محمود درويش: ليس ضد الحوار

ليس متفائلاً باختراق الوعي الإسرائيلي

حاوره: عباس بيضون، أحمد بزون، نديم جرجورة، رشا الأطرش

 

تحلقنا جميعا، كل "السفير" من حول محمود درويش: شاعرنا، كاتبنا، مغنينا، و "زميلنا" الذي وسّع مدى فلسطين فجعلها ملحمة إنسانية تتقاطع فيها حقيقة الجرح ووجع الاقتلاع والوطن الممنوع من أرضه والمنفى المقفل بالأسطورة المسلحة... تحلقنا من حول فلسطين القصيدة والأمل الذي يصارع الخيبة والعجز، والحق المهيض الجناح أمام هجمة العنصرية التي تستولد ذاتها من ذاتها وتنشر الخوف على الأرض المصادرة بحجة الخوف المتفاقم من أهلها الذين لا يموتون ولا يرحلون ولا ينسون ويقررون البقاء في الأرض لأنها مصدر القداسة والأبقى من الذاكرة.

لم نتحلق حول محمود درويش لنسمع كلمة هذا الشعب الذي يكاد تاريخه المعاصر ان يكون انتفاضة مفتوحة، وإنما لننتعش بذكاء منشد فلسطين الأكبر، فحديث محمود درويش متعة كشعره. فهو قد اكتنز من تجربته الخاصة التي خاض فيها الغياهب حتى وقف على حدود الموت، واكتنز من الماضي فعاش على الطريق إلى فلسطين في كل مكان، واكتنز من العالم والحياة كلها فكان صوته شخصيا، فلسطينيا، عربيا وكونيا في آن واحد. مذهل هذا التدخل بين الشاعر والسياسي في هذا الرجل الذي يبهرك نثره بقدر ما ينشيك شعره، والذي تتداخل لغة القصيدة مع تحليله السياسي فإذا الذكاء يحتل المساحة ويحرضك أن ترتقي بلغتك لينتظم الحوار.  

إنه ابن قضيته وبطلها المقيم، المنفي، العائد، الشهيد، المقاوم، المحاور، المنادي بالسلام في وجه الخرافة المسلحة.

ولهذا فهو يتابع، ويعرف، ويحلل، ويعلن رأيه. يقرأ ويسأل ويقدر ويستنتج. ثم انه يعرف "المجتمع المعادي" بتفاصيله، بعسكره ومثقفيه، بأحزابه التي تلغي توراتيتها علمانيتها، بأنبيائه الكذبة وقادته الذي انتصروا في الميدان كثيرا وما زالوا يخافون أكثر من الحقيقة التي يحاولون طمسها بالضحايا والدم والبيوت المهدمة والأشجار المحروقة. لا يخفي محمود درويش تعاطفه مع عرفات والسلطة ومحاولاتها لتجسيد فكرة الوطن على الأرض، هي الممنوعة من أن تكون دولة. ويعرف نهايات التفاوض حول المستحيلات (إسرائيليا): عودة اللاجئين، القدس... إزالة المستوطنات؟! "في البداية كنت أظن ان المستوطنات مجرد كارافانات أو بيوت جاهزة، ثم فوجئت بأنها مدن أكبر من مدننا الفلسطينية، لا سيما في الضفة، فكيف يمكن تفكيكها؟!". الشاعر هنا لا يتلقى من المطلق والغيب، ولكنه يعرف ويفهم ويتابع دقائق الواقع التفصيلي. وتعجب كم ان محمود درويش حكيم، انه حكيم فلسطين كما هو شاعرها. إن لم يقنعك رأيه، أحيانا، أقنعتك حكمته، إنه مكتنز بالتجربة، مثقل بالطعنات والمطاردة ومرارة النفي التي حولها إلى عطر وشهد وألحان. خرج الشباب والشابات من الانبهار وجلسوا الى محمود درويش يسألونه فلا يرتوون، ويجيبهم ولا يتعب، فالشاعر الكبير النجم الرمز يظل بسيطا وقريبا من القلب وظريفا، وحكّاء، إذا احتاج الأمر وفي كل ذلك وفي أبعد تفاصيله قريبا وأليفا كالحياة.

لمرة صار الحديث السياسي رقيقا كالشعر، صادقا كالجرح، بغير ان يغيب "الحكيم" الذي يمكن أن يتحول في لحظة الى "داهية"، وبغير أن يتوقف عن إكمال ملحمة فلسطين الباهرة حقيقتها إلى حد أنها تبدو رقيقة كالأسطورة. بداية حديثه كانت شكلا من أشكال التنهد المؤلم: فالمنفى يحمله الفلسطيني إلى أي مكان، حتى في الوطن نفسه، طالما أن القوام الجغرافي لم يتحقق. ففلسطين الآن، أي فلسطين المتحققة، هي مجموعة من الأقفاص لا علاقة جغرافية بينها ولا اتصالا ولا شكلا. هناك استقلال داخل المدن أو ما يسمى في المنطقة (A)، أما المكان الذي من المفترض ان ينشئ الفلسطيني عليه دولته فهو غير محدد. هي دولة بالوعد والذهن. والفلسطيني كما رأى درويش يميز بين وطنه أو وعيه لوطنه التاريخي وبين حقه الممكن في أن يقيم دولة على جزء من هذا الوطن. أما الحكم على هذا التمييز فسوف يكون براغماتيا لا أخلاقيا. وما دام الإسرائيليون يناقشوننا في النسب المئوية فنحن نقول لهم: تنازلنا عن 78 في المئة من وطننا التاريخي من أجل إقامة دولة قد تؤدي إقامتها الى تسوية تؤدي الى سلام ممكن. نحن منتصرون في حجم التنازلات (يضحك) فهم "يذلوننا" في أنهم طلعوا من 94 في المئة من الضفة الغربية وقطاع غزة. ويرى محمود درويش أن هناك تشكلات، وهناك درجات في المجتمع الفلسطيني داخل مناطق السلطة. المناطق مقطعة، والضفة الغربية منقطعة، الى حد ما عن المجتمع الفلسطيني في غزة، سواء أكان على مستوى البنية الثقافية أو التربوية. ولا نستطيع الكلام على مجتمع فلسطيني موحد الملامح، فهذه الملامح لا تزال تتشكل. ويتابع: قبل العام 1948 كان هناك مجتمع طبعا. ثم تم تدمير هذا المجتمع وتقسيم الفلسطينيين الى تجمعات. وكل مجتمع فلسطيني في الأردن وسوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية وأراضي 1948 له ملامح المحيط الذي هو فيه.

الوعي موحّد
الفلسطينيون لديهم تماسك على مستوى الوعي والفهم المشترك لهويتهم. فوعي الفلسطيني لهويته وتاريخه وذاكرته موحد، أما ان يكون المجتمع الفلسطيني موجودا ومتصلا ببعضه البعض على الأرض، فهذا شيء آخر. الدولة أحد أغراضها إنها توحد هذا المجتمع. فالتوحيد المطلوب مرحلة لاحقة لمشروع الدولة وليست سابقة له. ولو كان هذا التوحد موجودا من قبل، لكان الأمر أسهل على نهوض مشروع الدولة. فأحد انتصارات إسرائيل هو أنها تستفرد بكل مجموعة أو عينة من المجتمع الفلسطيني على حدة، حيث كل فئة في قفص والمفتاح في يد إسرائيل. فليس هناك اتصال بين غزة والضفة الغربية حتى الآن بتاتا، منذ أوسلو، والاحتلال، قبل أوسلو، كان يسمح بالعلاقات بين غزة والضفة الغربية، لأنه لم تكن هناك حواجز، كانت الأرض مفتوحة. بعد الانتفاضة الأولى وجدت الحواجز. الآن، ومنذ أوسلو، لم يعد هناك أي اتصال بين الضفة الغربية وغزة، لا أفرادا ولا مجتمعات. فعلاقات غزة بمصر أصبحت خاضعة للسلطة الإسرائيلية، إذ أصبح هناك حاجز، والضفة الغربية التي كانت لها علاقات بالأردن أصبحت مغلقة، بل أصبحت علاقتها بإسرائيل على مستوى التجارة والاقتصاد، وليس حتى مع مجتمع 1948، لأن الأخير جزء من الدولة الإسرائيلية وهو مغلق. وهذا شيء موضوعي.

هل السلطة الفلسطينية حتى الآن ما زالت لها صفة الشرطة؟ وما دورها في تأمين استقطاب هذا المجتمع؟

يقول درويش: لم تكن شرطيا منذ البداية. هي ككل شرطة فيها جانب بوليسي، لكن ليس كلها بوليسية. فالأمن أحد اهتمامات السلطة، وليس هناك سلطة من دون أمن لكن لديها أيضا برامج اقتصادية، وثقافية، وتربوية، وهناك اهتمام كبير ببرامج التعليم، وصياغة مشروع ثقافي محتواه ان فلسطين كلها موحدة على مستوى المستقبل والتاريخ. لا... السلطة ليست فقط مظهرا أمنيا او بوليسيا. هناك نقاط اشتراك بين السلطة وبين المجتمع مثل تلك القائمة بين أي مجتمع وأي سلطة، ففي الأزمات الأمنية يحدث ذلك.

وهل التعلق بالسلطة الفلسطينية إذا يمثل التعلق بالدولة لأنها أحد مجسدات فكرة الدولة؟ يجيب درويش: عندما كنت في لبنان، كنت دائما أقول ان منظمة التحرير هي الوطن المعنوي للفلسطينيين. السلطة هي نواة الدولة الفلسطينية. طبعا هناك ما يثير الدهشة، بأنه ليس هناك دولة اسمها سلطة. فجواز السفر الذي أحمله صادر عن السلطة الفلسطينية، لكن هذا ليس ابتكار السلطة، بل هو شيء أكرهت هي عليه، لأن هذا الجواز ناتج عن اتفاق فلسطيني إسرائيلي. إسرائيل لا تسمح ولا تعترف بتسمية الدولة الفلسطينية، فوجدوا حلا وسطا اسمه السلطة، أي أننا نحن دولة السلطة، ولسنا سلطة الدولة، وهو اسمنا رسميا في العالم، ونأخذ تأشيرات الى أوروبا وأميركا بسهولة إذا كنا نحمل هذا الجواز.  

طوارئ فلسطينية 
إطار السلطة يطرح سؤالا عن استقطاب النخب الفلسطينية الاقتصادية والثقافية..؟ يرد درويش: في البداية كان هناك إقبال من النخب الاقتصادية والثقافية والأكاديمية على التعاون مع السلطة. لكن مع الممارسة والتجربة ولأن السلطة مشغولة بحربين، حرب تثبيت ذاتها وعلاقتها بالمجتمع، وحرب الاستقلال لأن لديها صراعات مع الاحتلال، تأخر هذا الاستقطاب. دائما كلما تأزم الصراع مع الاحتلال، يتوحد المجتمع والسلطة، وتعود السلطة سلطة وطنية يلتقي مشروعها مع مشروع المجتمع الفلسطيني.  

إذا أخذنا اللحظة السياسية الراهنة، لا أحد ينظر الى السلطة على أنها الشرطة التي تقمع المجتمع، الآن ينظر على ان الاثنين شيء واحد في مواجهة الاحتلال وفي محاولة تحقيق المشروع الوطني، فكلما تأزمت العلاقة بين السلطة والاحتلال ازداد التفاف المجتمع من حول السلطة. فالمسألة الوطنية مازالت هي الأولى، قبل السؤال الديموقراطي والسؤال الثقافي، لأننا مازلنا في حالة طوارئ.  

أما عن استقطاب الفلسطينيين من خارج فلسطين كالبلدان العربية وأوروبا وأميركا.. فللأسف لم تنجح السلطة في استقطابهم. ولا أعرف مدى محاولتها في هذا الصدد، لكني لا أرى ان هناك جاذبية للفكرة لدى النخب الثقافية والاقتصادية في الخارج لهذا. اقتصاديا أفهم ذلك لأن رأس المال جبان، ولا يستطيع ان يعمل ان لم يكن هناك حد أدنى من الاستقرار السياسي او الأمني.  

وفضّل درويش ان نخفف قليلا ثنائيات السلطة والمجتمع، ونتكلم عن فلسطين. في بداية أوسلو، كان الجو العام الثقافي الإسرائيلي متقبلا لفكرة المصالحة بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين على أساس ان تلك المصالحة قد تضع الإسرائيلي في حالة تطبيع مع نفسه، وتخفف التوتر الوجودي الذي يعيشه. هذه المصالحة أيضا تفتح باب السلام مع العالم العربي أي ان السلام العربي الإسرائيلي لا يمكن ان يتم إلا عبر البوابة الفلسطينية، وأظن أننا نشاركهم في ذلك الوعي. وكان هناك التفاف بشكل خاص من قبل نخبة من المثقفين والمبدعين الإسرائيليين الذين شاركوا، في غرناطة، في ندوة شارك فيها ياسر عرفات وبيريز، وبارك مثقفون هذه الندوة. ثم لاحظنا تفاعلات إسرائيلية داخلية أدت الى اغتيال رابين، مما يعني ان المجتمع الإسرائيلي ليس موحدا حول موضوع السلام، بل حول الحد الأدنى من السلام. وهذا إعلان أن الجاهزية النفسية والتربوية والثقافية الإسرائيلية تعترضها مقاومة من اليمين والخوف التقليدي الإسرائيلي. فاغتيال رابين أحدث تحولا جذريا، وكان من المفروض أن يؤدي الى استنفار لدى قوى السلام، مثل حزب العمل. لكن قيادة شمعون بيريز لحزب العمل، وما فعله في الجنوب ومجزرة قانا، تظهر أنه لم يرد أن يكون بعيدا تماما عن جو المناخ المضطرب في إسرائيل. بدأ التحول من هناك وتراكم وبلغ وصول نتنياهو ثم شارون. حتى باراك فهو شارون ثانٍ. باراك فكره ليكودي، مثل تصريحاته البارحة في "واشنطن بوست" فهو يبارك كل ما يفعله شارون بل ويشجعه على الاستمرار، فبالرغم من أنه قائد حزب العمل إلا أن فكره فكر ليكودي. ومن مفارقات الأقدار أن حزب العمل اسمه حزب يسار، وان باراك يسار، لكنها ليست أكثر من تسميات حزبية.  

عودة إلى مرحلة الخوف 
هناك شبه وحدة فكرية بين اليمين واليسار. في رام الله، من مدة، كان هناك لقاء بين نخبة من المثقفين الإسرائيليين والفلسطينيين رعاه ياسر عبد ربه ويوسي بيلين. للأسف قيل لي، لأني لم أكن موجودا، ان هذا اليسار والمثقفين الإسرائيليين يتبنون تبنيا كاملا الرواية الإسرائيلية حول المأزق السياسي الحالي. أي أن الفلسطينيين بتمسكهم بحق العودة يطالبون بعودة أربعة ملايين فلسطيني، مما يعني القضاء على الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية. ثانيا ان الفلسطينيين لا يريدون السلام بدليل أنهم تخلوا عن العرض الكريم الذي قدمه باراك، وثالثا أننا نحن نرفض وقف إطلاق النار (بينما شارون هو الذي يتولى إطلاق النار).

اللحظة الثقافية الحالية في إسرائيل هي لحظة واحدة وطنية، والأفراد الذين لديهم أصوات مختلفة يعدون على أصابع اليد الواحدة. اللحظة الآن ثقافيا وسياسيا متطابقة. لكن المشكلة أننا دائما مطالبون بتقديم تطمينات، وحل لمشكلة مخاوفهم لا مشكلتنا نحن، وهذه من أقدرانا العجيبة، التي تبدو مضحكة. يجب علينا إذا، ونحن ننشئ مشروعنا، ان نطمئنهم. ولا بد أنكم لاحظتم لهجتهم في وقت الانتفاضة بأنهم محاصرون، وفي خطر، وإنهم عادوا الى أجواء ما قبل 1967، أي مرحلة الخوف الحقيقي. أي أنهم حشدوا خوفا آنذاك من أجل ضربة 1967، والآن شارون يعيد تذكيرنا بأن حرب 1948 لم تنته، بأي معنى؟ بمعنى أنه لم ينجز المشروع الصهيوني، مع أن هذا المشروع أنجز. فإذا كان هدفه (المشروع) إنشاء دولة، فهم أخذوا، في التقسيم، ما لنا وما لهم، وتوسعوا. واذا كان فهمه هو الإجهاز على الهوية الوطنية الفلسطينية وان ذلك هو ما لم يتم، فهذا صحيح. نحن نخاف من هذا الفهم والحرب، لكننا نأخذ عبرة بأن هذه حرب استقلالنا. هناك الآن صراع حول أن هذه الحرب هي حرب 1948 إسرائيلية أم حرب 1948 فلسطينية؟ نحن نريدها أن تكون حرب استقلال فلسطينية.

وبعد كل هذه المقولات هل المجتمع الإسرائيلي، بتركيبته السياسية والقومية قادر على الصمود؟ يرد درويش: الإسرائيليون يخسرون خصوصا في مجال السياحة والزراعة. وهم يخسرون أيضا في مجال الاستثمار، لكن قدرتهم ومقومات صمودهم أقوى من مقومات صمودنا. فهم اقتصاديا وعسكريا دولة عظمى، واذا كان قد أصابهم نقص ما، فالحنفية الأميركية مضمونة. لا نريد أن نراهن كثيرا...  

دور المثقف 
وينفتح الكلام على ثقافة السلام مع إسرائيل. ويعتقد درويش أن ثقافة السلام كان شعار إسرائيل، وبرأيي أنه سيصبح شعارنا نحن، لأنه مهما بلغ بنا سوء الأمر، فهم يتمنون منا أن نرفضهم، فقوتنا المعنوية الآن هو أننا متمسكون بفكرة السلام. لماذا؟ لأنه في كل حروبهم ودعاياتهم وعلاقتهم في العالم الخارجي يقولون إنهم دولة صغيرة تسعى الى السلام، والعرب لا يقبلونه. منذ عشرين سنة كان للعرب مشروع سلام عربي، قائم على قاعدة قبول 242، 338، انسحاب إسرائيلي من كل الأرض العربية والفلسطينية. نحن بهذا توجهنا الى إسرائيل. وبهذا القبول للسلام، تمكن الفلسطينيون من إقامة شيء من الكيانية. ومن يتراجع الآن عن موضوع السلام ليس نحن بل هم. وأنا أعتقد أنه ثقافيا وسياسيا، وحتى إعلاميا، لا نخسر شيئا من التمسك بأننا نريد السلام. في رأيي التخلي عن فكرة السلام من جانبنا ستكون الهدية الكبرى للإسرائيليين وسيريحه لأنه هو لا يريد السلام. أنت تريد ملاحقته بضغط السلام، السلام طبعا القائم على حد أدنى من العدالة. حتى التحرير والكفاح المسلح والوحدة العربية آخرتها ماذا؟ أليس السلام؟ حتى حرب التحرير ستنتهي الى سلام.

حتى أنني أفاوض العدو بهذا الشعار وهو يطلق النار. في آخر الأمر أنا أحاور معه على موضوعين: استقلالي وحريتي. هو مستمر في حرب، أسأقول له إنني متخل عن السلام؟ حتى وإن كانت عملية السلام الآن تعطلت.

أما دور المثقف في التسوية، والذي يتقاطع مع دور السياسي أو يفترق، فهو ملتبس، خصوصا أن هذا الالتباس موجود أيضا في شخصية درويش الذي تتقاطع لديه أيضا الصفتان.

قال: أنا أرى أن المثقف لا يقدر أن يكون متعاليا، لا بصفته المعنوية ولا بنشاطه ولا بسلوكه، عن الواقع والسياسة. لا أقدر أن أفرق بين المثقف والسياسي. والسياسي ليس مفهوما معيبا، بل السياسة بمعناها الأرقى: علاقتك بواقعك، بمجتمعك، بالتاريخ. لكن المثقف لا يجب أن يكون مشغولا بالتسوية، بل بصياغة مفاهيم العلاقة بين الحرية والسلام، العلاقة بين الأنا والآخر. مجال عمله هو على مستوى الوعي، العمل على تغيير وعي الآخر. أما أن ينخرط بالسياسة فليس هذا هو الموضوع. أنا مبدئيا لست ضد الحوار، لأنه لا يمكن أن تصل الى سلام مع الإسرائيليين أو تغيير في فهمهم لذاتهم إلا من طريق إقناعهم، والرأي العام الإسرائيلي موجود وله احترامه وله قوة ضغطه. صحيح أنه يتشكل بسهولة عن طريق الوسائل الإعلامية الرسمية لكنه موجود وحاضر.

ذكّرنا محمود درويش بكلام نُشر على لسانه ولسان نجيب محفوظ في مجلة "أخبار الأدب" القاهرية يمتدحان فيه شخصية شمعون بيريز كرجل سلام. رد: حتى لا أظلم نجيب محفوظ، هو لم يمتدح بيريز، لكنه أجرى مقارنة بينه وبين شارون، وأي مقارنة بينهما تظهر بيريز أفضل. قال محفوظ إن بيريز أذكى والتعامل معه أسهل من التعامل مع شارون. وهذا كلام صحيح، لكن ليس هناك بيان مشترك بيني وبين محفوظ في امتداح بيريز.

هذا بالنسبة إلى الواقعة، أما في المبدأ، فبرأيي انه يمكن للمثقف، أو حتى الفيلسوف، إبداء رأيه في الأمور اليومية. ما المشكلة؟ المثقف ليس فقط رجل نصوص كبرى. هو أيضا على علاقة يومية بالأشياء، ويمكن أن يبدي رأيا بحدث ما. أريد أن أحل المثقف من هذه القداسة. هو ليس مقدسا.  

لن أبقى ضحية 
وتحدث درويش عن أزمة المفاوض الفلسطيني والعربي، فرأى ان هناك إمكانية التوصل الى تسوية لا إلى سلام. وان الإسرائيلي يريد منك أن تحبه أولا، وأن تعمل معه تطبيعا وتقبل روايته التاريخية وشرعية وجوده، ثم بعد ذلك تتفاوض معه حول وقف إطلاق النار.

إن مشكلة إسرائيل داخلية، تتمثل بأن عقل الدولة علماني والمجتمع متدين. الإسرائيلي يحتاج الى الدين من أجل إثبات الشرعية التاريخية، فهو لا يقول إن مشروعه كولونيالي استيطاني بل مشروع عودة. فالحق الديني لا يستطيع أن يتخلى عنه وهو يحتاج بجانب القوة إلى خطاب تاريخي يؤكد أنه عائد الى بلده وهذه العودة لا تؤمنها إلا المرجعية الدينية. من هنا ارتبط الخطاب العلماني والديني معا. والآن تقوى كفة الخطاب الديني، حتى أنك عندما تحادث علمانيا وتناقشه عن القدس يصبح متدينا.

شلومو بن عامي أستاذ تاريخ وعلماني جدا وذو ثقافتين فرنسية وإنكليزية، لكنه في المفاوضات يصبح حاخاما ويقول إن تحت الهرم يوجد هيكل سليمان.

ذات يوم قلت لهم في تصريح صحافي: لنفترض أنكم حفرتم وعثرتم على الهيكل، وعثرتم على سليمان وهو جالس مع بلقيس ويكتب فصلين من نشيد الأناشيد، ما العمل؟ ما الذي نفعله؟ مختصر الكلام ان الحرب الفكرية طاحنة الآن بين الديني والعلماني.

أريد أن أوضح كي لا أُفهم خطأ إنني لست متفائلا جدا بنجاح اختراق الرأي العام الإسرائيلي والوعي الإسرائيلي. لكن من واجبنا أن نحاول وأن نعرّف بحقيقتنا وحقنا. فالسلام الذي أدعو إليه هو من أجل إنسانيتي وكي أفهم أنني لن أبقى ضحية، فلا يعنيني أن أكون دائما ضحية.

الوعي الإسرائيلي ليس ثابتا ونهائيا، بل متقلب. فقد كان هناك التفاف عظيم حول عملية أوسلو. الآن هناك تصلب تجاه المفاوضات، انه وعي مصنوع. فالإسرائيلي العادي يتشكل وعيه كل ليلة الساعة الثامنة مساء عبر القناة التلفزيونية الأولى. ما يقوله له التلفزيون والجريدة مقدس.

لكن هل هناك مواطن إسرائيلي؟ يجيب: بعد أوسلو بدأ الإسرائيلي يستعد تدريجا للتحول من عسكري أو جندي، أي من العقلية العسكرية الى مدني ومواطن. لكن كلما ذهب في هذه المحاولة يأتي موضوع أمني أو حملة إعلامية إيديولوجية ضخمة تعيده الى الصورة الأولى والى المركز السابق. كان هناك فرصة أن يتحول الى مواطن، بمعنى المواطن المدني لا الجندي. نعم هناك مواطن لكن السؤال هل هو مدني أم عسكري.

أما عن السلطة الفلسطينية، وعن طبيعة علاقتها بالناس فقال: ليس الشرطي في فلسطين هو الصورة الثابتة وإنما المقاوم. ليس عندنا دولة ولا روح عسكريتاريا وجهاز قمع، ولم نتحول الى دكتاتوريين حقيقيين. وهذا لا يعني انه لا يجب أن يكون عندنا دولة، أو يجب أن نستقر. يجب ألا ننسى ان هناك شهداء من رجال الأمن والشرطة، في لحظة الانتفاضة. قبل الانتفاضة كان الأمر مختلفا. عن صدمة العودة اعتبر درويش انه كان حاضرا لها وأنه ذهب إلى فلسطين متحررا من أي وهم. قال: ذهبت على أساس واجب وطني وليس بلهفة شخصية. لم تكن لديّ أوهام، وبالتالي لم أتعرض لصدمة حقيقية. وتابع: ما من أحد عاد وعودته كانت مشروطة، الذين عادوا عادوا بلهفة، ففي الخارج عذاب وضيق، وهم عادوا الى أرض الحلم ومن دون أي شروط. فلا شرط عليهم مثلا أن يؤيدوا أوسلو.  

موقف ضمير 
هل يعتبر محمود درويش قصيدة محمد الدرة مؤشرا لتحول الشعر الفلسطيني أو عودته الى الانفتاح على الشعر السياسي والوطني من جديد، بعد ما حدث منذ العام 1982 من ارتداد الشعب نحو الذات التي تحولت الى محور القصائد الفلسطينية والعربية... والى أي حد شكلت الانتفاضة من جديد منعطفا شعريا خصوصا إذا أضفنا ما حصل في الجنوب من نصر وتحرير؟ يجيب درويش:

في المنعطفات يجد بعض الشعراء انه يجب أن يكون لديهم موقف ضمير أو أخلاق. يجب أن يسجلوا شهادتهم وانفعالهم مع حدث كبير، لكني لا أرى ان هذا يغير مسارا أو سياقا كاملا. قصيدة "محمد الدرة" ليست تحولا، فأنا أسير في سياق، وإذا وقع حادث معين جعلني أتوقف عنده، فإن ذلك لا يحسب تحولا، لأن سياقي واضح ومحدد وكبير بحيث استمر فيه. يعني لن أعود شاعر المقاومة بالمعنى الضيق للكلمة، أو شاعر وطني بالمعنى الضيق للكلمة أيضا.

وأضاف: الانتفاضة يمكن أن تنتهي، ثم ان الانتفاضة مكتوبة في أدبياتنا من زمان. كذلك فإن تاريخ الشعب الفلسطيني هو تاريخ انتفاضات. فما حدث ليس بداية تاريخ أو نهاية تاريخ، ولا بداية مرحلة أو نهاية مرحلة، على مستوى تأثيرها الثقافي في الشعر.

ورأى محمود درويش ما يدور في دواوينه الأخيرة من اتجاه نحو الذات سيرة وغزلا ومرضا، مجرد وقفة، يستمر بعدها، ولا يمكن أن يستمر من دون إنهاء هذه القصة مع نفسه. قال: أنا متورط مع محمد الدرة، داخليا، وليس بمعنى المطالبة الخارجية. يمكن أن نكون هناك إصغاء إلى مطالب خارجية. وهذا أمر موجود في لا وعيي، وفي وعي أي واحد فينا، لكن هذا الموضوع لا يشكل أسلوبية جديدة، ولن يغير مشروعي الشعري الذي أتابعه. فأنا أعرف ما لدي.

واعترف درويش أن تعبير الشاعر السياسي أو الشعر السياسي كان يزعجه في السابق، لأنه كان يشكل عائقا لعلاقة الناس بشعره الجديد. قال: كنت أفرط في مكافحة صورتي القديمة لكي أسمح لنفسي بالتطور داخل الذائقة التي أراها، لكني حللت هذه المشكلة، وعلاقتي اليوم بالقارئ سليمة جدا.  

الجمهور صدقني 
ما أقوله قد تستغربونه، كلما تطورت أعمالي وتعقدت، بالمعنى النسبي، يزيد توزيعي. فتوزيع كتبي اليوم أفضل بكثير من الماضي. وهذا يعطيني ثقة ويقودني وبهذا المعنى فإن هذه الثقة التي تأسست مع القارئ، هي التي سمحت لي أن أطور شعري وتجربتي. فالقارئ صدقني وغفر لي كل شيء. وأنا لا أستطيع أن أفاخر بأي شيء، لا باستعارتي الشعرية، ولا بأي عمل تركيبي أنجزته، ولا بشاعريتي ولا بإيقاعاتي... لا أستطيع أن أفاخر بأي شيء، إلا بشيء واحد عندما استطعت أن أصل الى لحظة صار فيها القارئ يصدقني. هذا إنجاز كبير بل الأكبر، لأن ذلك خولني تطوير شعري ولولا هذه الثقة لكان الأمر مختلفا، ولكان القارئ كسرني.

أرحت نفسي من ذلك التأزم بين النص القديم المطالب به وبين نزعتي الى نص جديد، ومن تلك الصفة التمثيلية. بذلت جهدا كبيرا لأقول إنني لست شاعرا سياسيا أو ناطقا رسميا. ومع ذلك لا أستطيع إلغاء الصفة الرمزية. ولهذا عليّ أن أجري تطابقا أخلاقيا بين صورتي عند القارئ كرمز وبين صورتي الشخصية والشعرية، أي عليّ أن أعثر على نوع من المصالحة. وأن أبذل جهدا أكبر لكي أضيّق التناقض بين الصورة التمثيلية والنزعة الشعرية. العلاقة بالجمهور تضيّق عليّ على مستوى العلاقات ومستوى حريتي الفردية، فأنا مثلا لا أستطيع أن أذهب الى بار أو إلى أي مكان يرتاده الناس العاديون.

هذه العلاقة بالجمهور الذي صدق محمود درويش والملايين الذين يقرأون شعره تفرض عليه أيضا نوعا آخر من الحصار، فهي تطالب بذلك النوع من الشعر السياسي أو الشعر الحدثي، ولا تسمح له أن يغيب عن أي حدث كبير... لكنه يرد: أنا لا أكتب شعرا مباشرا. من سنين طويلة لم أكتب شعرا مباشرا. وقصيدة "محمد الدرة" ليست مباشرة. ولو قتل محمد الدرة قبل خمس سنوات هل كانت القصيدة صحيحة. فالمهم في كتابة القصيدة طريقة الاستجابة للحدث، لا فوريتها أو تأخرها، وهذه لا قاعدة لها، درب عمل فوري يكون أهم من عمل يأتي بعد سنين.  

ذاكرة مشتركة مع اللبنانيين 
أحببنا أن نختم مع درويش في معرفة مدى وجود لبنان في الداخل الفلسطيني، فأكد أن لا جامعة فلسطينية أو مدينة إلا وأقامت مهرجانا احتفاليا بمناسبة انتصار المقاومة اللبنانية. وكنت أنا أحد الخطباء في جامعة بيرزيت، وأظن ان هذا وصل إليكم. ولا أريد أن أقول إن الشعب الفلسطيني استعاد علاقته الفورية باللبنانيين، بل أكثر من ذلك، هو رأى في المقاومة اللبنانية مثلاً مهماً، بعيدا عن لغة "الشماتة" التي كنا نستمع لها في التلفزيونات. فتاريخ القتال اللبناني الفلسطيني المشترك في الجنوب لا يمكن أن ينسى بسرعة، ولا تذهب آثاره، فالشعب الفلسطيني شارك، والأمثولة الفلسطينية الفدائية أسست أيضا لتلك النزعة القتالية عند أخواننا اللبنانيين. الفلسطينيون واللبنانيون قاتلوا جنبا الى جنب فالتأثير متبادل والذاكرة لا تنسى وقائمة على مرجعية مشتركة.

أما بيروت فما من أحد كتب عنها أكثر مما كتبت أنا. وقد ظن البعض ان في بعض ما كتبت عنها استحواذ، بينما اعتبر ذلك من قبيل رفع الكلفة وبعيدا عن ان يكون لديّ مشروع توطين شخصي (يضحك). وحين تكتب من أي مدينة تكتب على أنها مدينتك. لكن لأني فلسطيني تفسر كتابتي وكأني أحمل مشروع توطين فلسطيني.

جريد (السفير) الأربعاء، 18 تموز 2001