يكتب القاص المغربي بسخرية لاذعة عن تلك الشخصية التي تتوهم أن حدود المعرفة والإبداع تنتهي عندها وان العالم بظاهره وباطنه ملك يديها. السخرية هنا مجهر يكبر من معالم تلك الشخصية لنرى مدى ضيق افقها واستحالة التواصل معها.

Superman

عبد الواحد الزفري

كل بطولات التاريخ كانت من ملاحمه: هو من أهدى  نيرون شعلة كي يحرق روما، وأوحى ل ليوناردو دافنشي بلوحة الموناليزا، هو من طلب من صاحبة الحاجة أن تقوم لحاجتها، فنادت الخيل فرسانها، استشرافاته كانت على علم بأن البرجين سيهويان، وهو من اكتشف أن الأرض تدور حوله وحده.  باختصار هو ذاك المثقف، الأديب، الناقد، القصاص، الرسام، الشاعر، المتمكن، العالم،  الموسيقي، المتكبر، المستصغر. إذا ما حييته  ألقى بعباءته إلى الخلف، تيمم بالكتب التي لا يقرؤها) لأنه يعرف سلفا ما قد تحويه(، وانطلق بلا توقف محاضرا في كل المواضيع، لا يقبل الجدل إذ ليس له وقت يضيعه في جدال لا يسمن، وقد يغنيه عن التبجح واستعراض عضلاته المثقفة هي الأخرى، إن سولت لك ثقافتك ذكر عنوان رواية حديثا قرأتها، استشاط ضاحكا وقال:

-                   قرأتها في طفولتي، أمام )المسيد( أثناء انتظار الفقيه.

وإن أخبرته عن فيلم جديد لم يعرض بعد في قاعات السينما، نبهك أن فيلمك ذاك مقتبس من فيلم شاهده في ستينيات هذا القرن، لا يترك  لك  خيارا سوى أن تدخل رأسك في قمقم جسدك، وتلوذ لصمتك تعانقه ويعانقك، في انتظار فرصة للحديث، قد لا تأتي ولن تأتي.

قاص مبدع، وناقد مترفع حتى عن قصصه التي لا يرى حاجة لكتابتها، لأن الكل يعرف أنه متمكن من أدوات السرد والرسم و القريض، بل له في ذلك استعاراته ومجازاته وبلاغاته الخاصة التي لن يبلغ معناها أي سارد أو مسرود عليه، قاص بلا قصص، وشاعر لم يعد يذكر عدد دواوينه لأنه ألقى  بها كلها  في مجاري الصرف الصحي، بعد أن مسح بها ما تبقى من مداد قلمه. باعه طويل حتى في ما لا يحتاج لطول باع، فنان لا يرضى للوحاته أن تباع في المزاد العلني، لأنه لا أحد سيفهمها عداه، كما أنه ليس مستعدا لقطع أذنه كما فعل الأحمق فان خوخ، من أجل أناس لن يفهموا ما وراء خلبطات لوحاته المدروسة بفنية راقية عن كل الأذواق والمدارس الفنية، يتفادى دخول المكتبة لأنها منذ سنين تتربص به كي تلحقه بتؤم روحه الجاحظ.

سألته ذات مرة سؤالا هو من ألح علي بطرحه، بعد سكوت دام أعوام في مجالسه، قلت والقول قوله:

- ما الفرق بين المثقف والمتثاقف؟

بطرف لسانه أجابني، بعد أن تنحنح للتبجح حلقه:

-المثقف وكما كنت أقول دائما، عالم مثلي أنا،  قليل الأقوال والأفعال، لاتهمه أراء الناس، فلا حاجة له بها، يكفيه ما فيه من نخوة العلم، و الوجاهة التي يتمتع بها في المحافل والمنتديات واللقاءات الأدبية والعلمية، التي لا يستطيع أن يديرها أحد سواه، و..

قاطعت حديثه بالسمن والعسل، و بعد أن استأذنته طبعا في الكلام، قال بعد أن أدار لي ظهره، أشعل السيجارة وفتح الجريدة:

-من تواضع لله رفعه، تفضل، قل واختصر، فإني لا أحب الثرثارين والثرثارات، ولا سماع المستملحات ولا الترهات، إن كنت ستسألني عن حلاقي، فذاك سر من أسراري.   

قلت:

-لا، لن أفعل!

قال:

-وإن كنت ستسألنا عن حذائي، فلم يصنع مثله بعد.

قلت:

-لا، لم يخطر ببالي!.

-وإن كنت ستستفسرني عن سر جمالي و تألقي، فذاك عطية من ربي!

قلت:

-أ في ذلك شك؟!

-إذن مسموح لك بسؤال ثاني.

أسرعت بسؤاله قبل أن يتراجع عن رأيه، وقلت من وراء ظهره:

-إن كان المثقف ما قلته، فمن يكون ذاك الذي لا يعلم إلا شيئا عن كل الأشياء، ويعلم كل الأشياء عن شيء واحد؟

-ذاك هو البليد، السمج، الجاهل الذي ينبغي صده وردعه، وعدم الإصغاء إليه، قبح من شخص لا يعلم أنه لا يعلم أني أعلم كل الأشياء عن كل شيء، وتواضعي هو من يجعلني لا أنشر إبداعاتي سوى على سطح داري، لأني لا أنشد الشهرة والأضواء الساطعة، يكفيني ظلي يحجبني عن الأنظار الحاقدة والمتثاقفة. وقد قررت ألا أكون بعد اليوم عرابا لأي أديب أو فنان، ولن أقدم أي أحد منهم لجمهور المثقفين الذين تضيق القاعة بهم والذين يأتون فقط  للتمتع بسلاسة لغتي، وجمال شكلي، يتركون المبدع وينساقون وراء تقديمي: كالمسحورين عينهم علي وظهرهم للمحتفى به، والله لقد أصابني الضجر من حدوث ذلك كل مرة .

غافلته مازحا:

-أليس هذا غرورا؟!.

أجابني بغرور عن الغرور:

-ليس من السهل أن تصبح مغرورا، فأنا لم آت هكذا واغترت بنفسي: فتاريخي الثقافي والفني يعطياني الحق في أن أزهو بذاتي وصفاتي، وإلا سأكون أديبا كسائر الأدباء، الذين سيظهرون في العصور القادمة. إن لم أكن موجودا فكيف سيكون حال الثقافة من دوني أنا في هذه المدينة الجاهلة؟ أي موروث سيترك للأجيال القادمة؟ المدينة من دوني يباب، قحط، سراب.

تركيبة هذا الرجل حيرتني، يحضرني شخصه كلما قهقهت عاليا: تصوروا أنه ذات مرة كان يؤطر حفل توقيع لإحدى الروايات، ترك الرواية والروائي و صار يحدث الناس عن رواياته التي لم ولن تكتب، واسترسل في ذكر أفضاله على مبدعي المدينة، وعن عبقريته التي يستلهم منها دائما، والتي  لا يشق لها غبار أو ينهق عليها حمار، استغرب الحاضرون و تركوه وغروره قائما، وانسحبوا بهدوء - بمن فيهم الروائي-، استشاط العراب وصاح بعد أن خلت القاعة من الحاضرين والمنظمين:

-جهل منكم، و قلة أدب، وعار عليكم، أن تخرجوا هكذا خاليي الوفاض.

وظل يستعرض تبجحه على الجدران، لاعتقاده الراسخ أن لها آذان..

 

zefriabdou@hotmail.com