أدركها الصّباحُ الأخيرُ منذ ألف عام، فسكتت عن كلامها المباح، و اختنقت في صدرها ملايينُ الحكايات، لذا وحدي مَن سيحدّثكم الآن عني، و وحدي مَن سيفتّق الكلمات... قد لا يعنيكم أبدًا ما سأقوله.. لكنني لا أملك الآن غير أن أقول...
تسألونني مَن أكون؟ قد أكون أوليس أو السّندباد أو أيّ مسافرٍ آخر من هذا الزمن أو ذاك: غوايتي البحرُ، و فتنتي الأمواجُ، و عشقيَ الأوحدُ التسكّعُ و الترحالُ، رغم أنني أعلنتُ توبتي النصوحَ منذ أكثر من عشرين عامًا، و أسلمتُ نفسي إلى التقاعد الاختياريّ ؛ فلم أبرح قريتي بعدها، و قلّما أبرح غرفتي هذه: جحري المنسيّ كما يسمّيها بعضُ الصّحاب، و صومعتي الحميمة كما أسمّيها أنا؛ حيث أكدّس أوراقي، وأتـــوسّد أحلامي؛ أحتضن أجـــمل النساء، و أحـــتسي أطيبَ النبيذ، وأكــون إلــها أو شيطانا حين أشاء.. بعد أن هجرتني يا حبيبةَ القلب و الرّوح...
أكانت الخامسة عند المساء يوم تبسّم قدرانا و التقيْنا؟ أيقنتُ حينها أنّك لي، و أنّ جميعَ الأزمان اختصرتها دقّاتُ السّاعة الخامسة (و يا لَروعتها من خامسة !) حسِبتُ أنّ الموتَ وحده من سيفرّقنا و لم أدرأنّني سأسرّب إليك بعضا من جنوني القديم، و أنّكِ بعد ليالي العشق و الحنين تلك ستتركينني (أنا العاشقُ المفلسُ إلا من حكاياتي!) وترحلين إلى هناك؛ إلى الشاطئ الآخر الذي طالما حدّثتكِ عن سحره وأعاجيبه...
كانت الخامسة أيضا حين ضمّتكِ ذراعايَ آخر مرّة (و يا لَقسوتها من خامسة !)*
و كنتُ طيلة أيّام اللقاء القليلة تلك أجتهد في جذبك إليّ و إدهاشك؛ أحدّثك عن الحياة وأهلها، و عن الحبّ و بنيه: كنتُ أعتصرُ جميعَ مغامراتي الغابرة و مطالعاتي ؛ قراءاتي ومشاهداتي: أمزجها بدمعي ودمي و أقدّمها لكِ حارّةً طازجةً (علّلك تتولّهين!)
حدّثتكِ عن جزائر اللؤلؤ و المرجان، و عن مسالك المسك و العنبر؛ عن طيور الرّخ الكثيرة التي تشبّثتُ (و أنا بين الحياة و الموت) بسيقانها، و عن مساكن القرود، ومدافن الأحياء، و جموع الغيلان التي فقأتُ أعينَها المغمضَة أو المفتوحة... كنوزِ سليمان التي تمتعتُ ببعضها و تصدّقتُ بالباقي...
حدّثتكِ عن حوريّاتِ البحرِ اللواتي استوقـفنني فــــي جميع رحلاتي و حاولن إغرائي
(و لم تغرني منهنّ يومًا سواك!)
عن عينَيْن أندلسيّتَيْن (هما عيناكِ!) تتضوّعان وردًا و ياسمينا ؛عن "كارمن" التي هي أنتِ في شراستها و تقلّب مزاجها، و عن " دون خوسيه " الذي صرتُه بعد سنوات العربدة و التسلطن تلك ؛ عن خنجره الذي أغمدَه في قلبها لحظة خيبته المريرة، والذي توعّدتكِ (صادقًا أو كاذبا!) بمثله إن فكّرتِ يوما في نبذي أو التملّص من حبّي...
كان كلُّ رجلٍ أراه حينها غريمًا يتربّص بي: "إسكاميللو" يوقّع خطواته، ويشحـذ أسيافَه، و كنتُ الثورَ الجريحَ الذي يؤجّل احتضارَه ما استطاع...
الغريبُ ألا أحدَ من غُـرَمَائي الحقيقيّين أو الموهومين اختطفكِ، وأنّ الموجَ وحدَه كان غريمي، و وحدَه منْ ظفر بكِ دون أن أدري...
كانت حكاياتي متقنةً حدّ اللعنة و بدل أن تروّضكِ (كما روّضت جدّتك الشهرزاديّةُ جلادَها) أذكت النّارَ في قلبكِ الغجريّ فتسلّلتِ على غفلةٍ منّي بليْلٍ، و ألقيْتِ أشرعتكِ اللّهفى صوبَ دُنـــياكِ الجديدة؛ تـرومينَ قـــصصًا و أحلامًا، و مغامراتٍ و أشواقًا، و كوكبًا آخر من الألحان الأندلسيّة النديّة تموجين في صميمِها و تأتلقين...كأنّ جسَدكِ الشبحيَّ لم يُخلَق إلا للرّقص و الغناء، ومراوغة الموتِ وخداعه !
هل تذكرين البوليرو؟ وددتُ لو أذابتنا أنغامُه يومًا معًا؛ لو حلّقتْ روحانا قبل جسدَيْنا في رحابه معًا ؛ وامتدّتْ يدايَ في حمّى الرّقص و نشوته لتطوّق خصرَكِ إحداهُما، وتردّ عنكِ شالَكِ الإشبيليّ الأخرى.. وتدقّ ساقايَ معًا نشيدَ الوله الدّائم و الحنين!
لم يكنْ جسدي الهَرِمُ ليسعفني أمام كلّ هذه الأحلام، فكانت الكلماتُ زاديَ الأوّلَ والأخيرَ معكِ: كنتُ في البداية ألقمُكِ جرَعًا شحيحةً منها أضمن معها أنّكِ ستظلّين في دائرة السّحر تلك خالصةً لي..وأنكِ ستدمنينها يومًا مثلما أدمنتكِ أنا دومًا...
لم أدرِ أنّ السّحرَ أحيانا ينقلب على صاحبه.. و أنّ الحكاياتِ المجنونة إن زادت جرعتها قتلتْ لا محالة ساردَها.. فكان أن أبحرتِ يا حبيبتي.. وحين تبتُ أنا بدأتِ أنتِ تقامرين و ألقَيْتِ بنفسِكِ في عتمة البحر ومتاهاته!
لم يبقَ لي منكِ سوى حفنةٍ من الذكريات.. و نثار حكاياتٍ دونكيخوتيّةٍ قديمةٍ أقصّها على نفسي في صومعتي و جُحري الحميم؛ أماطل بها الصّقيعَ، وأنتظر فجرَ يومٍ قريبٍ تطالعني فيه عَيْناكِ من جديد...