يقدم باب علامات لهذا الشهر مقالة من عام 1954، كتبها يحيى حقي (1905-1992) لمجلة "لأديب" اللبنانية، وفيها يتناول حقي مسرح الفنان نجيب الريحاني بالنقد متابعاً تقلبات منجزه الفني في عالم المسرح.
ولد نجيب الريحاني (1889-1949) في حي باب الشعرية في القاهرة في كنف أسرة عراقية كلدانيّة الجذور من جهة الأب ومصرية قبطيّة من جهة الأم. وظهرت ميوله الفنية للتمثيل خلال أعوام دارسته الابتدائية في مدرسة الفرير. ومع وفاة الأب انقطع الريحاني الابن عن الدراسة، بعد نيل الشهادة الثانوية على ما يبدو، لإعانة العائلة فعمل كاتب حسابات في إحدى شركات السكر في صعيد مصر، ليقفل منها راجعاً إلى القاهرة بعد حين حيث التحق بالفرق المسرحية الكوميدية وشارك في عروضها التمثيلية، وتنقل فيما بينها، حتى تمكن من تكوين فرقته الخاصة والتي كرس نفسه لها ممثلاً ومخرجاً، وكان لتعاون الدراماتورج والمخرج بديع خيري (1893-1966) الأثر الأكبر في استمرارها، إضافة للممثلة والمغنية السورية بديعة مصابني (1892-1974)، التي تزوجها نجيب الريحاني وانفصل عنها لاحقاً، كما أنه استثمر موهبة الفنان سيد درويش (1892-1923) في تلحين عدد من أوبرات الفرقة الهزلية.
جالت فرقة الريحاني بعروضها المسرحية في مواسم الصيف أو الأعياد، العديد من الدول العربية كسوريا ولبنان والجزائر وتونس، إضافة لرحلتها إلى أميركا الجنوبية.
من الأقنعة أو الشخوص النمطية الشعبية التي ابتكرها الريحاني يبرز قناع "كشكش بك"، والذي جذب بسيرته الذاتية المتلقي العربي. ومن المؤكد أن دراسة مقارنة لحياة هذا القناع الشعبي، وغيره من الأقنعة التي ابتكرها الريحاني، مع أقنعة الكوميديا ديلارته تشكل بعداً هاماً في معرفة الكيفية التي تعبر بها الشعوب عن حاجاتها الفنية في راهن الزمان وحواري المكان، حين الهزل والسخرية والتهكم تتعشق بالنقد وبالضحك على النفس ولحى المجتمع.
في معرض الحديث هنا، ربما كان من المناسب الإشارة إلى أن واحدة من مرجعيات لهذا القناع تعود إلى "حديث عيسى بن هشام، أو فترة من الزمان" لابراهيم المويلحي، وعلى نحو خاص فصل "العمدة في الملهى". ولعل مؤثرات هذا العمل السردي يشكل هو الآخر مرجعية كامنة في مقالة يحيى حقي التي تعود الكلمة لنشرها. في هذه الحالة يمكن القول أن الريحاني قام بأداء دور العمدة في "حديث عيسى بن هشام"، بينما قام يحيى حقي بدور سارد الـ "حديث.." في مقالته التي تناول فيها بالنقد والتنقيب عن حفرية المعنى في مسرح نجيب الريحاني. من المؤكد أن في تحليل يحيى حقي لمرجعية هذا القناع، في التاريخ الاجتماعي المصري، إضاءة هامة لوصال الفعل المسرحي مع حراك فضائه الاجتماعي، ووشائج صلته التناصية مع الفن العالمي. حتى أن رأي حقي أثر في رؤية بعض المسرحيين العرب كسعد الله ونوس لتبني وجهة نظره في مقاربتهم لمسرح الريحاني.
في كل الأحوال، ورغم رأي يحيى حقي الوجيه في عروض الفرانكو-آراب التي ابتكرها الريحاني، فإن وجهة نظره فيما يسميه بـ"تفرنج" عموم "اللفانتيين" (نسبة لشرق المتوسط) ليس دقيقاً، على الأقل لأن "التفرنج" هو ظاهرة وواقع اجتماعي استوطن البلاد العربية بعد احتكاكها واتفتاحها المعرفي والتلفيقي مع فضاء الغرب وليس حكراً على منطقة دون أخرى، وفي معرض الحديث هنا نذكر النقد اللاذع الذي وجهه عبد الله النديم (1842-1896) في دوريتي "التنكيت والتبكيت" و"الأستاذ" لظاهرة التفرنج في مصر.
إن شرط الريحاني المولود في القاهرة، المصري الدار والهوى، بمرجعيته الثقافية المتشظية بين البيت الأول وبيت الزوجية والشارع والمسرح .. عمل على خلق ذلك الريحاني المندمج بالحياة المصرية بقوة الجذب لمعرفته مفاتيحها السرية نفسياً واجتماعياً وفنياً، والمبعد عنها بقوة الطرد بفعل عقلية التصنيف الاجتماعي له كابن مهاجر أو متمصر. من المؤكد أن الريحاني لم يكن مصرياً حسب المقياس - أو المعيار أو النموذج – المصري، إن وجد، لأنه ببساطة ينتمي لكل التشكيلات اللاجوهرانية المتتابعة لهويته الشخصية والفنية في سياق الزمان والمكان.
لقارئ الكلمة نترك مقالة يحيى حقي، كي يفكر في القول، ويناقش ما فيه من آراء.
مسرح نجيب الريحاني
حضرت وأنا في الغربة – والفضل للإذاعة – حفلة ذكرى وفاة نجيب الريحاني يرحمه الله، واستمعت بعناية، رغم الطفيليات، وما أكثرها حتى في علم الأثير، إلى الخطب التي ألقيت، وهي، إذا استثنينا بعض المبالغات الشرقية المألوفة في مثل هذه المناسبات، تنم عن وفاء صادق وخلق كريم. ولكني رأيتني بالرغم مني قلقاً يتملكني شيء من الحرج كأن في صدري قولاً يريد أن ينبعث، ووجدت بعض المختزن من المشاعر والأفكار يتضح ثم يقوى فيصبح "عقيدة" لا أستطيع منها فكاكاً. وها أنذا أدلي برأي ستنفر منه النفوس نفورها من الصوت النشاز، وقد يطوى كتابي سريعاً بدعوى أنني ممن لا يعجبهم العجب أو الصيام في رجب، وأوصف بأنني من المررة الذين يفسدون جو المرح بوجههم الكئيب، وقد يقال – ويا للعيب – إني آكل لحم الميت وكان الأكرم بي أن أقف منه وجهاً لوجه. ولكني كما قلت لم أملك إلا اليوم زمان قولي، والأقوال أقدار هي الأخرى، ثم لن يكون كلامي إلا عن فن الريحاني كما وصفه خطباء الحفلة فلا ضير علي أن أقول كلمة فيه وأرجو أن يفسحوا لها صدورهم.
موهبة الحضور
وأود قبل كل شيء أن أفرغ من الاعتراف بحقيقة لا يجادل فيها إلا أحمق أو مريض وهي أن الريحاني كان ممثلاً هزلياً عظيماً تجلت فيه تلك الموهبة الخاصة، التي يسميها أهل المسرح (موهبة الحضور). فلا يكاد صاحب هذه الموهبة يظهر على المسرح، وقبل أن ينطق بحرف أو يأتي بإشارة، حتى يستبد بالنظارة، ويجذب إليه قلوبهم ووجوههم وعيونهم وآذانهم، فتنبسط أساريرهم وتطيب نفوسهم ويزول عنهم الهمّ والغم ويتعالى الضحك والقهقهة، بل قد يضحكون لقول لا يسمعونه وسط الضجة، وقد يسأل أحدهم جاره بعد ذلك عن النكتة التي فاتته وضحك لها. لينطق هذا الممثل بما شاء له من السخافات، وليأت بحركات مبالغ فيها لا يستلزمها دوره، بل ليكرر هذا ليلة بعد ليلة ومسرحية إثر أخرى، فهيهات له أن يصرف النظارة أياً كانوا عن الضحك .. بل لعلهم ضحكوا وهم يشترون تذاكرهم. هذا النوع من العشق والوله يعلو عن كل منطق متزمت أو تحليل ممرور. يكفي أن هذا الرجل يسعد الناس، والسعادة نادرة، فماذا تريد أكثر من ذلك؟! والشعوب كلها تتشابه في الخضوع لهذا السحر تشابهها في الحاجة إلى الضحك، والترويح عن النفس، فقد شاهدت هذا الجو المرح في مسرح الممثل التركي "ناشد"، ومسرح الممثل الإيطالي "مسكو"، كما لمسته في مسرح الريحاني، وله الفخر وكذلك في مبدأ مسرح الكسّار مسّاه الله بالخير.
ولكن هناك فرقاً شاسعاً بين القول بأن الريحاني ممثل هزلي عظيم – وهو ما لا نجادل فيه – وبين القول بأن فنه خالد لأنه فن مصري خالص صادق قد انبعث من قلب مصر ودلّ عليها وترجم عنها وأرخ لها، وأن الريحاني هو مصر ومصر هي الريحاني أو كما قالوا ..
لون الريحاني
ولا أريد أن أتحدث عن منشأ الريحاني وعشيرته التي ينتمي إليها أصله، وقدرتها على الاندماج في مصر أو قدرة ثرى مصر على استيعابها، فقد أصدر شعب مصر السخي الكريم حكمه، فلا نقض له ولا استئناف، ارتضى أن يحتضن الريحاني وأن ينزله عنده منزلة الأبناء، شأن النبيل المضياف الذي يفتح باب بيته ورزقه على الله. ولكن هذا لا يمنعني من أن أرى في ازدواج الريحاني بين الأصل والمصير مفتاح ألغاز حياته وتفسير شخصيته، وأجزم وليس في يدي دليل سوى شعوري بأن الريحاني عاش طيلة حياته يشعر بفارق مكتوم بينه وبين المصريين، وهذا سر وحدته الملحوظة في حياته العامة والخاصة. أما إذا قال أنصاره أنه كان إنساناً فوق الأوطان وفوارق الشعوب فهذه مسألة أخرى. فأصدق وصف للريحاني إذا أنه كان من أدنى طبقات المهاجرين إلى الشعب المصري وأسهلهم اختلاطاً به وأكثرهم فهماً لعاداته وعجائب طبعه. وإن أردت دليلاً فإني أنبهك إلى أن أول إعلان أذكره عن فرقة الريحاني، من تلك الإعلانات، الطويلة التي تلصق على الجدران يتوجها اسم الفرقة مكتوباً على هيئة قوس باللون الأحمر (فرقة الريحاني فرانكوآراب) أي والله هكذا آراب!!! وخذ بالك من كلمة فرانكو!!! وهذه دعوة صريحة لجمهور الليفانتيين لحضور هذه المسرحية، ومعهم أيضاً أنصاف المتعلمين المترددين بين الشرق والغرب، لا علموا علم هذا ولا علم ذاك .. وسنرى أن جمهور الليفانتيين ظل مخلصاً للريحاني إلى نهاية أيامه .. ولعلي لا أخطئ إذا زعمت أن فرقة الريحاني ولدت في العهد الذي كانت أغنيته الشائعة على لسان الشعب (البيه والهانم عاملين أبونيه، قص الشعر ده لزمته إيه) وهي كافية في الدلالة على حركة التفرنج التي كانت بعض مظاهر ذلك العهد.
الريحاني، العهد الأول
وكان يقال أن مصر تتمتع حينئذٍ برخاء كبير وزاد الطلب على القطن وارتفعت أسعاره وجاء العمدة المصري بقطنه إلى البورصة، وتلقفه السماسرة ليخطفوا قطنه ويسوقونه إلى ما وراء البحار، فيغزل وينسج أو ينتفع به في أمور كثيرة هي من أسرار غلبة الغرب على الشرق، ثم يعاد بعضه ويباع لنا بأغلى الأسعار .. وماذا نال العمدة المصري لقاء ذلك؟ ورقاً مطبوعاً يقال أنه نقد قانوني يعطى له عن علم ويقين، بأن هذه العمدة ليس له من الخبرة أو التجربة ما يمكنه من صرف هذا النقد في أوجه النفع، أو حتى من ادخاره ليوم أسود. وأي فرق بين استلاب القطن في تلك الأيام وبين استلاب البترول في عصرنا هذا؟ وكان لا مفر من أن يبعثر العمدة ماله في اللهو والعبث، هذا العمدة هو موضع سخرية سماسرة القطن وأشباههم في النهار، فلماذا لا يكون هذا العمدة موضع لهو وتسلية بالليل .. وأمام من؟ أمام جمع أغلبه من هؤلاء السماسرة أنفسهم وأشياعهم والمخدوعين وراءهم .. وهكذا ولدت شخصية «كشكش بك» عمدة كفر البلاص. هل كان كشكش بك موضع رثاء أو عطف؟ كلا؟! كان كالمهرج الذي يصفع على قفاه في مهازل أولاد بعجر، ويخرج النظارة وهو موقنون بأن كشكش بك الذي نال من التهزيئ والصفع على القفا ما نال، لا يزال يرى نفسه سعيداً بلهوه وعبثه بين الراقصات العاريات، ممن لا يعرفن من العربية إلا (هات) وهو لا يرطن إلا بكلمة (خدي) يكاد ينطق وجهه بأنه صرف عليهن كل ماله، ولم ينل منهن شيئاً. هذا هو كشكش بك؛ عمدة في قفطان له لحية طويلة، كل سحره في صوت أجش، وشبق عينيه، وتلعيب حواجبه وهو دائخ وسط شلة الراقصات.
سيد درويش
وكتب لهذه المسرحيات الاستعراضية الرخيصة – وهذا من مفارق الحياة – أن تكون من غير قصد ازدهاراً لموهبة مصرية صميمة، موسيقى سيد درويش. كان تجديده أن يجعل اللحن تصويرياً، فهو يريد أن يكون في نغم السقائين صدى نداءاتهم، وفي نغم سائقي العربات كذلك وقع سياطهم، وهكذا فكانت هذه المسرحيات، وما تتضمنه من استعراض لمختلف طوائف الشعب، مادة طيبة يبرز فيها فنه الجديد. وبفضل ألحان سيد درويش وحدها لا بفضل تلك المسرحيات دار اسم كشكش بك على كل لسان، ودخل كل دار .. وأذكر أنني كنت أغني مع جميع أخوتي في صوت واحد لحن الأبوكاتية، لا تهمنا الكلمات أو المعاني، بل يكفي لسرورنا أن تجري ألسنتنا بهذا اللحن السهل الجميل (أما الكلمات فهي لبديع خيري وسنتحدث عنه فيما بعد). وجاءت الأزمة وانفض المولد، بعد أن ذبح عجل السيد في شخص كشكش بك عمدة كفر البلاص، فانفضّت فرقة الريحاني مع انفضاض المولد .. فهل هذا من علائم الفن الأصيل؟
علي الكسّار
وينبغي لي هنا أن أذكر علي الكسّار عساي أن أؤدي لهذا الرجل الطيب القلب المحبب إلى النفس بعض حقه، وهو الذي لم أقرأ له كلمة واحدة لام فيها أهل بلده على التنكر له ونسيانه، وانصرافهم عنه إلى غيره. والكلام عن الكسار يزيد أيضاً حقيقة مسرح الريحاني في عهده الأول وضوحاً. فقد أنشأ الكسار فرقة عاصرت فرقة الريحاني واعتمد الاثنان على الغناء والرقص والفكاهة (ولايزال الناس يذكرون تنافسهما ودخولهما قي قافية تنكيت، فيسمي أحدهم مسرحيته (راحت عليك) فتكون مسرحية الثاني باسم (فشر!) وهكذا .. ولكن الكسّار – الذي اختار له شخصية عم عثمان البربري – ظل مخلصاً لطبيعته لم يحاول أن يخدع أحداً أو يغرق في التهريج، وفضل أن تكون فرقته مصرية لا (فرانكوآراب). وليس من العجيب أن الفتى الأول كان مغنياً على صدغيه وشم عصفورة. وامتزجت شخصية عم عثمان البربري في مبدأ الأمر بجمهور النظارة ولم تكن تمرّ ليلة دون تبادل النكت بين المسرح والصالة وبخاصة أعلى التياترو. وفي السعي وراء طلاوة الجديد غشي جمهور الليفانتيين أيضاً مسرح الكسار ولكنهم انصرفوا عنه سريعاً. فعم عثمان البربري هذا هو عندهم في الدار طباخ أو خادم مائدة أو بواب، رجل من عباد الله يأكل رزقه بعرق جبينه قد تكون له قفشاته ومشاكله ومفارقه، ولكن حياته محصورة في الدار أو أمام الباب، ولو سخروا منه وأرادوا استرضاءه ناولوه قرشاً فيقبله على الفم ويرفعه إلى الجبين ويضعه في جيبه ويشكرهم. إنهم يريدون رجلاً إذا أرادوا أن يسخروا به ويضحكون عليه ناولوه كأساً في كابريه، وتضاحكوا حين يسيل لعابه أمام فتاة جميلة تهزأ به. ففي هذا وحده ترفيه عن أنفسهم وشعور بأنهم في منجى من عالم المغفلين. فكانت ضالتهم شخصية كشكش بك لا عم عثمان البربري.
وأراد الكسّار أن يقدم صورة شعبية صادقة ساذجة لا غلو فيها ولا تهريج، فكان نصيبه الإخفاق السريع لأن الصورة الصادقة الساذجة مألوفة مملة ولأنه وقع في مأزق التكرار، ولم يستطع الخروج منه.. وانصرف عنه جمهور الطبقة الراقية والمتعلمين، وبقي له لابسو الجلاليب والطواقي فكان هذا أدعى لأن يهجره إلى الأبد بقية المطربشين والمقبعين، وكنت أود لو أن الكسّار جعل من فرقته مزيجاً من السرك والمسرح، وخرج بها يجوب بلاده بحري وقلبي.. ولكنه ظل متشبثاً بذكريات مجده الأول في العاصمة ونحن لن ننساه أو ننسى جهاده وفضله.
الريحاني، العهد الثاني
وقضت الأزمة على الفريقين وعلى تنافسهما، وعلى معاني نجاح الأولى وإخفاق الثانية، ثم مرّ وقت وظهر الريحاني مرة أخرى على رأس فرقة جديدة. خلع قفطان كشكش بك وعمته وأصبح مطربشاً أفندياً يلبس بذلة من الطبقة الوسطى. هل كان اختيار الريحاني لشخصية هذا الأفندي من الطبقة الوسطى عن براعة منه في السير مع تيار الحياة الاجتماعية في مصر وتمثيل مشاكلها الجديدة؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك ولكن أشهد أنه كان موفقاً في هذا الاختيار. فقد صاحب هذا العهد أزمة الطبقة الوسطى من الأفندية وأغلبهم من موظفي الحكومة وأشباههم. وإنك لتجد كلمة الأفندي بنطقها العربي في القواميس الانجليزية ويستعملها كتاب الغرب حين يريدون سب الشرق ووصفه بالعجز والخيلاء في وقت واحد. وقد ظل دانلوب يعمل سنين عديدة لصب شخصية الأفندي المصري الموظف بالحكومة، ثم زعمت انجلترا فجأة أنها رفعت يدها عن شؤون مصر الداخلية وأسلمتها للأفنديّة ووقفت تتفرج. ولو أنك دققت النظر في أفنديّة ذلك العهد لوجدت أغلبهم لم يكن قد ألف بعد بذلته، وبخاصة ربطة العنق، فهذه الطبقة كانت ممزقة بين الشرق والغرب، بين مقدرتها المحددة وماليتها المتواضعة، وبين مطالب الدولة الناشئة والحياة الحديثة، ودسائس الديوان، وتحكم الرؤساء وفشوّ الوساطة. وغلب سلطان هذه الطبقة على الحياة الاجتماعية بدليل أن أول الشهر كان يوماً مشهوداً في المتاجر والبارات وحتى في دور البغاء. وفهم الريحاني من أين تهب الريح وسار مع التيار، وأصبح المعبر عن بعض مشاكل هذه الطبقة، الأفندي الطيب القلب حسن النية الذي لا يخلو مع ذلك من مكر ودهاء، الأفندي الذي لا يريد من الحياة إلا سلاماً ولكنه قادر على الدس والطعن للدفاع عن النفس فجأة من قطيع الذئاب والسباع، الأفندي الحائر بين الفتاة العفيفة المتأخرة والفتاة الحديثة المشكوك في إخلاصها (وقد لعبت المرأة المصرية في تطورها السريع دوراً كبيراً في رسم متاعب ذلك الجيل)، الأفندي الذي لا يجد ما يتسلى به إلا في ميدان النكتة يكشف بها خداع الناس وثقافتهم والرثاء لنفسه واستدرار العطف عليها، ومن وراء ذلك كله الخلق الشرقي الصميم، التسليم بالقدر والرضاء بما قسم الله. أقول اتخذ الريحاني شخصية هذا الأفندي ليعبر عن مشاكله ومتاعبه. ولكن، وهذه كلمة ينبغي أن تكتب بحروف غليظة، من أين استمد فنه وتعبيره؟ هل ألف الريحاني وبديع خيري قصة واحدة من صميم الحياة المصرية؟ لا!! لقد عجزا كل العجز وتساقطا كالذباب، بلا خجل ولا حياء، على مائدة المسرح الفرنسي الرخيص. فهل هذا هو الفن المصري الأصيل؟ وإني أتحدى أنصار الريحاني أن يزعموا أنه، فيما عدا قصة نوباز، قد اقتبس مسرحية واحدة تعتبر من الآثار الباقية في تاريخ المسرح الفرنسي. إنه استورد لشعب مصر أكسد بضاعة، وزوقها لهم بلفائف من التدليس والخداع، وإذا لم تنطبق مادة الغش التجاري في قانون العقوبات على أمثال هذه المسرحيات فعلى أي شيئ إذن تنطبق؟ نعم، إنه فن أصدق وصف له أنه غش تجاري رخيص.
شارلي شابلن
ولا يكتمل هذا المقال إلا إذا تكلمنا عن أثر شارلي شابلن في نجاح الريحاني في مصر. فكلا الرجلين من أبناء جيل واحد. كان شارلي قد أصبح من الخالدين يضحك لأفلامه، لأنها صامتة، البيض والصفر والسود ضحكة واحدة. لماذا؟ لأن شارلي عبر بفنه الهزلي عن مأساة ضعف الفرد الطيب الفقير، وسط مجتمع قادر ظالم منافق. هذا معين أزلي لا تمسه يد البلى. وإن كان شارلي قد أضاف إليه مسحة العامل الضائع في المجتمع الحديث، بآلاته ورأسماله وقسوة قوانينه الاقتصادية، وزيف أنظمته الاجتماعية. ولم يجد شارلي الخلاص إلا في بوهيمية سمحة، قد يخرج من تجارب الحياة مثخناً بالجراح، ولكن نفسه الصافية باقية. فأنت ترى أن شارلي استند إلى الخصائص الأصيلة في النفس البشرية، وإلى العواطف التي لا يختص بها جيل دون جيل أو طبقة دون طبقة. ولم يكن مفر من أن تتكسر على شاطئ مصر بعض أمواج من فن شارلي، وأن تتهيأ لها عقول الناس وأرواحهم وأذواقهم، فجاء الريحاني وقلد شارلي وسار على هدى خطاه، ولكنه حبس فنه المسروق أيضاً في تمثيل متاعب طبقة واحدة هي طبقة الأفندية من موظفي الحكومة وأشباههم، ولولا غلبة هذه الطبقة على المجتمع المصري، كما قلنا لما توفرت أسباب هذا النجاح السطحي للريحاني.
قصة مسروقة وشخصية هي مسخ عاجز لشارلي. فلنر إذن ماذا فعل الريحاني فيما تبقى له في ميدان الفن المصري الأصيل، ما هي نكتة الريحاني؟ عمد الريحاني، والمسئولية في ذلك موزعة بينه وبين بديع خيري، إلى الحيل الصبيانية التي يتسم بها كل فن ضحضاح فج، أعطى لأشخاص مسرحياته أسماء خيل إليه أنها وحدها كفيلة بأن تضحك الناس ... وهكذا رأينا أسماء مثل بقدونس أفندي وبصلة هانم وغير ذلك من السخافات التي يأنف منها كل صاحب فن أصيل .. وانظر إلى هذا الجهد والافتعال في نكتة الأخرس في مسرحية الدلوعة، حين يريد أن يطلب (فرخ ورقة بيضة) ثم قفز من هذه الحيل السخيفة إلى ميدان فسيح أجاد فيه كل الإجادة، ميدان الردح والتشليق بلا مسوغ أو رادع؟
والحيلة الرخيصة الثانية التي ينبغي أن ينتهي إليها كل تهريج مفتعل أن الريحاني صب سريعاً جميع ممثليه في قوالب من حديد، وجعل كلاً منهم على هيأة معلومة لا يتعداها في مسرحية أثر مسرحية، ابن الذوات التالف، الغني العبيط، الخادمة الشرشوحة، البنت الدلوعة، المعلم لابس اللاسة، الأفندي العجوز الخبيث، وهكذا وجعل لكل منهم (لازمة) لا يتعداها لأنها حين جربت أول مرة أحبها الناس وضحكوا لها، وكان ينبغي بعد ذلك أن تفصل مسرحيات الريحاني على قد هذه الشخصيات، وهذا العبث لا تزال تشكو منه إلى اليوم صناعتنا السينمائية.
ولم تخل أغلب مسرحياته من شخصية امرأة تركية عجوز، ليضحك الناس من رطانتها بالعربية .. وهذا أيضاً من الحيل المكشوفة السهلة. فالأتراك مثلاً يدخلون في مسرحياتهم الهزلية شخصية باشا مصري، يقسم بالله بين كل كلمة وأخرى .. وبديع خيري هو المسئول وحده عن هذا الجانب من فكاهة الريحاني، ولم تخل أزجاله في العهد الأول من كلمات تركية كثيرة مدسوسة في غير موضع أو داع. وإني أسأل أنصار الريحاني، هل مجتمعنا المصري المعاصر للريحاني يضم أمثال هذه الشخصيات؟ هذه مودة سنة 1914 وما قبلها. فهل هذا هو الفن الصادق الأصيل الذي يصور مجتمعنا على حقيقته. وهل هناك دليل أبلغ على الوهم في فن الريحاني، واعتماده على موهبة الحضور وحدها، من أنه أخفق إخفاقاً ذريعاً على الشاشة البيضاء، أو كان يتعلل بأنه لم يجد المخرج الكفء الذي يفهم فنه. ولنستعرض الآن الصورة التي رسمها الريحاني للمجتمع المصري. وأنني أخجل حين أقول أن المصريين عند مسرح الريحاني قوم طيبتهم بلاهة، وغزلهم تلعيب حواجب، يحبون الحكم والمواعظ الفارغة، سريع غضبهم لا يتمالكون أعصابهم، يثورون للتافه من الأمور، فلو ألقيت على أحدهم تحية الصباح لانحدر عليك سيل من الردح والتشليق. حرام أن يدمغ الشعب المصري النبيل الأنوف الكريم الودود بمثل هذه الصورة البشعة، ولن تكون هذه النظرة إلى شعب مصر إلا نظرة أجنبي تخدعه بعض المظاهر فينساق في الترويج لها، والإلحاح بتبيانها كأنها كل شيء ولا شيء هناك غيرها، وشأنه في ذلك شأن الزائر المتعجل أو المقيم الذي لم يندمج.
ولماذا نلوم الريحاني وحده ولا نقول أنه كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصري بحملة ضخمة من التدليس والخداع .. فليس من العجيب أن تكون فرقة الريحاني من قلائل الفرق المصرية التي مثلت في قصر عابدين، وليس من الغريب أن فاروق كان ينتقل إلى مرسحه، ويرى الجمهور جانب شاربه المعقوص في البنوار الملكي، إلى أن تنتهي المسرحية. ومن الأسى والأسف أن رئيس الديوان الملكي، ولن يتم تاريخ مصر الحديث دون الكشف عن شخصيته وأسراره ومدى أثره، يقف ليقدم الريحاني إلى مولاه، وقد سمعته مرة يصف الريحاني قائلاً: «هذا رجل يأكل عنده جمع من الناس على مائدة واحدة، ولكنه يتجشأ للفقراء بصلاً، وللأغنياء ديكاً رومياً»، فأنت ترى أن الذوق واحد والعقلية هي هي، والمصاب عام.
قد فرغت من قولي وأبرأت ذمتي ولا أترك القلم دون أن أسجل هنا ابتسامة غلبت على شفتي والنفس أمارة بالسوء حين وجدت المحتفلين بذكرى الريحاني قد وقعوا في مأزق حرج، فهم يمتدحون الممثل الناشئ الذي يقوم بدور الريحاني، ويصفقون له ويضحكون ويقهقهون ويضمنون له النجاح الباهر. ثم يؤكدون في الوقت ذاته أن الريحاني فريد زمانه، ووحيد أوانه، والدهر عاجز عن أن يجود بمثله، فهذان قولان متناقضان، عليهم أن يختاروا بينهما، وإلا فهم غير صادقين في أحدهما .. وأترك لهم حرية الاختيار.
(الأديب، س13، ج4، أبريل 1954)