يتوقف هذا المقال، عند سمات قصيدة النثر في ديوان الشاعر المصري وصولا الى رصد ملامح الوجود وتشظيه..قصائد يعي القارئ جزءا من جماليات اختلافها ويمسي مشاركا فعليا في بناء النص الشعري.

بين الشفافية والتجسد المجازي

محمد سمير عبدالسلام

تتميز قصيدة النثر عند محمد سليمان بإعادة تكوين الأشياء، والصوت المتكلم، ومنطق الوعي في إدراكه المتجدد للعالم انطلاقا من الطابع الانتشاري للصورة، وكأن العلامات تتهيأ دوما لتلقي ذلك المكمل الاستعاري الذي يحدد التكوين، والوعي، وينفي حضورهما الأول قبل عملية الكتابة في الوقت نفسه ؛ ونلاحظ  نوعا من السخرية المرحة في هذه الكتابة ؛ لأن تداعيات الصور المجازية تستخدم الإشارات، وطرق الرؤية نفسها في سياقات مناهضة لبنيتها من جهة، كما تحفز حركيتها عن طريق وهج الطاقة السردية – الشعرية من جهة أخرى.

وفي ديوانه (هواء قديم) - عن هيئة الكتاب المصرية 2005- يفجر محمد سليمان الدلالات الشعرية للغة حين تقترن خيالات المادة الكونية في الوعي بالصيرورة السردية للزمن. إن الماضي عند محمد سليمان له حضور محرك لكينونة الصور الجديدة المولدة للتوفي القصيدة؛ ومن ثم نستطيع لمس آثاره في المادة كتأويل استقبالي يقاوم الغياب الكامن في مدلوله الأول عند القارئ.

إن الغموض في شعر الحداثة المصرية منذ السبعينيات - وبخاصة عند محمد سليمان- له مداخل نقدية وفكرية عديدة؛ فتجاوز التاريخانية متواتر في أفكار ما بعد الحداثة عند ليوتار، وجان بودريار، ومسألة الخرق الشعري اللا واعي للذات طرحتها جوليا كريستيفا، وتفجير مدلولات جديدة من أنظمة العلامات نجده بكثرة عند رولان بارت ثم جاك دريدا. ووفرة هذه المداخل إلى الآليات الإنتاجية عند سليمان وغيره من السبعينيين، تدعو ضمنيا إلى حسم الجدل حول مشروعية مثل هذه النصوص الطليعية، وتكشف انهيار سمة الغموض من الأساس؛ لأن مسار الخطاب في النص لا يؤسس هنا لموضوع ما، أو لحقيقة أو نسق؛ إنه مسار توليدي للزيادة المحتملة.. المكملة للدال الشعري، هذه الزيادة غير معروفة سلفا ولكنها تعمل في النص بصورة سردية ديناميكية تتلاشي فيها المدلولات الأولى للعلامات أو الضمير المتكلم للذات الشعرية نفسها، دون غياب كامل أيضا، وعند هذه النقطة تؤسس قصيدة محمد سليمان لقارئ مثالي - وفق مفهوم أومبرتو إيكو- يعي بجماليات الاختلاف ويشارك في دائرة الإبداع النصية.

يبدأ الديوان برصد التناقضات التكوينية المصاحبة للإحساس بالجسد، وقد أتى هذا من خلال ثلاثية (الذات والهواء والطيور)؛ فالذات تدرك وجودها في العالم وفق خيالات الهواء، وما يصاحبه من رغبة غير واعية في الطيران والاستجابة لشفافية الصوت الذاتي المناهضة للمركزية التقليدية. يقول :

"هالة عادية كالهواء / وهالة أيضا مليجية.. وتحب الزوابع / هالة ظلت تشبه أمشير بي / سوف أرافقها من مليج إلى ضدها لتألف معجزة الجسم " .

لقد انبثقت مادة الهواء لتكون بديلا للشاعر في وعي هالة ثم صارت أنوثة هالة هوائية لتكتمل عملية التوحد، بالآخر الكامن في الذات الشاعرة والحامل لشعورها الأنثوي " هل يذكر بامرأة ذلك البرق؟". إن البرد في يناير يلتحم بحب المادة الكونية ويولد مفهوم الأنوثة بالتداعي، البرد شديد الصخب، والتناقض الدلالي المحتمل. يقول :

" أحب هذا البرد / أحب أن أرى الغيوم فوق الدور مثل مفرش / لم تزل أصابعي محشوة باللغة الأولى / ولم أزل كالجرو مغرما بالحرب "

الهواء البارد هنا هو الدال الأول المولد للصخب الذي يناهضه ظاهريا، الهواء مجال للعمل عند سليمان، أوللفاعلية المصاحبة لبرودة الأصابع، حيث الرجوع بالكتابة إلى انعدام التحديد في اللغة الأولى؛ ومن ثم كان التمثيل الذاتي في هيئة الجرو أو المحارب شكليا دون غاية، مثل دائرة البرودة المبدعة لفراغ المكان.. ذلك الممثل الثاني الذي يجعل الدور تتغطى بالغيوم في جمالية فائقة ومضادة لتكوينها الوظيفي.. البرد يتوحد بالأصابع يمثل دورها، أو يستبدلها ؛ لخيانة الواقع القديم. وتصل تمثيلات الهواء إلى ذروتها عندما نرى هالة جندية تراقص الإسكندر، أو الغزلان التي كانت تطارد صيادا في الماضي، حيث تنفلت الأصابع، وتنطلق مثل العواصف خارج مدلول المتكلم، والنقطة الزمنية التي بدأ منها وصف البرد بأنه قاس ثم حبه للشتاء. لقد حضر هواء الإسكنر القديم برائحته، وهواء طواطم الصيد الكامنة في اللاوعي الجمعي ؛ لتشارك في احتفالية الحب والحرب لدى الشاعر.

أما العنصر الثالث وهو الطيور، فقد جاء في هيئة تخيلية ووجودية في آن، إذ جسد معجزة صعود التكوين في لا وعي الشاعر؛ فقد كان الطيران سلاما للجسد في التحامه بالهواء القديم. فعل الطيران إنساني وأصيل في رواسب الوعي الثقافية عند سليمان، الطيور تستعيد ديدالوس وتبعثه في النص؛ لتبرز التباس الهواء بالذات المتكلمة، وقدرتها على اختراقه من خلال الطيور كممثل علاماتي وسيط ومخيل في آن؛ إذ نستطيع قراءته وفق زيادة الشفافية المتوقعة في ظهوره لصالح دوائر الهواء الفارغة.

يرى باشلار أن التأملات الشاردة وخيالات اليقظة يتوحد فيها كل من الكون والمادة؛ فصور العناصر الأربعة المأخوذة بالقرب من الإنسان تكبر بذاتها حتى مستواها الكوني، قد نحلم أمام النار فيكشف تخيلنا أنها محرك العالم، وإذا واجهنا ينبوعا نرى الماء كدم للأرض (راجع - باشلار - شاعرية أحلام اليقظة - ت: جورج سعد المؤسسة الجامعية ببيروت / 1991/ ص152 وما بعدها)

هكذا حملت الطيور صورة التباس الحالم بالهواء في تكوين يجمع بين الشفافية والرخاوة الجسدية المستعادة من التاريخ في زمن القصيدة الاستقبالي. يقول الشاعر:

"لأن البرج هوى / لأن هواء الشارع متسخ وقديم / لأن البحر بعيد جدا / سأظل هنا منتظرا غجرا ينحدرون من المستقبل موشومين " .

لقد جاء الهواء في هذه الحركة مجردا ومتماسكا كأنه يتمثل الجسد في قوته وصيرورته الزمنية، في صورة عكسية للسابقة، مما يوحي بكثرة الانقطاعات في مسار أخيلة القصيدة، والانقطاع مولد للاندفاع المتجدد للمادة حين يغلبها الجسد. يقول :

" هكذا سأميل على حجر وأصد الزوابع / في البرد لا يخرج الشعراء من الصوف ". البرد يحمل رائحة الغربة الكونية حين يصير ممتلئا بصلابة العواصف، هل هوصمت كوني يهدد بالجمود؟ أم أنه طاقة احتلال للذات الحالمة بكون طائر مسالم؟ الشاعر يخشى السقوط وخيانة الصعود الكامنة في المسار الكوني نفسه، فقد تؤدي الهاوية إلى العدم أيضا، وقد تكون مسارا نورانيا. يقول :

"بعض الشوارع يفضي إلى النور/والبعض يفنى/لأن العصافير لا تصطفيه/ يناير دب /ولكنني الآن أمهر من ثعلب وعجوز / وأعرف أن البحيرة ليست سوى زخة والسلالم فخ " .

هكذا صارت أخيلة الهواء الكامنة في العصافير - الأكثر دقة وانتشارا - مصدرا للانتخاب النوراني ؛ لتقاوم الوحشية الحيوانية التي اكتسبها الهواء هنا ممثلة في الدب، هل كان الصعود مصيدة نصبها الوحش ؟ لا يمكن الحسم أبدا؛ لأن سليمان يسخر صراحة من السببية من داخل استعمال أدواتها. يقول :

" لم ينم البحر لأصبح مليونيرا / لم ينم البحر ليقفز جني من قفص ".

إن البحر هو العنصر الأكثر حضورا في الديوان بعد الهواء، وهو حامل لآثار هالة وصخب الحروب في لا وعي الشاعر.. البحر يفجر الارتباط بين الذات والواقع؛ إذ يستلب المنطق الواعي لصالح الإيروس، واللهو غير العابئ بمسألة الحقيقة من الأساس، وإن جاء ذلك من خلال الارتباط، والتساؤل للكشف عن إمكانية تلاشي المدلول الأول في تحولات الصورة المناهضة للنسق، يقول الشاعر :

" هل كانت تدعى هالة حقا ؟ / أم ألهو كالمعتاد وأخفي كالجني دما بدم؟ /.. هالة ليست هالة"

الهوية كامنة في جوهر اللهو، وعمليات الاستبدال المتكررة التي لا يمكن فيها تحديد المتكلم حين يعانق اتساع البحر فتنكمش الدلالات التقليدية للأنوثة ويمتد الدم إلى لا محدودية الماء. وتصل الحركة السابقة إلى قمتها من خلال أمرين :

الأول: ثورة الخيال بوصفها قيمة للحياة كمفهوم تصويري سردي، وهنا تقع رموز السلطة والأعراف الاجتماعية إلى الهامش أمام ذلك الحريق التكويني القادم من خيالات الماء. يقول:

" رأس المهر شلال / وربع الثور زوبعة / يد تعوي / أصابع تنهش الفولاذ /.. سوف يكلم الباشا / يبدل ماء شيشته ويسقي وردة الطربوش / ملاحوه خاضوا الحرب في غرف / وملاحوه ينتظرون ناقات من الفخار في أبراجها ماء "

ذكرى الحرب الكونية تولد من الماء حال اتساعه؛ ليناهض ماء الشيشة المحدود من داخله، هل هو الإبداع الذي يتسع شكليا دون قيود من خلال العواصف والعواء واليد المجردة؟ أم أنها ثورة الذات الهوائية الجديدة يدفعها البحر إلى النمو في القصيدة ؟

الثاني : تلاشي المتكلم وانتشاره الصاخب حيث اجتماع الصعود الكامل، والنفي معا يقول :

"أنا حزين ربما / لأنني ضيعت أسناني / وربما لأن أطفالا لهم ملامح الذئاب يهبطون من دمي".

من الواضح أن الإحالة الأولى إلى (أنا) تنحل تماما في انتشار الأطفال.. الذئاب. ربما يكون الصعود نفيا أكثر ارتباطا بالمادة في وحشيتها هنا، لكننا لن نجد بعد ذلك سوى الصوت والغبار في قوله:

" لا أحد في الغرفة / لا أحد في البهو/ لا أحد في الحمام / من هناك إذا يا محمد ؟ / إنه الغبار فقط "

هكذا تصير دائرة الوجود المتضاعفة أكثر التصاقا بفراغ الهواء، وتشظي مادته عند محمد سليمان.

 

 

كاتب من مصر