يتناول محرر (الكلمة) هنا هذا السؤال الذي يتكرر بإلحاح في خطابنا العربي بشأن موقف الغرب منا، ويفكك مضمراته على جانبي العلاقة الشائكة مع الغرب، مطالبا بضرورة تغيير صيغته، والتعامل مع المسكوت عنه فيه، بغية طرح أسئلة بديلة نتعرف بها على صورتنا الحقيقية ونغير وضعنا في العالم، وموقف العالم منا معا.

لماذا يكرهوننا؟ وضرورة تغيير السؤال

صبري حافظ

تابعت خلال الشهرين الماضيين عددا كبيرا من المقالات والتعليقات التي أثارتها دعوة قس أمريكي مهووس لحرق المصحف الكريم بمناسبة الذكرى التاسعة لأحداث 11 سبتمبر 2001 الشهيرة. وكيف أصبح هذا القس الأحمق المغمور، بين عشية وضحاها، نجما لامعا في الإعلام العربي. وتابعت قبلها في الصحافة المصرية والعربية تعليقات كثيرة أيضا على الجدل الدائر في الولايات المتحدة الأمريكية حول التصريح ببناء مجمع قرطبة الثقافي الكبير، والذي اختصره المناوؤون في صورة مسجد، في موقع قريب من «أرض الصفر» أو Ground Zero  وهو التعبير الذي أطلق على الموقع الذي كان يقوم عليه برجا مركز التجارة العالمي اللذان انهارا في 11 سبتمبر المشهود. ولا يخفى على العارف بمضمرات اللغة أن هذا التعبير، وقد اختاره الأمريكيون عن عمد، يرد الأذهان للتعبيرات العسكرية من «ساعة الصفر» و«نقطة الصفر» التي تؤذن ببداية المعركة. وهي المعركة التي لاتزال رحاها دائرة حتى الآن منذ اندلاعها من «أرض الصفر» تلك عام 2001 وحتى اليوم. وما نتج عنها من حروب مباشرة في أفغانستان والعراق، وغير مباشرة في السودان واليمن والصومال، واحتلال بلدين إسلاميين، إن كان ممكنا التذرع بأنه كان لأولهما علاقة بما جرى في 11 سبتمبر، الذي لايزال غموض ما يلف حقيقة ما جرى فيه، فإن مبررات احتلال العراق لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بتلك الأحداث، كما يعرف القاصي والداني. لكن تجذير مفهوم «أرض الصفر» في «العقل» الأميركي، وأضع كلمة «عقل» بين قوسين عمدا، هو الذي ساهم في تجييش عواطفة، ويسر قبوله لشن الحرب على العراق. بدعاوى وذرائع ثبت كذبها، ولكن بعد أن كانت قد حققت مراميها. لأن اكتشاف الحقيقة بعد فوات الأوان أصبح من استراتيجيات العمل السياسي الغربي الجهنمية. كما أن تجذير هذا المصطلح في العقل الغربي سرعان ما أشعل جمرات «الإسلاموفوبيا» التي كانت خامدة مؤقتا في الغرب عامة.

أقول تابعت هذا كله، ووجدت أن القاسم المشترك الأعظم بين جل التعليقات هو الانطلاق من سؤال معلن في أغلب المقالات، ومضمر في بعضها الآخر مؤداه: لماذا يكرهوننا؟ وهذه الصيغة في طرح السؤال، والتي تضع السائل في موضع المفعول به، تضمر الرغبة في اتخاذ موقف الضحية من ناحية، والتنصل من أي مسؤولية عما دار أو يدور من ناحية أخرى. لأن الصيغة اللغوية للسؤال ذاتها، ومن منظور المفعول به، تنطوي على تحميل الفاعل المسؤولية الكاملة عما جرى أو يجرى. وتنطوي على رغبة في استدرار العطف وخاصة إذا ما كان فعل الجملة فعلا كريها ومقيتا كالكراهية. وهذا الأمر ليس بجديد، وليس قاصرا علينا بأي حال من الأحوال. فقد كانت الصيغة نفسها هي ما لجأ إليه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الصغير عقب أحداث 11 سبتمبر حينما جأر: لماذا يكرهوننا؟ قالها جورج بوش الصغير وهو يستدر عواطف الأمريكيين أولا، وعواطف حلفائه الأوربيين ثانيا. قالها وهو يرتدي ثياب الحمل الوديع الذي اعتدى عليه ذئب غبي كاسر، سماه الإرهاب الإسلامي، وأردفها كما يذكر الكثيرون، بأن من ليس معنا ــــ فنحن أصحاب حق أبرياء ــــ فهو ضدنا. وكانت هذه الصيغة البرئية والبسيطة بساطة مخلة: لماذا يكرهوننا؟ هي التي حددت روح الحملة العاطفية الزاعقة في الإعلام الأمريكي، والتي تلقفها المحافظون الجدد بأجندتهم الخبيثة، وطرزوها بوشيهم المسموم، ونشروها عبر أمبراطورية «فوكس» الإعلامية الصهيونية، حتى أصبحت على لسان كل أمريكي. وكثيرا ماشاهدت صورا عديدة على شاشات التليفزيونات الأمريكية والأوروبية، وحتى العربية، لشبان غربيون وشابات أمريكيات يصرخون جميعا بعاطفية زاعقة لماذا يكرهوننا؟ إنهم يكرهون ديموقراطيتنا؟ إنهم يغارون من نسائنا ويريدون أن يلبسنهن النقاب؟ وغير ذلك من الهراء. لكنه كان هراء ممنهج، ووراءه رؤية وتخطيط تحشد بفعالية ونجاج التأييد للحرب على أفغانستان، ومن بعدها على العراق.

مضمرات السؤال .. ومفهوم الغرب للإسلام

وأذكر أنه حينما خصصت (مجلة لندن للكتب London Review of Books) وهي مجلة جادة أسست على غرارها مجلة (الكتب: وجهات نظر) في مصر، عددا خاصا استطلع آراء الكتاب والمثقفين في أحداث 11 سبتمبر، كان اتجاه الكتاب العام هو الوقوع في فخ بوش، والبحث عن أسباب تلك الكراهية، وعنما كتب ثلاثة مثقفون فقط من بين أكثر من عشرين مثقفا، كان أحدهم فيما أذكر هو الناقد الأمريكي الكبير فريدريك جيمسون، بطريقة مغايرة تلقى باللائمة على سياسة أمريكا الخارجية في العالم الثالث عامة، والعالم العربي والإسلامي خاصة، قامت قيامة المحافظين الجدد عليهم وتوعدوهم بالثبور وعظائم الأمور. وانهالت الخطابات على (مجلة لندن للكتب) من مشتركين يوقفون اشتراكاتهم فيها ويدعون الآخرين لفعل ذلك، وهم يدركون أهمية الاشتراكات لمجلة ثقافية صغيرة. كما انهالت الردود والاتهامات على الكتاب الثلاثة تتهمهم بالنشاط المعادي لأمريكا، وقد استخرجت مفردات القاموس المكارثي الشهير لإرهابهم. فقد حرص اليمين الأمريكي على ألا يفتح ملف ممارسات أمريكا السياسية الخاطئة مع العالم الخارجي، ناهيك عن «صندوق باندورا» الخاص بتماهي سياساتها الخارجية في العالم العربي مع سياسات دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وأذكر أيامها أن الصديق الراحل الكبير إدوارد سعيد أخبرني وقد ملأه الحزن أن تلك الموجة الكاسحة وخطابها الخبيث قد نجحت في إخراس أصوات العقل في أمريكا أو تهميشها، وأنها تقود أمريكا نحو الجنون أو الكارثة. لكنه أخبرني أيضا أن من الضروري الكشف عن المضمر في هذا الخطاب الخبيث، وهو تسهيل العصف بالعالم العربي، وبالقضية الفلسطينية معا. وهو ما جرى بشكل منهجي ومنظم منذ ذلك التاريخ. فقد كانت غاية هذا الخطاب، وليس هناك خطاب سياسي لاغاية له إلا في عالمنا العربي المشوش، هي تهميش أي خطاب مغاير أو القضاء عليه كلية، والتعمية على مسؤولية السياسات الأمريكية ودعمها المستمر للمشروع الصهيوني عما جرى، حتى يحقق ذلك الخطاب التبسيطي «إنهم يكرهوننا» غاياته الخبيثة التي تخدم في المحل الأول المشروع الصهيوني، قبل المشروع الأمريكي في المنطقة.

لأنهم حينما يفعلون ذلك ويضعون أنفسهم في موقف الضحية ، فلكي يبرروا ما ينتون اقترافه من شر وعدوان. فما هي غايات تبني نفس الصيغة الاستفهامية عندنا، والتساؤل من موقع الضحية أيضا عن سر كراهية الغرب عامة، وأمريكا خاصة لنا وللإسلام؟ من االبداية لابد من التسليم بأنه بالرغم من الاتفاق الضمني بين كل من كتب في الموضوع على أنهم يكرهوننا، وأن هناك مشكلة حقيقية وكبيرة في العلاقة بين الغرب والإسلام، فإننا لانستطيع استقراء مجموعة من الغايات المضمرة التي تشير إلى خطة عمل ناجعة كما كان الحال مع استخدام نفس السؤال في أمريكا عقب 11 سبتمبر. فليس ثمة شيء غير الشكوى وراء الاتفاق على أنهم يكرهوننا. تتصاعد نبرتها إلى حد الصراخ أحيانا، في الخطاب الديني الذي يكرر أننا نؤمن برسلهم ونحترم أديانهم، وأن القرآن ملئ بالثناء على عيسى ومريم العذراء وغير ذلك مما يسمى بالانجليزية «وعظ المؤمنين Preaching to the Converted» الذي لايجدي نفعا مع غيرهم. حيث يتناسى هذا الخطاب عمدا، أنه برغم اعتراف الإسلام باليهودية والمسيحية، فإنهما لايعترفان به. فإذا كان ديننا الحنيف يحثنا على الاعتراف بالدينين اليهودي والمسيحي، لأن معتنقيهما من «أهل الكتاب»،(1) فإن الدين اليهودي لايعترف بالدين المسيحي، ناهيك عن الدين الإسلامي. صحيح أن المسيحيين يعترفون بالدين اليهودي، ويعتبرون دينهم مكملا له، إلا أنهم لايعترفون بالدين الإسلامي، ولا حتى بأن هناك من انبيائهم من تنبأ به، كما يحلو للبعض منا أن يتصور. والواقع أن اعترافهم، علمانيا لا دينيا، بالإسلام كديانة، واستخدامهم لمفردة «الإسلام» حديث للغاية(2). فلم تدخل كلمة الإسلام إلى الانجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية قبل القرن الثامن عشر. وكان التعبير السائد في جل تلك اللغات هو «المحمديون»، أي الذين يعبدون محمد أو يتبعونه. وكان الخطاب الغربي عامة مليء بالزراية بهؤلاء «المحمديين» الذين يعبدون من دون الله إنسانا، لايستحق عندهم إلا أن يوضع في الدرك الأسفل للجحيم، كما فعل به دانتي في (الكوميديا الإلهية)، أهم نص أدبي في اللغة الإيطالية. ولم تظهر كلمة الإسلام في اللغة الانجليزية – كما يخبرنا قاموس أكسفورد الكبير – إلا عام 1818 وكان أول من استخدمها هو الشاعر الرومانسي الشهير شيللي صاحب (بروميثيوس طليقا) في قصيدة طويلة من إثني عشر قسما بعنوان «تمرد الإسلام The Revolt of Islam».(3) ثم اختفت بعد هذا الاستخدام الأول، ولم تظهر مرة ثانية إلا عام 1845 باعتبارها «دين الإذعان لدى الشرقيين»، وذلك من خلال التركيز على المعنى الحرفي لكلمة «أسلم» في اللغة العربية، ثم ظهرت للمرة الثالثة عام 1855، والرابعة عام 1877. أي أنها ظلت مفردة نادرة الاستخدام في اللغة حتى قرب نهاية القرن التاسع عشر. وكانت المفردة الشائعة قبلها هي المحمديين. وكانت المفردتان سلبيتين في دلالتهما حتى وقت طويل، ولم يبدأ استخدام مفردة «الإسلام» وكل مشتقاتها من صفة أو حال بشكل شبه محايد إلا في القرن العشرين. لأن دراستنا للغة تعلمنا أن الكلمة تظل حاملة لترسبات تواريخها الاستعمالية مهما تغيرت دلالاتها.

الخطاب العقلي ومضمراته غير العقلية

أما الخطاب العقلي الذي يطرح نفس السؤال: لماذا يكرهوننا؟ فقد اعترف بأن صورة بعض، ربما كثير من، المسلمين وممارساتهم، وأهم من ذلك كله خطابهم الأصولي المتعنت، تثير النفور. ولكنه امتلأ في الوقت نفسه بالشكوى بأنهم يحكمون على الإسلام حكما خاطئا وظالما. وهو خطاب يتناسى أن كل خطاب سياسي هو خطاب انتقائي، وأنه إذا كان هناك بالفعل من يرتكبون الإرهاب باسم الإسلام، فكيف تطالب الآخرين باسم تسامح الإسلام بالتغاضي عن ذلك الجانب ونسيانه، وهم أول ضحاياه. كما كان هناك من يتحدثون عن ذكاء الغرب الشرير، وعن خضوعه للابتزاز الصهيوني. متناسيا أن لعبة السياسة التي اتاحت للابتزاز الصهيوني أن يحيل أولوياته إلى أولويات غربية، كان باستطاعتها، أن تفعل الشيء نفسه لصالح العرب والإسلام، وأنه لو وضع العرب حقا موضوع الابتزاز الصهيوني نصب أعينهم وتعلموا درسه لأمكنهم هزيمته. كما كان هناك خاطب آخر يتحدث عن الوجه القبيح للحداثة الغربية التي أصبحت مثقلة بأمراضها. أو عن مشكلة خطيرة تكرر أجواء العداء للسامية التي خيمت على ألمانيا، وراح ضحيتها بضعة ملايين من اليهود. دون التطرق للسؤال الواضح هل يمكن أن تتكرر تلك المشكلة الآن مع اليهود، وقد تعلموا الدرس، وأخذوا بأسباب القوة بعد ضعف؟ هل يمكن في ألمانيا أو غيرها أن يمر أي خطاب معاد للسامية في أي بلد من بلدان العالم، اللهم إلا في عالمنا العربي، الذي لم يعد يعبأ به أحد؟ خاصة بعد أن أصبح مع بداية القرن الحادي والعشرين رجل العالم المريض، كما كانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض في مطالع القرن العشرين. ودون طرح السؤال الأوضح: لماذا تتكرر أجواء هذا العداء بالنسبة للعرب والإسلام وحدهم؟ ولماذا أصبحوا رجل العالم المريض؟ لكننا لانستطيع أن نقرأ في هذا الخطاب برغم عقلانيته النسبية أية خطة منهجية لدرء عوادي هذه الكراهية. بل نجد أن ما يجمعه مع الخطاب الديني أكثر مما يفصله عنه. فكلا الخطابين يصدر عن منطلق التباكي والشكوى، لا اتخاذ موقف الضحية كي يبرر ما ينطوى عليه الرد المزمع من شر. والفارق بين المنطلقين كبير. كما أن المسكوت عنه في تلك الصيغة السلبية للسؤال والتي لابد أن تتغير كثير.

إذا كان المضمر في صيغة سؤال «لماذا يكرهوننا؟» الذي نتناول فيه العلاقة الشائكة والمعقدة مع الغرب، هو التباكي والشكوى، والاستنامة لدعة موقف الضحية التي لا حيلة لها إزاء  وضع جائر إلا البكاء. فلابد إذن من تغيير صيغة السؤال التي نبدو فيها في موقف المفعول به، إزاء غرب فاعل وقوي ومؤثر. سبق له ان استخدم نفس الصيغة عقب أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، ليس من أجل البكاء والشكوى، وإنما كي يبرر ما ينطوى عليه رده المزمع علينا من شر وعدوان، وقد تحولنا في صيغة سؤاله إلى معتدين أغبياء عليه. وقد رأينا الكثير من تجليات هذا الرد الذي بيت له بليل، خلال السنوات التسع الماضية. فالصيغة المطلوبة لأي سؤال يتناول علاقتنا الإشكالية والشائكة مع الغرب لا يجب أن تكون «لماذا يكرهوننا؟» بطبيعتها الاستنكارية التي تتنصل ضمنا من أي مسؤولية عن تلك الكراهية، كما تنصل الغرب من أي مسؤولية له عما يجري في عالمنا العربي عامة، وفي فلسطين المحتلة خاصة. فقد كان لتنصله المتعمد غاية جعلت الرد المبيت يصب أيضا في صالح مخططات وأهداف دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. كما أنها صيغة تحصر القضية في فعل الكراهية غير العقلاني، بصورة يتحول معها صراع الإرادات والمصالح والرؤى المستقبلية إلى عمل لايمكن فهمه، وبالتالي ليست لدينا أي مسؤولية عنه. صحيح أن الغرب، الأمريكي خاصة، استخدم نفس الصيغة عقب أحداث سبتمبر الشهيرة، ولكنه تغيّا من استخدامه لها، تجييش العواطف بين مواطنيه ضدنا، وإنعاش ذاكرة تاريخية تتغذى على متخيل سلبي عن الإسلام، ظلت تحمله المفردة في تضاعيفها لعدة عقود، وتصويرنا على أننا أغبياء متخلفين نكره الحضارة والحداثة والديموقراطية، وبالتالي لايجب التعاطف معنا إذا ما عصف هذا الغرب نفسه بنا، أو إذا ما افتقر للذرائع في ضربنا. بل يجب التعاطف معه هو باعتباره الضحية لفعل غريب ومقيت: هو فعل الكراهية.

المسكوت عنه .. واللامفكر فيه

لكننا حينما نستخدم نفس الصيغة فإننا لا نستخدمها من أجل تجييش العواطف ضد الغرب عامة، والأمريكي منه خاصة، بغية اتخاذ إجراءات واضحة ضدهما. فليس هذا الأمر ضمن غايات طرح من يطروحون ذلك السؤال في جل ما قرأت، لأن من يطرحونه يتوسلون به إدارة حوار مع الغرب، هو في حقيقة الأمر أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان، وإلى التوسل إليه كي يعرف الإسلام على حقيقته، ويعرفنا معرفة «حقيقية» كما يقولون. وهو توسل يثير سؤال ما هي حقيقية الإسلام؟ وكيف نقنع الغرب بأن الإسلام الذي يطرحونه في خطاباتهم التي لايقرأها الغرب عادة، ولا يعيرها التفاتا، هو الإسلام الحقيقي، بينما الإسلام الذي يطرحه عليهم أسامة بن لادن في خطاباته المتكررة على الفضائيات ليس إسلاما «حقيقيا». الواقع أن الغرب يعتبر أن الإسلام الذي يطرحه عليهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والملا محمد عمر وأضرابهما هو الإسلام «الحقيقي» وحده دون سواه. يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر في كتابه الكبير (الوجود والزمن) إن الفهم لاينفصل أبدا عن التفكير، وأن التفكير في الغرب، وبسبب تاريخ طويل من العقلانية يربط بين القول والفعل. فالفهم لا يفصل بين الخطاب والفعل. وفي هذا المجال من الطبيعي أن يفهم الغرب أن الإسلام الحقيقي هو ما يطرحه عليهم أسامة بن لادن، لأن القول فيه مربوط بالفعل ومتحقق عبره. كما أن الغرب أيضا وبسبب هذا الربط الوثيق لديه بين القول والفعل، يفهم خطاب القوة ويتعامل معه بجدبة بالغة واحترام، ويشيح بازدراء عن خطابات الضعف ويحتقرها ولا يقيم لها أي اعتبار.

وفي هذا المضمار أسوق لهم تساؤل المفكر الجزائري الراحل محمد أركون: هل يمكن التحدث عن وجود معرفة علمية حقيقية عن الإسلام في الغرب؟ وهو تساؤل استنكاري ينطلق من الوعي باستحالة هذه المعرفة العلمية الموضوعية المنهجية، لأن الذات ورغباتها وتواريخها لاتنفصل عن موضوع المعرفة. وهو تساؤل ينطوي على التشكيك في صلاحية النظرة المتوفرة لدى الغرب عن الإسلام، بل على استحالة معرفته حقيقة به. لأن المتخيل الغربي عن الإسلام يحول دون هذه المعرفة، ويحول دونها أيضا وعي الغرب بأن مصالحه في المنطقة قد تأثرت منذ بداية حركات التحرر الوطني فيها، بطريقة لايريد لها أن تتكرر من جديد في دورته الاستعمارية الثانية. كما يدعو محمد أركون إزاء استحالة هذه المعرفة إلى ضرورة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ وعنيف بالحضارة المادية والحداثة العقلية. فلا الثورة الاشتراكية ولا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحظيا بمرحلة تحضير واستعداد كافية كما حصل للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفي والعلمي للتراث الديني، ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة ولمشكلة المعرفة بشكل عام. وبذلك تراكم اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي والعربي بصورة رهيبة. وانفصل الخطاب عن الفعل والممارسة، بصورة تميع معها التفكير وتهرأ، وأصبح الفهم غائما ولاعقليا وفق مقولة مارتن هايدجر الذي تربط بين الفهم والفعل.

لذلك كله ليس علينا التذرع بأي أمل في أي يعرف الغرب الإسلام معرفة حقيقية، ناهيك عن السؤال الأكثر إشكالية وهو ما هي تلك المعرفة «الحقيقية»؟ بل من الضروري أن تتغير صيغة السؤال، وأن يتم تخليصه من مضمره اللاعقلاني، لأن الغرب مفرط في العقلانية إلى حد الوضعية المنطقية. وأن تكون الصيغة البديلة أو بالأحرى الأسئلة البديلة هي أسئلة الذات العربية لنفسها أولا، ثم للعالم ثانيا. وأن نبدأ بالسؤال البديهي: لماذا أصبحنا «نحن» العرب، ثم بعد ذلك فلنتحدث عمن ورائهم من المسلمين، موضع كراهية الغرب، ومحل عصفه بمصالحنا وقضايانا العادلة؟ لماذا أصبحنا لانستحق من الآخر، الغربي وغير الغربي على السواء، الاحترام الذي يجب أن نكون جديرين به؟ وأهم من هذا كله لماذا ليس لدينا أجندتنا الخاصة التي نطرح فيها على أنفسنا وعلى العالم اسئلتنا؟ حيث أن هذا السؤال نفسه، لماذا يكرهوننا؟ ليس إلا ترجيعا لسؤالهم، كما ذكرت، كما أنه رد فعل على ما يقومون به، وليس ابن فعل يصدر أصلا عنا، ويطرح على الآخرين أسئلتنا. لابد أن تنطلق أسئلتنا من اجندتنا الخاصة لمشروعنا ولما نريد تحقيقه لمجتمعنا، لأننا لن نستطيع بدون ذلك أن نسترد احترام الآخرين لنا الذي فقدناه في العقود القليلة الماضية.

الأسئلة البديلة ... وضرورة المبادأة

وقد مكنتني الحياة في الغرب لأكثر من ثلاثين عاما أن أعيش بشكل ملموس هذا المنحنى النازل الذي فقدنا فيه كل احترام. فبعد الاحترام المشوب بالترقب مع مطالع السبعينات وعقب استخدام سلاح النفط، إلى الريبة والحذر اللذين تبددا مع الثمانينات، وعقب احتلال جيش الصهاينة لعاصمة عربية على مسمع من عالم عربي عاجز لا يستحق أي احترام، إلى الاستخفاف والاستهانة في التسعينات بكل ما جرى فيها من بلقنة العالم العربي وحروب عربية عربية، وحتى الاستهزاء والزراية والاحتقار مع القرن الجديد الذي أصبح فيه ممكنا احتلال بلد عربي كبير مثل العراق دون أي سند قانوني، ودون حتى أي احتجاج شعبي أو رسمي يذكر، بينما ملأت مظاهرات الاحتجاج من أجلنا عواصم العالم، بما فيها لندن التي خرجت بها أكبر مظاهرة في تاريخها كله، غداة حرب احتلال العراق. إن احتجاج الآخرين من أجلنا، سواء تعلق الأمر باحتلال بلد عربي أو ببمارسات دولة الكيان الصهيوني البشعة في فلسطين، دون أن يصدر عنا غير شقشقات كلامية لا تتحول إلى أفعال، هو أيضا من اسباب تأكل احترام الآخرين لنا، بل احتقارهم لما تفعله مؤسساتنا العمياء عن مصالحه شعوبها في كثير من الأحيان.

وليس فقداننا للاحترام قاصر على الغرب وحده، لأن الذي يعيش في الغرب يعيش في وسط العالم، ويحتك بكل ثقافاته وشعوبه. وقد لمست طوال سنوات حياتي في الغرب هذا التآكل المتواصل والمتسارع في قيمة عالمنا العربي، وفي مكانته حتى بين الشعوب التي كانت تحترمنا لأسباب تاريخية أو موضوعية، كما كان الحال مع شعوب آسيا وأفريقيا. لقد بدأت هي الأخرى، وهي تشهد فصول تردينا وتبعيتنا وهواننا تشيح بوجهها عنا، إن لم أقل تستخف بنا شفقة أو ازدراء. فإذا كان لدى الغرب أسبابه للعصف بنا ولمطامعه فينا، فليس باستطاعة الشعوب والثقافات الآخرى أن تفهم أسباب استخذائنا وتفريطنا المهين في كل حقوقنا أمامه. ليس باستطاعتها أن تفهم لماذا لا نقاوم هذا الغرب؟ ولماذا أضحينا العوبة سهلة في أحابيل سياساته؟ ولماذا لا نتوحد على الحد الأدنى من الغايات والمطالب في عالم لا يقيم وزنا إلا للكيانات الكبيرة والقوية؟ والواقع أنني كثيرا ما سئلت هذه الأسئلة، وطرحها عليّ أفارقة وأسيويون وأمريكيون لاتينيون من الذين لايمكن الحديث عن أن سموم العداء التاريخي للإسلام منذ الحروب الصليبية قد شوهت رؤاهم وتفكيرهم. بل يمكن القول أنهم جميعا حلفاء طبيعيون أو محتملون لنا في معركة الصراع مع الغرب.

ليس من الطبيعي إذن أن نسأل، خاصة أمام هذه الشعوب والثقافات التي أصبحت هي الأخرى تزدرينا، لماذا يكرهوننا؟ وإنما يجب أن نطرح الأسئلة البديلة والمدببة على أنفسنا: لماذا هان وضعنا في العالم حتى أصبحنا في وضع التابع الذليل، الذي لايملك غير الاستجداء والتباكي على ما يلحق به من ضرر، دون أن يملك القدرة على دفع الضرر عن نفسه، أو الدفاع عن مصالحه؟ لماذا نبدو الآن - على خريطة العالم الواسعة – وكأننا رجل العالم المريض في مطلع القرن الحادي والعشرين، كما كانت الدولة العثمانية، وهي كيان إسلامي آخر، رجل العالم المريض في مطلع القرن العشرين؟ لماذا تحترم مصالح كيان غض مغتصب حديث الولادة، مثل دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين ورؤاها، بينما لا يعير احد مصالحنا وقضايانا العادلة أي اهتمام؟ لماذا نفرط في الموقف الأخلاقي الأعلى بسبب أن الحق معنا في جل قضايانا من فلسطين إلى العراق، ونسمح للخطاب الغربي أن يسلب منا هذا الموقف الأخلاقي الأعلى وأن يلقننا دروسا في الأخلاق؟ لماذا هانت قضايانا ومصالحنا علينا قبل أن تهون على الآخرين؟ أين تنتهي حدود مسؤوليتنا عن هذا الوضع؟ وأين تبدأ مسؤولية الآخرين؟ لماذا سمحنا بتردي كل مؤسساتنا في التعليم والصحة والانتاج الاقتصادي والزراعي، بينما يقفز العالم بخطوات فساح في كل هذه المجالات؟ لماذا يستشري الفساد في مجتمعاتنا حتى أصبح هو القاعدة لا الاستثناء؟ لماذا لا نعرف حقيقة من هو عدونا؟ ومن هم الأصدقاء؟ ولماذا لا يتمتع مواطنونا بأبسط حقوقهم السياسية، وأولها الحرية بمعناها الاجتماعي والسياسي الشامل؟

هذه هي الأسئلة المسكوت عنها، والتي ينبغي أن ينشغل بها مثقفونا ومفكرونا في تناولهم لتلك العلاقة المعقدة بالغرب. فبدون أن نأخذ زمام المبادأة في أيدينا من جديد فلا أمل لدينا في حل إشكاليات علاقتنا المعقدة بالغرب. لأن علاقتنا بالغرب ليست علاقة حب وكراهية، بقدر ما هي علاقة مصالح وإرادات. وطالما استكنا وفرطنا واستخذينا ولم نبلور أولوياتنا وإرادتنا لأنفسنا ونتفق عليها، فلن نستطيع أن نتعامل مع من يعرفون أولوياتهم بدقة متناهية، ولن نحظى باحترام أحد، ولا حتى بكراهية أحد. فموقف الغرب منا ليس كراهية بقدر ما هي استخفاف واستهزاء ولامبالاة يستحقها دائما، وعن جدارة، التابع المهان، والذي لايعي في كثير من الأحيان تبعيته ولا هوانه. إذا لم نفعل ذلك سنظل أسرى لثقافة الملامة تلك، نبحث عن مشاجب نعلق عليها اخطاءنا، ونتباكي بين انفسنا لأننا ضحايا لكراهية الآخرين.

 

هوامش

(1) لابد ألا ننسى أن هذا النوع من الخطاب ينطوي على قدر من النفاق الديني، حيث أنه برغم اعتراف الإسلام بأنهم «أهل كتاب»، فإنه يشكك في الوقت نفسه في كتبهم، وينطلق من أنها محرّفة، وهذا أمر لايقبلونه بأي حال من الأحوال، سواء في ذلك اليهود والنصارى. فلكتبهم لديهم نفس القداسة التي يحتلها القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين، ولا يشك أي منهم في دقتها أو مصداقيتها.

(2) لمن يريد أن يتتبع تاريخ تعامل الغرب، وفي لغتيه الأساسيتين: الانجليزية والفرنسية مع الإسلام ونبيه أرشح أكثر من كتاب لباحث تخصص في هذا الموضوع ونشر فيها أكثر من كتاب: أهمهما Ahmad Gunny, Perception of Islam in European Writing (2003), The Prophet Muhammad in French and English Literature since 1650 to the Present (2010).

(3) لابد أن نذكّر القارئ بأن شيللي كان قد كتب عام 1811 رسالته الشيرة (ضرورة الإلحاد The Necessity of Atheism) وهو لايزال طالبا في جامعة اكسفورد، وأن موقفه البروميثيي من المعرفة والحقيقة هو الذي دفعه لاستخدام المفردة بشكل علماني.