ما انفكّت الساحة الثقافيّة العربيّة تشهد تواتر ظهور الكتابات النسائيّة. وهي كتابات تتناول مختلف ميادين الثقافة من الأدب إلى النقد إلى السياسة إلى العلوم الإنسانيّة. وتعدّ قضايا المرأة وصورتها في المجتمع ومكانتها فيه وقيمها الميدان الأساسيّ الذي شغل تفكير الكاتبات العربيّات. وامتلأت بها كتاباتهنّ إبداعاً ونقداً وتنظيراً. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ غزارة هذه المادّة النسائيّة وشمولَها مختلفَ ضروبِ الثقافة العربيّة تقف حائلة دون تناولها جميعا بالدرس في بحث منفرد. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الكتابات النسائيّة العربيّة قد أسهمت في إثراء المشهد الثقافيّ العربيّ وفي تلطيف سمته الذكوريّة. وقد بدأ صدور هذه الكتابات أغلبها منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين إلى اليوم. وهي تعود إلى مؤلِّفات معروفات رائجة كتاباتُهنّ متداولة في الساحة الثقافيّة العربيّة على غرار الكاتبتين اللبنانيّتين الراحلة مي زيادة (1886 – 1941)، والمعاصرة ليلى بعلبكّي، والمصريّة نوال السعداوي، والجزائريّة أحلام مستغانمي، والعراقيّة نازك الملائكة، والمغربيّة فاطمة المرنيسي، والفلسطينيّتين الراحلة فدوى طوقان والمهجَّرة سلمى الخضراء الجيّوسي، والسعوديّة وسيمة عبد المحسن المنصور، والتونسيّات رجاء بن سلامة وآمال ﭭرامي وألفة يوسف. وغيرهنّ كثيرات. وهنّ ينتمين إلى ساحات ثقافيّة عربيّة متنوّعة تنتظمها شروط ثقافيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة مختلفة حدّ التباين في أغلب الأحيان.
ونحن، في هذا المقال، سننظر في نصّ نسائيّ واحد(1) لفَتَنا فيه خطابه. فقد بدت على كاتبته نوايا حسنة مشحونة حماساً كبيراً. ذلك أنّ ما رغبت فيه الكاتبة في نصّها هذا هو بناء صورة للمرأة العربيّة مختلفة عن السائد. وقد اشتغلت على الجانب القِيَميّ الأخلاقيّ محاولة زحزحة ثوابته المترسّخة منذ زمن طويل. ومن جملة منظومة القيم الأخلاقيّة اختارت الكاتبة قيمة الجرأة لتبيّن أنّ المرأة العربيّة كانت تتحلّى بها قديماً. ومرجعها في ذلك مدوّنة ما تسمّيه التراث في عنوان بحثها، وهي تعني التراث الأدبيّ بصورة أدقّ.
لابدّ من الإشارة إلى أنّ الجرأة قيمة أخلاقيّة تعليها كلّ المجتمعات عبر العصور. وقد أعلاها الأدب العربيّ القديم نثراً وشعراً(2). وقال فيها ابن منظور: «الجرأة: الشجاعة (...) ورجل جريء: مُقدِم من قوم أجرئاء، بهمزتين (...) والجريء: المقدام (...) وفي حديث ابن الزبير وبناء الكعبة: تركها حتى إذا كان الموسم وقدِم الناس يريد أن يجرِّئهم على أهل الشام، وهو من الجرأة والإقدام على الشيء. أراد أن يزيد في جرأتهم عليهم ومطالبتهم بإحراق الكعبة (...) ومنه حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال فيه ابن عمر رضي الله عنهما: لكأنّه اجترأ وجبُنَّا: يريد أنّه أقدم على الإكثار من الحديث عن النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، وجبنّا نحن، فكثر حديثه، وقلّ حديثنا. وفي الحديث: وقومه جُرَآء عليه، بوزن عُلماء، أي متسلّطين غير هائبين له»(3).
فللجرأة، حسب تعريف ابن منظور هذا، حاشية من القيم الرفيقة كالإقدام والتسلّط. لكنّ هذا التعريف لا يمنع من ملاحظة أنّ مفهوم الجرأة عصيّ على الضبط الدقيق لوقوعه في منطقة رجراجة فاصلة بين التهوّر والإقدام. وهي صفة أقرب إلى الثانية وأبعد عن الأولى من حيث المفهوم. غير أنّها مهدّدة بالانحراف إلى مزلق الأولى من حيث السلوك. لذلك فالجرأة تتطلّب توفّر قيم أخرى في المتحلّي بها كالجسارة ورباطة الجأش والشجاعة والحرص والحذر وحضور البديهة والقدرة على الفهم العميق وكفاءة اتّخاذ القرار الصائب دائماً. وهي جميعاً تساند قيمة الجرأة وتمنعها من الوقوع في ضدّها.
لكنّ السائد في المجتمعات العربيّة وغير العربيّة أنّ الجرأة من قيم الرجال. أمّا النساء فالحشمة والخجل قيمتهما المعلاتان. وقد ردّدتهما الآداب والفنون. هذا ما ساد الأدب العربيّ وما حفل به شعر الحبّ في الثقافة العربيّة، بصورة خاصّة. غير أنّ النصّ النسائيّ العربيّ المعاصر؛ نصّ الكاتبة وسيمة عبد المحسن المنصور الذي بين أيدينا، رأت كاتبته أن تُثبت أنّ صفة الجرأة راسخة في قيم المرأة العربيّة خلافاً لما هو سائد. وهو رأي مُغرٍ بالمتابعة لاسيّما أنّ في خطابها تتراءى ملامح مقارنة خفيّة بين المرأة والرجل مفادها تصحيح الرأي الشائع القائل إنّ الرجل أجرأ من المرأة. فالكاتبة ترى العكس. وترى أنّ الجرأة قيمة ملازمة لأخلاق المرأة العربيّة ولسلوكها عبر التاريخ. وقد اختارت المؤلّفة الزمن العربي القديم، والعصر العباسيّ بالتحديد، لتثبت صحّة أطروحتها. واصطفت المجال السياسيّ ميداناً لتأكيد الجرأة قيمةً ثابتة في منظومة قيم المرأة العربيّة. وعوّلت في ذلك على خطاب سرديّ وصفيّ تقريريّ أردفته بنصّ أخباريّ شاهد للتدعيم والتبكيت. ولقد اتّسم الخطاب في النصّين كليهما، النصّ مُنتَج الكاتبة المعاصرة والنصّ الشاهد المُستدعى من التراث الأدبيّ بالسمة نفسها؛ المداورة والانفلات من عقال النيّة، كما سنبيّن لاحقاً.
تقول الكاتبة: «كانت الجرأة والشجاعة ممّا امتازت به المرأة في مواقفها الحواريّة السياسيّة، تلك الجرأة المشدودة بين ثنائيّة طرفاها باثّ ومتقبّل، فالمرأة المحاورة تكون في الموقف السياسيّ دائماً قويّة مؤمنة بمعتقدها السياسيّ مقتنعة بما لا يقبل التشكيك بسلامة ما هي عليه، غير مبالية بعاقبة ما تنتهي إليه المحاورة. ويكون الطرف السلطويّ مستمعاً مهاوداً بوعي وتعقّل، لا ينجرف أمام عصف العاطفة الانفعاليّة. ولا يستجيب لمؤثّرات المقام من تحفيز الآخر باستعادة موقف غائب أو تذكير بحادثة منسيّة وكلّ ما قد يقضي على المرأة المحاورة. في المقابل نجد رمز السلطة يحيط ثنايا الحوار بجوارح منضبطة وحِلم القادر ممتصّاً ما لدى الطرف الآخر من سخط وانفعال وموروث حاقد مجلّلاً الخاتمة بعطفه وكرمه أو يكون متسامحاً بوعي لرمزها ومرموزها (كذا!!)»(4).
إنّ نظرة مهما كانت عابرة على هذا الخطاب لابدّ أن ترصد جملة من الملاحظات. فلقد غلبت عليه سمة الإطلاق والتعميم («دائماً»). فالكاتبة لا ترى جرأة المرأة العربيّة في موقف عابر من المواقف. فهي في اعتبارها ليست قيمة عرضيّة طارئة. وإنّما رأتها ثابتة في كلّ المواقف الحواريّة السياسيّة التي جمعت كلّ امرأة عربيّة مع حاكم من الحكّام. هذا ما يدلّ عليه المعجم المستعمل من خلال لفظ «دائماً» ووظيفته النحويّة. فهو مفعول مطلق دالّ على وقوع الحدث أو الاتّصاف بصفة أو حال في مطلق الزمان والمكان. كما لا تخفى، وراء هذا اللفظ، المقارنة الضمنيّة بين الرجل والمرأة. وهي مقارنة نراها في ثنايا الخطاب. يمكن أن يُفهم منها معنى مفاده أنّ ما انهزم فيه الرجال شرّ هزيمة تفوّقت فيه النساء أيّما تفوّق. وتفوّقها لم يكن مرحليّاً متدرّجا مرّ من التفوّق على الأخ فالزوج فربّ العمل وصولاً إلى الحاكم، مثلاً. وإنّما كان تفوّق المرأة مفلقاً مرّت فيه إلى مواجهة الحاكم رأساً. وهزمته. وهو ليس أيّ حاكم. إنّه عدوّها الصارم الشديد. وقد كانت هذه المرأة المحاورة قد خبرت صفاته بنفسها حين أعمل سيفه في رقاب أهلها البرامكة الذين هم أهله، أيضاً. ومع ذلك أقبلت عليه متسلّحة بجرأتها وببلاغتها تنوي أن تملأ كلامها فخاخاً تنصبها له عساه يقع فيها، فتنتقم بذلك لدماء بني قومها وتستردّ الثروة التي سلبهم إيّاها منه.
غير أنّنا نرى الخطاب وقد انفلت بسرعة من بين يدي كاتبته. فانحرف إلى ما سمّيناه المداورة والانفلات من عقاله. فلقد تحوّل معنى الكلام من مدح المرأة إلى هجائها حين انقلبت الصفة التي انبنت لها في الكلام من الجرأة إلى التهوّر. هذا ما يعنيه أن تكون المرأة «غير مبالية بعاقبة ما تنتهي إليه المحاورة» لاسيّما أنّها تحاور الحاكم برقاب الناس. فكيف لها ألاّ تبالي برقبتها؟ إنّ جلّ الكتابات السلطانيّة تلحّ على ضرورة التسلّح بمنتهى الحيطة والحذر حين مجاورة السلطان أو محادثته أو حتى حين ملاقاته صدفة. وقد لا يكون ذلك التسلّح كافياً لاسيّما أمام مزاجيّة السلطان وطبعه المتقلّب الشديد. وقد كان ابن المقفّع قد قدّم في "كليلة ودمنة" حكايات مثليّة كثيرة تؤكّد ذلك. فالأسد منح الثور شتربة الأمان. ولكنّه سرعان ما انقلب عليه بفعل نميمة ساذجة من قبل عونه دمنة. فأعمل فيه أنيابه دون أن يرتجف له مخلب(5). إنّ المحاورة خطاب قوامه التعقّل والحكمة والرصانة والقدرة على المحاججة. وهي تهدف إلى حفظ النفس، أوّلاً، وإلى تجنّب الخطإ أو الخسارة وإلى العمل على إقناع الطرف المحاوَر أو استمالته أو تحييده أو اتّقاء شرّه، ثانياً. والغاية القصوى منها تبكيت الخصم. فمن غير المقبول، إذن، أن تكون المحاوِرة لا مبالية بلا هدف، وإلاّ فإنّ المحاوَرة ستكون إهدارا للطاقة الذهنيّة وللوقت وللدم، أيضاً. وليس من الحكمة ولا من الجرأة أن يهدر الإنسان وقته أو طاقته أو عمره. من هنا يبدو أنّ بناء صفة جرأة المرأة في الخطاب لم يكن متيناً.
فمنطلق صاحبة الخطاب كان إعلاء المرأة وتمجيد تفوّقها على الحاكم، الحاكم الذي يغلب الجميع رجالاً ونساء. لكنّ الصفة المسندة إلى المرأة سرعان ما انقلبت إلى هجاء لها. وبعد ذلك، انقلب الخطاب بسرعة إلى مدح للحاكم وثناء عليه. وهذا المدح وذاك الثناء يتضمّنان استصغاراً صريحاً للمرأة. فهو حليم قادر عطوف كريم متسامح واع بما يفعل. وهي ساخطة منفعلة حاقدة!! نقرأ «في المقابل نجد رمز السلطة يحيط ثنايا الحوار بجوارح منضبطة وحِلم القادر ممتصّاً ما لدى الطرف الآخر من سخط وانفعال وموروث حاقد مجلّلا الخاتمة بعطفه وكرمه أو يكون متسامحا بوعي لرمزها ومرموزها». ثمّ تُوقف الكاتبة خطاب التقرير وقد انفلت من نيّة صاحبته في مدح المرأة وتحوّل إلى ما يشبه الهجاء، لتستدعي الخبر الأدبيّ الشاهد المدعّم لأطروحتها القاضية باتّصاف المرأة العربيّة بالجرأة أمام الحاكم. فتنتقل من النقد إلى الأدب، من خطاب فكريّ إلى خطاب جماليّ. الأوّل من إنتاجها. والثاني من إنتاج سلفها. لكن لها فضل التفطّن إليه والاطّلاع عليه واستلاله من المدوّنة التراثيّة وإدراجه في نصّ معاصر. غير أنّ هذا الخطاب الأدبيّ كان، شأنه شأن الخطاب النقديّ الفكريّ، واقعا في المداورة والانفلات، أيضا، كما سنبيّن. نقرأ الخبر التراثيّ الشاهد:
«قيل: دخلت امرأة على هارون الرشيد وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وفرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك. لقد حكمتَ فقسطتَ. فقال لها: من تكونين أيّتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك ممّن قتلتَ رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم. فقال: أمّا الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قدَره. وأمّا المال فمردود إليكِ. ثمّ التفت إلى الحاضرين من أصحابه، فقال: أتدرون ما قالت المرأة؟ فقالوا: ما نراها قالت إلاّ خيراً. فقال: ما أظنّكم فهمتم ذلك. أمّا قولها: أقرّ الله عينك، أي أسكنها عن الحركة. وإذا أسكنت العين عن الحركة عميت. وأمّا قولها: وفرّحك بما أتاك، فأخذته من قوله تعالى: ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة﴾(6)، وأمّا قولها: وأتمّ الله سعدك فأخذته من قول الشاعر:
إذا تمّ أمر بدا نقصه * * * ترقّبْ زوالا إذا قيل تمَّ
وأمّا قولها: لقد حكمت فقسطت فأخذته من قوله تعالى: ﴿وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطبا﴾(7)، فتعجّبوا من ذلك.»(8)
أعتقد أنّ التذكير بجنس هذا النصّ مفيد في هذا المقام. فهو خبر أدبيّ يتطلّب شروطاً فنيّة لينهض ويكون وتتحقّق أدبيّته. وتمرّ عمليّة تلقّيه ضرورة عبر تفكيك مستويات كثيرة فيه كمستوى الخبر ومستوى الخطاب ومستوى الرواية ومستوى الشخصيّات ومستوى الدلالة. فله، إذن، بنية ومحمولات أدبيّة وتاريخيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة. هذا من جهة النصّ في حدّ ذاته. أمّا من جهة التوظيف، فإنّ هذا النصّ موظّف لخدمة غاية حجاجيّة. فليست وظيفته الجماليّة باعتباره نصّاً أدبيّاً هي المقصودة. وإنّما تمّ استدعاؤه ليمثل في هذا الخطاب باعتباره وثيقة تاريخيّة حقيقيّة تشهد على جرأة المرأة العربيّة أمام الحاكم العاتي. ونكتفي هنا بالتذكير بأنّ السجال بين أدبيّة الأدب وتاريخيّته قد حسم منذ زمن لصالح الوظيفة الجماليّة. فالأدب خطاب جماليّ الوظيفة الجماليّة هي وظيفته المركزيّة الرئيسيّة. وهو خطاب منتج في سياق اجتماعيّ لابدّ أن يحمل منه فيه نسبة. فأيّام العرب كتاب أدب رغم استغلاله الطويل باعتباره وثيقة تاريخيّة(9).
لقد تمّ استدعاء هذا الخبر الأدبيّ من التراث الأدبيّ القديم ليمثل في هذا النصّ الفكريّ المعاصر. وأثناء عبوره الرمزيّ من الماضي إلى الحاضر تلقّى عمليّتين؛ عمليّة إلغاء وعمليّة تحويل لعلّهما كانتا ضروريّتين حتى يتمكّن من أداء الدور الموكول له. تمثّلت الأولى في إلغاء صفته الأدبيّة ووظائفه الجماليّة. وتجسّدت العمليّة الثانية في تحويله من خطاب جماليّ فنيّ إلى خطاب حجاجيّ فكريّ مطلوب منه أداء ما أرادته له مستدعيته بما يستجيب مع أطروحاتها المصحّحة لتاريخ القيم الاجتماعيّة العربيّة.
لهذا الخبر مقام سياسيّ تاريخيّ يبدو استحضاره ضروريّا لتفكيك بناه يتمثّل في صراع الرشيد الدمويّ مع البرامكة الفرس. فمن المعروف أنّ الرشيد أكرم البرامكة وأدخلهم بطانته وأشركهم حكمه وقلّدهم الوزارة وأقطعهم الأراضي وملّكهم الولاية والإمارة وقيادات الجيش. والسبب في ذلك عائد إلى أنّ مرضعته كانت برمكيّة. فالرشيد كان كريماً حفظ الدَّين. وردَّ الجميل. ثمّ دارت الدوائر على البرامكة. ولعبت السيوف في رقابهم. في ما يتّصل بمستوى الشخصيّات، نلاحظ أنّها انتظمت وفق الجنس والعدد والجنسيّة/ الهويّة. فهناك شخصيّات نسائيّة (المرأة البرمكيّة) وأخرى رجاليّة (الرشيد/ أصحابه). وهناك شخصيّات مفردة (المرأة/ الرشيد) وأخرى جماعيّة (أصحاب الرشيد). هناك شخصيّات عربيّة (الرشيد) وأخرى فارسيّة (البرمكيّة). وهناك شخصيّة معرّفة بالاسم (الرشيد) وأخرى غفل منه (المرأة/ أصحاب الرشيد).
وفي النصّ قطعتان حواريّتان. الأولى دارت بين المرأة وبين الرشيد. والثانية دارت بين الرشيد وأصحابه. إذن، كانت للرشيد حظوة عند الراوي. فلقد منحه الحظّ الأوفر على مستوى الخطاب الحواريّ. وجعله طرفاً رئيسيّاً في القطعتين. وكان محاججاً بارعاً في كليهما، حاضر البديهة مفحما قويّ الحجّة مبكّتا محاججيه. ومن خلال الخطاب، يمكن أن نفهم أنّ أصحاب الرشيد قد شهدوا حواره مع المرأة دون أن يتدخّلوا فيه. ولكنّها لم تحضر حواره معهم. وقد كان موضوع الحوار الثاني هو الجزء الأوّل من كلام المرأة الوارد في الحوار الأوّل. وقد اختبر الرشيد جلاّسه، وهم من المستشارين والأدباء والوزراء والحكماء في العادة، فسألهم عن مغزاه. فبدا عليهم أنّهم لم يتجاوزوا ظاهره إذ توقّف فهمهم عند معناه اللفظيّ الأوّل. أمّا الرشيد فلو نظرنا في رصيده من الصفات في الخطاب فسنجده أكبر من بقيّة الشخصيّات. فهو رجل/ حاكم/ مسمّى بالاسم/ محاجج/ محظيّ من الراوي/عارف بالظاهر والباطن/ حكيم متفطّن للغز الخفيّ ومفكّكه. والسؤال هو: ما حاجة الرشيد إلى الحاشية والأعوان وهو متّصف بهذه الصفات؟ فالحاشية في العادة هي التي تشير على الحاكم وترى ما يجب أن يراه ولم يستطع أن يراه. ويُحتاج إليها لعلمها بشيء وتمكّنها منه. فالحكيم لحكمته. والأديب لأدبه. والوزير لعقله وحيلته ومعرفته بأحوال الناس. فإذا كانوا جميعا عاجزين عن فكّ شفرة كلام المرأة المليء فخاخا، في رأي الرشيد طبعا، فكيف سيحلّون قضايا الأمّة؟
لقد أسند الراوي إلى الرشيد جملة من العمليّات الذهنيّة أكسبته صفات معلاة ممجدّة كثيرة. أهمّها قراءة ما وراء السطور وفكّ الألغاز والأحاجي العويصة. فلقد تفطّن إلى أنّ كلام البرمكيّة ليس كلاماً عاديّاً. وإنّما هو حشد من الألغاز. ثمّ تمكّن، بعد ذلك، من فكّ هذه الألغاز جميعا. ولقد بنى قراءته لخطاب البرمكيّة على افتراض. فهي لم تصرّح بأنّ خطابها ملغز. ولم تطلب منه مناظرة في الإلغاز والتشفير. ولعلّه لم يذهب في تأويله ذاك لو لم تصرّح المرأة بنسبها. إذن، فهو افترض أنّ الكلام ملغز. ثمّ أوّل افتراضه ذاك على أنّه دعاء عليه بالعمى وبزوال الملك وبجهنّم مصيراً. لتأويل الرشيد لكلام البرمكيّة تأويلان؛ فإمّا أنّ الرشيد في منتهى النباهة في مقابل غفلة أصحابه. وإمّا أنّه مغال مغالاة مَرَضيّة بفعل ما اقترفه في حقّ البرامكة. وهو ما يعني إحساساً مرضيّاً ضمنيّاً بالذنب جعله يذهب في تأويل الكلام تأويلاً سلبيّاً لم تر الحاشية له مبرّراً. ولم يره مقصوداً لحقيقته. وفي هذه الحالة فإنّ بطولة المرأة تتضاءل لأنّها واجهت كائنا مريضا يمزّقه الإحساس بذنب قتل إخوته غير الأشقّاء لأسباب سياسيّة متّصلة بالملك والسلطان. وكائن كهذا يستحقّ الشفقة. ولا شرف في التغلّب عليه.
لكنّ سير الحوار لا يؤيّد هذا التأويل. فالرشيد كان واسع الحجّة عالما بلغة العرب وبكلامها وبأدبها وبالقرآن، أيضاً. فقد فسّر كلامها بالمعجم وبالقرآن وبشعر العرب. وهو ما يجعلنا نميل إلى التأويل الأوّل أي أنّه رجل نبيه فطن حكيم حليم عالم عادل. فقد أعاد إلى المرأة مالها. ونفّذ في أهلها حكم الله الذي هو قضاء لا رادّ له. كما أنّه خليفة الله في الأرض. وهو مكلّف بحفظ حدود الله. وهو ما يعني، مرّة أخرى، أنّ الخطاب يذهب في اتّجاه مدح الحاكم والثناء عليه. فأمّة يحكمها حاكم كهذا لا يمكن أن ترجو أفضل منه. وهي أمّة سعيدة لا محالة. إنّ ما جعل الكاتبة تصف المرأة البرمكيّة بالجرأة هو كلامها في حضرة الرشيد مضافة إليه العوامل المقاميّة والتاريخيّة التي ذكرناها. وكلّ كلام البرمكيّة في الحوار هو هذا: " يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وفرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك. لقد حكمتَ فقسطتَ/ من آل برمك ممّن قتلتَ رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم". الطريف أنّ الكاتبة والرشيد اختلفا في تقييم بلاغة كلام البرمكيّة. فما اعتبرته المؤلّفة برهانا على جرأة المرأة، وهو القسم الثاني هذا: "من آل برمك ممّن قتلتَ رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم"، هذا الكلام لم يزعج الرشيد. فهو كلام خبريّ تقريريّ يحتمل الصدق والكذب، كما يقول البلاغيّون القدامى. وهو كلام يثبت الثابت تاريخيّا ويقرّه. ويقول ما يعرفه الجميع. فشأنه بالضبط كشأن من ينظر إلى الشمس الساطعة ويقول: انظروا، الشمس ساطعة. فالرشيد لا يرى حرجاً في ما أتاه، كما قلنا. وإنّما هو نفّذ أمر الله. وخبر ما فعله شائع. ولذلك تمكّن من ردّ هذا الكلام سريعاً بكلام مثله، بل أبلغ.
إنّ ما أزعج الرشيد هو الخطاب الإنشائيّ؛ نعني هذا الدعاء: " أقرّ الله عينك وفرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك. لقد حكمتَ فقسطتَ". هذا الخطاب معجمه وتركيبه وبنيته دعاء للرشيد. وهو ما فهمه أصحاب الرشيد وجلاّسه وأصفياؤه ومستشاروه. لكنّ المقام لم يجعل الرشيد يطمئنّ لما أفاد به ظاهر الخطاب. فرأى الدعاء عليه لا له. وهو ما يدين المرأة من جهة لأنّها لم تجد صنعة تشفير الكلام على الأقلّ. ويمجّد نباهة الرشيد وحسّه البلاغيّ الحادّ وقدرته على الوصل المفيد بين مقام التلفّظ وبين الملفوظ من جهة ثانية. وكلّ هذا أدخل في مدح الحاكم منه في وصف المرأة بالجرأة. لقد قاربت المؤلّفة مسألة عسيرة هي المسألة القيميّة. وهي مسألة شائكة متداخلة أبعادها ومفاهيمها وحدودها متشابكة. لكنّ نيّتها في تعديل منظومة القيم الأخلاقيّة لم يسعفها الخطاب المنبني لتحقيق هذه الغاية. فلم تنجح الكاتبة في خطابها بشقّيه النقديّ المُنتج والأدبيّ المستدعى ممّا تسمّيه التراث في إثبات صفة الجرأة في منظومة قيم المرأة العربيّة. بل إنّ الخطاب المنجز خذل صاحبته. وانحرف إلى الجهة المعاكسة فعاد إلى أزمنة المدح والهجاء القديمة رغم ارتدائه ثوب المعاصرة.
كاتب من تونس
الهوامش
(1) نعني بحث الكاتبة السعوديّة وسيمة عبد المحسن المنصور: المرأة المحاورة: قراءة في التراث، مجلّة عالم الفكر، العدد2، المجلّد 34، أكتوبر/ ديسمبر 2005.
(2) قال أبو البقاء الرنديّ في ذلك :
من راقب الناس مات غمّا * * * وفاز باللذّة الجسور
(3) لسان العرب المحيط للعلاّمة ابن منظور، قدّم له العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، أعاد بناءه على الحرف الأوّل من الكلمة: يوسف خيّاط، المجلّد الأوّل، دارا الجيل/ دار لسان العرب، بيروت، 1988، ص428.
ونقرأ في المعجم الوسيط ما يلي: «جَرُؤَ على الشيء- جرأة وجراءة: أقدم عليه. فهو جريء. (ج): جُرْآء وأجرِئاء. (جرّأه): شجّعه. (اجترأ) عليه: تشجّع. (تجرّأ): اجترأ.» المعجم الوسيط، قام بإخراجه: إبراهيم أنيس وأحمد حسن الزيّات وحامد عبد القادر ومحمد علي النجّار، عن مجمع اللغة العربيّة، المكتبة الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع، استانبول، تركيا، الجزء الأوّل، ط2، 1972، ص114.
(4) المرأة المحاورة: قراءة في التراث، نفسه، ص80.
(5) توسّعت في تحليل ذلك في نصّي "المفكّر ونقد السلطان" المنشور بمجلّة الكلمة الثقافيّة الالكترونيّة اللندنيّة، عدد 38، يونيو 2010.
(6) سورة الأنعام، الآية 44.
(7) سورة الجنّ، الآية 15.
(8) المرأة المحاورة: قراءة في التراث، نفسه، ص81.
(9) هذا ما أثبته الأستاذ محمد القاضي في بحثه: الخبر في الأدب العربيّ: دراسة في السرديّة العربيّة، منشورات كليّة الآداب بمنّوبة، تونس، 1998.