حياتي.. وقضيتي.. وشعري

محمد دكروب

لم أكن قد التقيت به قبلا، ولكني كنت أعرفه من زمن طويل، منذ أخذ ينشر هناك اشعاره التي جمعها في ديوانه (أوراق الزيتون).. أتتبع ما يتسرب إلى نا من قصائده وقصائد رفاقه الاخرين.. وعندما اجتاز شعره الأسلاك الاسرائيلية الشائكة، وانطلق في العالم العربي خصوصا بعد نكسة حزيران شعلة أمل واصرار وسط إلى أس الشعري القاتل في تلك الفترة، شعرنا هنا باعتزاز كبير: هذا واحد منا، عملاق شعري آخر يؤكد طليعية شعرنا التقدمي، ويعطي، هو ورفاقه، المثل الحي على اندماج الشاعر بشعبه، والشعر بالقضية. في صوفيا، أيام مهرجان الشباب العالمي، جاء من يقول لي: "محمود وسميح هنا، يريدان رؤيتك" وفي أحد احتفالات التضامن مع الشعوب العربية، التقيت بمحمود درويش.. شاب نحيل، وجه إلى ف جدا، قريب إلى القلب.. اكتشفنا كاننا نعيش معا من زمان.. هو ايضا يعرف الكثير عني وعن رفاقي الكتاب هنا. قال انه ورفاقه، هناك، فتحوا عيونهم على الادب التقدمي من خلال "الثقافة الوطنية" ثم من خلال "الاخبار". بعض ما نكتبه في صحفنا، كانوا ينقلونه إلى صحفهم. كانت صحفنا، كما قال، نافذتهم إلى العالم العربي، والشريان الذي ينقل إلى ه حركة الادب والفكر والكفاح.

ـ يا محمود!.. أنت اسطورة عندنا.

ابتسم بحياء... قال: انا انسان عادي جدا، ما أقوم به يقوم به الكثيرون، ولكن صوتي، كشاعر، يصل إلى مسافات أوسع.

التقينا بعدها عدة مرات في صوفيا، وسط ضجيج المهرجان، واهازيجه، وزيناته، ومشاكله... ثم التقينا في موسكو، حيث أتيح لي، في جو هاديء، أن أجري معه هذا الحديث، محاولا ان يكون وثيقة أدبية وانسانية، عن حياة، وشعر، وكفاح شاعر المقاومة العربية في فلسطين: محمود درويش. 

طفولتي: بداية المأساة
ـ في ديوان "عاشق من فلسطين" تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية... ولعل الترامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم. طفولتي: بداية الماسأة، حدثنا عن نشأتك.. البيئة والجو والناس... وانعكاس أحداث تلك الفترة الأولى على نفسك ومسيرتك فيما بعد.

* أضع أمامكم طفولتي، لا لأني من أولئك المولعين بالحنين إلى "البراءة المفقودة"، ولا لأني انتمي إلى الذين يعاملون مرحلة الطفولة على انها العنصر الحاسم الذي يحدد اتجاه الشعر. ولكن الطفولة، في مثل حالتنا، اكتسبت ميزة خاصة وستساعدنا، ولو قليلا، على فهم هذه الصلة التلقائية المبكرة بين الخاص والعام. إن طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل. لقد وضعت هذه الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفي، مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه، ووجدت نفسها فجأة تعامل معاملة الرجال ذوي القدرة على التحمل، ولاتستثني من مصيرهم. فالرصاص الذي انطلق في تلك الليلة من صيف 1948 في سماء قرية هادئة (البروة) لم يميز بين أحد، ورأيت نفسي، وكان عمري يومها ست سنوات، أعدو في اتجاه أحراش الزيتون السوداء، فالجبال الوعرة مشيا على الأقدام حينا وزحفا على البطون حينا، وبعد ليلة دامية مليئة بالذعر والعطش وجدنا أنفسنا في بلد اسمه: لبنان، وحين صحا ذلك الطفل الممزق الثياب من التعب والرهبة، كان رأسه يزدحم بالأسئلة التي هاجمته دفعة واحدة وبلا تسلسل. ومنذ تلك الليلة انقلبت الصفة الخاصة لعالم الطفولة، واصبح ذلك الطفل محروما من الاشياء واللغة التي تميزه عن الكبار. والغريب، هو أن تلك الليلة أكسبته شعورا غامضا بأنه، منذ الآن، لن يختلف عن الكبار. والتصقت بذهنه وعاطفته كلمات جديدة صار يعرف أنها مصيرية: الحدود، اللاجئون، الاحتلال، وكالة الغوث، الصليب الاحمر، الجريدة، الراديو، العودة، وفلسطين... اذ لم تكن به حاجة، على ما يبدو، لأن يعرف بأنه من فلسطين قبل الآن.

من هنا، الاحظ أن ارتباطي الاول بالقضية بدأ بتعرفي المفاجيء على كلمات. وعندما كنت أسأل أهلي عن ترجمة هذه الكلمات، كنت أدخل عالم قضايا جديدة والتصق بها رغما عني، مبتعدا بوتيرة سريعة، عن عالم الطفولة اذا كان يعني ما يحظي به الطفل من تفوق وتمييز، وصرت اقترب، بوتيرة سريعة أيضا، من عالم الطفولة الذي صار يعني المكان الذي ستخلصني العودة إلى ه من هذه الكلمة الجارحة: لاجيء وهكذا، تحولت عواطفي إلى أسيرة لكلمة "العودة" التي تعني المصلحة والانتهاء من العار. وصرت انتظر، حيث أصبح الاحساس المرهف بالحرمان والظلم والتشرد مسيطرا على ذهني الصغير. وكل ما ورثته من حب للدنيا استبدله الواقع الجديد بضيق شديد بها. ولهذا أذكر فقدت موهبة اللعب وتسلق الشجر وقطف الازهار ومطاردة الفراش، وورثت عن أهلي عادة التأفف والركون إلى الصمت والتأمل. واستطيع الآن أن أحدد، من بعيد، أن الموهبة الاولي التي قادتني إلى الشعر كانت موهبة التأمل، بمعني انها اوصلتني إلى الارتباط المرهق بهموم الكلمات الجديدة، وسط جو كثيف من الغربة، فعمقت احساسي بالسبب والشكوي، ومن هنا ايضا استطيع أن أحدد منبع حساسيتي الشديدة تجاه العدوان فان طفولتي كانت ضحية عدوان. وأجد الآن، خلال هذه المراجعة أن الطفولة لم تكن تعني مرحلة من مراحل حياتي، وانما كانت وطني، وفي وطن الطفولة كنت أشعر بالمراحل: الحرمان الخوف طرح الاسئلة، العزلة، التأمل، ثم الغضب على شيئين: على الواقع الجديد، وعلى الذين احتلوا طفولتي ووطني، وقادوني إلى هذا الواقع. هذه هي تجربة "الطفولة المنفية".

وتليها تجربة أخري: العودة... منفي آخر! قيل لي في مساء ذات يوم: الليلة تعود إلى فلسطين. وفي الليل، وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان، الوعرة، كنا نسير.. أنا واحد اعمامي ورجل آخر هو الدليل. والدليل رجل خبير بمسارب الجبال، استغل هذه الخبرة لتصبح مصدر رزق. في الصباح، وجدت نفسي اصطدم بجدار فولاذي من خيبة الامل أنا الان في فلسطين الموعودة. ولكن أين هي؟ لا. هذه ليست فلسطين تلك الارض السحرية.. الخلاص من الظلم والحرمان، لا تحتضنني كما تصورت. وهذا الصبي العائد، بعد سنتين من الانتظار، يجد نفسه اسيرا لمصير المنفي ذاته، باسلوب آخر وعلى ارض ليست له.. ليست له! هذه هي الحقيقة الثانية التي مازالت، حتي الآن، اعنف يد تحرك احساسي بالمأساة، كما كانت أول محاولة شعرية لي. لم أعد إلى بيتي وإلى قريتي، فقد ادركت بصعوبة بالغة، ان القرية هدمت وحرثت. كيف تهدم القري؟ ولماذا؟ وكيف يعاد بناؤها؟ ثم أجد أن اللغة الجديدة مازالت تلبسني. اسمي الان: لاجيء فلسطيني في فلسطين!!

وأعود مرة أخري إلى وكالة الغوث والغربة ومطاردة الشرطة لاننا لم نكن نحمل بطاقة هوية اسرائيلية.. لاننا متسللون! واذا كان من المتاح الآن تقويم هذه التجربة، تجربة اللاجيء في وطنه، فاني اشعر بانها تبعث على خطر القتل النفسي بصفاقة اقسي من تجربة المنفي. في المنفي يتوفر لديك الاحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتنسم رائحة أمل. وتحمل عذاب المنفي مبرر. والتصور للمنزل والحقل والجمال المنشود والسعادة القصية وغيرها أمر مشروع. أما التجربة الاخري، اللجوء في الوطن. فانه أمر غير مبرر وصعب الاستيعاب في حدود وعي الطفل والصبي. إنك تشعر بالقصة والقهر حتي في أجمل أحلامك. وتكتسب ملامحك انعكاسات واقع هي أقرب ما تكون إلى الرموز. كنت أشعر بأني مستعار من كتاب قديم يخلق في انطباع غامض لأني لا أحسن قراءته.

ولكن الكابوس لايستمر بهذا الشكل. فان "اللاجيء الفلسطيني في فلسطين" لم يترك "حرا بحرمانه". وهنا يضاف عنصر جديد هو عنصر التحدي من جانب السارق، وهو ذو حدين: الحد الاول، يزيد من الشعور بالتمزق، والحد الثاني يفجر هذا الشعور في نقطة ما.. في التحدي المضاد الذي يتطور إلى طريق عمل وكفاح.

ـ كيف بدأت تتلمس الطريق إلى الشعر؟ حدثنا عن الاشعار الأولى.. القصيدة الأول التي نشرت لك، وتأثير نشرها على نفسك، وفي حياتك.. ثم التيارات الادبية والسياسية التي تأثرت بها في تلك الفترة.

* لا أذكر متي بدأت، بالضبط، محاولة كتابة الشعر. ولا أذكر الحافز المباشر لكتابة "القصيدة" الأولي، وإن كنت أذكر أني حاولت، في سن مبكرة، كتابة "قصيدة طويلة" عن عودتي إلى الوطن، حذوت فيها حذو المعلقات، فآثرت سخرية الكبار ودهشة الصغار. وأذكر أن بعض الصحف بدأت بنشر محاولاتي عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وكنت أحدق طويلا باسمي المطبوع في الجريدة، فاطمح بأن يطبع مرات أخرى! وخلال دراستي الثانوية صارت كتابة الشعر تحتل الجزء الأكبر من اهتمامي. وكنت سريع التأثر بالشعراء الذين اقرأ لهم مؤخرا، وكانت محاولاتي تتسم بالزخرف والنغم المسموع جيدا، وكان اندفاعي وراء الانسياق الموسيقي ينسيني أو يضيع على الفكرة، في تلك السنوات كنت دائم البحث عن نفسي وعن الطريقة الافضل للكتابة، ومن المؤكد أن الرومانسية تستهوي كل ابناء هذا الجيل، ولكن هذا الشعر الجديد الذي نقرأه في "الاتحاد" و"الجديد" للشرقاوي والبياتي والبغدادي وبسيسو والسياب وغيرهم يشعرنا بعلاقة أقرب ويلهينا بالحرارة لصلته المباشرة بالواقع، فاخذني هذا الشعر إلى أول الطريق. وانفصلت عن حبي الجارف لشعراء المهجر وعلى محمود طه. ولكن لم أجد، بعد، وسيلة التعبير، كان يشغلني في هذه المرحلة كيفية التعبير عن قلقي وتمزقي وغضبي كشاب ينتسب إلى شعب مضطهد ومسحوق، بما يخيل لي انه أفضل الاشكال واقربها إلى القلب. ثم، كيف أجمع بين حبي لفتاة وارتباطي بالقضية العامة. وكانت تلك السن تصور لي أن في الصورة شخصيتين متناقضتين وكنت أتأثر بأي انتصار ثوري في أي مكان في العالم، فأسارع إلى "تخليد" هذا الانتصار.

انتميت إلى الحزب الشيوعي فتحددت معالم طريقي. وفي تلك الفترة تعرفنا على عملية غسل الدماغ الثقافي الذي نتعرض له. اكتشفنا انهم، في المدرسة، يعلموننا عن تيودور هرتسل أكثر مما نتعلمه عن محمد، والنماذج الذي ندرسها من شعر حاييم نجمان بيإلى ك أكبر بكثير من نماذج شعر المتنبي، ودراسة التوراة إجبارية، أما القرآن فلا وجود له، فأحسسنا أن غزوا ثقافيا لنشر العبرية يزحف إلى نا ناعما كالافعي، فكان لابد لنا من أن نمنح انفسنا الوقاية، وازداد اقترابنا من الاوساط إلى سارية، وصرنا نقرأ مباديء الماركسية التي اشعلتنا حماسا واملا، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعا عن الحقوق القومية ودفاعا عن حقوق العمال الاجتماعية. وحين شعرت أني أملك القدرة على ان اكون عضوا في الحزب دخلت إلى ه في عام 1961، فتحددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحا وصرت أنظر إلى المستقبل بثقة وايمان. وترك هذا الانتماء آثارا حاسمة على سلوكي وعلى شعري. 

عن دواويني وشعري: من المباشر إلى الرمز الشفاف
ـ ديوانك الاول.. اسمه، طابعه العام. ماذا يمثل: في المضمون، في الشكل، في حياتك الخاصة، وفي الشعر العربي داخل اسرائيل لا... الديوان الثاني.. والثالث.. والرابع. ماذا يمثل كل ديوان، في نظر النقاد عندكم، وفي نظرك وفي حركة التطور الشعري عندك؟ هل وضعت شعرا وانت في السجن؟ تأثير السجن في نفسك وشعرك.

* أول ديوان مطبوع لي، لا يستحق الوقوف عنده. كنت في سنتي الدراسية الاخيرة (18 سنة)، وكان تعبيرا عن محاولات غير متبلورة، صدر عام 1960 واسمه (عصافير بلا أجنحة). أما الديوان الثاني (أوراق الزيتون) الصادر عام 1964 فأعتبره البداية الجادة في الطريق الذي أواصل السير على ه الان، الطابع العام المميز لقصائده هو التعبير الجديد، بالنسبة لشعرنا، عن الانتقال من مرحلة الحزن والشكوي إلى مرحلة الغضب والتحدي، والتحام القضية الذاتية بالقضية العامة، متنقلا من سمة "الثوري الحالم" إلى الثوري الاكثر وعيا. وتشيع في جو الديوان رائحة الريف، وآلام الناس، والتغني بالارض والوطن والكفاح، والاصرار على رفض الامر الواقع، وحنين المشردين إلى بلادهم، ومحاولة العثور على مبرر لصمود الانسان أمام مثل هذا العذاب، كما ترون في هذه الاغنية مثلا:

وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتي
وقالوا: انت قاتل!
اخذوا طعامه، والملابس، والبيارق
ورموه في زنزانة الموتي
وقالوا: انت سارق!
ردوه عن كل المرافئ
اخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يادامي القدمين والعينين
إن الليل زائل
لاغرفة التوقيف باقية
ولازرد السلاسل
فحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي.. سنابل!

وقد استقبل الديوان برضا بالغ من القراء والنقاد والشعراء الذين اعتبروه مفاجأة وقفزة في الشعر العربي في بلادنا. ويسعدني أن اذكر أن (أوراق الزيتون) هو الكتاب العربي الوحيد الذي طبع طبعتين.

الديوان الثالث هو (عاشق من فلسطين) صدر عام 1966، أن طريقتي في التناول هنا تختلف عنها في (أوراق الزيتون) مما نتج عنه تغير في النبرة. صوتي هنا اكثر انخفاضا وهمسا وشفافية. تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية. وحين أنظر إلى الاشياء لا التصق بها فقط، وإنما أتوغل فيها أو هي تتوغل في. كان وعيي ووجداني يدخلان في معادلة واحدة. ولعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم. واعتقد أن للتجربة التي خلفت (عاشق من فلسطين) فضلا على ما أدعيه. القسم الاكبر من الديوان كتب في السجن أو عن السجن. وأظن أن للمكان بعض التأثير على بناء القصيدة أيضا. ويخيل لي أن كتابة القصيدة في السجن اشبه ما تكون بعملية التقاط سريع أو اصطياد خاطف، وماهر، في نغمة أشبه ما تكون بالدندنة، حيث لا تكون للشاعر هناك أدوات الكتابة المادية التي اعتاد على ها. وقد يكون العامل المريح الذي يكتب فيه الانسان. شاء أم لم يشأ، أحد العوامل التي تدفعة إلى العناية الشديدة بالأناقة.

من هنا تجد ان قصيدة السجن قصيرة، مكثفة، وتحتوي على فراغ جميل ذي ايحاء، فانك تشعر أن هذا الشاعر السجين لم يقل كل شيء، لم يستهلك تجربته، ومازالت هنالك ظلال غير مرئية. وهذه الميزة ميزة الانطباع بوجود ما لم يقل تعجبني كثيرا في الشعر، كقاريء من حقي المطالبة بأن يتعدي دوري جهاز الاستقبال، إلى المشاركة في العملية الإبداعية. ومع ذلك، فإننا نظلم المسألة اذا جعلناها وقفا على عنصر المكان الا بقدر ما يعنيه من وعاء للتجربة أو مسرح لها. إن السجن يرغم المرء على المراجعة والتأمل في كل شيء، وكون السجين مقطوعا عن العالم الخارجي ومحروما منه يجعل ارتباطه العاطفي والفكري به اكثر التحاما وحميمية. كل شيء في هذه الدنيا الطليقة خارج الاسوار يصبح ذا ذكريات ومواعيد، لدي موعد مع كل شيء.. عندما يطلق سراحي سأقف طويلا لكي أمتليء بزرقة البحر وملوحته.

وفي السجن "اكتشفت" الشجر بكل ما فيه من مودة، كرد فعل للون الرمادي، وهكذا تصبح الألوان مثار اهتمام من نوع جديد. مازلت أقول أن النفي الحقيقي للانسان هو أن تبعده عن الشجر. كل عشية تتحول إلى رمز. وفي السجن تكتشف علاقاتك الحميمة بالناس، ويزداد الانتماء حنانا، وتري أهلك من زاوية أخري لم تنتبه لها من قبل. لقد كنت مضحكا جدا عندما كتبت إلى أهلي: "اكتشفت اني احبكم بلا حدود. لاتؤاخذوني على هذا الاعتراف"، ولكني كنت صادقا. ملخص القول أن العالم الخارجي الذي يتحول إلى وحدة رمزية واحدة يتداخل في السجين من أجل قضية، وتصبح كل العناصر مشاركة في هذه القضية التي يلح على ك السجن بالتشبث بها. هذا ما حاولت أن أكتب عن حنيني إلى ه بطريقة قتلت فيها عنصر الحنين، لأن السجن لم يبعدني عن الناس والاشياء والقضية، وانما جعلني اهضمها بشهية ونهم. وهكذا، أري اني خطوت خطوة نحو المزج بين الاشياء مما استدعي صيغة اكثر مرونة تسعى لحركة المزج، اسفرت عن إنزال ضربة، غير مقصودة لذاتها، ببناء القصيدة الكلاسيكي. وقد حدث ذلك بما يشبه التلقائية، اذ لا خيار لك وسط هذه الحركات والرموز في أن "تقرر" شكلا ما، فالعملية هنا هي التي اخذت إطارها وشكلها. 

(آخر الليل): مشكلة الرمز.. والوضوح.. والقراء
آخر دواويني هو (آخر الليل). وأراني في غني عن تقديمه لكم لأنه نشر في العالم العربي على نطاق واسع، ولكني اشعر بأن مسافة التطور الفني، بينه وبين (عاشق من فلسطين) أوسع من المسافة الممتدة بين (عاشق من فلسطين) و(أوراق الزيتون). أشعر أن كلمات (آخر الليل) اكثر ظلالا وإيحاء، وصار الرمز، عندي، أغنى بالكثافة، وأن كان الجو العام شفافا. واستطعت، كما يبدو لي، أن أحقق الصداقة بين الحلم والواقع، بين سبب الرمز ومدلوله، وتلقائية العلاقة بين الفكر والوجدان، وفي الحوار القاسي أو الصراع بين الموت والحياة انتصرت على الموت دون أن اجعل ايديولوجيتي تتدخل، ظاهريا. ولكن (آخر الليل) الذي اعتبره افضل ما كتبت، استقبل بفتور علني من أغلبية القراء في بلادنا. وقال لي عشرات من المثقفين: "يامحمود! عد إلى الوراء. اذا كان هذا هو التقدم الفني فليتك لم تتقدم".. وقيل لي، بشفقة، ليتك لم ترحل عن القرية.. هذا الشعر غير مفهوم. ومجمل رأي القطاع الاوسع من القراء هو أن هذا الديوان يمثل بداية سقوطي. يضاف إلى ذلك أن الذين يكتبون النقد في بلادنا، عادة، لم يعيروا الكتاب أي اهتمام. وكتب احد رفاقي مؤنبا: "هل سيأتي كل قاريء إلى الشاعر ليفسر له هذه الرموز، أم يبحث عن منجم" وأعرب عن أسفه لانجراري وراء الشعراء الرمزيين!!

من المكابرة أن أقول اني لم اشعر بعذاب نفسي. هل يترتب على، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلى التعبير المباشر، والحث الصريح على الكفاح والتمسك بالامل والعقيدة؟ هل أعلل هذه الظاهرة بعدم وجود نقاد جادين؟ هل هذه الظاهرة تطرح قضية "التناقض" الفني بين متطلبات التجديد عند الشاعر وبين مدي الامكانيات الفنية المتوفرة لدي قطاع واسع من الناس؟ هل أصبحت صوري ورموزي وطريقة تناولي معتمة؟ هل غامرت كثيرا؟ إن هذه الاسئلة تشغل بإلى بشكل ملح، خاصة أني أعتبر نفسي شاعرا ثوريا يخاطب الجماهير ويلتزم بقضية الجماهير ويكتب من أجل الجماهير. ويطرح امامي سؤالا للمستقبل: كيف أوفق بين شق الطريق امام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟ ثم، انني مليء بالإحساس في ان "اللعبة الفنية"، عندي، مكشوفة خلف منديل شفاف. 

معارك.. ضد السلطة والعدمية وانعزال الفنان
ـ تخوضون معارك كثيرة.. حدثنا عن المعارك الفكرية والاجتماعية التي مارستها... وعن محاربة السلطة لكم ولشعركم... وعن السجن.

* كل هذه المعارك تقريبا تدور، مباشرة، في دائرة المعركة السياسية، سواء كانت السلطة الطرف الآخر والمباشر، وسواء كان الفكر الرجعي أو الانتهازي أو العدمي محفوفا بعطف السلطة أو تأييدها، أو لا يعدو كونه جندا من جنودها. ولعل مكافحة سعي السلطة إلى اشاعة العدمية القومية في صفوف الجيل العربي الجديد قد أصبحت إحدى معاركنا إليومية. وتكرس السلطة جهودا خاصة لاضعاف قوة جذب حزبنا للشباب بالهجوم المستمر على الفكر إليساري وعلى الاشتراكية، داعمة هذا الهجوم باساليب الارهاب غير الاخلاقية، وبفتح الابواب على مصارعيها لكل أنماط الحياة الامريكية وثقافتها. وتوحي السلطة مثلا لاحد مأجوريها، بين الحين والآخر، لاختلاق مناقشة واسعة حول: "هل العرب يؤلفون شعبا؟" وتملأ صحفها بالمصادر "والبراهين والأدلة العلمية القاطعة!" على أن هذه الشعوب المسماة عريبة ليست عربية!! ولم يكن من الطبيعي ان نجلس مكتوفي الايدي أمام مثل هذه الاسئلة، ودخلنا معركة طويلة مع أصحاب هذا "الفكر". أورد ذلك فقط على سبيل المثال. ثم إننا نحارب التثقيف الرسمي للشباب اليهود بروح الشوفينية والغطرسة القومية والتفوق العرقي وتزييف التاريخ، سواء كان ذلك في برامج التعليم أو الصحف أو الأدب والفكر.

وفي الميدان الادبي، دخلنا عدة معارك حول الالتزام في الأدب، وما هو الأدب؟ وهل هو للحياة أم لذاته؟ وغيرها من المواضيع التي شغلت حياتنا الادبية، بشكل ملح، ذات يوم. ثم ان لابد من دخول معركة حول قضية كانت قضية الساعة: قضية الشعر الحديث، وغيرها من المناقشات الدائرة حول قضايا الفن والادب، والروايات العربية الرخيصة التي أغرقت المكتبات. أما محاربة السلطة لشعري وشعر زملائي فقد كانت السلطة، في البداية، تجهد لجعلها غير مرئية بكل ثقلها، خاصة ان السلطة تحرص كثيرا على مباهاة العالم "بواحة الديمقراطية في صحراء الشرق"!! "أكتب ما تشاء وأدفع الثمن الذي نشاء" هذا هو الشعار غير المكتوب. ولكن، ما هو الثمن؟ لن تعمل، لن تمارس حرية التجول، ولن تترك طليقا، وستبقي عرضة للاعتقال. فإن أنظمة الطواريء الانتدابية التي لاتزال سارية المفعول، تتيح للسلطة العسكرية ممارسة كافة الاجراءات ضد أي مواطن وهي في حل تام من تبيين الاسباب أو تقديمه للمحاكمة. وهكذا أصدرت السلطة العسكرية أوامر الاقامة الاجبارية ضد الشعراء العرب التقدميين بدون استثناء.

وأنا، مثلا، لا أستطيع مغادرة حيفا منذ أربع سنوات. وسميح القاسم أمر بملازمة بيته منذ غروب الشمس حتي شروقها لمدة ثلاثة أشهر متتالية. وتوفيق زياد وسالم جبران محددا الاقامة في منطقة الجليل. ثم، هنالك المراقبة العسكرية على طبع دواوين الشعر: لايستطيع الشاعر أو صاحب المطبعة ان يطبع أية مجموعة شعرية إلا بعد أن تجيزها المراقبة العسكرية. ومن الواضح أن الرقيب لايرضي أن يكون عاطلا عن العمل أو كسولا!!، ثم، هناك الفصل من العمل اذا كنت موظفا: عيسي لوباني وسميح القاسم وغيرهما طردوا من جهاز التعليم. ثم، هناك السجن، رغم أن السلطة لم تجرؤ، حتي الآن، ولمتطلبات الدعاية، على محاكمة شاعر لانه كتب قصيدة، وقد حاولت تقديمي إلى المحاكمة في عام 1961 على قصيدة عن غزة، واستدعيت للتحقيق وقدمت لي لائحة اتهام، ونشرت الصحف أن العقوبة ستبلغ خمس سنوات سجن، ولم أحاكم حتي الآن. ولكني حوكمت لاني سافرت إلى القدس لالقاء قصيدة وسجنت شهرين. وأذكر أني في عام 1961 وجدت نفسي في غرفة التوقيف لمدة عشرة أيام بدون تهمة وبدون تحقيق. وفي حرب حزيران اعتقلت مرة أخري.

ولكن السلطة لاتكتفي باتخاذ الاجراءات المباشرة ضد الشاعر. أنها تمارس المعركة النفسية عن طريق الصحف، فحين أحظي بإشارة صحفية في صحيفة. حكومية أجد نفسي من خلالها شبيها بالوحش، فليست معركتي الا معركة عنصرية.. أعاني مركبات الحقد وكراهية اليهود وغيرها من الالقاب!! واني اتصدي لهذه الصورة باعصاب باردة، بالتمييز بين السلطة الصهيونية وبين اليهود. أذكر أن صحيفة "دافار"، مثلا، وصفت قصيدة لي عن الحرب بانها "طعن لافضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم"، فقلت "لدافار": انكم أنتم الذين تشتمون شعبكم، فأنا احتج على العدوان والقتل والتدمير والتنفس من رئات الآخرين، فتقولون لي: "انك تطعن افضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم". ومن المفيد ان نعلم ان التحريض على شعرنا ليس من اختصاص الصحفيين فقط، واذكر أن نائب وزير الدفاع السابق شمعون بيريس حين أراد البرهنة على ضرورة بقاء الحكم العسكري على العرب لم يجد الا شعرنا سببا كافيا لاستمرار هذا الحكم! 

حزيران.. الدماء والدروس
ـ حرب حزيران.. كيف واجهت وطأتها؟.. تأثيرها في حياتك، وموقفك.. والطابع الذي اتخذه شعرك في تلك الفترة المريرة، وبعدها.

* أدبيا، لم تخلق تأثيرا مفاجئا، ولم تقلب أفكاري رأسا على عقب، ولم تحطم قيمي كما فعلت، ومن الخير أنها فعلت، بالكثيرين من الشعراء العرب خارج بلادي. لم أكن جالسا في برج حمام لكي تقنعني، بمثل هذا الدليل الفادح، على ضرورة النزول إلى الشارع. ولكنها كانت مكاشفة جارحة. وأضافت، لمن لم يصدق حتي ذلك الحين، برهانا جديدا على ضرورة ممارسة العمل والفكر الثوريين الحقيقيين، وعلى أن الادب ليس سلعة أو متعة. وهذا ما كنا نؤمن به، حتي النخاع، قولا وعملا، وما زلنا بعد حزيران أشد ايمانا. ومن الضروري ان يستفيد منها أولئك الذين سودوا أطنانا من الورق ضد التزام الأديب بقضية، وضد تسلح الاديب بفكر ثوري حقيقي. ومن الموجع حقا أن يحتاج أديب إلى مثل هذه الكارثة لاكتشاف ما يشبه البديهيات، وأذكر أني قلت لفدوي طوفان، في لحظات لقائنا الاول في حيفا: هل ترين يافدوي أن شهرا واحدا من الاحتلال قد حل، عندك، كل المناقشات الطويلة حول الشعر؟ مشيرا إلى الانعطاف الواضح في شعر فدوي بعد احتلال نابلس. وقلت لها، بكثير من الوجع، "آمل ان يستفيد الجميع مما حدث، لئلا يأتي نزار قباني، مثلا، لزيارتنا"!

من الواضح، أن أحدا لايحاول التخفيف من قبضة الذهول، وتفتح الجراح الجديدة، والجراح القديمة التي تخفر مرتين أو ثلاث مرات. وأنا شخصيا، وأنا قابع في السجن، تعطلت اعصابي. وبعد خروجي لم اجرؤ على القيام بمحاولة الكتابة، لأن التشنج والرؤية الفارقة في الدم والحروق لم تتح لي بلورة المدخل الذي سأنفذ منه إلى مثل هذا الموضوع المهلك، والصعوبة الفنية في مثل هذه المواضيع هي العثور على فتحة ضيقة تتمكن من السيطرة على ها والتطلع إلى ساحة الموضوع وآفاقها. ويبدو أن سخونة الوجدان الزائدة عن الحد المعقول تفسد العملية الابداعية بقدر ما تفسدها برودة العقل الزائدة عن الحد المعقول. بعد شهور وجدت نفسي اكتسب بهدوء ظاهري هذه القصائد التي يحتويها ديوان (آخر الليل). وقد سهل على العملية، إلى حد ما. إدراكي انه لم يتبق لي شيء الا العقيدة والكلمة. فلماذا تسقطان؟ وهما وسيلتاي للصداقة مع الحياة، والتعويض الباقي. لقد استطعت في هذه القصائد، واقول ذلك بنبرة فخر، ان انقذ انسانيتي من الموت، في تلك الفترة العنيفة التي هددت انسانية الانسان بأفدح الاخطار. عندما انفجر الحلم، وجدت اني مازلت متشبثا بانبل تراث: انسانيتي.

شعر المقاومة: احتجاج وتغيير
ـ إن شعرك وشعر زملائك يعتبر جزءا من شعر المقاومة العربي والعالمي.. حدثنا عن مفهومك أنت لشعر المقاومة.

* شعر المقاومة، كما افهمه، تعبير عن رفض الامر الواقع.. معبأ باحساس ووعي عميقين بلا معقولية استمرار هذا الواقع وبضرورة تغييره والايمان بامكانية التغيير. قد يبدأ هذا الشعر، غالبا، بالتعبير عن الالم والظلم، ثم الاحتجاج والغضب والرفض. ولكن لكي يفعل هذا الشعر مفعوله عليه أن يكون عملية للتغيير فيتسلح بنظرية ثورية ذات محتوي اجتماعي، وهكذا يجد نفسه شعرا جماهيريا. إن شعر المقاومة، بطبيعته. شعر ثوري. وكون هذا الشعر جماهيريا قد يهلك أشباه الشعراء فنيا، عندما تصبح النية الطيبة والمباشرة والخطابة الرنانة هي العناصر الاساسية في شعرهم. إن "اللعبة" الفنية في شعر المقاومة تصبح اكثر انفضاحا. وعلى الشاعر أن يتداخل مع الواقع وينسق بكلمات متحررة من الهجاء والخطابة المباشرين. وأري أن من أنقى ميزات شعر المقاومة، عادة، الصفاء الانساني الشامل، فصرخة الانسان المضطهد المقاوم في أي مكان هي صرخة انسانية تخص كل انسان، والظلم والسجن والقتل والاضطهاد وقائع معادية للانسانية غير منحصرة في حدود جغرافية، ومقاومة الانسان لها هي عملية انسانية نبيلة. ويتمتع شعر المقاومة، عادة، بحساسية شديدة بالترنح كجزء من تمسكه بجذور عميقة تعينه على الصمود وعلى تبرير هذا الصمود واحتقار هذا الظلم الطاريء امام جبروت التاريخ. وأنا أعتبر نفسي امتدادا نحيلا، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة ابتداء من الصعاليك حتي حكمت ولوركا وأراغون الذين هضمت تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدوني بوقود معنوي ضخم. 

عن الرمز والشجر الذي صار بلون الدم
ـ في شعرك كثير من الرمز، وذكر لاشياء الطبيعة (الزيتون والبرتقال والشراب) لها عدة ابعاد رمزية وايحاءات... يقال: ان هذه الوسائل الرمزية "تبعد" الشاعر الواقعي عن واقعيته... ما رأيك في هذا، من خلال تجربتك الشعرية نفسها؟

* أشياء الطبيعة هذه، هي التي غالبا ما تتحول إلى الرمز عندي، فالبرتقال والزيتون، مثلا، هما من أقوي معالم الطبيعة في بلادي، ولكنهما ليسا طبيعة مجردة وبالمناسبة، انا لا أتحمس لشعر الطبيعة الوصفي الذي يمجد الطبيعة على اعتبار انها لوحة جميلة. ان هذه الطبيعة تستمد حيويتها ومدلولها وقيمتها من خلال تعامل الانسان معها. ان اهتمامي بالبرتقال والزيتون مستوحي من واقع الانسان الذي غرس هاتين الشجرتين وسقاهما بالعرق والأمل منتظرا ثمار ما اعطى. هذه العلاقة بين الزارع والشجرة تحمل مدلول استمرار الحياة والأمل والوطنية والتلقائية. ولكن، وبشكل مأساوي، قصمت هذه العلاقة بعسف وبكثير من الدم الذي لم يعد يبرر لي المحافظة على حرفية لون الشجرة مثلا، بعد ان اختلطت أوراقها الخضراء باحمرار الدم وسواد الليل. والمزارع لاقي أحد ثلاثة مصائر: إما الموت عند الشجرة، وإما الهجرة الاجبارية عنها، فالتصقت بذاكرته واصبحت رمزا للوطن وانتظار العودة، وإما بقي أمامها دون أن يملك القدرة على احتضانها واستمرار العلاقة بها، فتحولت لديه إلى نبع من الظمأ أو إلى امرأة تسبي أمام عينيه. هكذا، لم يبق من الشجرة الا مدلولاتها، أي أن الواقع تحول إلى رمز أو ايحاء. هذا الرمز أيضا ليس جامدا.. امرا مفروغا منه، انه يتحرك مع تطور البيئة هذا الانسان بما يفرزه هذا التطور من حالات نفسية. ولكن الرمز الذي يحافظ على "حقيقته" في كل حركات الزيتون، في نهاية المطاف، هو التشبث في التراب والقدرة على مواجهة الزمن وطول النفس والخضرة الدائمة أخيرا.

من الواضح، ان هذه الصورة لم تأخذ ابعادها الحالية عندي منذ اول الطريق. وقد توصلت إلى ها بعد احساس بضرورة التخلص من تفصيل الصورة الشعرية، والاكتفاء بما يشبه الرمز للتدليل على الواقع الحسي دون الاستغناء عنه كليا. الرمز عندي، كما أراه، ليس مبهما. إنه يكتشف بسرعة، وهو في أول الامر وآخره بدليل التعبير المباشر. هنالك تبرير آخر، لعله قادر على اعطاء جواب آخر على عضوية الترابط بين الصيغة والموضوع، كان من دوافع لجوئي إلى الرمز، في البداية، محاولة تخطئي الواقع الذي لايتيح لي امكانية الحديث بشكل مباشر، لاسباب سياسية، فكان لابد لي من ممارسة "الاحتيال" الفني لعكس واقعي.. وهكذا ترون ان الرمز كان ضرورة وحاجة ثم تحولت إلى طريقة تعبير.

لماذا الرمز وانا واقعي؟ لعل ما قلته عن توصلي إلى الرمز يعطي الجواب، ثم ان استخدامي الرمز جاء لغناء واقعيتي ولخدمتها. والواقعية، كما افهمها، هي طريقة في فهم الحياة وعكسها واعادة خلقها، وليست وسيلة تعبير ميكانيكي جاهز. ولذلك، لا أري تناقضا بين التزامي بقضية وعقيدة وبين سعي إلى ما يبدو لي انه طريقتي الذاتية في التعبير.

ـ في شعرك ملامح من الاساطير والحكايات الشعبية.. ما هي الاساطير والحكايات التي اثرت بك؟

* هذه الملامح ليست ساطعة في شعري. وإذا كنت ألجأ، أحيانا، إلى الاساطير فليس ذلك لاعادة خلقها، وانما كنت احاول "اختطاف" الرمز منها عندما يكون هذا الرمز صالحا لخدمة موضوعي والتوافق مع ذاتيتي، أي عندما اشعر بالتشابه بين ايحاء ذلك الرمز والايحاء الذي اريده. كنت مولعا، بشكل خاص، بالاساطير إلى ونانية وبقصص القرآن والتوراة. وقرأت، بشغف، حكايات الف ليلة وليلة. 

عن الشكل الجديد للشعر والالقاء امام الجماهير
ـ كيف يتم التوفيق، عمليا، بين الشكل الجديد للشعر وبين الضرورة التي تواجهونها باستمرار لالقاء الشعر بين الجماهير العربية داخل اسرائيل؟.. حدثنا عن تجاربكم في هذا المجال.

* بودي القول إن مهرجانات الشعر العربي في اسرائيل قد تحولت، ذات مرة، إلى احتفالات شعبية ينتظر الناس مواسمها. وأنا اذكر تلك الفترة بفرح حقيقي. كانت ساحة القرية أو المدينة أو دار السينما تزدحم بالناس من جميع الفئات والاعمار للاستماع إلى الشعر بحيوية وتجاوب واضح، حتي ضاقت السلطات ذرعا بهذه الظاهرة "الخطرة" وقاومتها بمختلف الوسائل ولجأت أخيرا إلى منع الشعراء من الانتقال من أمكنة سكناهم. لم يكن المستمعون يفكرون ببناء القصيدة بقدر اهتمامهم بما تحمله من الصور والمعاني والايحاءات، واذكر أن القصيدة الاولي المنتمية إلى الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا ابوحنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري، أن انصار "الشعر القديم" في بلادنا متشددون حين تكون القصيدة مطبوعة، ومتساهلون أشد التساهل حين تكون مسموعة، وهذا يؤكد لي أن إحدى صعوبات الشعر الجديد، بالنسبة لكثيرين من القراء، هي طريقة قراءته المتعسرة، فلا يعرفون متي تبدأ الفقرة الجديدة ومتي تنتهي الصورة الاولى لتلحقها الصورة الثانية وهكذا...

وبالنسبة لي، فوجئت ذات يوم حين أصر المستمعون على الاستماع إلى قصائد مكتوبة بالطريقة الجديدة. واذكر اني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي "بطاقة هوية" اجبرت على إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة أدركت ان القصيدة الانسانية، مهما كان بناؤها، يمكن ان تلقي امام الجماهير، بدون أي حرج. ثم أن القصيدة الطنانة الرنانة تخلق جوا ضوضائيا، بينما القصيدة الجديدة تنشر، بسرعة غريبة، جوا من الذهول الذي يحبه الشاعر في مستمعيه، ولا أقول ان كل المستمعين يفهمون، دفعة واحدة، كل ما في القصيدة، ولكنهم يعيشون جوها ويفكرون بها. واعتقد ان على الشعراء الجدد، لكي يعززوا مكانة الشعر الجديد، ان يزيدوا من إلقاء الشعر للجماهير لكي تعتاد عليه وتتحرر آذانها من النبرة الضخمة القديمة التي اعتادت على ها وتوارثتها جيلا بعد جيل. 

التيار التقدمي هو الحاسم بين الكتاب والشعراء العرب
ـ حدثنا عن أوضاع وتيارات الحركة الفكرية والأدبية للكتاب العرب داخل اسرائيل.. وهل يوجد من باع نفسه للشيطان وراح يروج للمفاهيم التي تخدم السلطات؟

* استطيع ان اقطع، بسهولة وبسرعة، بأن التيار التقدمي هو التيار الحاسم في حركتنا الثقافية. ومن دلائل هذه الظاهرة هو ان التيار الآخر لايملك الجرأة الفكرية على مواجهتنا. إن التيار الرجعي عديم النفوذ، وقد شاءت الصدفة المدهشة ان تكون العناصر الرجعية فقيرة المواهب. لنأخذ الشعر، مثلا، وهو وجه الادب العربي في اسرائيل. ان كل الشعراء المعروفين والموهوبين، وبدون استثناء، ليسوا تقدميين فحسب، ولكنهم ينتمون إلى الحزب الشيوعي. ان المعركة عندنا تدور بين الشعراء التقدميين والسلطة مباشرة، والعكاكيز الثقافية التي حاولت السلطة الاعتماد على ها كانت أضعف من اية مواجهة. فنجمت عن هذه الحقيقة ظاهرة جديدة هي ظاهرة الصمت. اننا نجد فئة من الموهوبين تعاني ازمة فكرية ونفسية أوقوفها امام احد اختيارين: إما الكتابة. والكتابة عندنا يشق، على ها الانفلات من الواقع الخشن، وأما الاحتفاظ بلقمة العيش والسلامة. وقد اختارت هذه الفئة الاختيار الثاني، فصمت البعض صمتا تاما، وتحفظ البعض من المواجهة.

أما العناصر الرجعية فانها تسعي إلى ترويج فكرة عدم جدوي الادب الواقعي، واشاعة إلى أس والتشكيك، ولكن منابر هذه العناصر تهاوت، فان كل المجلات الثقافية الحكومية المدعومة بميزانيات ضخمة قد اضطرت إلى الاحتجاب، لا بسبب افلاسها المإلى وانما بسبب افلاسها الفكري وعجزها عن كسب الانصار من الكتاب والقراء ان هذه الظاهرة ظاهرة فشل المجلات الحكومية، تثبت قوة نفوذ التيار التقدمي في أدبنا الإنساني المعبر عن مشاعر الجماهير وتطلعها إلى حياة أفضل متحررا من الشوفينية ومن العدمية القومية. ومن أشد الادلة على ذلك ان صحفنا الشيوعية "الاتحاد" و"الجديد" و"الغد" ذات الموارد المإلية الفقيرة تتمتع بتأييد القراء وعطفهم.

ـ ما هو الشعر، بالنسبة لك؟ هل تقرأ كثيرا؟ ماذا تحب ان تقرأ بشكل خاص؟. ولماذا؟

* في السنوات الاخيرة صارت قراءتي خاضعة لبعض التنظيم، فانا أولي الدراسات النظرية والفكرية والسياسية المتعلقة بقضايا الحركة الثورية وهموم العصر المرتبة الاولي من الاختيار لأتمكن من شحذ سلاحي الثقافي ومعرفة العالم الذي أعيش فيه وايجاد مبرر لكفاح الانسان. ولعل اهتمامي الخاص بالدراسات السياسية والتاريخية ناجم ايضا عن طبيعة عملي الصحفي. وفي الميدان الادبي أحاول الموازنة بين حاجتين ماستين: دراسة الآداب القديمة وقمم الكلاسيك العالمي، وملاحقة التيارات الادبية والفنية المعاصرة في العالم. وانا مولع بمطالعة السير الذاتية لانها تحتوي على الفائدة والمتعة والكشف عن خبايا النفس. ولعلى احتار بين ايثاري للشعر ام للمسرح، لاني مفتون بكل ما يتعلق بالمسرح. وبالمناسبة، لا أري الافلام السينمائية ولا اقرأ عنها رغم ما اتعرض له من نقد الاصدقاء وسخريتهم، واعتبر نفسي جاهلا في هذا الموضوع. وأحب ان اكون حريصا على مواكبة الادب العربي الحديث والادب العبري الحديث.

ـ هل لك تجارب، غير الشعر، في العمل الابداعي؟.. رواية.. قصة.. مسرحية.. أي شيء... حدثنا عن هذه التجارب سواء نشرت اشياء منها، أو لم تنشر!

ـ لم أحاول كتابة القصة أو الرواية، ولايبدو لي أني سأحاول رغم شغفي الشديد بقراءتهما. ولكنني مشبع بالرغبة في محاولة كتابة مسرحية شعرية. أحب كتابة الادب الصحفي، والريبورتاج، وتسجيل انطباعات عن الكتب والاحداث والأمكنة، وقد كتبت مئات المقالات من هذا النوع. ولكنني في السنة الاخيرة لا أكتب إلا المقال السياسي أو التعليق، واتمتع بكتابة الاخبار السياسية.

ـ ماذا تكتب الآن؟ وما هي مشروعاتك؟

* اكتب، في هذه الفترة، عن الحب الذي يولد وسط قضية، فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا لايتجزأ منها. أريد أن أكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين وبين الشارع. فالعاشقان ليسا عاشقين فقط، ولكنهما ضحية واحدة وأمل واحد وكفاح واحد. لقد تحدثنا كثيرا عن التحام الخاص بالعام، ولكن هذه الظاهرة أصبحت تأخذ شكلا تلقائيا عندي خاصة في الاغاني التي اكتبها الان. ان طعم العاشقين يحمل مذاق الواقع الخشن.

ـ أي دور تطمع ان تؤديه، في الشعر، وبواسطة الشعر؟

* أن أنقل قضية شعبي، بكل أبعادها، إلى الصفحات التي تستحقها في ديوان الشعر الإنساني، فهذه القضية حلقة من صراع الانسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة وفي نشاط البشرية. ومن الظلم أن أطالب غيري بتأدية هذا الدور. ومهما يكن حجم الآلة التي أعزف عليها صغيرا، فإن لها مكانها في التشيد الانساني الشامل. إن أصوات الشعراء القادمة من أنحاء العالم، مجتمعة، هي التي تؤلف هذا النشيد. وتمسكي بهذه الآلة الفلسطينية لايتنافي مع وعي لشمولية الكفاح الانساني. ومجموعة الاشجار هي التي تصنع الغابة! 


هذا هو أول حوار مع محمود درويش في الصحافة العربية أجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968 في موسكو، أول عاصمة يزورها محمود درويش.