لم يكن مسار المسرح العربي بعيداً عن تأثيرات نكبة 1948 والتي انتهت باغتصاب فلسطين، كما أن هذا المسرح عايش نفس التأثير الذي خلفته هزيمة 1967 حتى أصبح الخامس من حزيران عنواناً لأكثر من عمل مسرحي، حيث لم يكن للنكبة والهزيمة فعل التأثير هذا على المسرح العربي وحده، بل إنه نال من المقومات الثقافية والفكرية العربية في تيهانها وتوجهاتها الجديدة، مما كان له صدى قوي تجلى على مستوى الإبداع العربي عامة والمسرح خاصة، باعتبار المسرح رأس رمح هذه المقومات كلها، لأن الممارسة المسرحية في أي ثقافة وفكر ولدى كل الشعوب، يعتبر خلاصة لهما ونابضاً بما يختلج في وجداناتها. كما أن من وظائف المسرح الأساسية التربية وأساساً من أساسات التنشئة الاجتماعية، لأن فيها يبرز إعلاء القيم والشعور بالذات والثقة بالنفس، حتى أن التقعيدات الأولى للمسرح جعلته في مصاف الأجهزة الايديولوجية، لأنه بمثابة مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية ذات هذا البعد، خاصة وأن الكثير من نداءات الإصلاح والنظريات الاجتماعية والتصورات الفلسفية تعتمد المسرح للتوعية السياسية والتنشئة عليها، سواء كانت هذه التصورات ذات منحى تقدمي أو رجعي، استعبادي أو تحرري، تحرري في اتجاه حرية الإنسان أو تحرري لاستلاب الإنسان، أي أن المسرح يلعب دوراً أساساً في التنشئة على المواطنة حيث كانت بلاغة المسرح هي شعريته الأولى للإحساس بهذه القيم والتشرب بها، سواء قصد الإدماج الاجتماعي أو التعبئة من أجل التغيير الاجتماعي لما يحقق إنسانية الإنسان فيما تفترضه معادلة إعادة الإنتاج، والتي ليست إلا معادلة لخلق التوازن الاجتماعي، ومن هذا المنطلق كان للمسرح بشكل عام دور متميز في فنون الأداء والعرض الجماعيين، لأنه الأقرب في إبداعيته هاته للحمة الاجتماعية للناس ولوعيهم الاجتماعي، الشيء الذي بوأ المسرح مكانة متميزة ضمن باقي الفنون الإبداعية.
وقد لعب المسرح العربي في مسار معايشته للنكبة والهزيمة كل هذه الأدوار: التكريس والتغيير لما يحمله كمسرح من إفصاحات في رؤاه وتصوراته التي تشرح وتنتقد مجتمعات النكبة والهزيمة إلى الحد الذي يمكن أن نلمس في ثنايا خطاباته النظرية والعلمية المشاهدتيّة تفاعلات هذه التأثيرات بتوجهيها: السلبي أو الإيجابي (التكريس أو التغيير) لأنهما وجهان لعملة واحدة ومدى انغراسهما في الوجدان العربي والغوص عميقاً في ترسبات هذا الوجدان على المستوى الشعبي خصوصاً، الشيء الذي جعل المسرح العربي في ممارسته هاته يكون بحق مرآة تعكس نبض الشارع وتجوس بما يجيش به من فوران الشعور بالإحباط والدونية، ومحاولات التخلص من ثقل هذا الشعور والذي اكتسبته الشعوب العربية رغماً عنها، وتبقى مسألة الإكراه حاضرة هنا في غياب الشعور بالذات والوجود سواء لدى الأفراد أو الجماعات لافتقاد شروط تحقق هذا الشعور من حرية وديمقراطية أو حتى الإحساس بروح المدنية، والتي كان من المفروض أن يعيشها الإنسان العربي باعتباره إنساناً أولاً والكادح الأول والساعي للاستفادة منها، حيث يكون المانع دائماً استشراء شروط الإكراه والقسر لأن زمن الحرب الذي تعيشه الأنظمة العربية السياسية - علماً بأنها لم تخض هذه الحرب - يكون هو المبرر لاستمرار نظام الإكراه والقسر مما ولد أنظمة استبدادية لم تجن إلا النكبة والهزيمة فأصبحتا إرثاً مثقلاً لكاهل هذه الشعوب من جراء ما تولد عنه من وعي زائف بواقعها، وما يحبل به هذا الواقع من فكر الهزيمة الذي تتشربه هذه الشعوب وكأنها تتشرب قيما جديدة لا تعني إلا التواكل وإعادة إنتاجه في استهاماته الإبداعية، خاصة المسرح المتكئ على التراث لأن الماضي عندها دوماً أحسن من الحاضر بل إنه أحسن من المستقبل، هكذا تصبح الفرجات المسرحية مراناً للاقتداء بما تحمله من مسلكيات أخلاقية سلبية.
إن المسرح العربي لم يكن في أغلب عروضه وتنظيراته إلا وليد هذه الأجواء، وهنا عظمته المتباكى عليها، كما هو التباكي على روح الماضي، الذي كان فيه ازدهاره والذي لم يتأت إلا في وجود هذه الهزيمة، حيث لا تشهد الأعمال العظيمة إلا في ظروف استثنائية، هذا ما خط مسار المسرح العربي في تناقضاته من النكبة إلى الهزيمة، وكأنه كان يفسح المجال للحظة من لحظات الحرية والديمقراطية واقتطاع زمن هذه اللحظة ومهما كان الثمن لأن المسرح، وفي معناه التاريخي، لم يكن إلا سليل الحرية والديمقراطية وفي معطاه الحضاري. والمسرح في بعده الاستعاري يمثل نظاماً إكراهياً وفق ما يمثله نموذجه في التراجيديا، كمعادل موضوعي بين الواقع والمتخيل حيث يشد الواقع أزر المتخيل في موقع العرض، والمشاهدة القائمين بين زمنين: زمن الإكراه وزمن القسر من جهة والحرية والديمقراطية من جهة أخرى، لينتصر للذات العربية في أفرادها وجمعها للحظة الإبداع والرؤيا المنشدة إليها، باعتبارها رؤيا حسية تريد بالجمالي قول الإيديولوجي، والتنبؤ بما يمكن للوعي الجمعي للناس أن يغير به من أحوالها، غير أن لحظة المسرح العربي لم تكن متأتية بهذه البساطة التي نرسم خطوطها فيما شهدته الساحات العربية وخشبات مسارحها، بل إنها لم تعدم من نقيض، لأن ما تولد في أتون هذا الصراع من توجهات، لم تكن ترمي في أغلبها إلا ملامسة النتائج دون الذهاب بعيداً في البحث عن الأسباب مما يؤكد أن خندق المسرح العربي، لم يكن خندقاً واحداً، بل خندقين وهذا التوزع أملته ظروف المعايشة في واقع محمل بما يملأ هذين الخندقين، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى المشاهدة العملياتية.
ونقصد هنا التنظير المبتسر حيناً والمنتحل أحياناً أخرى، والذي علق كل شيء على مشجب الطروحات الفكرية خاصة الطروحات النهضوية، والتي كان من مفرداتها العودة إلى التراث، وهذا التراث في معطيات التاريخ مع تطعيمات ذلك بالامتاح من الأدب، ودون خلخلة لهذا التاريخ والذي هو في الأخير وقع من عمل الإنسان وصنع أحداثه بفعل قوة العمل والمعايشة والتواجد الاجتماعيين. كما أن هذا التاريخ الذي يتم الرجوع إليه باعتباره تراثاً ليس كتلة هلامية وجدت هكذا، بل إن ما يصنعها هو نمط من العيش أعطى تفكيراً ليتحدد في الأخير كصورة لما هو عليه هذا التفكير وهذا العيش، الشيء الذي يفترض معرفة كيفية التفكير هاته وكيفية العيش. مادمت هاتان الكيفيتان تعبيراً عن نسق النظام الاجتماعي العام المنتج بهما وخلف هذا النظام تكمن آليات إعادة إنتاجه لضمان استمرار هذا النسق، إذن البحث كان يجب أن يتم لمعرفة واقع النكبة والهزيمة وتوالي وقع إنتاجهما ما من موقع كيفية انبناء هذا النسق وآليات التحكم في إعادة إنتاجه، وهو الشيء الذي لم تسعف معه الدعوة للعودة إلى التراث باستلهامه واقتباس أقنعته وأدواره أو حتى الدعوة إلى التسييس باعتبار أن التسييس يكون حاصلاً بمجرد هذه الدعوة لإعادة إنتاج نفس النسق، والتشكيك في مدى صلاحيته لتحقيق اللحمة الاجتماعية، والتي هي لحمة لا تلتئم إلا لإعادة إنتاج فكر النكبة والهزيمة، بل إن ما أتى من بعدهما لهو أمر وأفظع في تسليع هذا المسرح واستئصال جذوره في زمن التبعية والعولمة.
ألسنا شعوبا تتباهى بإعادة إنتاج ذاتها؟ أليست هذه قمة النرجسية في فقد الهوية بما نبحث عنه من تميز وخصوصية في متاهات تراكم التراث؟ أبالتسييس والبحث عن الصيغة المميزة لنا في مخلفات هذا التراث؟ ألم يكن جديراً بنا تخريب هذه الصورة لإبداع ما استطاع كيف العمل ونمطه وفي شرط ظرفنا التاريخي الآن وهنا ما يجعلنا نعبر به أحسن عن فرجتنا المفتقدة؟ لأنها وعلى كل حال تبقى الفرجة المغيبة في تيهان البحث بين ورفوف التاريخ لترتيق صورة السلف وإعادة ارتداء أقنعته من أجل لعب دور الحكواتي الأخير من جديد، وأن نستحضر امرؤ القيس في باريس، لنقول بصيغة أخرى إنا هنا الآن حداثيون بلبيراليتنا الجديدة، نعم الاكتشاف إذا كان هذا ديدن دعاة العودة إلى التراث لتفادي النكبة والهزيمة بالتساؤل عن النشأة الأولى والبدايات والتأسيس، بل حتى التأصيل والتعريب لهذا المسرح لم يزغ عن ناظري هؤلاء الداعين للتراث وكأن هذا التراث قدراً مقدراً، وليس تراكماً لقوة العمل وإنتاجاً تحكمت في وجوده آليات نمط تفكير يعطي استمرارية لواقع الحال حيث يكون علنيا تفكيك هذه الآليات وتعرفها المتعة التي هي صنو الفرجة والتلقي المسرحيين، وبشكل جدلي إذ يدعونا مسرح الديالكتيك لهذه الغاية أكثر من غيرها إن كنا فعلاً نريد الحرية والديمقراطية، وحتى نكون على الأقل في مستوى المعطى الحضاري الذي نعيشه الآن وهنا، لأن تواجدنا وفي تبعات نتائج النكبة والهزيمة أكثر إلحاحاً لهذه المعرفة لكيفية اشتغال آليات نسق النظام الثقافي العام المعيد به إنتاج نفس الإحساس بتبعات هذه النتائج، وحتى لا نبقى في مستواها فقط.
إن مسرح التغيير الذي ندعو إليه المسرح العربي تنظيراً ومشاهدة عملاتية، ليس إلا مسرح التحريض على التفكير في شروط إنتاج هذه النوعية من المسرح التي سادت بدعوات الإحياء والبعث، لا لقصد خلخلته بل لإعادة إنتاجه واستضمار قيمته في القبول والرضى، حيث لا تخرج عن كونها آلية أخرى للاندماج فيما هو سائد، حيث حظيت بكل نياشين الرضى، إننا بهذا نعتبر المسرح وتلقيه ممارسة سياسية واعية لا تخرج جمالياتها عند الحمل الإيديولوجي لكن أي ممارسة سياسية يدعونا إليها أهل دعوات إحياء التراث. أليست دعوات إحياء الموتى والله وحده من يحيي الموتى؟ إن ما ترتبت عنه تبعات الإدماج الاجتماعي في المسرح العربي بعد النكبة والهزيمة هو التعود الرتيب لاستضمار قيم القمع والكبت والخنوع، لان آليات إعادة الإنتاج لم تكن إلا آليات مكتسبة بالعادة، حتى كادت أن تكون طبعاً، خاصة وأن النظام الإكراهي الذي يفرضه تلقي التراجيديا جعل العقل ينحصر فيما يتداعى إليه للتماهي معه وتشربه في لحظات الإبهار والعرض المحكم، وما نريده هو اكتشاف غير العادي في كل ما هو عاد لان ما يتطلبه قول الحقيقة هو الدقة.
وهنا تحضر الفرجة النقيض في تلقي مسرح الديالكتيك لان كل ما يعرض أمامنا هو مثار نقاش وتساؤل وإعادة السؤال حيث الحاجة لهذا المسرح تدعونا للتغيير وليس لإعادة الإنتاج في اختلال ميزان التوازن الاجتماعي، وفي الكيفية التي تمت صياغة التراث. أي أن مسرح الديالكتيك يبحث في آليات انتظام وتكون هذا التراث الذي هو من صنع التاريخ، كما أن التاريخ نفسه لم تتم أحداثه إلا بفعل قوة العمل حيث تبدو صياغة الإنسان لوقائعها ومدى صراعه من أجل امتلاك قوة العمل هاته، ومسرح الديالكتيك في تعبير آخر ليس إلا مسرح المضطهدين ولا يتموقع إلا فيما ينبض به وجدان الناس. ومن هنا تتأتى حميمية اللقاء بالناس ومع الناس كما أن استضماراته تقوم بالأساس في هذا المسرح على الكشف والاندهاش بقوة الاختراق التي تمنحها متعة المعرفة. وعندما نمتلك هذا المسرح فإننا سنكون في مستوى مقاومة تبعات النكبة والهزيمة، خاصة وأن التطورات الأخيرة على المستوى العالمي تنحو بنا فيما استضمرناه في آليات التلقي السلبي والانفعال به، لقبول أن نكون في متناول ما تؤسسه له العولمة باعتبارها استعماراً جديدا،ً ونحن نسخ طبق الأصل فيما بلدت به حواسنا هذه الاستضمارات واستحضارات الماضي، وكأننا خلقنا لنجتر هذا الماضي.
ومن ثمة نؤدي الثمن مضاعفاً، بعد أن أديناه فيما سلف ومن هنا يحضر خطر الارتماء في حضن إرهاصات فكر الاستعمار الجديد من دعوات ليبرالية ومهما تعددت أنواعها ما دامت الحرية المدعو لها ليست إلا حرية دعه يفعل ما يريد لأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان بينما يدعونا مسرح الديالكتيك للاختلاف والتعدد حيث تكمن الهويات الوطنية والخصوصية الثقافية التي تعطي للفرد إنسانيته وحريته بشكل ديموقراطي وأكثر انسجاماً لوضع الذات في الوجود، وما حضورنا الحالي ككيانات ليس إلا بداية لهذا الانخراط المزدوج وبشكل نقدي لنا نحن وكيف نريد أن نكون في هذا الوجود إزاء الذات والآخر، والمسرح هنا رديف لما نعتناه به من أدوار تربوية حيث لا تعني صفة التربوي هنا التدريب بل التعلم كنشاط إنساني وذاتي ولا يحصل فعل التهم هذا إلا بالمشاركة والفعل، مادام المسرح أصلاً يقوم على فعل واع، فكيف لنا أن نعيده للأموات ونحنط كل فعل حاضر فيه ونحوله للماضي؟ أليست النكبة والهزيمة تراثاً تمت صياغته بآليات التواكل والخنوع والاستبداد؟ ألا يعلمنا هذا الخنوع، ولو في لحظة من لحظات الالتقاء بالذات في مسرح الديالكتيك كيف ننعتق من أسر هذا الخنوع، أليس المسرح العظيم ينولد في لحظة عظيمة؟ أليس شعور الإنسان بذاته وتحرره وانعتاقه من رواسب الماضي لحظة عظيمة؟