تستبين مقالة الباحث المصري وصال النص بالواقع في ديوان أبي سعدة. يرصد المؤثرات البصرية والصوت الكامن في سيمياء اللفظ والصور، ويشير إلى تجديد علاقة الوعي العالم في روح الشعر من خلال الفضاءات الحلميّة والحكي الصوفي المضاد للتفسير المنتهي.

تجدد الهوية الشعرية

قراءة في «سيرة ذاتية لملاك» لفريد أبو سعدة

محمد سمير عبدالسلام

في ديوانه «سيرة ذاتية لملاك» – الصادر عن دار المحروسة بالقاهرة سنة 2009 – يعيد فريد أبو سعدة اكتشاف مدلول (الهوية الشعرية)، وامتدادها الأصلي في ذاكرة المتكلم، وبراءة الصور، والأخيلة المؤولة للسياق الواقعي، وعناصر الوجود. إن الصوت في الديوان يقع في قلب الحلم، أو التشبيه، أو الحكاية المتجددة فيما وراء المنطق، وبنية الحدث؛ ومن ثم فهو يقاوم الانفصال الزائف بين الأصل، والأثر؛ فالشاعر هنا يمارس حالة من الإغواء، والتوحد بالصورة فيما وراء الحدود الصلبة للتكوين، والمادة. إنه ينخرط في أفعال، وانفعالات تكثف خبرات الماضي في مستقبل متجدد تصل فيه الصور، والحكايات النص بالواقع، والموت بالحياة، والذات بالتشبيه.

النص لا يؤسس معرفة بالعالم، وإنما يجدد علاقة الوعي به من خلال الارتباطات التأويلية الجديدة بين الصوت، والصور المؤولة للواقع، والوجود، والزمن خارج الحدود، والحتميات؛ ومن ثم يصير مدلول الهوية مادة للدهشة، وإعادة الاكتشاف بصورة دائرية. ويمكننا رصد ثلاث تيمات في الديوان؛ هي:

أولاً: تجدد الهوية الشعرية.

ثانياً: إغواء الصورة، وبراءة الأخيلة.

ثالثاً: الحكي كتمثيل للحياة.

أولاً، تجدد الهوية الشعرية:

تتصل الشاعرية بهوية المتكلم من جهة، وحركية العالم من جهة أخرى، وذلك من خلال البدائل التصويرية للصوت، والعلاقات الشعرية بين عناصر الوجود التي تتحول في المستقبل إلى أطياف تتمتع بوهج دائري للحياة، وتقاوم حدود التجسد، أو الموت بواسطة الأصالة المجازية فيها؛ فقد يعيد الوعي تكوين الجانب التمثيلي في الكون من خلال دمج الوظائف الحتمية بالاستعارة، وكأن الأطياف تستبدل حضور المادة دون أن تمحوها من المشهد.

يقول: "رأيت كأنني في الخلاء/ أجلس على مصطبة خارج البيت/ يبرك أمامي جمل هائل/ كأن ضوء النجوم زميل يقده من الظلام/ كان غريباً وكنت أرتعش من الخوف/ ثم تذكرت الجبل والشجرة التي تشتعل ولا تحترق".

يكتشف المتكلم هويته هنا من داخل سياق تشبيهي يفتتحه بـ(كأنني)، فيسمح للدوال باللعب الحر في المشهد؛ إذ يبزغ الجمل الحلمي، وتشتعل الشجرة دون احتراق، وينتقل الصوت سريعاً من الوصف الخارجي إلى التوحد بأطياف الصورة المميزة للوجود الشعري المنتج للتو من أصالة التشبيه في الوعي، والعالم معاً. وتتجسد علامة النار في الوعي كطاقة مجازية إيجابية باتجاه التحول، والبناء المستمر للكينونة، ثم تنتشر في دلالة التغير المقاوم لنهايات الصور، والعناصر. وقد يؤول المتكلم نفسه، ووجوده الواقعي في صوت استعاري بديل مولد من لقاء الوعي الشعري بصدفة تشكل الدوال في فنجان القهوة.

يقول: "رأيت جملاً بجناحين يحلق قرب أذن الفنجان/ وحشوداً تصعد من القاع/ يتدافعون على الحافة/ ثم يقفزون/ رأيت بين الحشود رجلاً أعرفه/ سألته عما يحدث/ أشار فرأيت هاوية ورأيت شخصاً مهيباً/ ينظر إلى المتحلقين على الحافة من منظار البندقية/ فعرفت أنه الملاك".

الشاعر يقذف بنفسه في تلك الطفرة الاستعارية التي تصير كوناً إبداعياً له حضور مادي في وعي المتكلم/ الملاك حين يمتزج حضوره بالآخر/ الشعري الذي يقع بين عالمه الداخلي، وعوالم الصورة. ونلاحظ حضور الحكاية في المقطع السابق؛ إذ تشير الوظائف السردية إلى اتجاهين؛ الأول هو التعرف على الملاك، والثاني تفكيك المتكلم الأول من داخل محاولات المعرفة نفسها التي تتحرك نحو الهوية الاستعارية الجديدة للصوت. إن الملاك يتهيأ للقتل، أو المشاركة في الاحتفال الصاخب بتحولات الأشياء، وكأنه يعاين عمليات التحول اللامركزي للصور، والبناء المستمر للتكوينات المجددة للهوية، والمقاومة لبنية القتل الأولى. ويسترجع المتكلم سؤال الخلود من اللاوعي الجمعي، فيذكرنا بتأملات جلجامش، ثم سؤال الهوية عند سارتر، ويبدو أن الشعر يمنح المعنى، ويستشرف الخلود دون بحث فلسفي، أو خيالي، وإنما من خلال ولوج الصورة الحلمية المؤولة للصوت.

يقول: "صباح الخير. ألازلت تحلم بالخلود أيها الشاعر؟/ تراجع كمن يفتدي لكمة: لا فقط أن يكون لحياتي معنى/ انظر إن يدي لا تصلحان لزراعة وردة/ ولا يمكن بأصبعي تلك/ أن أصلح واحدة من هذه الساعات الغريبة/ الساعات التي تشير إلى أزمنة/ ولا تشير إلى الوقت".

تتميز الصورة بالدائرية في الوعي المبدع للكاتب؛ ولهذا فهي مصدر للإبداع، ومقاومة العدم الممثل في حدود الوقت. وقد أشارت علامة الساعة إلى الثقافات، والتواريخ، والأخيلة، والأحلام الدائرية خارج الحدود المهددة للذات، والكامنة في الوقت، كما اختلطت بالآثار المولدة عن الأعمال الفنية، والثقافات، وأطياف التاريخ كي تمنح الصوت امتداداً سردياً في المستقبل. وقد يثور الصوت على الحدود، والحتميات، ويعاينها فنياً في الوقت نفسه، وكأن الهوية الشعرية تتداخل مع السياق السلبي فتشير إلى الحزن، والتمرد معاً.

يقول: "أهلا بك في الجحيم/ حيث ما أن تنتهي من طعامك، حتى تبدأ في الصراخ/ طالباً الطعام/ وحيث تفقد من حولك واحداً واحداً/ وأنت تلهث في برك النسيان".

يتجاوز الصوت السقطة من داخل حدودها القصوى/ الجحيم الفني الذي يقاوم الحركة التصويرية للذات، والعالم رغم اكتسابه لشاعريتها. هل كانت الصرخة أثراً مجازياً للذات الشعرية؟ أم أنها تمرد في مواجهة النهايات المحتملة؟ إنها تتوسط الحتميات لتفكك مركزيتها في المشهد.

ثانياً، إغواء الصورة، وبراءة الأخيلة:

لا يمكن فصل مجال الرؤية الأولى للذات، والعالم في النص عن الكون الشعري المؤول للأصل، والمولد لحالة الإغواء التي تحقق الاندماج، والتفاعل بين السياقين من جهة، وتفكك مسلمات المنظور في اتجاه أصالة الأخيلة الحرة من جهة أخرى. الصورة نقطة للتوحد، والخروج؛ فهي تقاوم مركزية الصراع، والحضور المؤقت، وحالة التجسد، كما تقع داخل الصوت، والمادة، وجسد الأنثى، ومكونات الذاكرة.

يقول: "إنها تنطلق بعيداً، وجسدها بين يدي/ يتوهج كنحاس أحمر/ غالباً ما نقطع الوقت في الشطرنج/ متهيئين للتوقف عن كل شيء/ إذا ظهرت علامة".

تتقاطع الصورة هنا مع التكوين، وتستبدله بأخيلة حرة تتفاعل مع الحدود الواقعية، وتتداخل معها في الوقت نفسه. إن الشاعر، وأنثاه ينتظران الخروج الكامل من حالتي الانفصال، والصراع الشكلي في الشطرنج إلى فضاء التوحد، والاندماج بين الواقع، ومرح الصورة. وقد يصل الإغواء إلى تفكيك مدلول الواقع في النص؛ فتندمج الوحدات السردية بمكونات الوعي، وتحولات الصورة دون نهاية.

يقول: "كانت تستغرق في هذا طويلاً/ إلى الدرجة التي لا تنتبه فيها إلى حركة الدبابات بين الغرفة والمطبخ/ أو الحرائق التي تشب في الستار/ من جراء ملامستها للأحداث الجارية/ ليست عاطفية لكنها مصابة بنوستالجيا مزمنة/ فعلى سبيل المثال/ دائماً ما يطل واحد من أسلافها في الشجارات الصغيرة".

نلاحظ هنا مساحة من التوقف في بنية الحدث الأصلي، ثم تحولاً ديناميكياً في الصورة باتجاه محاكاة لعبية تتميز بالتعاطف بين الواقع، ووهج الأخيلة الأصيلة في الموقف السردي؛ فعنف الأحداث يتوقف لصالح لعب الدبابات، والشجار يتوقف كي تعبث الأسماء، وأطياف الذاكرة في المشهد. وقد تعيد الصورة تكوين الفراغ المحتمل فيما بعد الموت؛ إذ ينمو صوت الحياة الطيفي في الاتصال بين الموت، والحياة، أو الصخب الواقعي للعدم، وعبث الأطياف المتحررة من صلابة التكوين.

يقول: "يصفون للمصور من كان بجوار من/ من كان قادماً من المطبخ بالعشاء القليل/ من كان ينظف الجرح لشيخ يئن/ غارزاً أسنانه في طرف الجلباب/ خذني قليلاً إلى جوار الحائط، فقد كنت أهدئ من روع الطفلة/ وأنا كنت واقفاً أوزع الماء الشحيح/ كيف ستمكنني من الوقوف في الصورة وساقاي مبتورتان".

المصور يكتشف حدث الحياة في صور الموت، ويستعيد في المستقبل لحظة ما قبل التوقف التي تخلصت للتو من ماديتها، ومارست فعل الإغواء في تحرر الأصوات من الموت عند اكتسابها براءة الأخيلة؛ فالصوت الذي يتحدث عن ساقيه المبتورتين يذكرنا بموته، وبقاء المرجع/ أو الذات في حالة حركة. إنه يجرد صخب الحياة من حالة التوقف الزائفة التي طرأت على المادة قبل لقائها بالصورة، وتحولاتها.

ثالثاً، الحكي كتمثيل للحياة:

الحكي في الديوان لا يتبع الحدث، ولكنه يعيد إنتاج صور الحياة في الماضي في سياقات، وشكول جديدة من جهة، ويصل المتكلم بالحياة المتجددة للصور، والأخيلة الممتدة في فعل الحكي المقاوم للموت من جهة أخرى. وعن علاقة السرد بالهوية يرى بول ريكور أن الوحدة السردية للحياة تمثل امتزاجاً بين التجربة الحية، والنسج الخيالي؛ لأن القصة الخيالية تنظم الحياة بطريقة استعادية بعد مرور الحدث، كما تعود القصة إلى الحياة حسب الطرق المتعددة للتملك (راجع بول ريكور، الذات عينها كآخر، تر. د جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1 2005، ص329، و331). إن ريكور يمزج الأنساق المعرفية المتباينة في فعل التأويل؛ ومن ثم يذوب الحدث في السرد، مثلما يخترق العمل الفني حدود الواقع فيما بعد الحداثة، وهو ما نجده عند فريد أبو سعدة؛ إذ تمتد الحياة في الحكي، ومقاومته لحدود الذاكرة، والوجود المؤقت. وقد يعيد السرد تشكيل الحياة المضافة لهوية المتكلم، ويولد عوالم جديدة تخرق حدود التجسد، والرؤية معاً.

يقول: "الذين يقصون الحكايات يمدون في عمري/ إنهم كالذين يدحرجون أمامي بساطاً/ لأستمر في التقدم طالما يستمرون/ الحكايات التي تمتلئ بأفيال تطير كالمناطيد/ وتنقل شعوباً من قارة إلى أخرى بمجرد زر".

إن الوظائف السردية في المتوالية الجديدة؛ مثل (الأفيال تطير)، و(تنقل شعوباً) تفكك واقع المتكلم، وتدل على استمرار حدث الحياة في مستوى التداخل بين الوعي، والحكي المنتج للواقع الإبداعي الجديد. وقد تلتحم الصيرورة السردية للحياة في الوعي المبدع للشاعر بمعاينته للفضاءات المجازية، والحلمية للوجود.

يقول: "وما إن أدخل غرفة حتى يغلق الباب من خلفي/ هكذا واحدة بعد أخرى (الغرف كلها متشابهة/ وأنا مدفوع للأمام/ وما من سبيل إلى العودة)/ وحين فتحت الباب الأخير هالني أنني أمام صحراء بيضاء/ ولا شيء هناك/ غير صقر ميت/ وثلاثة من الغربان".

لقد اختلطت بهجة الحياة بدوال الموت؛ مثل الصقر والصحراء، وكأن الشاعر يستشرف الصخب القادم فيما وراء العدم، فالبكارة الإبداعية المصاحبة لصور الصقر، والغربان توحي بحدث، أو حكاية أخرى تفجر الحياة من الصمت المجازي.

msameerster@gmail.com