يستعيد القاص المصري تفاصيل المرحلة الجامعية التي تكشف عن تراوح الراوي بين مشاعر متناقضة وخوضه أزمات روحية ومادية، كما تكشف عن استمرار حنينه إلى هذه المرحلة رغم مرور سنوات، ويتذكرها بشغف لا يخفت مع صديقه «البرديسي» مما يجعل الحنين لديه سؤالا بدون إجابة.

البرديسي

محمود عبد الوهاب

رسالة  قديمة على الايميل منذ عام 2001 أرسلها لى هانى البرديسى من أمريكا بعد طول انقطاع. قال فيها:

-  صديقى العزيز. لم أسمع عنك منذ مدة طويلة. أحتاج إلى التواصل معك ومعرفة آخر أخبارك. حاول أن تكون "أونلاين" على الماسنجر أو ارسل لى رسالة.

وقع هانى الرسالة كما يلى:

-البرديسى بتاع زمان.

 

و"الواد" هانى هو صديقى الوحيد الذى لا زلت أحتفظ به منذ أيام الدراسة الابتدائية إن لم يكن من الحضانة. تزاملنا طوال سنوات الدراسة فى الإسكندرية فى المراحل المختلفة. إلا أن التألق الحقيقى لعلاقتنا كان فى الجامعة.

بعد الجامعة اعتقدت أنى سأفقده هو الآخرمع بقية الزملاء والمعارف والأصدقاء الذين تساقطوا من الذاكرة بفعل تغيرات الحياة، وبالفعل اختفينا من حياة بعضنا البعض لسنوات لكنها ليست كثيرة، كان يأتى كل عام من أمريكا فيسأل عنى أو يزورنى ونلتقى مرة أو مرتين ونتبادل العناوين مرة بعد مرة ثم إلى العام القادم. لكن مع بداية استعمالنا للإنترنت عاد تواصلنا بقوة من جديد عبر الإيميلات. أما أقوى أنواع التواصل فقد كانت بفضل برامج المحادثة التى جعلتنا نتحدث سويا ولا نكتفى بالرسائل. نتحدث بالساعات عبر الشات ونجتر أجمل ذكريات حياتنا وأدق تفاصيلها.

 

كنا سويا فى كلية التجارة إلا أن كلينا لم يكن يحضر أيا من المحاضرات. كنا نمقت شكل المدرج الكبير الذى يكتظ بالآلاف وتفوح منه رائحة العرق. ويضطر الطالب الذى يصمم على حضور المحاضرة إلى حجز مكانه قبلها بثلاث ساعات على الأقل لكى يجلس بين الطلبة يسمع وهو نائم.

وبدلا من التجارة التقينا سويا فى كلية الآداب. لا أتذكر الآن كيف بدأ الأمر بالضبط لكننا كنا دائمى التواجد فيما أسميناه "السطوح". هذا السطوح كان ممرا واصلا ما بين مبنيين يحتوى كل مبنى منهما على عدد من الأقسام موزعة على خمسة أدوار. كنت أفضل دائما الصعود من المبنى الأول الذى يحوى قسم اللغة العربية فى الدور الأول، بطلابه القادمين أغلبهم من الأرياف. وبأعدادهم الكبيرة. وبالفقرالواضح على ملابسهم وهيئتهم مقارنة بما يحدث فى الأعالى. فى السطوح ومافوقه. أصعد السلم وصولا إلى الدور الذى فى نهايته السطوح. هذا الدور كان يحوى قسم علم نفس وهو قسم أعلى فى مستواه من قسم اللغة العربية وأقل عددا، لكنه لا يستطيع اطلاقا المنافسة مع الدور الذى يليه: قسم اللغة الانجليزية.

 

فى السنة الأولى من دراستى بالكلية كنت دائم الوقوف على السطوح. أقرأ الجرائد والمجلات، وأنظر إلى البنات وكلى استعداد للوقوع فى الحب. إلى أن جاء هانى البرديسى إلى كلية الآداب بعد شهر واحد من بدء الدراسة وانضم لشلة السطوح. كانت الشلة مكونة فى العام الأول من بنات قسم انجليزى، أنا وهانى وربما صديقين آخريين. انضمامى لهذه الشلة مبكرا أعطانى الفرصة لكى أختلط أكثر بثقافات أحبها وعوالم أرغب فى معرفتها كالأدب الانجليزى. الروايات العالمية والنصوص المسرحية التى كان صديقى أسامة صليب يخرج بعضها فى المركز الثقافى الفرنسى بالاسكندرية. كانت هناك بنات من أقسام أخرى كولاء من قسم الاجتماع والتى وقعت فى حبها بينما كانت تحب صديقا لى. أحسست بأول أحاسيس جميلة حقا مع ولاء وظللت أحبها فى صمت إلى أن انتهت قصة حبها مع صديقى فانتقلت إلى غيره بدون أن تتاح لى فرصة فى المنتصف إلا الاعتراف لها بحبى وذلك فى مقابلة لمرة واحدة فقط على السطوح وطلبها مهلة للتفكير.

عندما بدأت إجازة نصف العام سافرت للقاهرة ومعى جهاز الكاسيت الصغير وشريط ال"بى جيز" الذى كنت أسمعه ليل نهار. كانت به أغنية خاصة تتناسب ما أحس به: "أكثر من مجرد إمرأة". كان هذا هو الشعور المحيط بقلب شاب فى التاسعة عشر من عمره عند تفتحه على معرفة عوالم الأنوثة.

عدت من الاجازة ولم تفلح القصة بالطبع، وبدأت أذوق حزن الحب لأول مرة.

 

قبل الامتحانات بشهرين تقريبا تبدأ المذاكرة عند معظم الطلبة، خاصة الذين يكرهون الكلية من الأساس. فبدأت أجتمع وهانى فى المنزل. أحيانا عنده فى البيت وأحيانا أخرى فى فيلا خالتى فى زيزنيا. لا زلت أذكر الدروس الخصوصية والملخصات التى كنا نسميها "البهاريز" والتى كنا نلجأ إليها بدلا من الكتب الأصلية التى لم نكن نفتحها من الأساس. وجداول المذاكرة التى كنا نجتمع خصيصا من أجل إنشائها، ثم تبدأ الأيام التى من المفروض أن نذاكر فيها ونحن نسمع أم كلثوم فى حجرتى بالفيلا. نتحدث عن البنات لوقت طويل. نتحدث أيضا عن خططنا وطموحنا للمستقبل. كان المستقبل مبهما تماما بالنسبة لكلينا. فهانى لم يكن يعرف أن الفرصة ستتاح له بعد سنوات قليلة ليسافر إلى أمريكا بدعم من أقارب له هناك. أما أنا فكان المستقبل بالنسبة لى أكثر ضبابية من ذلك. حيث لم أكن أعلم أى شىء عن مستقبلى أكثر من أن أبى سيحاول التوسط لى لدى أقاربه فى القاهرة ليجدوا لى عملا. أما كيف سأعيش بعد ذلك أو ماذا سيحدث  فذلك كان المجهول بعينه.

 

عندما يقترب الامتحان أكثر كنا نلجأ إلى تلخيص البهاريز فيما نطلق عليه "بهاريز البهاريز".

كانت طريقتنا فى المذاكرة: أن نقرأ هذه البهاريز ثم نلخصها كنوع من تركيز الاستيعاب. كان من نتيجة ذلك أن المنهج كله كان يختصر فى النهاية إلى صفحة واحدة تقرأ –عادة- عدة مرات فى اليوم الأخير قبل الامتحان، ثم تقرأ للمرة الأخيرة قبيل دخول اللجنة والتى هى عبارة عن خيمة كبيرة فى حديقة الجامعة.

رسبت فى العام الأول وخرجت منه بأربعة مواد للإعادة، ولم يتغير شىء فى العام التالى إلا الشلة. فقد تفرقت شلة انجليزى لأسباب لا أذكرها الآن. بعض قصص الحب تركت ندوبا فابتعد ناس عن ناس. توفى صديق لنا يدعى أسامة المحبش بأزمة قلبية. عثرت على قصة حب أكبر كثيرا من حبى لولاء.

كانت فتاة من نوع خاص. غنوج. رائعة القوام. تحضر إلى السطوح فتجلس على السور المواجه لشباك حجرة "السكشن".  ودائما معها صديقة واحدة. كنت أتعمد الجلوس بقربهما ومعى جرائدى أو مجلاتى الأسبوعية التى أشتريها. فى الحالة الأخيرة كنت أطلب منها أى أداة أفتح بها صفحات المجلة التى تكون عادة مغلقة من أعلى. بدأت العلاقة بيننا على هذه النحو وكانت تعطينى المبرد الخاص بها والذى يستخدم فى تقليم الأظافر.

 نما الحب سريعا بيننا فكنا نحضر الحفلات الموسيقية التى تقام فى كلية الآداب. فى احدى هذه الحفلات بدأت الفرقة تعزف "موسيقى النيل" لعبد الوهاب. بكت هناء فسألتها لماذا تبكى. قالت لأنها متأكدة من أننا سنفترق. كنت أعلم ذلك أيضا فقد كنا فى التاسعة عشر. وكان أبوها من كبار تجار الاسكندرية فى ذلك الوقت. عندما تزوج أخوها فرش له أبوه المنزل بخمسين ألف جنيه، بينما كان أقصى مبلغ يمكن أن يتوفر عند أهلى فى ذلك الوقت هو خمسة آلاف جنيه. تركت قصة الحب الفاشلة هذه أكبر علامة لازمتنى فى حياتى حتى الآن: لا تطلب إذا لم يكن فى جيبك ثمن ما تطلبه.

ذهبت مع هناء إلى المنتزة فى رحلة مع أصدقاء آخرين، كان الجميع ينظرون إلينا وقتها بنوع من الغيرة على الاحساس العارم الذى يكنه كل منا لشريكه. ومن هناء تعلمت كيف أستمع لأم كلثوم. فبينما كان أكثر اندماجى مع الموسيقى الغربية باستثناء عبد الحليم كانت خبيرة بأغانى أم كلثوم وفريد الأطرش. حفظت "الربيع" و"أول همسة" و"حيرت قلبى معاك" منها، ولا زالت شرائطها محفوظة فى مكتبتى حتى الآن.

وكما أن لكل قصة حب فى الجامعة نهاية كذلك كانت قصتى:

بدأت الإجازة الصيفية وبدأ حرمان طويل، كان باقيا على اختراع المحمول حوالى خمسة عشر سنة، وكان تليفون المنزل معطلا على الدوام كعادة التليفونات فى تلك الفترة. ثم إنه كان بيننا اتفاق صامت على أن ندع الوقت والشهور تنسينا ما أحسسناه. لكنى لم أستطع فعل هذا. كنت أذهب بالقرب من بيتها كالشاعر العربى القديم، أقف على شاطىء الكورنيش أشاهد البيت. أتمنى أن تخرج من البلكونة ولو لدقيقة فأراها. لم يحدث هذا أيضا.

إلى أن جاء يوم 2 يوليو 1982. ذهبت وقت العصارى وجلست إلى القهوة على الناصية المقابلة لمنزلها. وبينما كنت أشرب الشاى ظهرت فجأة أمامى فى الشارع. لم ترنى لأنها لم تتوقعنى على الاطلاق فى ذلك المكان. ولم يكن من الممكن بالطبع محادثتها فى ذلك المكان فى منطقة بحرى. على الأقل كان يجب أن أنتظر إلى ان تصل لمحطة الرمل لكى أستطيع محادثتها بأمان. مشيت وراءها وتركت مسافة كافية بيننا. وصلت إلى ميدان سعد زغلول، وبينما بدأت تسير على رصيف الميدان بمحاذاة القنصلية الايطالية أسرعت الخطى فقد كان هذا هو الوقت المناسب. وكانت هناك سيارة تركن بجانب الرصيف يجلس فيها شاب ذو ملامح غريبة، فتح بابها الأيمن فجأة لتدخل هى فى السيارة فى الوقت الذى كنت أمر فيه من يمينها.

جحظت عيناها كعينى قطة لكن لم يكن هناك ولا نصف ثانية لكى يحدث أى شىء آخر. كل ما حدث حدث ببساطة شديدة. أكملت سيرى إلى الأمام كأن لم يحدث شىء.

 

قضيت صيف ذلك العام أستمع إلى أغانى أم كلثوم وأسبح كل يوم فى شاطىء "بيانكى". واختبرت فى داخلى لأول مرة شعور الانهزام الحقيقى فى الحب. لم أكن ثائرا عليها على الاطلاق، إلا أننى، وفى نفس الوقت لم أستطع أبدا أن أسامحها.

عندما بدأ العام الدراسى التالى وتقابلنا ثانية، لم تتوفر لدى القدرة على أن أكلمها إلا بكلمات مقتضبة ردا على تحياتها المتواصلة. جلسنا فى الحديقة على السور الخارجى لمبنى كلية الآداب وبدأت تغنى لى أم كلثوم. لم يكن غناؤها يحتوى على محاولة لاستمالتى بقدر ما كان أقرب إلى تطييب الخواطر.

أما العريس ابن تاجر الذهب الشهير فقد ظهر فى الكلية مرة يسلم عليها. وقف مع الشلة قليلا وسلم على. ولا أظن أنى يمكن أن أنسى أبدا إحساسي وقتها. ومع ذلك –وللغرابة- لا أستطيع أن أصفه.

 

أما هانى فقد جاءنى يوما وكنا لا نزال فى أول أيام الصيف، وقال لى إنه سيسافر إلى أمريكا فى فترة الصيف عند عائلة صديقة لعائلته، وربما يعمل إن استطاع وذلك لاكتساب خبرة الحياة. ودعته يومها وأنا فرح له، حزين من أجل نفسى فى الوقت ذاته. ففيما يسافر هو إلى عالم جديد أعانى أنا سكرات الفشل، مع عدم القدرة على تصديقه فى نفس الوقت.

 

كنت قد انتقلت من بيت أبى إلى فيلا خالتى بزيزنيا حسب طلبها فى آخر شهرين لى قبل امتحان آخر العام بالسنة الأولى. لم يواجه طلبها بأى رفض من جهة أبى، فمن ناحية هى لم ترزق بأولاد، ومن ناحية أخرى كان بيتنا ضيقا قليلا على خمسة أفراد. عندما بدأت الإجازة الصيفية ذهبت خالتى مع زوجها إلى فيلا العجمى فاضطررت إلى الرجوع –على مضض-لبيت أبى إلى أن تظهر النتيجة. وبينما كان الرسوب حليفى أخفيت الأمر عن أهلي وادعيت النجاح، إلا أن الحيلة لم تنطل على أمى، فقد اشتمت رائحة حزن فى صوتى فذهبت للكلية وعلمت الحقيقة ورجعت البيت فأخبرت أبى. بررت سلوكى وقتها بأنى لم أكن أريد أن أسبب لهما الكدر. فى الحقيقة لم تكن بى أية رغبة فى مواصلة الدراسة فى كلية التجارة مثلما لم تكن لى فيها رغبة من الأساس. طلبت من أبى أن أحول أوراقى إلى كلية الآداب فرفض. تركت البيت وذهبت إلى فيلا خالتى وأقمت هناك رافضا أن أعود إلى المنزل قبل أن يقبل أبى طلبى. أذكر أن جاء رمضان ربما فى شهر يونية، ومع ذلك كنت مصمما على الإفطار وحدي وعدم العودة إلى البيت. كانت أمى تمر على كل صباح قبل ذهابها للعمل، تحاول اقناعى حتى بمجرد العودة إلى البيت ثم مناقشة الوضع بعد ذلك. كنت أرفض رفضا باتا وكان مبدأى أن يتم قبول طلبى أولا فأرجع إلى البيت. كانت كأنها مفاوضات سياسية.

 

انتهت المعركة الفكرية على أى حال بوصول خالتى الدكتورة من الخارج وذهابنا جميعا إلى العجمى. هناك ظلت خالتى – بما لها من هيبة ونفوذ- تقنعنى كيف أنه من الخطأ ترك كلية التجارة التى تخرج المحاسبين والذهاب إلى كلية الآداب التى تخرج مدرسين لا يجدون عملا.

 

أعدت السنة بلا حماس، ونجحت فى آخرها وتخلصت من الأربع مواد. ثم جاء العام التالى فهربت من قسم المحاسبة الذى يحوى الآلاف إلى قسم اقتصاد وعلوم سياسية وكان قسما صغيرا بعد ربما لا يزيد عدد طلابه على السبعين طالبا.

فوجئت بعد دخول القسم ببعض المواد التى استعصى على فهمها على الاطلاق. أولها مادة التفاضل والتكامل. كنت فى قسم أدبى فى المدرسة الثانوية (وكانت حربا أولى تلك التى خضتها لدخول القسم بدلا من علمى) فلم أستطع استيعاب أى شىء من تلك المادة. كانت المحاضرة تبدأ فى السابعة صباحا فكنت أذهب مبكرا مصمما على الحضور والاستيعاب. أجلس فى القاعة الصغيرة المسماه ب"السكشن". يبدأ الدكتور فى الشرح. أظل أتابعه بتركيز شديد لمدة ثلاث دقائق على الأكثر ثم أنهار.

لا أستطيع فهم أى شىء.

الخروج من المحاضرة هو الحل.

فى الاستراحة أخرج ولا أعود. أذهب إلى السطوح وأنتظر الصديقات، وإن لم يكن هناك أحد فى ذلك الوقت فيكفينى الفرجة على البنات وقراءة الجرائد.

لا أدرى كيف نجحت على الاطلاق فى كلية التجارة. على الأقل فى تلك المادة. طبعا رسبت أول مرة وأعدت السنة فى خمسة مواد هذه المرة. وفى السنة التى تليها نجحت فى ثلاث مواد فقط من الخمسة وصعدت للفرقة الثالثة بمادتين.

تغيرت المواد بشكل ملحوظ فى الفرقة الثالثة، فاختفت أو كادت تختفى الرياضيات من المناهج، وتحولت مواد الاقتصاد من الاقتصاد الجزئى إلى الاقتصاد الجمعى، فبدأت أدرس مواد أسهل كثيرا بالنسبة لى. كان أهم شىء بالنسبة لى هو أن أبتعد عن الأرقام عامة والرياضيات خاصة. وكان بى تصميم كبير على عدم الرسوب ثانية فقد تخرج زملائى بالفعل

كما تخرجت هناء وتزوجت الرجل الثرى. وأصبحت عندما أصعد إلى السطوح لا أجد من يعرفنى. وكنت قد عملت فى الصيف فى فرع من فروع سلسلة "جود شوت" فى الاسكندرية فى تحميض وطبع الأفلام، فادخرت سبعمائة جنيه. كانت مبلغا يكفى لأخذ دروس خصوصية فى أى مادة أرى فيها صعوبة. كانت تكلفة الدرس الخصوصى فى المادة الواحدة مائة وخمسة وعشرين جنيها. نجحت فى تلك السنة بلا أية مواد عالقة، وكانت الفرصة الذهبية فى انتظارى بعد طول عناء.

بدخولى شعبة العلوم السياسية فى السنة الرابعة وتركى لشعبة الاقتصاد عشت عاما سعيدا. فمادة "قانون دولى عام" نجحت فيها بتقدير امتياز، وربما حصلت على نفس التقدير فى مادة أخرى، وبعض المواد الأخرى حصلت فيها على تقدير جيد جدا كمادة "الحياة السياسية والرأى العام". صحيح أن التقدير العام فى النهاية لم يزد عن جيد ولكن أين هذا مما سبق؟

لم أكن فاشلا إذن. كنت فقط "غير موظف على النحو الصحيح"

 

كان هناك جانب آخر فى تلك الفترة غلف حياتى بصبغة لونية حميمة. فقد كان امتلاكى لأول كاميرا للتصوير فى حياتى فاتحة خير لى ونافذة سأطل منها بعد ذلك ولمدى العمر على هذا العالم.

بدأت التصوير فى الجامعة منذ السنة الأولى. كنت أصور الأصدقاء ثم أذهب لتحميض وطبع الفيلم عند استوديو "محفوظ" بمحطة ترام "سابا باشا". اشتهرت بين أصدقائى بهواية التصوير فبدأ الموضوع يأخذ أبعادا أخرى فى السنة التى تليها.

اشتريت كاميرا أفضل بكثير مما كان لدى. كانت من نوع "أوليمبس" وكان بها خاصية تقسيم الكادر الواحد إلى اثنين فيكون لديك فى النهاية فيلم عدد لقطاته 72 بدلا من 36، مما ينعكس على الأرباح.

بدأت التصوير التجارى خطوة بعد خطوة. من الحفلات الموسيقية التى تقام بالكلية إلى رحلات اليوم الواحد: أبو قير، رشيد، القاهرة، طنطا وأماكن أخرى.

ضمن لى التصوير الفوتوجرافى أموالا كثيرة نسبيا، وبصفة دائمة فى جيبى، مما قلل إلى أبعد الحدود اعتمادى على أهلى فى مسألة التفقات. كذلك فقد ساعدنى فى توسيع شبكة علاقات اجتماعية لا بأس بها، أما الجائزة الثالثة التى نلتها من التصوير فكانت بداية ممارستى للتصوير الفوتوجرافى الفنى، ثم اقامتى لأول معرض تصوير فى حياتى بقصر ثقافة "مصطفى كامل" افتتحه وقتها مستشار مصر الثقافى فى النمسا، أما كيف جاء المستشار وتفاصيل ما جرى فغابت إلى الأبد عن ذاكرتى.

ما أتذكره هو حوار المستشار معى عندما بدأ يستعرض الصور، حيث بدأت فى الكلام بحذلقة عن التكوين الجمالى للصورة التى كنا نتفرج عيها (وكنت فى الثالثة والعشرين) فأسكتنى الدكتور المستشار برقة بالغة وعدل أفكارى بأفكار أفضل منها.

سيكون هناك معرض ثان وثالث فى كلية التجارة فى السنوات التى تلتها، وستقف طالبتان أمام صورة من الصور التى أعتز بها كانت عبارة عن مقطع أفقى لمجموعة من الطوب الأحمر. فقط الطوب ولاشىء سوى ذلك. وسأكون أنا بجوارهما مستغلا ميزة أنه لا يعرفنى أحد. استخدمت تلك الميزة كثيرا فى الاستماع إلى تعليقات الطلبة والطالبات على الصور المعلقة.

قالت الطالبة الأولى لزميلتها معلقة على صورة الطوب:

-         دى يقصد بها المساواة.

كنت كثير القراءة فى فترة الجامعة، ومن ضمن ما اهتممت به كثيرا كتاب للدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الفن: الفن ليس له مقصد فهو المقصد بذاته، ضحكت فى سرى على تعليق الطالبة التى لم تستطع التعامل مع الصورة. أرادت أن تفهمها وتفهم مقصدى منها بينما لم يكن لدى أى مقصد.

 

قرأت أيضا العديد من الكتب الفلسفية للدكتور زكى نجيب محمود وكل الكتب الأدبية للدكتور مصطفى محمود. ثم تركته عندما بدأ يتكلم فى الدين والسياسة.

لم أصادف الحب بعد ذلك فى الجامعة. كان هناك تعمد منى لذلك بلا شك، جراء تجربتى الأخيرة، بينما أخبار خطوبة هانى تصلنى منه. سيتزوج هانى بعد ذلك من خطيبته ثم سيطلقها بعد سنوات قليلة ويتزوج ثانية وينجب إبنة جميلة.

سيجيئنى كذلك فى القاهرة كل عام أو عامين، وسآخذه فى جولات قصيرة إلى الأماكن التى أحبها بوسط البلد.

وحتى عندما لا يكون بيننا "شات" لفترة قد تطول أحيانا إلى شهور قصيرة، أتذكره فى مواضع متفرقة من اليوم. كأن أستمع إلى "سى دى" فى سيارتى به أغانى أجنبية قديمة كتلك التى أحبها

لفريق "بى جيز"

فى العام الماضى ظللت أسمع فى سيارتى لعدة شهور –ولسبب غير مفهوم- أغنية هذا الفريق "البقاء على قيد الحياة"

عندما أسمع هذا الأغنية أرى نفسى فى الثالثة والعشرين وأستطيع اجترار احساسى البكر بالحياة.

وأكثر من مرة ضبطت نفسى أهتز مع الأغنية وأنا أقود سيارتى، ثم أسرع بالسيارة إذا سمح الطريق. أعيد تذوق طعم القليل من الرعونة، وإذا نظرت إلى ظهر يدى على مقود السيارة ورأيت بعض الكرمشة الخفيفة أوعزها إلى السهر الكثير وإلى عدم الاهتمام بالصحة ليس أكثر.

 

مازلت أقلب فى ايميلاتى القديمة مع هانى، عندما لا يرانى لمدة كبيرة "أون لاين" أجد منه رسالة قصيرة لكن بها المطلوب:

-انت فين؟ أخبارك ايه؟ طمننى عليك

فى الغالب أرسل له الرد مشفوعا بمواعيدى الجديدة لكى نلتقى على الشات. فى بعض الأحيان  يكون الشات قصيرا ومعنى ذلك أن أحدنا أو كلينا مشغول بالعمل. أما فى غالبية الأحوال فيمتد الشات ساعة أو ساعتين.

أذكر مرة طويلة جدا ظللنا نتحدث فيها جزءا كبيرا من الليل. فى البداية أخبرنى أنه حلم بخالتى وبزوجها ثم ذكر لى بعض التفاصيل، ذكرته أنا بتفاصيل أكثر. مما قاله لى هانى فى تلك المحادثة أنه وان كان له العذر فى إحساسه بـ "النوستالجيا" نظرا لبعده عن الوطن فما هو عذرى أنا الذى يتنفس يوميا هواء هذا الوطن؟

إلا أن تكون "نوستالجيا" العمر. الحنين إلى الماضى. ضاحكا قلت له إنه مرض آمل أن يكتشفوا له علاجا قريبا أستفيد به قبل أن يفوت الأوان.

 

تحدثنا كذلك تلك المرة عن طريقة مذاكرتنا العجيبة أيام الجامعة عندما كان يزورنى فى فيلا زيزنيا حيث كنت أقيم فى السنوات الأخيرة. كنا نجلس على السجادة العجمية فى غرفتى التى تطل على حدائق الفلل المجاورة. والتى لا أسمع منها إلا أصوات العصافير والهدهد. ظهرى إلى دولاب غرفة النوم ذى المراية الكبيرة، وظهره إلى الحائط، وفى يد كل منا كتاب. كنا لا نكاد نبدأ حتى أسأله:

-تشرب شاى؟

-أشرب

 

أقوم لعمل الشاى وأعود لأجده قد توقف عن المذاكرة انتظارا لقدومى. نشرب الشاى ثم نسرح فى أغنيتين ل "بول أنكا" ثم يجرنا هذا إلى الحديث العاطفى عن البنات فى الجامعة.

 

نظل نتحدث إلى أن يحين وقت الغداء. أحيانا يتغدى معى لنكمل مذاكرتنا أو يذهب إلى بيته على أمل تعويض ما لم نستذكره فى اليوم التالى، لكن ذلك اليوم التالى لم يجىء أبدا.

أذكر أننا فى تلك المحادثة ضحكنا كثيرا حتى طفر دمعى. لكنى بعد المكالمة ظللت صامتا –تماما- بقية اليوم.

 

23 أغسطس 2010