تمهيد
أخذت النظرية السكانية شكل آخر، وصيغة جديدة تمثلت بنظرية التحول الديموغرافي الذي يعد النقلة النوعية في النظريات السكانية باعتمادها على الأسلوب العلمي في تفسير الظواهر السكانية (التغيرات السكانية في المجتمع)، دعمتها النظريات الحديثة التي كانت أكثر شمولية من نظريات رواد علم الاجتماع (النظريات السوسيوديموغرافية)، وفي هذا البحث تناول النظريات المعاصر في الديموغرافية بشكل يستطيع القارئ فهمها والاعتماد عليها في الدراسات النظرية للديموغرافية.
المبحث الأول: نظرية التحول السكاني المفهوم والنشأة
تمثلت معظم الآراء النظرية السابق مناقشتها في جهود علماء الاجتماع في فهم الظواهر السكانية من خلال تطبيق نظرياتهم الاجتماعية على السكان، وبالتالي لا نستطيع أن نقول أنها نظريات خاصة بعلم اجتماع السكان، وكما سبق ذكره فما زال علم اجتماع السكان يفتقر إلى وجود نظريات حديثة خاصة به، لذلك فعلى الرغم من علم انم أسبق عرضه لا يعتبر حديثاً إلا أنه يوضح التصورات النظرية لعلماء الاجتماع في تفسير الظواهر السكانية، أن كتابات المشتغلون حديثاً في هذا العلم لا تكون بناءً متماسكاً موحداً أو نظرية مسبقة بقدر ما يمثل مجموعة أفكار وقضايا نظرية مختلفة. فعلم الاجتماع يفتقر لوقتنا الحاضر إلى الإطار المرجعي الموحد الذي فيه يجمع مختلف القضايا الاستقرائية والامبريقية عن المتغيرات السكانية والاجتماعية، والتي يمكن اعتبارها نظرية ديموغرافية اجتماعية، ويمكن أن نستثني من ذلك نظرية التحول الديموغرافي (الانتقال الديموغرافي) Demographic Transition Theory وهي من أكثر النظريات السكانية حداثة وشيوعاً واستخداماً في الدراسات السكانية، ويعود السبب لذلك أن هذه النظرية تعطي في طياتها إطاراً نظرياً يساعد على فهم اتجاهات السكان والتغيرات السكانية في العالم، ولقد ظهر هذا التصور النظري في بداية القرن العشرين مسلطاً الضوء في محتواه إلى أبعاد معدلات المواليد والوفيات على السكان، وعلى التركيب الفئوي للهرم السكاني في المجتمعات فضلاً عن التركيب النوعي فيها، وتسمى نظرية التحول الديموغرافي بنظرية الانتقال الديموغرافي، ويعني التحول التاريخي في معدلات الولادات والوفيات من مستويات عالية إلى مستويات منخفضة، وهو يسبق انخفاض الوفيات وانخفاض الولادات مما ينجز عنه نمو سريع يسمى (نمواً انتقالياً) وهو أشد من النمو قبل الانتقال وبعده. ويعود أصل مفهوم الانتقال الديموغرافي إلى العالم الديموغرافي الفرنسي (أدولف لاندريه 1934)، لكن صياغته المتكاملة وضعها الاقتصادي الأمريكي (نوتستاين 1945)، ويقسم (نوتيستاين) الانتقال الديموغرافي إلى ثلاثة أطوار متمايزة بحسب تسلسلها التاريخي وهي على النحو التالي:النظام التقليدي (ما قبل الانتقال)، ومرحلة الانتقال، والنظام العصري (ما بعد الانتقال).
أولاً: النظام التقليدي(1)
وهو النظام الذي يسبق مرحلة الانتقال الديموغرافي، ويسمى أيضاً بالنظام (الطبيعي، والبدائي)، ويتميز هذا النظام بارتفاع معدلات الوفيات، والولادات إذ يتجاوز (30%) في أغلب الأحيان، وبالتالي يكون معدل النمو السكاني (الطبيعي) ضئيلاً أو معدوماً، وهو ما يعني أن التزايد السكاني ضعيف أو منعدم. أن ارتفاع معدلات الولادات في هذا النظام عامل محافظ من الاندثار السكاني، الذي قد يحصل نتيجة ارتفاع معدلات الوفيات فيه، وكان هذا النظام سائداً حتى نهاية القرن الثامن عشر.
ثانياً: النظام الانتقالي
وتنقسم إلى مرحلتين هما: (مرحلة الارتفاع، ومرحلة الانخفاض).
1. مرحلة الارتفاع: وهي المرحلة الأولى من الانتقال الديموغرافي، تبدأ مع بداية التراجع في الوفيات، الناتج عن تحسن المستويات (الاجتماعية، والصحية، والاقتصادية)، بالقابل تبقى معدلات الولادات في ارتفاع متزايد وهذا مؤشرا على بداية النمو السكاني (الطبيعي) في المجتمع.
2. مرحلة الانخفاض: وهي المرحلة الثانية من الانتقال الديموغرافي، وتبدأ حالما يبدأ تراجع الولادات إثر تناقص الخصوبة، ويحصل ذلك عندما يعي السكان بتزايد عددهم، ويقوم الأزواج باتخاذ القرار بالتقليل من الإنجاب سيما أنهم لم يعودوا مضطرين لتعويض الوفيات مثل أباءهم.
ثالثاً: مرحلة النظام العصري
وتسمى أيضاً (مرحلة النضج) وفيه يعود النمو السكاني ضعيفاً أو منعدماً، إذ يتناقص معدلي المواليد والوفيات إلى أدنى مستوياتهم حتى يصلا إلى الثبات والاستقرار، ويكون النمو السكاني بطيئاً جداً كما هو شانه في النظام التقليدي، إلا أن الاختلاف بينهما أن النمو في المراحل البدائية ناتج عن ارتفاع في معدلي الولادات والوفيات معاً، أما في هذه المرحلة فالنمو السكاني بطيء بسبب الانخفاض الحاد في كل من معدلي المواليد والوفيات، وأمد الحياة بين سكان هذه المرحلة ممتد إلى ما يزيد 75 سنة(2). وتفسر النظرية الديموغرافية تلك التغيرات السكانية بتغيرات بنائية تتضمن تغيرات اقتصادية واجتماعية وسلوكية، وينظر إلى الاتجاهات الديموغرافية وخاصة معدلات الخصوبة على أنها استجابة لتغييرات بنائية متباينة نتيجة لعملية التحديث والتطور.
نتائج الانتقال الديموغرافي
إن عملية الانتقال الديموغرافي للمجتمعات تتولد عنها نتائج وتغيرات وتجديدات أهمها:
1. التغيرات الحادة في معدلات الزيادة الطبيعية للسكان، فالمرحلة البدائية تكون الزيادة فيها طفيفة ثم تأخذ في التزايد التدريجي في المرحلة الثانية، ومن ثم سرعان ما تصل إلى التزايد الانفجاري، ثم يتغير معدل الزيادة بصورة حادة مرة أخرى ليصل إلى مرحلة الاستقرار السكاني، نرى أن هذه التقلبات تحتاج إلى مراحل زمنية، بالإضافة إلى تغيرات في العوامل المجتمعية، والعوامل الاقتصادية، والسياسية... وغيرها، وإن كل مرحلة من هذه المراحل لها سماتها الخاصة التي تميزها عن غيرها.
2. إن الانتقال الديموغرافي يحدث تغيرات في التوليفة السكانية للمجتمع، إذ انه يؤثر بشكل مباشر على التركيب السكاني للمجتمع وخاصة التركيب العمر ي للسكان، فمثلاً عندما يدخل السكان المرحلة الثانية من التحول الديموغرافي ترتفع معدلات المواليد تزيد نسبة الأطفال الفئة السكانية الأولى المتمثلة بقاعدة الهرم السكاني، وتتغير بصورة حادة في المرحلة الثانية، أما في المرحلة الأخيرة فان نسبة كبار السن تتزايد بصورة واضحة الفئة العمرية التي تمثل قمة الهرم السكاني وتنخفض نسبة الأطفال.
3. إن التحول الديموغرافي يؤثر ويتأثر بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع ويؤثر بعضها بالبعض، فان التحسن الاقتصادي والاجتماعي يزيد من نسبة سكان الحضر مما يؤثر بدوره في التحولات الاقتصادية والاجتماعية، ومع زيادة المؤثرات تتزايد نسبة سكان الحضر مع تغير مراحل النمو السكاني حتى يصل إلى المرحلة الأخيرة ويكون أغلب السكان من الحضر.
4. تحدث تغيرات وتحولات اقتصادية هائلة في سكان المراحل المختلفة، فهي تبدأ بالمجتمعات التقليدية ثم المجتمعات الزراعية المطورة، ثم المرحلة الصناعية التي تربط بها تحسن مستويات المعيشة وتحسن أحوال السكان النوعية كافة من صحة وتعليم، وعلى الرغم من قلة أعداد السكان إلا إن تكلفة إنجاب الأطفال ترتفع كثيرا ويصبح للفرد قيمة في مجتمعه وهذا ما يحدث فقط مع مرحلة الاستقرار.
المبحث الثاني: الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لبطيء التحول الديموغرافي
الضغط على المصادر الطبيعية
لا جدال أن التوالد الإنساني لم يعد مسالة تخص الزوجين فحسب، فقد بلغ التطور الديموغرافي مرحلة دقيقة أصبح بموجبه اي ارتفاع لمعدلات الزيادة الطبيعية في أي بقعة من بقاع العالم يؤثر على البقاع المجاورة لها، ولهذا فليس من شك أن الشواهد التي وفرتها التجارب، الدولية والمحلية، في أعقاب المؤتمر الدولي للسكان والتنمية انطوت على إستراتيجية وفهم عميقين لأهمية الإنسان وقابليته في خلق القيمة المضافة، فمع تزايد الإدراك لأهمية الإنسان يلاحظ أن دور العوامل الأخرى في عملية الإنتاج (أرض، عمل ورأسمال) لم يعد يحتل الأهمية السابقة ذاتها بل أصبحت تكنولوجيا المعلومات، والذكاء أو الإدراك البشري ومستوى المعرفة هي المدخلات الأساسية في الإنتاج. وفي هذا السياق توفر بلدان شرق آسيا نموذجاً معاصراً يتناسب والتغيرات المتسارعة في كافة المجالات ونموذجاً يحتذي به إذا ما أرادت البلدان النامية تحقيق نمو اقتصادي مطرد محوره الإنسان(3).
أن الإنسان الذي يعيش فوق الأرض هو جزء من البيئة بتأثيره عليها واستغلاله لها أو قيامه بتحسينها، أو إقدامه على الإساءة إليها بتلويثها بالدخان والنفايات والأوبئة، وكذلك فباستطاعتنا أن نعد حالة الكثافة السكانية أو الانفجار السكاني نوعاً من الواقع إذ أن ازدحام السكان له أثاره المتعددة في مجال الاستغلال المكثف للبيئة كما أن هذا الازدحام قد يؤدي إلى كثرة الدخان والنفايات والأوبئة مما يؤدي بدوره إلى تناقص نقاء البيئة، وإن فقدان الأمن البيئي ينعكس سلباً على حياة السكان ويحددها.
أسلوب تعامل السكان مع البيئة
يمكن تقسيم البيئة إلى ثلاثة عناصر أساسية هي:
1. البيئة الطبيعية: وتتكون من أربعة نظم مترابطة ارتباطاً وثيقاً هي: الغلاف الجوي، والغلاف المائي، واليابسة والمحيط الجوي، بما تشمله هذه الأنظمة من ماء وهواء وتربة ومعادن، ومصادر للطاقة بالإضافة إلى النباتات والحيوانات، وهذه جميعها تمثل الموارد التي أتاحها الله سبحانه وتعالى للإنسان كي يحصل منها على مقومات حياته (الغذاء، والكساء، والمأوى).
2. البيئة البيولوجية: وتشمل الإنسان "الفرد" وأسرته ومجتمعه، وكذلك الكائنات الحية في المحيط الحيوي وتعد البيئة البيولوجية جزءاً من البيئة الطبيعية.
3. البيئة الاجتماعية: وقصد بالبيئة الاجتماعية ذلك الإطار من العلاقات الذي يحدد ما هي علاقة حياة الإنسان مع غيره، ذلك الإطار من العلاقات الذي هو الأساس في تنظيم اي جماعة من الجماعات سواء بين أفرادها بعضهم ببعض في بيئة ما، أو بين جماعات متباينة أو متشابهة معاً وحضارة في بيئات متباعدة، وتؤلف حياته الطويلة بيئة حضارية لكي تساعده في حياته فعمر الأرض واخترق الأجواء لغزو الفضاء، وعناصر البيئة الحضارية للإنسان تتحدد في جانبين هما:
الأول، الجانب المادي: وهو كل ما استطاع الإنسان أن يصنعه كالمسكن والملبس ووسائل النقل والأدوات والأجهزة التي يستخدمها في حباته اليومية.
الثاني، الجانب غير المادي: فيشمل عقائد الإنسان وعاداته وتقاليده وأفكاره وثقافته وكل ما تنطوي عليه نفس الإنسان من قيم وآداب وعلوم تلقائية كانت أم مكتسبة(4).
التدهور الاقتصادي
من هنا نلاحظ أن طبيعة العلاقة بين التغيرات الديموغرافية والنمو الاقتصادي هي علاقة سببية لها اثر استرجاعي وتندرج تحت مفهوم النظم من حيث إن هناك مدخلات ومخرجات و تتغير الأدوار بين المدخلات والمخرجات مع الزمن، فالشواهد التاريخية المستقاة من تجارب البلدان الصناعية الغربية تشير إلى أن التقدم التكنولوجي وتعاظم تكوين رأس المال قد عمل على تحفيز النمو الاقتصادي و زيادة ادخل القومي وبدوره، وبموجب أربعة مراحل تنموية رئيسية عمل الدخل القومي على تحفيز خفض معدلات الخصوبة بشكل متناسب مع نمو الدخل ومع تطور هيكل الإنتاج وهيمنة القطاع الصناعي.
إن اتساع القطاع الصناعي واستيعابه للسكان في سن العمل حفز في حينه على انتقال الأيدي العاملة من القطاعات الاقتصادية الأخرى خاصة القطاع الزراعي مؤدياً بذلك إلى تغيير أنماط الخصوبة وسلوكها. أما التجارب المعاصرة فقد وفرت شواهد مختلفة تماماً حيث إن التغيرات الديموغرافية لم تكن نتيجة للنمو الاقتصادي بقدر ما كانت سبب في زيادة في تراكم رأسمال من خلال نمو السكان في سن العمل وانخفاض نسبة المعالين. فقد أدى التقدم الصحي والتعليمي إلى خلق خزين من رأس المال البشري كانت استجابته سريعة لأنماط وتقنيات حديثة في الإنتاج موظفاً بذلك معارفه في خلق القيمة المضافة وكما حدث في بلدان شرق آسيا(5).
أن تخصيص جزء كبير من الدخل القومي للاستهلاك يأخذ أشكالاً عدة. فعندما يتم تمويل الاستثمار عن طريق الادخار الخاص، فان الأسر الكبيرة تجد صعوبة في زيادة ادخارها مما يؤدي إلى انخفاض حجم الادخار الكلي وبالتالي انخفاض مستوى الاستثمار. وعندما تكون الأسرة الكبيرة فقيرة وليست مصدراً للادخار، فان ارتفاع الخصوبة يؤدي إلى ضغط اجتماعي لزيادة حصة هذه الأسر من الدخل القومي وذلك للإبقاء على مستوى معين من الاستهلاك. أما عندما تكون الدولة هي الممولة للاستثمار من خلال الادخار العام فإن ارتفاع معدلات الخصوبة يؤدي إلى زيادة الأنفاق وتباطؤ معدلات الاستثمار. أن الجديد الذي أضافته تجربة بلدان شرق آسيا على أدوات التحليل هو الأثر الاسترجاعي للبعد الديموغرافي وسرعته، ويتمثل ذلك في أن انخفاض أعداد المعالين يؤدي ألي زيادة في الادخار والاستثمار خاصة في الصحة والتعليم، بدورها تؤدي إلى انخفاض الخصوبة. فما كان سبباً في وقت من الأوقات قد يصبح نتيجة بفعل التغذية الاسترجاعية. وعند ارتفاع نمو السكان في سن العمل وانخفاض معدلات الإعالة عندها يظهر بوضوح الأثر الإيجابي لانخفاض معدلات الخصوبة ممثلاً بزيادة حصة الفرد من مدخلات الإنتاج ورافعاً متوسط دخل الفرد، وقد يؤدي الانخفاض المتوقع للخصوبة بالتزامن مع عدد أقل من السكان المعالين، إلى إمكانيات في نمو متوسط دخل الفرد قد تمتد على مدى خمسة وعشرين سنة خاصة وان التجارب التاريخية تبين أن حدوث هذه العملية في موازاة نمو بطيء لفئة كبار السن تتيح لعدد من الدول - في أوقات متفاوتة إنما لزمن محدد – ظهور الهبة الديموغرافية(6).
الاختلال الاجتماعي
إن لكل حضارة أو تنظيم اجتماعي إفرازات متنوعة تتمثل بالتوترات الداخلية، أو انحرافات سلوكية لأسباب متعددة منها تعدد البناءات الاجتماعية الداخلية وتعدد المعايير والقيم الضابطة للسلوك واختلاف التراكيب النفسية وتعدد المؤثرات مدى تعرض الفرد إلى ضغوط وعقبات قد يؤدي إلى بعض الانحرافات الفردية أو التوترات الاجتماعية، وتعد المجتمعات الحضرية أكثر إفرازاً لمثل هذه التوترات والانحرافات بسبب تعقد بناءها الاجتماعية وتعددها ونمو التنظيمات الاجتماعية وتنظيمها، وهي تتطلب انتماء الفرد إلى عدد من التنظيمات المؤسسية والأنساق الاجتماعية وإشغاله مراكز اجتماعية في أن واحد، وهذا يؤدي بدوره إلى نوع من التوتر والصراع، ذلك إن الأدوار الوظيفية التي تتطلبها تلك المراكز تسبب تقاطعا بين عدد من البدائل السلوكية الأمر الذي يخلق توترات داخلية أو انحرافات سلوكية تنعكس سلباً على الأداء الوظيفي للنسق الاجتماعي نتيجة عجزه عن التوفيق والموائمة بين تلك المراكز والأدوار، وإذا صرفنا عما يمكن أن تؤديه تلك الانحرافات أو التوترات من ادوار وظيفية في ضغط تماسك المجتمع أو تدعيم النسق الاجتماعي، سواء كانت تلك الانحرافات واستيعابها يعد مشكلة في حد ذاته، لأنه يهدد بتصعيد تلك التوترات إلى انفجارات لا على مستوى النسق الاجتماعي وحده وإنما قد تمتد أثاره إلى بقية الأنساق الاجتماعية الأخرى وتهدد النظام الاجتماعي والأمن الاجتماعي.ومن المعلوم أن فشل النظام الاجتماعي في الحد من هذه الانحرافات والتعامل معها بشكل ايجابي والعمل الدءوب في تحقيق التوازن الاجتماعي من خلال تفعيل آليات الضبط الاجتماعي قيميا ومؤسسيا، يدلل على عجز النسق الاجتماعي عن أداء وظائفه وتحقيق متطلباته الوظيفية التي تربطه بالأنساق الأخرى في المجتمع فتتحول تلك التوترات إلى مشكلات اجتماعية تمتد أثارها إلى بقية الأنساق الاجتماعية فتسود حالة التفكك الاجتماعي في النظام كله(7). فالتنظيم الاجتماعي للمجتمعات مسالة حجم فكلما زاد السكان اتسع التنظيم وتعدد، وكلما زاد تراكم الثقافة كلما تنوعت وظائف التنظيم وهذا ينطبق أيضا في حالات تقسيم العمل كما أن التنظيم الاجتماعي حين يزداد عدداً تزداد التنظيمات ذات الغرض الواحد، وعندما يحدث تغير اجتماعي يفقد التنظيم المتعدد الوظائف بعض وظائفه وتستقل بها تنظيمات اجتماعية أخرى، فتغير الأسرة مثلاً جعل بعض وظائفها تنتقل إلى أجهزة الدولة أو المؤسسات الأخرى(8). ومن التنظيمات الاجتماعية ما عاش مئات من السنين، دون أن يفقد وظائفه المتعددة وخاصة ما كان لها صفة العمومية في ثقافات متعددة وهذه التنظيمات نطلق عليها اسم التنظيمات الاجتماعية الكبرى، وعلى الرغم من تعدد أنماط التنظيم الاجتماعي بحسب الزمن والوظائف إلا أن كل تنظيم مهما تدرج من النظام ذي الوظائف الثابتة نسبياً إلى المنظمة ذات الأغراض المحددة والأقل ثباتا لابد أن ينطوي على مجموعة من المكونات الضرورية تعتبر في واقع الأمر مظاهر ملازمة للتنظيم الاجتماعي. وتركز الحياة الاجتماعية بالضرورة إلى شيء من التنظيم وان كل تنظيم يتضمن بالضرورة نوعاً من الضبط، لقد أشار إلى ذلك حين أشار إلى ذلك ابن خلدون حين أكد أن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره، وبعامة يمن القول أن كل ما ساعد على امتثال الأفراد لقواعد وأنماط السلوك والمعايير والقيم السائدة في المجتمع يدخل في موضوع الضبط الاجتماعي، وبما أن الأمن الاجتماعي في أبسط معانيه هو حماية الأفراد والجماعات والمنظمات من التهديدات التي تتعرض لها بسبب تناقض الأحكام والضوابط لاجتماعية وتحلل القيم والمثل الحضارية(9). إن حالة اللا أمن الاجتماعي تعني الانفصال بين الأهداف الثقافية والوسائل المتبعة للوصول إليها وفي هذه الحالة تفقد المعايير الاجتماعية قدرتها على ضبط سلوك الأفراد والجماعات كما أن القيم هي الأخرى تفقد سلطتها في تحديد تصرفات الأفراد، أن حالة فقدان المعايير قوتها الإلزامية بوصفها أداة للضبط الاجتماعي هي حالة اجتماعية تتميز بالتخبط وانعدام الأمن والتي اسماها دوركهايم بالفوضى المعيارية الانومي اللامعيارية(10)، وبعامة يمكن القول أن المجتمع الذي يتوفر الأمن الاجتماعي، يكون أفراده ممتثلين للقيم والمعايير الثقافية، والتماسك الاجتماعية في أعلى حالاته، وهناك توافق في الوسائل والأهداف التي يسعى المجتمع إليها.
الخلاصة
إن المسالة السكانية كانت موضع اهتمام العلماء والفلاسفة منذ إن وجدت تلك المجتمعات فأي فكر كان هدفه تحقيق مستوى أفضل من الحياة للعنصر البشري، لقد وجه الفلاسفة القدماء عنايتهم بأمور السكان من حيث شؤون حياتهم المعاشية وتنظيم العلاقات بينهم وبين الحكام، ويمكن القول بان معظم النظريات الفلسفية والسياسية استهدفت السكان في المجتمع وان تلك الدراسات تميل للطابع الشخصي ولروح المفكر ولظروف عصره ولم تأخذ الطابع الوضعي التحليلي، وإنما كانت أفكار لتحسين وتطور المعارف الإنسانية كان لابد وان تساير الأفكار السكانية ما حرزته العلوم من تقدم وبهذا ظهرت النظريات السكانية.والتي هي امتداد للأفكار القديمة ويقصد بنظرية السكان (أنها محاولة لتفهم مجموعة العوامل المهمة التي تحدد نمو السكاني، وتفسير ديناميكية النمو السكاني). ونظرية التحول الديموغرافي نعد أهم النظريات السكانية في إفرازاتها على الواقع السكاني والاجتماعي.
جامعة الموصل/ العراق
الهوامش
(1) علي لبيب، جغرافية السكان الثابت والمحول، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، 2004، ص112.
(2) فايز محمد العيسوي، أسس جغرافية السكان، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2003، 172.
(3) UN_ESCWA Sustainable Human Development under Globalization: The Arab Challenge، A.A. Kubursi،1999.p;45
(4) السيد عبد العاطي السيد، الإنسان والبيئة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988، ص128.
(5) بتول شكري، الترابط بين السكان والتنمية والفقر على صعيد الاقتصاد الكلى المنتدى العربي للسكان 19- 11-2004 بيروت، ص24.
(6) المصدر نفسه، ص32.
(7) كامل جاسم المراياتي، مفهوم الأمن الاجتماعي في الفكر السيكولوجي، ندوة الأمن الاجتماعي، بيت الحكمة، بغداد، 1997: ص17.
(8) محمد عاطف غيث، دراسات في علم الاجتماع، مركز الكتب الثقافية، بيروت، 1985.ص41.
(9) أمين هويدي، الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت، 1975، ص45.
(10) مزاحم جاسم العاني، دور مؤسسات الضبط في الأمن الاجتماعي، ندوة بيت الحكمة، بغداد، 1997. ص138.
المصادر
1. أمين هويدي، الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت، 1975.
2. بتول شكري، الترابط بين السكان والتنمية والفقر على صعيد الاقتصاد الكلى المنتدى العربي للسكان 19- 11-2004 بيروت.
3. السيد عبد العاطي السيد، الإنسان والبيئة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988.
4. علي لبيب، جغرافية السكان الثابت والمحول، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، 2004.
5. فايز محمد العيسوي، أسس جغرافية السكان، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2003.
6. كامل جاسم المراياتي، مفهوم الأمن الاجتماعي في الفكر السيكولوجي، ندوة الأمن الاجتماعي، بيت الحكمة، بغداد، 1997: ص17
7. محمد عاطف غيث، دراسات في علم الاجتماع، مركز الكتب الثقافية، بيروت، 1985.
8. مزاحم جاسم العاني، دور مؤسسات الضبط في الأمن الاجتماعي، ندوة بيت الحكمة، بغداد، 1997.
UN-ESCWA Sustainable Human Development under Globalization: The Arab Challenge، A.A. Kubursi،1999.p;45