زياد جيوسي
حين التقيت الكاتبة رشا عبد الله سلامة، كنت ألتقي شابة بالكاد تجاوزت من عمرها خمسة وعشرين سنة، وحين بدأت القراءة في روايتها الأولى (تماثيل كريستالية)، كنت أتخيل أني سأغوص في رواية تتحدث عن قصة حب أو مشكلات الجيل الشاب، ولكني فوجئت بالموضوع المطروح في الرواية، ومدى الاطّلاع على تجربة تحتاج أكثر من ضعف عمرها حتى تكون في صورتها، فحين أهدت لي روايتها بكلمات رقيقة تدل على روح متواضعة، بدأت كعادتي التدقيق في الإهداء، فأنا دائماً أقول: إن الإهداء يعكس صورة عن روح الكاتب. وهنا كانت الكاتبة تتمثل بالإهداء، فهي أهدت روايتها: "إلى روح جدي عبد الله سلامة الكبير"، وتابعت بقولها إلى: "روحه التي ما تزال تحرس جنبات (الحاكورة) الثكلى في أبو ديس"، وأكملت بقولها: "إلى كل من ذرف قلبه قبل عينيه دموعاً حارقة على بقايا فلسطين المتآكلة يوماً تلو يوم، إلى الوطن المكلوم والشتات المستفحل، عسانا نعود يوماً، فننقش بالحناء والمسك خاتمة الحكاية". في هذا الإهداء، وقبل أن أغوص في الرواية، وجدت الروح الشابة المتألمة مما تراه، حيث نراها تتحدث عن "بقايا فلسطين المتآكلة يوماً إثر يوم"، وحين بدأت في الرواية وجدتها تبحث عن سر تمزق الحلم الذي بدأ بانطلاقة ثورة، وسقته دماء شهداء، وأنات أسرى، ودموع أمهات، رغم عدم فقدانها الأمل في قولها بصيغة التمني: "عسانا نعود يوماً".
ثلاثة شخصيات بدأت الحديث عن كل شخصية بشكل مستقل في الفصل الأول، وسارت على النهج نفسه في كل فصل من الفصول، لتواصل الحديث عن كل شخصية بشكل مستقل في الفصول الستة، بحيث ظهرت الرواية وكأنها ثلاث روايات في دفتي رواية واحدة، يربط شخصياتها خيط واحد؛ فلسطين، وشعب خرج الثلاثة من رحمه، ومثّلوا من خلال الشخصيات انعكاساً لحالة شعب بأكمله.
الشخصية الأولى: هي أبو صقر الذي يعاني من نوبات هلع لا تتوقف منذ ثمانية وعشرين سنة متواصلة، والذي هبط على مخيم عين الحلوة بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، ولا يعرفه أحد فهو "وحيدًا كان وما يزال.. لا أهل له.. ولا مستقبل يلوح..". واختيار اسم أبي صقر لم يأت عبثاً، فالصقر يمتلك قدرة كبيرة على الرؤية والقنص، وظهر هذا جليّاً حين علم بوفاة الصيدلي فؤاد، فأبو صقر مثل الفدائي الفلسطيني الذي التحق بالثورة منذ البدايات، وأصيب بالصدمة بعد خروج الثورة من لبنان وانتهاء مرحلة عاشها بعنفوان.
الشخصية الثانية: خليل الفلسطيني الذي هاجر وأثرى ثراءً فاحشاً، حمل جنسية أجنبية؛ "أربعون عاماً مضت هي آخر عهد خليل في البلاد العربية، أقسم قبل هجرته بألا يعود لأي منها ذات يوم، وأبر بقسمه بإصرار". إنه مثال على مَن تخلى عن تاريخه وتراثه ووطنه، وعن مخيم الدهيشة قرب بيت لحم الذي كان لاجئاً به، وحتى بلدته السنديانة التي هجر منها أهله، ووالده الذي استشهد على يد الاحتلال، وحتى عن الحلم بالوطن، فهو "كان مبتوراً من كل شيء.. لا قلب.. لا اشتياق.. لا بشر من جلدته.. ولا حتى أي شعرة سوداء تدفئ رأسه المكسو بالبياض"، ومع هذا تثور ذاكرته، ويتدفق الدم في شرايينه بقوة بمجرد رؤيته صدفةً حاجّة ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز، ومع هذا كان المال يعنيه أكثر من الوطن، فلا يمانع أن يكون جزءاً من الترويج ضد المقاطعة لمنتجات المحتل في الوطن العربي، رغم ذكرياته عن زوجته وأبنائه الذين فقدهم في هزيمة حزيران.
الشخصية الثالثة: الأسيرة المحررة.. ونلاحظ هنا أن الكاتبة تركتها بدون اسم، ولم تعرّف عليها سوى أنها من العباسية، وأصبحت مهاجرة في مخيم خان يونس، وهذه كانت خطوة ذكية حتى لا يتم إسقاط الحديث على شخصية محددة، ومن المخيم خرجت إلى تل أبيب (تل الربيع) لتنفذ عملية نضالية، ولكن الكاتبة استخدمت كلمة (الرفاق) كثيراً كلما أشارت إلى تنظيم الأسيرة التي تنتسب إليه، ما يدلّ على أنها عضو في تنظيم يساري، ومع هذا تتعرض لمحاولة اغتصاب من قائد متقدم في تنظيمها وهو في حالة السكر، وفي تلك اللحظة "انهارت تماثيل (العتاولة) الكريستالية"، فـ"قد تبرّأ منها أولئك الذين ساهرت وناجت بطولاتهم ليالي طوال من معتقلها"، و"هناك في بيروت، رأت بأم عينيها انهيار التماثيل الكريستالية التي عكفت طوال سني اعتقالها على نحتها بعناية وتجل"، لتعود إلى وعيها وتصرخ دوماً: "اللي بدّه تمثال كريستال يعمله لفلسطين الخريطة بس"، وتتزوج من أسترالي "كانت قبله قد ضاقت ذرعاً بالرفاق الفلسطينيين والعرب"، ثم تذهب للعيش في دولة خليجية، بعد أن تكون قد "كفرت بتماثيل الكريستال التي نحتتها وكثيراً من رفاقها ليالي طوال".
كانت هذه الشخصيات المتوازية في الرواية، وأما باقي الشخصيات التي مرت في الرواية فهي كانت تمثل من خلال إشارات في السياق ما تمثل؛ فخليل الصيدلاني وأبو ملحم وأبناؤه والممرضة وغيرهم، مثلوا التضامن والتعاطف لدى أبناء عامة الشعب، بينما السجانات والمحقق مثلوا الاحتلال، والعشيقات والأسماء الأجنبية مثلوا حالة التأثير على من يتخلى عن هويته وماضيه.
من خلال هذه الشخصيات الثلاث، كانت مسارات خطوط الرواية المتوازية، خاضت فيها رشا سلامة بعمق تلك الأرواح والرموز، فكل حالة مثلت شريحة من الشعب الفلسطيني لا يمكن أن ننكر وجودها أبداً، حتى إشارتها لواقع الشعب الفلسطيني بعد قيام السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو لم تغفل الإشارة إليه، ولكن كان واضحاً ومن خلال السرد الذي دخلت من خلاله إلى أعماق تلك الشرائح، مقدار الألم الذي يجول في روح وجسد الكاتبة وهي في ريعان الشباب، وإن كانت لم تتخلّ عن الأمل بالمطلق من خلال شخصية شاب يصر أن يقاتل، ويرفض فكرة مطروحة في الآونة الأخيرة: "بدهم مقاومة سلمية"، ومن خلال الممرضة التي تمسكت بأبي صقر الذي مثل حالة سابقة هي مرحلة الثورة، والذي طرد وهو يعاني المرض، فتصرخ في وجه خالها: "سلمولي على الشرف اللي بتتذكروه بس تشوفونا".
وحقيقة، ورغم تألق رشا سلامة في روايتها الأولى، إلا أن هذا لا يعفيها من العديد من الملاحظات، ومن هذه الملاحظات أنها لم تصور سوى السوداوية المطلقة في الواقع الفلسطيني، ولم يرد الأمل إلا في حالتين عابرتين كما أشرت أعلاه، وهذا لا أراه ينطبق بدقة على الواقع الفلسطيني وأنا من يعيش تحت الاحتلال ويرى الكثير، كما أن شخصيات الرواية كانت كلها من لاجئي النكبة الذين تشتتوا بين المخيمات، وهذا الفصل بين أبناء الشعب الفلسطيني أعتبره نقطة ضعف كان يمكن تجاوزها، فمن قاتلوا وناضلوا وحتى الذين سقطوا أثناء المسيرة، مثلوا الشعب الفلسطيني بأكمله، وأيضاً حصر ما تعرضت له الأسيرة من قادة في تنظيم يساري هو تحيز غير مقبول، فتماثيل (الكريستال) وجدت في كافة التنظيمات، وهناك قصص كثيرة وحكايات يعرفها الكثيرون ممن عايشوا تلك المرحلة وامتدادها حتى اللحظة وإن لم توثق لأسباب شتى، إضافة إلى ذلك أن عبارة أحلام مستغانمي في بداية الرواية، وقبل صفحة الإهداء، والتي تقول فيها: "لا أصعب من أن تبدأ الكتابة، في العمر الذي يكون فيه الآخرون قد انتهوا من كل شيء"، هي فكرة قد لا تنطبق على ما تحدثت به الرواية، فقلة نادرة تحدثت عن تلك المرحلة، وأخطاء تلك المرحلة ما زالت تتواصل، علماً أن رشا قد رصدت مرحلة لم تعشها بنفسها بحكم العمر، لكن قراءة أخطاء تلك المرحلة لم تبدأ بعد، وربما تكون رشا سلامة من القلة الذين علقوا الجرس وبدؤوا بالدق على جدران الخزان، لعل أحداً يسمع.. رغم إنهائها الرواية بعبارة: "ليل ما فتئ يسلمه لليل.. بلا كلل..".
(عمّان 6/10/2010)