لفظة دارجة في القصائد والقصص ليشير إلى خصوصية. وجوه على الجدران، شهداء طازجون خارجون للتو من الحياة ومن المطبعة، موت يعيد إنتاج موته. شهيد يزيح وجه شهيد آخر عن الحائط ويجلس مكانه إلى أن يزيحه شهيد جديد أو مطر. وشعارات تمحو شعارات، تتبدل، وترتب أولويات الحماسة والواجبات الأممية اليومية. كل ما يحدث في العالم يحدث هنا، انعكاساً تارة، ونموذجاً تارة، وقد يتشاجر مثقفان في مقهى باريسي، فينقلب شجارهما الكلامي إلى اشتباك مسلح هنا. لأن على بيروت أن تتضامن أو تتزامن مع كل جديد، ومع كل قديم يتجدد، ومع كل حركة جديدة ونظرية جديدة".
وفي مقطع آخر بعد عشرات الصفحات يستأنف الشاعر تأمله في هذه المدينة. كان يتأملها مدركاً أنه يغاردها، أنه يرثيها، يرثي نفسه المطرودة من "خيمته الأخيرة" كما وصف هذه المدينة من قبل: "ونادراً ما تحتاج إلى التأكد من أنك في بيروت، لأنك موجود فيها بلا دليل، وهي موجودة فيك بلا برهان، وتذكر أن مثل هذا السؤال في القاهرة ينتهي بالخروج إلى الشرفة للتأكد من وجود النيل. إذا رأيت النيل فهذا يعني أنك في القاهرة. أما هنا، فإن صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت. صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران.... أنا لا أعرف بيروت. ولا أعرف إن كنت أحبها أم لا أحبها.... أما بيروت فلا أحد يعرفها. ولا أحد يبحث عنها. ولعلها لعلها ليست هنا أبداً. وفي الحرب فقط عرف الجميع أنهم لا يعرفونها. وعرفت بيروت أنها ليست مدينة واحدة، ولا وطناً واحداً، وأنها ليست بلاداً متجاورة، وأن ما بين هذه النافذة والنافذة المقابلة من التناقض ما يفوق التناقض بيننا وبين واشنطن، وأن التناحر بين هذا الشارع والشارع الموازي يفوق التناحر بين الصهيوني والقومي العربي".
لم يمنع حصار بيروت الحياة الثقافية من الاستمرار وإن في حدها الأدنى. بالنسبة إلى شاعر مثله لم يكن يطيق الجلوس في المقاهي باستثناء مقهى فندق الكومودور في الحمرا، لم يتغير الكثير عليه. ظلَّ يداوم على جلساته في بيوت أصدقاء من بينهم فواز طرابلسي أو غانم زريقات. انتقل في الحصار إلى فندق "كافالييه" بسبب قطع الماء من قبل صاحب البناية التي يسكن فيها: "حاصرنا صاحبها قبل حصار بيروت بسنين، منذ انحلت السلطة، فجُنَّ هو بسلطته: السلطة على الماء. ما إن يتشاجر مع أحد المستأجرين، أو مع زوجته، أو مع حسابه في البنك، حتى يهب إلى قطع الماء عنا جميعاً. لذلك ربى فينا، من زمان، هذا الصبر على الماء. ربى فينا مدائح الماء". إلى انقطاع الماء، يذكر فواز طرابلسي أن درويش انتقل إلى الفندق حيث توجد بيرة مثلجة وامرأة تعزف على البيانو. كان الاجتياح حالة من التضامن والامتلاء الداخلي والمعنويات العالية وليس رعباً. كنا ننتقل من مكان إلى آخر بشكل طبيعي إلا في أيام القصف الشديد. وكان معنا بشكل دائم سعدي يوسف وسليم بركات ومحمد الفيتوري وشيوعيون عراقيون ومصريون ومن دول عربية أخرى. كما أن محمود لم يغير عاداته في الاجتياح، فقد ظل يقرأ ويكتب".
"ذاكرة للنسيان" حافل بيوميات الاجتياح. في هذا الكتاب تحدث درويش عن القذائف التي أصابت المكتب، عن رعبه من الزجاج المواجه للبحر، الزجاج الذي كان يجعله مفضوحاً، عن سليم بركات (اسمه "س" في الكتاب) الذي كان يحمل مسدساً ينزل به إلى المقاهي ليربي النقاد الذين ينتقدون كتبه، وعندما كان يسأله لماذا يفعل ذلك، كان سليم يرد: هذا هو نقد النقد الوحيد الآن. تحدث عن خليل حاوي الذي انتحر لحظة الاجتياح على بعد بضع بنايات تبعد عنه، وكيف كانا يلعبان الشطرنج. تحدث عن علي فودة الشاعر المصري الصعلوك الذي أصدر مجلة "الرصيف" وقتلته قذيفة على الرصيف. تحدث درويش عن ذهابه برفقة صديق إلى الروشة حيث كانات البنايات تحترق بعد غارة عليها، عن خوفه من موت عرفات في مبنى قصفه الطيران بقنبلة فراغية في منطقة الصنايع كان غادره عرفات قبل دقيقة واحدة، عن المقابلة التي أجراها صحافي أجنبي مع أبو عمار في حضور الشاعر، وحين سأله الصحافي إلى أين سيخرج حين يخرج من بيروت، أجاب أبو عمار بلا تردد: سأذهب إلى بلادي. سأذهب إلى القدس. يعلق درويش: "لم أتأثر بهذه اللغة بقدر ما تأثر بها الإسرائيلي (الصحافي) واغرورقت عيناه بدموع الخجل". في هذا الكتاب تحدث درويش أيضاً في ظل الحصار عن الأوساط الأدبية العربية التي اعتادت أن تطرح سؤال الشعر في سياق الحرب المندلعة، "استجابة للراسب الثقافي فينا الذي يربط صيحة الحرب بحماسة الشعر، باعتبار الشاعر معلقاً على الأحداث، حاضّاً على الجهاد، أو مراسلاً حربياً. في كل معركة يقولون أين القصيدة؟ لقد اختلط مفهوم الشعر السياسي بمفهوم الحدث، معزولاً عن السياق التاريخي".
في منزل رياض الريس أدّى حصار بيروت إلى خروج الفلسطينيين إلى تونس عبر البحر. لم يرد درويش المغادرة مع الفلسطينيين. كتب قصيدة مشتركة مع معين بسيسو ونشراها في "السفير". وصلته تحذيرات بأنه مطارد من قبل الإسرائيليين. هكذا غادر بيروت بعد 20 يوماً من خروج الفلسطينيين. أحد الضباط اللبنانيين عمل على تهريبه عبر سيارة دبلوماسية ليبية يُقال إنها سيارة الشاعر محمد الفيتوري الذي كان يشغل منصب سفير ليبيا في لبنان. هرب محمود درويش إلى طرابلس شمال لبنان، ومنها إلى دمشق، ثم إلى تونس، قبل أن يستقر أخيراً في باريس. هكذا أقفلت صفحة طويلة من حياة الشاعر متراكمة الصفحات.
كان رياض نجيب الريس أول من أعاد محمود درويش إلى بيروت عام 1999. تكررت زياراته إلى العاصمة اللبنانية، ولا سيما في مناسبة إحياء أمسيات شعرية أو توقيع كتب. قرأ في "الأونيسكو" جداريته بعكس رغبة الجمهور. قرأ في المدينة الرياضية أمام جمهور فاق عدده مشجعي كرة القدم في لبنان. المدينة الرياضية ملاصقة لمخيمي صبرا وشاتيلا. حين سمع الفلسطينيون بالخبر جاؤوا أرتالاً يحملون علم بلادهم. اللبنانيون أيضاً كانوا بالمئات. وقتها رضخ درويش لمشيئة الجماهير وقرأ "سجل أنا عربي" وغيرها من قصائده الثورية، وذلك تحت وطأة الانتفاضة الثانية التي لم تمض سنتان على اندلاعها. قرأ لاحقاً في مركز "بيال" في معرض "الكتاب العربي الدولي". في أحد توقيعات كتبه الصادر عن "رياض الريس للكتب والنشر" اغتيل رئيس تحرير جريدة "النهار" النائب جبران تويني. ليست المرة الأولى التي يواجه فيها درويش مثل هذا الحدث.
يذكر الريس أنه أثناء إقامة "مهرجان لندن للثقافة العربي" اغتيل في اليوم نفسه رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية. اتصلت الشرطة البريطانية برياض الريس وقالوا له: يوجد شخص هنا جاء من إسرائيل يقول إنك أنت من دعاه. ذهب الريس برفقة درويش إلى مقر الشرطة فإذا هو سميح القاسم. قال لنا: يعتقدون أنني من اغتال ناجي العلي. علاقة الريس بدرويش لم تبدأ كما ذكرنا بالنشر بل بأنشطة لندن. لكنها منذ التسعينات أخذت مساراً آخر: "كان محمود استقر بين باريس وعمّان، في منتصف التسعينات، كان ينشر في أمكنة عدة. اقترحت عليه أن نتولى نحن كشركة نشر عملية إصدار كتبه المنشور منها وغير المنشور. أعتقد أن كتب درويش في السنوات العشر الأخيرة كانت أنجح عملية نشر لأي شاعر أو كاتب، ونحن فخورون بهذه الفرصة التاريخية التي أتيحت لنا. في هذه المرحلة توطدت العلاقة الشخصية بيننا حتى وصلت إلى هذه المرحلة الرائعة من الحب والأخوة".
حين كان درويش يزور بيروت لم يكن يجلس في المقاهي. معظم جلساته كانت في البيوت، ولا سيما في بيت رياض الريس. كان يُدعى إلى هذه السهرات عدد قليل من الأصدقاء من بينهم جودت فخر الدين، بول شاوول، حسن عبدالله، حسن داوود، شوقي بزيع، عصام العبدالله، عماد العبدالله وغيرهم. "كان يستلطف عماد العبدالله كثيراً لخفة دمه ـ يقول الريس ـ وكان يمزح بالسؤال مثلاً: ماذا تفعل؟ أكتب الشعر. ما اسمك: ناظم السيد مثلاً. عندها يعلق على الفور: غير صحيح، ينبغي لكي تكون شاعراً أن يكون اسمك ناظم السيد العبدالله. عموماً، كان يحب الناس اللطفاء، وكان يميز الغث من السمين، والمدّعي من الفهيم، وثقيل الدم من خفيف الدم. لكنه كان دمث الأخلاق لدرجة كنت أسأله: كيف تستطيع تحمل هذا الغليظ؟". ويستطرد رياض الريس حول أجواء تلك السهرات: "في الأماكن الخاصة ـ كما تعرف ـ تحدث النميمة. وفي النميمة الكثير من الطرافة إذا كان المشاركون واسعي الصدور. أما إذا كانوا مرضى نفسيين فيختلف الأمر. في هذه الجلسات كانت تحدث معارك حول الشعر الموزون وشعر التفعيلة وقصيدة النثر لدرجة يُصاب الجميع بالملل. كان أيضاً يحب النبيذ، وكان يعتقد أن النبيذ الأحمر يقوّي القلب. أنا كنت من شاربي الفودكا. وكان هو يزجرني على تخلفي في شرب الفودكا. يقول لي: سر انهيار الاتحاد السوفييتي هو شرب الفودكا، وأنت ستنهار مثل الاتحاد السوفييتي إذا بقيت تشرب الفودكا لأنه شعبوي بينما النبيذ أرستوقراطي".
بورتريه الرجل الوحيد في حين ينكر فواز طرابلسي مزاجية محمود درويش كما يُشاع، يؤكد أنه كان "نقيض الصورة النمطية عن الشاعر: منتظم، دقيق بمواعيده، يسيطر على وقته. إذا كان مزاجه- مثل كل الناس- عكراً، لا يظهر على الآخرين. لديه ما يكفي من الذكاء والدبلوماسية ليتغلب على أي موضوع بنكتة. محمود شخص خجول. في النهاية هو شاعر وفرد استثنائي وليس قائداً سياسياً. مع ذلك لا يفوّت طلباً من طلبات المعجبين. يعيش حياة اجتماعية وفيرة. ربما له عدد محدود من الأصدقاء مثل كل الناس. أحياناً ينتخب أصدقاء محددين ومفاجئين وليسوا شعراء بالضرورة". أسأل طرابلسي عن نسائه فيقول: "علاقته بالنساء خاصة وحميمة. المرأة تلعب دوراً في شعره. له علاقات نسائية عديدة أمر مؤكد. زيجاته مختصرة وقصيرة (تزوج بعد انفصاله عن رنا قباني المصرية حياة بلحيني في الثمانينات). وبالتالي فإن حياته الخاصة عبارة عن علاقات طويلة مع النساء. لكن القراءة الفعلية لعلاقاته بالنساء هي شعره".
بطريقة قريبة يصفه الياس خوري مع بعض التنويعات: "محمود درويش رجل مهذب ولطيف ودمث. كان يحب المزاح كثيراً. يحب النكات كثيراً. والنكتة عموماً تكون عدوانية. كان يحب الأكل. أطيب طبخة فاصوليا في حياتي أكلتها عنده، وكذلك كتف الخروف. كان يجيد الطبخ. أيضاً يحب النبيذ الفاخر. طبعاً هو متوتر كثيراً. لكن لهذا التوتر أسباب منها وحدته. تصرفاته وطقوسه وعاداته بناء على رجل وحيد. لم يكن يخبر عن علاقاته النسائية. عموماً كان يخجل ويضيق صدره بالمعجبين ويملُّ من الأضواء رغم أنه يحب الأمسيات الناجحة".
بعكس طرابلسي وخوري، يرى أنيس صايغ أن محمود درويش "كان مزاجياً كأي شاعر. يحب الناس لكنه لا يحب الكثرة في الجلسات. يحب الكثرة في الأمسيات الشعرية. كان يهرب من الدعوات. ذات مرة دعاه صديق إلى عشاء، حين دخل بيته ووجد عجقة خرج من باب المطبخ من دون أن يودّع صاحب الدعوة. مرة أخرى كان مدعواً إلى أمسية شعرية في دمشق، فإذا بي أفاجأ به الساعة التاسعة ليلاً في بيروت، لأعرف أنه دخل القاعة، نظر من خلف الستار، ثم عاد إلى بيروت من غير أن يقرأ في الأمسية. عموماً، يكون محمود درويش مكتئباً في الصباح. أعني حين يأتي صباحاً إلى مكتبه. كان زملاؤه يتضايقون من ذلك. وكنت أقنعهم بأنه شاعر كبير وعلينا تقبّل هذا الأمر. لكنه عند الساعة الحادية عشرة تقريباً، كنا نلتقي في غرفة الطعام في مبنى مركز الدراسات الفلسطيني فنشرب القهوة أو الشاي، لأنه كان من الممنوع تقديم هذه الأشياء في المكاتب، باستثناء مكتب محمود درويش، عندها كان يأتي منشرحاً وفرحاً. شخصياً، اعتدت على محمود ربما لأنني كنت معتاداً على أخي توفيق صايغ".
وبعد، هذه بيروت محمود درويش التي منحته نفسها كما سواه. في هذه المدينة خرج صوته بأصوات آخرين بينهم مارسيل خليفة وماجدة الرومي وخالد الهبر وأحمد قعبور. والطريف أن مارسيل خليفة ظلَّ يلحن أغاني درويش سبع سنوات من غير أن يتعرف عليه شخصياً مع أنهما كانا يعيشان هنا. وهنا صارت كلمات الشاعر أوسع وعلى كل شفة مع أغانٍ مثل "أحن إلى خبز أمي" و "جواز السفر" و "سلام عليك"، "حاصر حصارك" و "ريتا" و "وعود من العاصفة" و "نشيد السلام" الذي غنته ماجدة الرومي لكن الموت لم يمنحه فرصة سماعه. هذه مدينته التي قال فيها في احتفال في فندق البريستول نظمه له رياض نجيب الريس: "في كل مرة أزور بيروت لا أستطيع التحرر من حبها في علاقة يكتنفها الكثير من الالتباس والتأويلات والتناقضات. ولكن أحب بيروت وأرى فيها ما أريد. وأن يرى المرء ما يريد ليس خداعاً للنفس بل هو موقف. أرى في بيروت القدرة على تجديد حيوية الأسئلة والنقد والنقد الذاتي.
أرى فيها صناعة الكتاب الأرقى في العالم العربي. أرى فيها منابر الحوار وهوامش الاختلاف. أرى فيها تمكن ثقافة الديقراطية على المشترك وتعايش الأضداد. أرى فيها تعايش الماضي مع المستقبل وسجال التعددية مع الحصرية. وأرى في بيروت القدرة على المقاومة. وأرى في بيروت ما لا تحبه بيروت".