يحيى القيسي
تتبعت خلال الأسبوعين الماضيين تفاصيل حياة الشاعر الراحل محمود درويش في عمان، بدا لي الأمر صعبا، فمن أين أبدأ، وإلى أين سيقودني بحثي، ولا سيما أن الرجل قضى الثلاثة عشرة سنة الأخيرة فيها، وكان انتقائيا في علاقاته، وغير متاح للجمهور ووسائل الإعلام غالبا، وكان علي أن أسأل الكثير: من هم أصدقاؤه؟ ما هي طقوسه اليومية؟ كيف ينظر له من اقترب منه؟ هل كان حقا صعب المزاج ومتعاليا؟ وماذا عن تفاصيل تتعلق بطعامه وشرابه وهواياته الأثيرة، والأماكن المفضلة لديه؟ ثم ما هي قصة مرضه الذي رحل فيه؟، وكيف اكتشف الأمر وصولا إلى أيامه الأخيرة؟، وأيضا تلك اللحظات الصعبة في هيوستن قبل دخوله العملية بدقائق معدودة، وهل كتب وصية أو قال شيئا ما قبل رحيله؟ وما هو مصير شقته التي تضم كتبه وأسراره، وربما كتابات مخبأة تصلح لديوان جديد يثلج قلوب محبيه الكثر في شتى أنحاء العالم بعد أن أصابهم موته بفاجعة!
بدا لي لقاء أصدقائه الخلّص وبعض من عرفه عن قرب ضربا من نكيء الجراح، كان أغلبهم غير مستوعب لرحيله بعد، وغير مصدق أن الرجل مضى إلى الأبدية، وربما كنت محظوظا بلقاء بعض أصدقائه المقربين جدا، والذين لم يتحدثوا من قبل لأية وسيلة إعلامية عربية أو أجنبية عن محمود درويش الإنسان والشاعر الذي عرفوه، ومن هؤلاء صديقه الأثير المهندس والمقاول علي حليلة الذي رافقه إلى هيوستن، وشهد لحظاته الأخيرة، وهو الذي ألحد رفيق عمره في التابوت، وأودعه الطائرة الذاهبة إلى عمان، وكان على علاقة يومية بمحمود، وحاملا لمفتاح شقته وللكثير من أسراره، وأيضا هناك الإعلامي غانم زريقات وهو أمين سر اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين لربع قرن، والذي أيضا كان على علاقة صداقة عائلية ويومية مع محمود في عمان، وكان رفيقه في لعبة النرد حتى قبل سفره بلحظات، وأطلق عليه درويش لقب "أميجو".
ومن الكتاب والشعراء التقيت بالشاعر طاهر رياض وكان أيضا من أقرب الناس إليه، وتربطه به علاقة عائلية، وثمة شهادات هنا لأصدقاء آخرين عرفوه عن قرب مثل القاصة بسمة النسور، والمسرحي رائد عصفور، والشاعر زهير أبو شايب، والشاعر جريس سماوي، وثمة آخرون من أصدقائه ومحبيه المقربين لم يشاركوا في هذا الملف ذي الطابع الإنساني والاجتماعي عن درويش، وربما تكون لهم مشاركات نقدية أو شهادات عن درويش الشاعر في مكان آخر من هذا العدد مثل الناقد فيصل دراج والناقد محمد شاهين والشاعر خيري منصور، والناقد فخري صالح، وهناك ممن عرفت عنهم ولم التقهم ممن جمعته بهم صداقة من غير الكتّاب مثل رجل الأعمال صبيح المصري، وفاروق القاضي وزوجته مي البلبيسي وغيرهم..!
ثمة أمر ما قبل الدخول إلى عالم درويش اليومي والاجتماعي، وهو أنّ كل أصدقائه تحدثوا في جوانب كثيرة من حياته، وأغفلوا عن قصد جانب الحب في حياته وعلاقاته النسائية، شعرت باتفاق "جنتلمان" بينهم على أنهم كانوا يعرفون بأنّ المرأة كانت حاضرة في حياته حتى أيامه الأخيرة، وأنه كان عاشقا كبيرا، وهذا يرشح من بعض قصائده، لكن هذا الاتفاق يحظر عليهم أن يتحدثوا في هذا الأمر، هناك من بعث التعازي لزائرة السبت احتراما وتقديرا لها ولكنه لم يسمّها، وثمة من أحجم تماما عن الدخول في هذا الجانب لأنه يرى فيه أمرا خاصا بالراحل وليس مفتوحا على الناس!
ما يمكن البوح به بداية أن درويش غادر عمان وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، ولهذا أجرى نوعا من تبرئة الذمة المبكرة، فقد أعطى خادمته الفلبينية حسابها المالي مقدما، ونقد حارس العمارة المصري أيضا حسابه، وقال لهما بأنه ربما لن يعود. كان يوم الأحد27 تموز (يوليو) الماضي هو اليوم الذي سبق سفره الأخير إلى أميركا، تناول غداءه في بيت غانم زريقات، وودعه وعائلته ثم عاد إليهم مساء بشكل مفاجئ ليودعهم مجددا، وقبلها بليلة تناول عشاءه في بيت طاهر رياض بصحبة عائلته، والتحق بهم زهير أبو شايب لتمتد السهرة إلى وقت متأخر، وسافر محمود من عمان برفقة صديقه أكرم هنية إلى أميركا صباح الاثنين 28 تموز (يوليو)، أما صديقه المقرب علي حليلة فقد كان سبقه إلى هيوستن ليستقبله هناك، ويرتب له أمر العملية الجراحية، وما عرفته أيضا أن الرجل لم يكتب وصية، ولم يقل الكثير في لحظاته الأخيرة، وما يزال بيته العماني مقفلا بانتظار أن تأتي عائلته من فلسطين، ويتم فتحه، وربما هذه مناسبة لأن أشير إلى أن أصدقاءه ومحبيه في عمان التي جاءها منذ نهاية العام 1995 مقيما وواحدا من أبنائها يصرون على أن يبقى البيت متحفا لمن يرغب في التعرف على حياة هذا الشاعر الكبير، وكما هو بيت كافافيس في الإسكندرية، فإن النية تتجه إلى إبقاء البيت كما هو، وترتيب أمره. وقد أخبرني بعض أصدقائه أن هناك من يرغب في شراء البيت بما فيه حفاظا على التراث الدرويشي في جانبه الإنساني وليكون مكانا للزوار، ومعلما ثقافيا يضاف إلى عمان المدينة. لأنّ هناك العديد من الجهات الرسمية الفلسطينية ترغب أيضا في الاستحواذ على مكتبته وموجوداته ونقلها إلى رام الله كما قيل لي، وتلك حكاية أخرى قد يكون لها مقام آخر..! على كل حال هنا الكثير من البوح الاستذكاري الحزين للجانب الإنساني بشكل أساسي، ولجوانب أخرى تكشف عن شخصية درويش الفذة شاعرا وإنسانا، ترصده في فترته العمانية الأخيرة، وربما تبين لبعض من أساء الظن فيه، أن الرجل غير ما اعتقدوا، فقد كان كريم النفس متواضعا وحميميا وخجولا، وكان أيضا يشتغل بدأب على قصيدته محاولا أن يبلغ بها درجات الكمال، وربما كلّ هذا ما صنع منه حالة استثنائية في الشعر العربي والعالمي تقترب من الأسطورة..!
إقامته في عمان
يرى غانم زريقات أنّ محمود جاء إلى عمان بتشجيع منه، ولأنها المدينة الأقرب إلى فلسطين أول الأمر، ويقول "عندما دخلت القيادة الفلسطينية إلى فلسطين بدأ محمود يفكر جديا في ترك باريس وكان الخيار أمامه القاهرة، وكان رأيي أن عمان أقرب إليه، وبحثت الأمر مع الصديق الدكتور خالد الكركي الذي كان وزيرا للإعلام فقوبلت الفكرة بالترحاب الشديد، وعلى أعلى المستويات في الدولة الأردنية، وعندما وصل محمود إلى عمان بدأ يفكر في استئجار شقة متواضعة، كما كان الحال في تونس، ولم تكن لديه قصور كما كان يحلو لبعض "الأقزام" تصوير الأمر في جلسات النميمة، المهم في الأمر أنه وبنصيحة مني بدأنا نفكر بشراء شقة، وسألت الرجل الطيب المقاول الأردني مروان العبداللات عن ذلك، فقال لي: لا يمكن أن نؤجر محمود درويش بل لو يقبل بشقة قريبة منك، وحلف أيمانا كثيرة أنها هدية ورفض أخذ ثمنها، ولكن محمود رفض بشكل قاطع هذا العرض، وتوصلنا إلى حل وسط وهو أن يشتريها بسعر التكلفة، وهكذا كان الأمر، وقام العبداللات بدعوة أشهر رجالات السلط والأردن على شرف محمود درويش فيما بعد.."
أما طاهر رياض فيقول بأن درويش اختار عمان "لأنها برأيه أفضل مدينة يمكن أن يختلي فيها بكل هدوء ويكتب، وهذه المدينة وفرت له حقا هذه الميزة، كما أن أصدقاءه قليلون جدا فيها، كنا نذهب إليه غالبا لنأتي به، أو لنزوره".
وتقول بسمة النسور "أحبَّ درويش عمان، راق له هدوؤها وسهولة التنقل فيها، ولطالما وصف أهلها بالطيبين، وارتبط بمجموعة علاقات منتقاة مع العديد من العمانيين، الذين أحاطوه بكم هائل من الحب غير القاسي، فلم يطلب الرحمة في هذا السياق..، ارتاد مطاعمها، ومشى في شوارعها، وتسوق في محالها محاطا بمحبة الجميع.."
ويعترف زهير أبو شايب قائلا "كنت أشعر أنه يحب عمان وكان له عدد كبير من المعارف فيها، وكانت شقته أشبه بمنتدى، دائما كان هناك من يزوره، لم يكن منعزلا كما يصوره البعض، بالنسبة لي كنت أزوره بحساب وترتيب حتى لا أثقل عليه، وكان يحثني دائما على زيارته، وبصدق أشعر بالندم لأنني كنت أفوت الكثير من الفرص لزيارته والالتقاء به". ويشاطره رائد عصفور الرأي "كان يحب عمان ويشعر بأنها مدينة قريبة إلى فلسطين، ولكن تحركاته محدودة، أحيانا يذهب إلى مطعم أو أمسية أدبية ما أو معرض تشكيلي.."، ويقول علي حليلة "لم يكن يشعر بالغربة في عمان إذ لديه الكثير من الأصدقاء، وكان جزءا أساسيا من عائلتنا ولهذا فجيعتنا فيه شخصية ومضاعفة، وعلى المستوى الرسمي أيضا تم تكريمه، وهو حاصل على جواز سفر أردني ورقم وطني، أي جنسية كاملة..".
وعن حياته في عمان يعود غانم زريقات ليوضح قائلا "لم تختلف عن حياته في بيروت وباريس والقاهرة وإن كان أبرز ما يميزها أن معظم وقت درويش في عمان كان للعمل الجاد، فالأصدقاء قليلون وخير دليل على ذلك أعماله الشعرية جميعها التي صدرت عن دار رياض الريس في بيروت مثل: الجدارية 2000، حالة حصار 2002، لا تعتذر عما فعلت 2004، كزهر اللوز أو أبعد 2005، في حضرة الغياب 2006، أثر الفراشة 2008، ولأن محمود لا يكتب في السفر فمعظم هذه الدواوين كتبت بين عمان ورام الله، وأستطيع أن أجزم بذلك لأنه كان يقرأ لي ولبعض الأصدقاء كثيرا من قصائده..".من الواضح أن الاهتمام بدرويش والاحترام والتقدير كان أيضا على مستوى عال في الدولة، وروى لي غانم أنه كان يوما مع درويش في أحد مطاعم عمان، ودخل الملك الراحل الحسين هناك، فعرف درويش وجاء ليسلم عليه قائلا "مرحبا بشاعرنا الكبير.."، ومرة دعته الملكة نور على غداء في القصر خلال مهرجان جرش، كما وأن الملكة رانيا العبدالله قرأت بعض دواوينه وأرسلت له قبل أشهر قريبة رسالة شكر وتقدير لعمق تجربته الشعرية ولإهدائه إياها كتبه.
طقوسه اليومية في الكتابة والحياة
كانت لدرويش طقوس وعادات يومية لا يرغب في أن يخترقها أحد، ولا سيما ساعات قراءته وكتابته، وكان يعيش وحيدا في شقته إذ سبق أن تزوج مرتين، وطلق، وآخرهما بعد عمليته الأولى في فيينا عام 1984، وكانت فتاة مصرية، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا، أما خادمته الفلبينية فكانت تأتيه كل يوم بين الثانية عشرة والنصف إلى الخامسة بعد الظهر لترتيب أمور البيت وتنظيفه، يقول طاهر رياض عن ذلك "لم يكن ينام عند أحد، ولا يرغب في أن ينام عنده أحد غالبا إلا بعض الأصدقاء الذين يأتون إليه أحيانا من فلسطين وبشكل استثنائي، وكان ينام عادة مبكرا ولا يتجاوز الثانية عشرة ليلا، ويستيقظ مبكرا حوالي الثامنة والنصف إلى التاسعة صباحا، ويبدأ بحلاقة ذقنه والحمام وتناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو انه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة ينتظر الإلهام بالكتابة، أو ليقتنص الوحي كما كان يعبر عن ذلك، وأحيانا يكتب صفحة أو صفحات وأحيانا لا يكتب شيئا، المهم أن هذا الطقس كان مقدسا، ولهذا لم نكن نتصل به عادة في مثل هذا الوقت بل بعد الظهر أو مساء حتى لا نزعجه.." ويعترف غانم زريقات جاره وصديقه قائلا "كسرت تقاليد محمود وعاداته الدقيقة أكثر من مرة، ولكن أطرفها في إحدى المرات حينما كانت الثلوج قد أغلقت الشوارع فذهبت إليه في الساعة التاسعة والنصف صباحا، وعندما قرعت الباب عرف وقال: أميجو شو بيجيبك هلأ..؟ والثانية خابرته على هاتف البيت وأعرف أنه ينظر إلى الرقم ويخشى هواتف الصباح، فلما عرف أنه رقمي قال "أميجو بعدني ما متت".
كان لشقة محمود ثلاثة مفاتيح واحد معه، والثاني مع علي حليلة، والثالث مع الخادمة الفلبينية، فقد كان خائفا حسب ما يقول طاهر رياض من الموت وحيدا دون أن يشعر به أحد "سألته مرة حينما وصل الستين من العمر، إن كان يفكر في الوحدة أو يرغب في التخلي عنها، وكنت أشير إلى زواجه مثلا، أذكر أنه قال لي حينها وكان يبدو حزينا جدا" الستون رقم مرعب جدا، ترى ماذا سيحدث بعد ذلك..؟ "واعترف لي بأنه أعطى مفتاح شقته لعلي والفلبينية إذ بإمكانهما أن يفتحا الشقة إذا لم يرد عليهما مثلا أو تأخر في الاتصال بهما، وكان يخاف جدا من الموت وحيدا كما حدث للشاعر معين بسيسو، كما كان يخاف من الموت حرقا بسب تسرب الغاز مثلا، ولهذا كان يستخدم فرن طبخ على الكهرباء..".
لكن أصدقاءه لم يتركوه أبدا، فكان هناك لقاء يومي ما بين الخامسة والثامنة مساء لبعض الأصدقاء والكتاب، ولقاء آخر بعد الثامنة وحتى الحادية عشرة ليلا لأصدقاء آخرين، أما يوم الجمعة فكان الغداء غالبا في بيت علي حليلة، والسبت في بيت غانم..!
لاعب النرد وهواياته
كان درويش منشغلا بالقراءة والكتابة جلّ وقته، وكان يتقن العبرية والانكليزية والفرنسية، ولم يكن يمارس أي نوع من الرياضة أو السباحة، ولا يسوق السيارات أيضا، وكان يحب سماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية لكبار الموسيقيين مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي، وغالبا ما يشغل الموسيقى أثناء الكتابة، ولديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية، وبشأن الغناء العربي فقد كان يحب سماع عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وكان يتابع المسلسلات السورية التاريخية كما قال لي علي، أما طاهر فأضاف "تسليته كانت في لعب النرد" طاولة الزهر "وغالبا ما يلعبها مع صديقه غالب زريقات، وكنت أراه منهمكا في أجوائها، يصرخ أحيانا، ويغتاظ أحيانا أخرى مثل أي طفل، أما مشاهدته للتلفزيون فقد كان مغرما بالدراما السورية للمسلسلات، وخاصة في رمضان، وكان يتابع أحيانا أربعة مسلسلات معا، وكانت تعجبه بشكل خاص المسلسلات التي يخرجها حاتم علي، والتي يكتبها وليد سيف..."
تقول بسمة النسور عن هذا الأمر "قضى أمسياته الهادئة في بيته الأنيق والبسيط، صحبة غانم زريقات جاره وصديق عمره. وكنا على الدوام نتابع مستجدات لعبة طاولة الزهر التي تولع بها، رغم أنه تعلمها متأخرا على يدي غانم، وكان سعيداً في الفترة الأخيرة لأنه حقق مقولة تفوق التلميذ على الأستاذ، فيما ظل غانم يدعي انه كان يتعمد الخسارة رأفة به..!" ويقول غانم الذي لعب معه اللعبة الأخيرة قبل سفره بأن محمود كان يغلبني أحيانا فيها رغم أنني علمته، ويقول لي يا أميجو لو ظل الأستاذ متفوقا على تلميذه لما ظهر أفلاطون وسقراط..!
الطباخ الماهر وصانع القهوة
"يعترف أصدقاء درويش المقربون بأنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن في ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره، ويقول عن ذلك جريس سماوي. عندما كنا نزوره في بيته، كان يصر على أن يصنع لنا القهوة بيديه، ويخدمنا، وكنت أتذكر له نصا باهرا حول القهوة حين كان أثناء الحرب الأهلية في بيروت في شقة تفصل واجهة زجاجية فيها بين غرفة النوم والمطبخ وهي معرضة للقناصة، وعندما يريد أن يذهب ليصنع فنجان قهوة كان يتردد في المغامرة بروحه من أجل المرور إلى المطبخ وصنعها، وكان يصف عملية صنع القهوة بدقة وتفاصيل الغليان ورائحتها وطقس شربها..."
ويقول طاهر رياض عن هواية الطبخ "كان محمود طباخا ماهرا، ويحب أن يعزمني أحيانا على الغداء في بيته، وكان يتقن ثلاث أكلات ويتفنن في تقديمها وهي الملوخية، والفاصوليا البيضاء، والباميا، وكان يسهب في وصف طريقته للطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، وما هي درجة الحرارة التي يغلي بها الماء، ونوعية البهارات التي يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها، أما الوجبة التي كان يعشقها، ويختارها إذا ما عزمه أحد وخيره بنوعية الطعام فهي "المنسف" وكان يعتبرها وجبة لذيذة. ولكن علي حليلة يضيف الأكلات التي كان يحب طبخها الملوخية، السمك والستيك أيضا.."
الاقتراب من عالم درويش
ولكن كيف اختار درويش اصدقاءه العمّانيين؟، وكيف ينظرون هم إلى علاقتهم به، وهنا أبدأ بصديقه القديم علي حليلة الذي يقول "نشأت صداقتنا منذ التقينا أول مرة في القاهرة عام 1970 في بيت السيدة طرب عبدالهادي في حي الجاردن ستي، وكان بيتها مفتوحاً للفلسطينيين والأردنيين فيما يشبه المنتدى الثقافي، كان محمود حينها قادما من موسكو، وكنت أدرس الهندسة المدنية في جامعة عين شمس وقد استمرت صداقتنا حتى العام 74 أول الأمر، ثم تباعدت بسبب إقاماته في بيروت وغيرها حتى قدومه إلى عمان نهاية العام 95 حيث تجددت العلاقة، وظلت قوية ومتوهجة حتى آخر لحظة في حياته. محمود كان محبا وصادقا وودودا لأصدقائه وللناس بشكل عام، وهو متواضع جدا، وخجول لا يحب اللقاءات الاجتماعية التي يزيد فيها الحضور عن ستة أشخاص، ولم يكن يحب حفلات الاستقبال الكبيرة أو الدعوات والعزائم العامة. كان معتدلا في حياته، وفي طعامه وشرابه ونقاشاته، ولم يكن متطرفا برأيه، هو متسامح جدا، ولم تكن لديه عداوات مع أحد، ونادرا ما سمعته يذم أحدا سواء كان من الشعراء أو غيرهم، كان كريما وغالبا ما كان يعزم أصدقاءه، وكان مكانه المفضل مطعم برج الحمام في فندق الأنتركونتننتال، وأيام الجمع كنا نلتقي في بيتي. ويضيف" محمود كان شاعرا عالميا، وليس محليا، فالكثير من الملوك والرؤساء كانوا يستقبلونه مثل ملكة هولندا، وملك المغرب، ورئيس وزراء فرنسا والرئيس التونسي وغيرهم...
أما طاهر رياض فيقول عن علاقته به "ربطتني بدرويش صداقة أخوية وعائلية، وقد عرفته لأول مرة في باريس عام 1993 ببيت المرحوم جميل حتمل، وحين جاء إلى عمان منتصف التسعينيات اتصل معي، أي قبل العملية الثانية، وقبل كتابته الجدارية، وبعد أن أقام في عمان في شقته الحالية بعبدون توطدت علاقتنا وبدأنا بالتزاور، وتعرف على أسرتي، وكنا نلتقي تقريبا بشكل يومي، وكنت غالبا أذهب إليه، أو أذهب لإحضاره إلى بيتي أو إلى الالتقاء في أحد مطاعم الفنادق الكبرى، وأحيانا نزور بعض المعارض التشكيلية، ولم يكن يستطيع الذهاب إلى الأحياء الشعبية او التجول في الشوارع مثل عامة الناس لكثرة ما يصادف من المعجبين والإحراجات، وهذا أمر كان يزعجه كثيرا، وقد حكى لي خلال هذه العلاقة الطويلة التي امتدت إلى الليلة الأخيرة لوجوده في عمان قبل سفره النهائي لأمريكا، عن أشياء كثيرة في حياته العامة والخاصة، وكان يقول لي أحيانا هذه أسرار لك وحدك، أو ليست للنشر، وأحيانا لا يذكر ذلك فأعرف أنها يمكن أن تصل إلى الآخرين، وقد طلبت منه أكثر من مرة أن أجري معه حوارا طبيعيا دون أن ينتبه لجهاز التسجيل، فرفض قائلا بأن هناك جزءاً خاصاً به ولا يجوز أن يطلع عليه أحد، وقلت له حينها بأن الكثير من الكتاب العالميين قدموا اعترافات في اتجاهات شتى، مثلا علاقتهم بالمرأة أو العمل السياسي وغيرها، فقال لي بأنه ليس من هؤلاء، وأن حياته الخاصة وأسراره ليست للنشر. في أيامه الأخيرة جدد أثاث بيته، وذهبت وأخي المهندس جمال لانتقاء ما يرغب من أثاث، وقد أحبه زاهيا وملونا (الأخضر القريب من التركواز)، وكان يبدو لي مقبلا على الحياة بطريقة جميلة جدا، وتحمل في طياتها الأمل، كما قام بتوزيع جزء كبير من مكتبته على بعض أصدقائه، وكأنه لم يرغب في إبقاء غير مئة كتاب مثلا ليحتفظ بها وتكون في متناول يده..".
أما بسمة النسور فتقول "تسنى لي أن ألتقي بمحمود درويش منذ استقراره في عمان، أواسط التسعينيات، وتكررت اللقاءات في مناسبات ثقافية واجتماعية عديدة. ومنذ اللحظة الأولى أدركت أنني بصدد رجل استثنائي منحته الطبيعة تلك الهالة النفاذة، والهيبة المدروسة، والطاقة الروحية الخاصة، والقدرة على التأثير في المحيطين به دون كبير عناء. له حضور قوي المفعول يجعل الحواس متجهة إليه بشكل فطري، ولعل أكثر ما يثير الإعجاب بشخصيته سرعة البديهة، وخفة الظل، وذلك التهذيب العالي في الحديث، واللباقة في التعاطي مع الآخرين. أحببت في درويش تواضعه واحتفاله بتجارب الآخرين، سيما الشعراء الشباب، وكان يفرح من قلبه عند اكتشافه لشاعر متميز، ولا يتوانى عن إبداء إعجابه بنص جميل بدون تحفظ، وكثيراً ما قال في قصصي كلاماً جميلاً أصابني بالغرور المشروع. أحببت فيه بساطته وعفويته التي لا تخلو من شقاوة الطفولة، وكان مستمعاً جيداً يتابع محدثه باهتمام وفضول، ولا يميل إلى التنظير، ولا يحب دور الأستاذ الذي يتوقعه منه البعض...".
ويرى جريس سماوي بأن درويش "كان يرفض فكرة استثمار اسمه لغايات خارج الشعر، وكان عنيدا حتى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ما لم ينسجم منها مع رؤاه وأفكاره، وكان جريئا في الوقوف ضده لا يطأطئ أبدا، لم يكن يرغب في أن يحسب على أحد أو جهة، كان يريد أن يحسب على الشعر فقط، وكان له ما أراد، درويش خارج التصنيف القطري، وخارج التصنيف السياسي، وفوقها هو ابن الوطن العربي وابن الشعر العالمي، كان يحب عمان، ويقول إنها المدينة الوحيدة في العالم التي أتجول فيها بحرية، كان شخصا حميميا يحب الناس، ولكن صداقاته محدودة في عمان حسب علمي، وكان مثقفا عاليا في فنون أخرى مثل الموسيقى، يسمع جيدا ويناقش..".
"ويقول زهير أبو شايب عن عالم درويش وشخصيته "قرأت معه في أمسية جرشية أقيمت في مؤسسة شومان، وكان معنا أيضا الشاعر يوسف أبو لوز، ومشاركتنا معه تمت بطلب منه، عرفته شخصا مختلفا تماما عن الصورة المشاعة عنه، أي انه عصبي وانفعالي متعال، هذا كله غير صحيح، أنا رأيت الأمر معكوسا ففي إحدى السهرات في بيت السفير التونسي في عمان حاتم بن عثمان بحضور عدد من الفنانين والكتاب الأردنيين، بدأ محمود بإطلاق النكات وتحول الجو إلى حالة من المرح والحبور، وحينها قالت له إحدى الممثلات الحاضرات: أنت بدّلت الصورة التي كانت راسخة في ذهني عنك أي أنك متعال، ففي إحدى الأمسيات الشعرية كنت متجهما ولم تقل حتى مرحبا لجمهورك، قال لها: بصراحة كنت خائفا فقط ولم انتبه لنفسي...!
كان جميلا بالقدر نفسه الذي كان شعره جميلا، والناس الذين رأيتهم يبكون رحيله إنما يبكون ذلك الجزء الجميل فيه، اتفهم حساسيات البعض من درويش، لكني لا أتفهم أحدا يكرهه، كان كريما جدا، لا يوافق أبدا ان يدفع أحد عنه إذا كان في مطعم، وكان مضيافا في بيته يقدم الطعام بنفسه ويعمل القهوة بيديه، ويقدمها لنا..! ويتابع زهير أبو شايب قائلا" أول مرة يقدم العرب شاعرا عالميا بحجم درويش وربما نحتاج ألف سنة أخرى حتى يظهر لنا درويش آخر، كان السياسيون يسعون وراءه ليمنحهم الاعتراف وليس العكس، كان يقرأ الصحافة الأردنية ويقرأ الكتب التي تهدى إليه، ويعبر عن رأيه فيها، الكل يجمع سواء الشعراء الذين أحبوه أو الذين كرهوه على أنه نجم، والعلاقة مع النجم علاقة ملتبسة فالاقتراب منه قد يسبب الخوف من المحو، والابتعاد عنه قد يسبب ذلك أيضا، وبعض الشعراء كانوا يكرهون درويش لأسبابهم الخاصة، ويخلطون بين نجوميته وشعريته...".
وتعود بسمة النسور لتحكي عن جوانب أخرى من عالم درويش الإنسان والشاعر: الاقتراب من درويش على مستوى إنساني يشبه اكتشاف كنز من الدهشة، وثمة مستويات كثيرة في شخصيته شديدة الوعورة والتركيب، ولكن في معزل عن منجزه الإبداعي العظيم، كان رجلاً عادياً يحب كرة القدم والدراما السورية، ويعد ألذ فنجان قهوة يمكن للمرء أن يتذوقه، ولديه مزاج عال فيما يتعلق بالطعام. وفي هذا كان ذواقاً من الطراز الأول، فأحب "المنسف" الأردني كثيراً وهو معروف لدى دائرة أصدقائه بمهاراته الفائقة في الطهي. وكانت لديه طريقته المميزة في سرد النكات تجعلك تضحك حتى لو أنك سمعتها من قبل. ورغم أن الاقتراب من محمود هو امتياز وفق كل المقاييس، لكني أحياناً أتمنى لو أنني لم أعرفه على مستوى إنساني، فلربما كان وقع رحيله أقل إيلاماً، وكانت خسارتي الشخصية أقل جسامة.
أمسياته الشعرية في جرش
شارك درويش في أمسيات خاصة به في مهرجان جرش الذي أصبح اليوم في عالم النسيان بعد إلغائه، ويقول جريس سماوي الذي أدار بعض أمسيات درويش الشهرية، وكان مديرا لمهرجان جرش حينئذ "تعرفت عليه بشكل شخصي عام 1997عندما شارك للمرة الأولى في مهرجان جرش وافتتح المسرح الشمالي لأول مرة والذي كان مغلقا لألفي عام"، حيث قرأ درويش لمحبيه ومتابعيه أشعاره بمرافقة عازف العود سمير جبران، بعد ذلك زرته مرارا في شقته العمانية، وكان يأتي أحيانا إلى الفحيص، كما شارك في مهرجان جرش مرات عديدة منها أمسيته الشهيرة في قصر الثقافة التي قدمته فيها، وكان الحضور فوق المتوقع، وبدت طبيعة الجمهور يغلب عليها الجانب السياسي إذ سبقت القراءات الهتافات، وكنت جالسا مع درويش في مكتب خاص في قصر الثقافة، سألني: كيف ترى الوضع؟ فقلت له إن الجمهور مسيس من هتافاته، ولم يعجب هذا درويش، لأنه يريد أن يقدم لهم الشعر لا الطروحات السياسية، فانقبض الرجل حينها وتلكأ في الخروج إلى الجمهور، ثم عدت إليه مجددا، وقلت له إن الجمهور في حالة فوران، فحزم أمره، ودخل فغصت القاعة بالتصفيق والابتهاج لمقدمه، وقدمته حينها تقديما عاليا بكل ما أوتيت من مشاعر الحب المتوهجة تجاه شعره، وكان يصر على وجود كوب ماء وهو من الضرورات المهمة لطقسه المنبري، قال لجمهوره حينما صعد المنبر: سأقرأ بعضا مما تحبون، وبعضا مما أحب، وقرأ قصائد قليله من قديمه، ثم وبلمسة ساحر أو مثل قائد اوركسترا متمرس بدأ بقراءة اختياراته هو، وهكذا سحب الجمهور إلى الشعر الخالص، إذ قرأ نصوصا عالية تقبلها الجمهور بكل سلاسة.
توقيع كتبه في مسرح البلد
نشط درويش في السنوات الأخيرة بإقامة حفل توقيع لإصداراته الجديدة، واختار مسرح البلد في قاع مدينة عمان لهذا الأمر، ويشرح لنا المسرحي رائد عصفور مدير المسرح عن هذه التجربة بالقول "تعرفت عليه منذ ست سنوات، وتوثقت الصلة بعد إقامته لثلاث أمسيات في مسرح البلد الذي أديره، ولم أكن اتخيل يوما أن محمود سيقرأ أشعاره ويوقع كتبه في هذا المسرح، بل في أماكن ضخمة وكبيرة، وبعد حفل توقيع كتابه (كزهر اللوز أو أبعد) في رام الله تجرأت وسألته إن كان يرغب في إقامة حفل توقيع مماثل في مسرح البلد بعمان، وكان مترددا أول الأمر، وساعد صديقه علي حليلة في إقناعه، وبدأت الفكرة تتبلور، وكان علينا أن نجهز لهذا الحدث الضخم، ولا سيما أن درويش كان مهتما بالتفاصيل الدقيقة والترتيبات ويقلق لأي طارىء، وقد تم حفل التوقيع في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2005 وقدمه في الأمسية الشاعر طاهر رياض، وكان الحضور كبيرا تجاوز الـ 1200 شخص، معظمهم من الشباب، وكان هناك نوعيات مختلفة أيضا من طلبة الجامعات أو العاملين في مختلف القطاعات، وأتى البعض من سورية، وفلسطين 48 وكانت فرصة للقاء الناس، وأحسست بدرويش سعيدا بل كان يستوقف من يريد التوقيع أحيانا ويسأله عن اسمه ومن أين أتى، ويتعرف إلى البعض أو أهاليهم، وبعدها أقمنا أيضا حفلي توقيع واحد منهما لكتابه "في حضرة الغياب" بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 وقدمه حينها الشاعر جريس سماوي، وحفل التوقيع الأخير كان لكتابه "أثر الفراشة" في 23 شباط (فبراير) من هذا العام، وأذكر أنه قال لي بعد هذا الحفل (هاي آخر مرة بدنا نوقع) ولم أنتبه جيدا لهذه الجملة حتى فجعنا رحيله، فتذكرتها. كنت أحسه راغبا في أن تكون هذه اللقاءات في أفضل صورة، وكان يتصل بي مرارا ويسأل عن التفاصيل بدقة، أي عدد الكتب الموجودة، وظروف المكان وغيرها.
تربطني به علاقة عائلية أحيانا يزورنا في البيت، وقد أنجزت زوجتي سيرين حليلة موقعا الكترونيا له، بالعربية والانكليزية، وكان يتابع كل التفاصيل ويساعدها في المواد، وبدا متحمسا له"، وها هو العنوان للراغبين www.MahmoudDarwish.com
في بداية 2008 بدأ درويش بتوزيع نحو ألف كتاب من مكتبته الضخمة، وقد قمت بتوزيعها بنفسي على مكتبات شعبية في جبل النظيف ومخيم البقعة، وكان يبدو لي أنه يرغب في التخفيف من مكتبته التي أخذت تزاحم أثاث بيته، وليقرأها الناس.
قصة اكتشاف مرضه
هنا روايتان عن مرض درويش الأخير وهما تكملان بعضهما، ومن الواضح التسارع في تطور المرض وخطورته، ومعرفة درويش بوضعه، ومحاولته مسابقة الحياة حتى يفوز بثمالتها الأخيرة، فقد كان نشيطا جدا في السنة الأخيرة في الأمسيات والسفر، ويبدو أنه كان متشائما من وضعه الجديد. يقول علي حليلة بأن درويش اتصل به صباح أحد أيام الجمع من شهر أيار (مايو) الماضي، وقال له "تعبان.. الحقني" ويضيف علي "لما كان بيتي بعيدا خارج عمان"، اتصلت بأخي الطبيب أحمد ليذهب إليه ويأخذه إلى مستشفى الأردن كونه يسكن قريبا منه، ريثما أصل إليهم هناك، وبالفعل جاءه أخي واكتشف أنه مصاب بلفحة صدرية، وأثناء الفحوصات في المستشفى عرض عليه أخي أن يجري له التصوير الطبقي وخلاله اكتشف أن التوسع في الشريان كان كبيرا، وهذا ما أكده له د. تيسير أبو نعمة من المركز العربي لأمراض القلب في عمان بعد ذلك، والذي أشار عليه أن يذهب إلى د. حازم الصافي في هيوستن، وبالمناسبة أجريت قبل شهرين من عمليته الأخيرة لأخويه أحمد وزكي العملية نفسها ولكن في الشريان النازل من القلب وليس الداخل إليه كما الأمر عند محمود، وهاتان العمليتان أجريتا في حيفا، وكان محمود حاضرا هناك، وأجرى أيضا فحصا في مستشفى حيفا ونصحه الأطباء بالذهاب إلى هيوستن، كان واضحا أن محمود وأخوته ضحية مرض وراثي في القلب!
أما غانم زريقات فيكمل بقية الحكاية من جهته "مقدمة المرض الأخير قديمة ولكنها تجدّدت وتطورت تطور شعره، وفي يوم قبل شهرين تقريبا اتصل من رام الله وقال يا أميجو أنا قادم إلى عمان لأنّي أحس بشيء غير طبيعي، وفي اليوم التالي ذهبت معه إلى مستشفى الأردن وفحصه الدكتور عماد حداد، وتشاور مع د. حران زريقات، وقال لنا بصراحة أن الأمر خطير جدا، فمحمود يحمل قنبلتين في صدره يمكن أن تنفجرا في أي لحظة، ويمكن أن تجرى عملية قلب مفتوح لإيقاف التوسع في الشريان الأروطي، ورغم أن العملية لا تخلو من خطورة إلا أنني مستعد لتحمل المسؤولية، إلا أننا آثرنا ان يذهب محمود إلى فرنسا إلى طبيبه الذي أجرى العملية الأولى في الأورطي عام 98 والذي قال له نفس الكلام عن خطورة الوضع إلا أنه اعتذر عن إجراء العملية وعاد محمود من فرنسا بوضع أسوأ "الوضع خطير يا أميجو والدكتور قال لي عليك أن تختار طريقة موتك" ردا على سؤاله للطبيب: يعني هل أجري العملية أم لا؟ وهذا ما أكدته لي الصديقة ليلى شهيد التي كانت مع محمود عند الطبيب".
كان متشائما من وضعه الصحي، ولا يرغب في تصدير الآمال الزائفة، وكان يطلب هدنة عامين أو ثلاثة، ولم يكن يرغب في إجراء العملية، وذهب إلى إجراء فحص طبي في هيوستن بعد أن أجمع الرأي الطبي على أن هناك طبيباً من أصل عراقي هو الأشهر في إجراء هذا النوع من العمليات، وبالفعل اطمأن محمود مجددا وقال لي "غيرت رأيي وسوف أجري العملية لأن الطبيب قال إن الخطر nil".
لحظاته الأخيرة في هيوستن
بقيت تلك اللحظات الحاسمة في هيوستن ويرويها صديقه علي الذي كان قربه:في الليلة التي سبقت العملية، وقبل أن نذهب إلى النوم معرجين إلى غرفنا في الفندق ناداني مع أكرم هنية وقال لنا: أريد أن احكي لكما شيئا، وأحسست بأنه يريد أن يوصي بشيء، وحتى لا يقلق قلنا له محاولين تغيير الموضوع:
"تصبح على خير... خلص بعد العملية بنحكي.."
"لم تكن هناك أية حلول أمام محمود إلا إجراء العملية، وفي التاسعة صباحا قبل البنج قرأ ورقة يشير فيها الأطباء إلى أن نسبة النجاح 95 بالمائة وبدا قلقا، ولم يكن بيننا أي كلام حينها إلا أن قلنا له أنا وأكرم هنية "بنشوفك بعد العملية...حظا طيبا" وأعطاني بطاقة دخول غرفته في الفندق، وكتب عليها الأرقام السرية لحقائبه حتى أفتحها، وأيضا نظارته وساعته، وهي ما تزال عندي إلى اليوم بانتظار حضور عائلته، والعملية في الحقيقة لم تنجح، ومحمود لم يستيقظ من البنج أبدا، وفي ذلك اليوم بقيت عنده حتى الخامسة مساء، وغادرناه وهو في العناية المكثفة، على أساس أن كل شيء تمام، إذ لم يخبرنا الأطباء بشيء، وظننا أن الأمر عادي وسيفيق لاحقا، وفي اليوم التالي بدأت أقلق حينما عرفت أنه لم يستيقظ، وأحسست برجليه باردتين، وحوالي الـ 11 صباحا توفاه الله..".
ومن جهته يصف غانم متابعته للعملية عبر الاتصال المستمر مع علي هناك بالقول "أجريت العملية وفهمنا أنها ناجحة بحسب الأخبار الواردة من هناك، وأنه يحتاج فقط إلى 48 ساعة في العناية الفائقة، إلا أن الأخبار بدأت تسوء إلى أن فوجئت يوم الجمعة بعلي لا يرد على تلفونه، ثم كررت المحاولة ولا جواب إلى أن سمعت صوت أكرم هنية يقول لي: "الله يصبرك ويصبرنا الوضع يسوء ومحمود عنده تلف في الدماغ"، وحصل يا غانم كل الذي كان محمود يخشاه...!!"
ويتابع علي روايته وهو يكاد يغص بالبكاء "صلينا عليه ظهرا في المركز الإسلامي بهيوستن"، وشيع جثمانه الذي كان ملفوفا بالعلم الفلسطيني نحو 150 من أبناء الجالية العربية هناك، وفي الليل أقيم حفل تأبين له في المركز العربي وحضر نحو 350 شخصا، وجاء مدير مكتب أبو مازن د. رفيق الحسيني وألقى كلمة ورافق الجثمان، وفي صباح الثلاثاء في العاشرة صباحا غادرت الطائرة الإماراتية من مطار جورج بوش إلى عمان، ولم أستطع تحمل الصدمة والرجوع مع صديقي وهو في النعش فبقيت هناك فترة من الوقت وعدت منذ أيام قليلة! ويعترف بأنه كان هناك مجموعة من أصدقاء محمود ومحبيه في المستشفى تابعوا الأمر أولا بأول وهم يعيشون في أميركا منهم فاروق العطار وهو عراقي وزوجته الفلسطينية، والسيدة رنا عبوشي وهي فلسطينية وزوجها الدكتور ماهر ناصر وهو طبيب لبناني، وكان أيضا هناك د. فادي جودة مترجم أشعار درويش إلى الإنكليزية وصديقه!
يختم غانم زريقات حديثه بالترحم على صديق عمره بالقول "سيبقى شاعرنا الجميل معنا وحيا فينا"، وفقدان شاعر بقامته ليس فجيعة شخصية فحسب، أما أنا فلا أعتقد أن ما تبقى من العمر يكفي لأتعافى من هذه الفجيعة، وكل ما أتمناه أن يرحمه البعض من ادعاء الحب، وأن لا يحملوه مواقفهم وهو لم ير بعضهم أو حتى لم يحادثهم منذ سنوات. بقية الحكاية معروفة فقد عاد محمود إلى عمان محمولا في النعش، والتقاه أصدقاؤه ومحبوه للمرة الأخيرة بالبكاء والترحم عليه، وغادرت طائرات سلاح الجو الأردني بمحمود فوق عمان لتصل رام الله بعد دقائق معدودة، وفيما كانت روحه تلوح للواقفين في مطار ماركا تلويحة الوداع، كانت أيدي وقلوب الآلاف من أبناء شعبه تلوح لقدومه في أرض فلسطين التي حملها في قلبه حيا وراحلا وموقنا بحياة أخرى يقول فيها "سأكون في مكان حيا بعد موتي.."
ليلته الأخيرة في عمان
غادر محمود إلى أميركا صباح الاثنين الثامن والعشرين من شهر تموز (يوليو) الماضي برفقة صديقه الكاتب أكرم هنية، وهنا يروي بعض أصدقائه ممن زاروه في شقته أو زارهم في بيوتهم التفاصيل الأخيرة لأيامه في عمان:
تقول بسمة النسور "زرته ومجموعة من الأصدقاء قبل يومين من سفره إلى أمريكا كي نتمـنى له عودة سالمة، وكان مضطرباً بعض الشيء، وحدثنا عن هواجسه وتصميمه على العودة ماشيا على قدميه كخيار واحد ليس له بديل. وعدته بمنسف أردني معدّ على الأصول احتفالاً بعودته. حدّثنا بإعجاب كبير عن تجربة أمجد ناصر الشعرية واعتبرها علامة فارقة في حقل قصيدة النثر، وذلك ردا على تساؤلي حول ماهية قصيدة النثر، ومدى الشعر فيها. ودّعناه في ذلك المساء بقلوب دامية، ومع ذلك ظل الأمل بعودته قائما بما يشبه اليقين..".
أما طاهر رياض فيروي تلك التفاصيل قائلا "قبل سفره بليلتين زرته في بيته"، وحاولت رفع معنوياته، وقال لي "معنوياتي عالية، ولكني متشائم" وشرح لي كيف ان الطبيب العراقي الشهير قال له بأن نسبة الوفاة في هذه العملية 1 بالمئة، وأن نسبة الشلل 3 بالمئة، وقال لي بأن "نسبة الوفاة لا تخيفني حتى لو وصلت إلى 50 بالمئة، لكن الشلل يخيفني حقا، ولا أستطيع التعامل معه، ولهذا أوصيك وبعض الأصدقاء بأنني فيما إذا أصبحت مشلولا ان تذهب بي إلى إحدى الدول الاسكندنافية التي تبيح المجال للموت الرحيم لمن هم في مثل حالتي.."
في الليلة الأخيرة كان محمود في بيتي وتناولنا العشاء معا، والتحق بنا الشاعر زهير ابو شايب، وكان محمود مرحا ومحبا للحياة بطريقة مدهشة، ودخن 3 سجائر رغم انه في العادة لا يدخن بأمر من الطبيب، وبقي معنا إلى الساعة الثانية صباحا على غير عادته أيضا، وصورته في الفيديو كعادتي، لكنه احتج قائلا "لشو التصوير.." فتوقفت.
كنت مطمئنا تماما لعودته سالما، فقد انتصر على الموت مرات، وهذه أيضا قلت سينجو منها، وحين أتاني الخبر الصاعق وأنا في دمشق، لم اصدق، ولا أكاد إلى اليوم اصدق بأنه رحل! أما زهير أبو شايب فيصف لقاءه درويش في تلك الليلة قائلا "وصلت حوالي التاسعة بيت الصديق الشاعر طاهر رياض، وكان درويش يأكل الآيس كريم بالشوكولاته، كان شخصا عاديا وبدا لي أن الموت لم يكن يشكل أي حضور عنده، فقد كان يتصرف بنفس الحيوية، ودعته وقلت له: عد غانما وسالما.
فقال لي: أكيد سأرجع لكن سالما لا أضمن ذلك.
سألني تلك الليلة عن أمجد ناصر إن كان موجودا في عمان ليراه، وأنا نادم كثيرا أنني لم أكن أكتب ملاحظات لوقائع جلساتنا، كان ملتزما بفلسطين وليس بالسلطة الفلسطينية وكل ما أشيع عن مواقفه السياسية كنت أرى عكسه تماما في هذه الجلسات التي فيها تاريخ وأسرار والتزام حقيقي من شاعر كان يتحرك أعلى بكثير من السياسي وظل محافظا على مواقفه النظيفة. " ويعود غانم زريقات ليتذكر تلك اللحظات بالقول" أذكر في الـ 24 ساعة التي سبقت سفره الأخير إلى أميركا، وكان الصديق علي حليلة قد سبقه قال محمود لي: علي فوق الأطلسي الآن وهو سيعود ولكني أخاف من الشلل لذا لن أجري العملية، وعندما كنا نشجعه من أجل العملية، كان يقول: "ما دامت قنابل سأنتظر حتى تنفجر ونحن نلعب الطاولة معا". لكنه اقتنع أخيراً وذهب..
بدأت علاقتي بمحمود في بيروت العام 1972، ومنذ المؤتمر التوحيدي الأول لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين الذي كان لي شرف عضوية الأمانة العامة والتي لم تكن هما عند محمود، ولا كل الوظائف التي شغلها بحكم المنفى والمكان من رئاسة مركز الأبحاث الفلسطيني، ورئاسة الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وعضوية اللجنة التنفيذية، وفي العملين الأخيرين انتخب درويش غيابيا، وكان همه الوحيد إصدار مجلة "الكرمل" والتي فرضنا عليه أن يضع على غلافها أنها تصدر عن الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، والحقيقة لله وللتاريخ أن لا دور لنا غير السعي عند الرئيس الراحل ياسر عرفات وعند سلوى الحوت لتأمين إصدار المجلة، وكان هذا بطبيعة الحال عملي لأنني أمين السر ومسؤول عن المراسلات، ويوما بعد يوم تعززت العلاقة بيننا ووجدت في محمود صديقا قريبا وحميميا وهو أيضا من أكثر من عرفت نبلا وأخلاقا وشجاعة في الموقف.
بعد حصار بيروت، وخروج المقاومة، وفي الأيام الأخيرة قبل الخروج في انتظار السفن كنت بمعية محمود وسليم بركات، قال محمود: "أميجو" (كان هكذا يناديني) أنا لن أخرج بهذه الطريقة حتى لو تركنا سليم ـ في إشارة إلى أن سليم كان مسلحا ببندقية كلاشنكوف!
فأجبته فورا: وأنا لن أخرج، ولم يعجبه الجواب، وقال بلهجة حادة: أولادك في سورية، وهناك باخرة ذاهبة فاذهب، أنا سأهتم بنفسي، ولا أريد أن أنشغل بك. وبقي في بيروت، وبقيت أيضا إلى أن عرفت أنه سيخرج مع السفير الليبي إلى دمشق، وخرجت أنا إلى اللاذقية عن طريق النائب اللبناني الصديق سمير بك فرنجية مع عميدين من الجيش اللبناني بزيهما العسكري وبسيارة عسكرية..!في دمشق التقينا في إحدى الأمسيات التي كانت مقررة على مدرج جامعة دمشق أواخر 1982 الذي لم يتسع للجماهير واضطرت الجهة المنظمة إلى نقل الحضور إلى مدرج الأسد في باصات النقل العام والعسكري، وكنت مع الشاعر علي الجندي، وما ان وصلنا بالتاكسي حتى كان الملعب مليئا فقال الجندي عبارته التي بقي محمود يرددها "والله لو قتلناه وشرحنا ـ نحن الشعراء ـ أسبابنا للقاضي سنأخذ براءة..".
وفي العام 1984 جاءتني برقية من الرئيس الراحل عرفات وكان حينها يزور جنوب أفريقيا لأتوجه فورا من تونس إلى فيينا لأن محمود درويش في المستشفى، وهناك تحدثت مع محمود عن رغبة أبو عمار لعقد مؤتمر للاتحاد في صنعاء، ولم يكن متحمسا لعقد هذا المؤتمر، نظرا للخلافات بين أعضاء المؤتمر المقيمين في دمشق والآخرين، وكنت من أشد المعارضين لعقد هذا المؤتمر، ولكن الجهود التي بذلها درويش بعد هذا المؤتمر أثمرت بعقد المؤتمر التوحيدي في الجزائر. كنت أعرف مقدار الوجع الذي عاناه من أحداث رام الله وغزة، وكان في السياسة دائما متشائما "اسرائيل لا تريد سلاما يا أميجو".
لم يجامل يوما ولم يتخل عن ثوابته ولم يرهب أحدا لا كبيرا ولا صغيرا، وكثيرا ما كنا نضطر إلى الذهاب إلى مكان الأمسية قبل نصف ساعة أو أكثر ليطمئن، وكان دائما قلقا قبل كل أمسية، وكان يرتب قصائده بدقة أيهما يقرأ أولا وثانيا وأخيرا، وكان يسأل أيهما أجمل للبداية هذه أم هذه؟وفي أمسيته بجامعة تشرين في اللاذقية بتاريخ 19 -4-2004 قلت لمحمود سوف يطلبونك أن تقرأ "سجل أنا عربي" لأنها تدرس هناك، قال: يا أميجو بغض النظر عن الجمالية ورأيي في القصيدة، فاليهود يقولون للفلسطيني أنت عربي، فصرخت في وجه جلادي سجل أنا عربي فهل أقف وأقول لمئة مليون عربي أنا عربي!..لن أقرأها.
كنت مع محمود في المستشفى في فيينا، عام 1984 ورغم أن عمليته في القلب إلا أنه لم يكن متشائما، وأثمرت العملية عن فرح بالنجاح، وزواج من سيدة مصرية فاضلة ( للأسف لم يطل)، وعن قصيدة "يطير الحمام يحط الحمام" التي لحنها توأم عمره مارسيل خليفة، وفي عملية 1998 في باريس، وهي في الأورطي القاتل، فنجا من الموت وأثمرت عن "الجدارية" وبداية الصراع الجدي مع الموت. محمود درويش شديد التطلب والمراجعة والنقد الذاتي وشديد الحساسية تجاه تطور تجربته الشعرية. النص الجدير بالاهتمام عنده هو النص الذي لا يشبهه، وإذا شعر أن النص يشبه ما كتبه في الماضي، أو إذا أشرنا إلى ذلك، كان يرميه في السلة أو درج الطاولة وقد يبقى ما يكتبه شهرا أو شهرين، وعندما يكتب قصيدة تعجبه كثيرا وتعجب جمهوره الصغير يحس بأن ديوانا جديدا سوف يصدر. تبدأ معركة محمود مع محمود إذا جاز التعبير فتكثر خلوته إلى نفسه. يوقف السفر، ويقلل كثيرا من استقبال الأصدقاء، ويتحول إلى حرفي (حداد أو نجار ويبدأ الشغل على قصائد الدرج) من موقع الناقد يحذف ويزيد، وعلى نار هادئة وبتأن لم أر مثله، وعندما يتناول قلم الحبر السائل يبدأ بكتابة المخطوطة قصيدة بعد قصيدة ثم يأتي دور التبويب، وعندما يصدر الديوان يبدأ السؤال الكبير عند محمود: هل تعتقد يا "أميجو" أني أستطيع أن اكتب شعرا أجمل من هذا؟
وحين يجمع علي حليلة وغانم باعتبارهما جمهورا مصغرا له يقرأ لنا كل جديد، ويطلب رأينا، وأذكر أني طلبت منه أن يشطب مقدمة "في حضرة الغياب" لأنني كنت أسمع وأرى محمود درويش فيها، وكان هو لا يحب ذلك، لأنه أدمن التفوق على نفسه، فهو يريد فنا متطورا يخاطب الأغوار العميقة في النفوس، ويبقى أثرها في الوجدان، وكان دائما حريصا على أن يجمع بين هذا الفن المتطور والانتشار الجماهيري الواسع، وكان يصر على أن يقرأ للحشود بعضا من أصعب قصائده، ولا يستجيب للطلبات، حتى أنه قال في إحدى المقابلات الصحافية في الأردن أنا أستمع إلى رأي أصدقائي حتى أن صديقا لي محاميا طلب مني أن اشطب أكثر من عشر صفحات وقد كان له ذلك..!
ورغم أن محمود ترك أكثر من أربعين مؤلفا، وفيها ما سوف يشغل النقاد زمنا طويلا إلا أنه كثيرا ما كان يردد: يا أميجو لست راضيا عن نفسي، ويبدو أن الموت سوف يهزمنا هذه المرة، وأصبح هاجسا في السنوات الأخيرة "أيها الموت انتظر" وكان محمود يرغب في الحياة لسنوات قليلة مقبلة لينجز عملا كبيرا كان يراوده، عملا روائيا أو مسرحيا كما أظن.
الموت كان حاضرا بقوة وأصبح هما يوميا وعاديا ليس "في حضرة الغياب"، و "أثر الفراشة" بل في جلساتنا اليومية، وأصبح محمود يسابق الزمن، ويسعى كثيـرا ويعمل أكثر، ونحن الذين نعرف محمود عن قرب والذي لم يكن يرغب في عمل أكثر من نشاط واحد في العام قدم هذه السنة أمسيات شعرية في فرنسا وإيطاليا وكوريا وفي رام الله وحيفا وفي القاهرة وتونس وعمان، وحصد الكثير من الجوائز منها جائزة "ملك الشعر" من مقدونيا، وهي عبارة عن تاج ذهبي، وجائزة الشعر العربي من مصر، وجائزة من تونس، وتبرع بالقيمة المالية بالجائزتين الأخيرتين لصالح صندوق الطالب الفلسطيني.لم يتحرر محمود يوما من الإحساس بالمنفى ومن الاغتراب الداخلي، حتى انه في الوطن وفي زيارته الثانية إليه سألته عن الحياة هناك، فهز رأسه بسخرية وقال: هل تعلم بأن شيرين أبو عاقلة (المراسلة المعروفة للجزيرة) تمنع التجوال في رام الله؟ ولما سألته كيف ذلك قال: تمر سيارة اسرائيلية ويتحدث واحد بالعبرية ويقول: يمنع التجوال منذ الآن وحتى الساعة الثانية صباحا: التوقيع شيرين أبو عاقلة...!
ومحمود لم ينس يوما أنه فلسطيني ولاجىء، ومن هنا كانت أهمية المكان في قصائده للدفاع عن الذات والثقافة وعن الذاكرة الفلسطينية، وعن الحق والحرية ولهذا كان يعتبر معركته مع الاحتلال والظلم والاستعباد والقهر والظلام وأن سلاحه في هذه المعركة هو الشعر.