يقارب الناقد المصري نصا روائيا عراقيا، تمتزج فيه هوية الانتماء بصورة المرأة مما يجعل من موضوعة الوطن تتلبس بهذا المنحى ومجازاته.. حيث الشخوص تعيش اغترابها في أقسى الصور كما يغلِّف النص بلغة سردية شفيفة محملة برموزها الخاصة التي تفتح النص على أفق من القراءات والتأويلات المتعددة.

«زنقة بن بركة».. ونموذج المرأة/ الوطن

قراءة في رواية الروائي العراقي محمود سعيد

محمد عطية محمود

عندما تصير المرأة معادلاً لوطن يتحرك، ويتجسد على أرض واقع خاص يلقي بظلاله على واقع عام؛ فإن هذا النموذج يكون جديراً بطرح إشكاليات التعامل مع نص روائي فارق، يعانق الهم والوجدان بطرائق تعبيرية شائقة وشائكة في آن واحد، حيث يصبح هذا التجسيد معبراً عن تداعيات وفعاليات تضرب الواقع في صميمه بغرز نصال البحث والتمحيص المبدع على نحو من الدقة المشوبة بقلق، توتر، جو دوامي.. يضع في النص سمات الاغتراب في أقسى صورها، إلى جوار سمات ودلالات التشظي، ويؤطر ذلك كله بإطار من الشغف والتعلق بالنموذج الدال (المرأة) كشخصية محورية، وكمحور للأحداث التي ربما اكتست في كثير من الأحيان بالغموض، مع ملامح من جو أسطوري، تفرضه دلالات السرد، وما تطرحه من رؤى تحيل النموذج الدال إلى رمز عام يحوي تحت جناحه الأسرار والعلامات التي تنير الدرب نحو طرح مغاير لقضية المرأة حين تتشكل، وتأخذ أشكال/ أنماط تقربها الى نموذج المرأة/ الحياة/ وطن الاغتراب، بحيث يجعل من أرض الغربة ورموزها وطنا تتكيء عليه أحاسيس المغترب أو السارد الذي يغطي مساحات السرد/ الرواية بانكساراته، وتضادات واقعه المرير، إلى جانب غيبوبية الكثير من المشاهد الدالة على تلك الحال، في خضم علاقة أزلية بين الرجل والمرأة مهما اختلفت صورها، ودلالات شخصيتها وتحولاتها بين التخفي وبين الحضور السافر..

ففي رواية " زنقة بن بركة " للروائي العراقي محمود سعيد، والحائزة على جائزة أحسن رواية عراقية لعام 1994، والصادرة عن دار الآداب ـ بيروت، تتمحور الأحداث، التي تدور في بلاد المغرب العربي،  مع نماذج الشخصيات التي تدور في فلك الشخصية المحورية (المروي عنها) بلسان السارد/ الراوي، والذي تحمله الرواية اسم (سي الشرقي)، لتضع أولى علامات الاستفهام بالنص الروائي، والذي ينقل أول ما ينقل معاناة هذا السارد على أرض اغترابه التي يفتتح عنها سرده آملا في وطن تتجسد فيه طموحاته ورغبته في البقاء على أرضه وبين جدرانه: "أحسست بعد خمس وعشرين سنة من الحرمان والاضطهاد والقسوة والصراع السياسي والسجن والفصل والعطالة أني سقطت في جنة يحسدني آدم عليها" ص7

من هذا المنطلق يلج الراوي فردوسه الأرضي المتمثل في أرض اغتراب يجد نفسه بها مضطرا لعمل أو هرب أو نكوص أو.. أو.... أو..، بما يسمح له بمساحة من حرية لم ينلها في موطنه الذي لم يفصح عنه، واكتفى بالإشارة الدالة، باسمه (الشرقي) إلا أنه من الواضح والجلي أنه يرتاد أرض صراع جديدة، تحكمه فيها شروط التمييز، وتبعد عنه شروط المواطنة والاستمتاع بهوية الأرض التي تفتقد أيضاً إلى المزيد من الإحساس بمعنى كلمة وطن، فإحساس الراوي رغم انفلاته من أسره وحرمانه لا يزال ناقصا بالمكان الذي يرى نفسه فيه:

"كنت خالاً أسود في وجه المحمدية المشرق، ساقاً عجفاء من دون غصون أو جذور أو أوراق، غريباً حقيقياً يحلم بالسعادة والحب في أرض المجهول" ص 15

تتوالى الشخوص المحيطة بالراوي، كمركز ثقل ثان للرواية، وتتناوب على شخصيته سواءً بالسلب أو بالإيجاب، مما ينتج عنه طرح صورة تتبارى فيها مفردات حياة الاغتراب من متاهات تتعدد بين الخمر والنساء والمقامرة، والتي تتوزع على مدار النص، لتعطي كل منها انطباعا ودلالة، ومؤشراً على الغرق في تلك المتاهات التي يحاول بها الراوي الهرب من ذاته/ واقعه الجديد، فيما بين الانكفاء على ذاته وجلدها، وبين محاولة اقتناص فرص الحياة والوجود على أرض اغترابه من خلال نموذج "رقية" المرأة الهابطة على أرض اغتراب أيضا ـ لكنها لا تمثل لها معنى الاغتراب بالشكل المعتاد القاسي ـ والتي تخترق البناء السردي/ الحياتي للسارد الذي تتمحور كل محاولاته لاختراقها على نحو من ذاتيته المعذبة والمؤرقة في جحيم هذا الولع الأثير/ العشق/ الانتحار، والذي سوف تمثله كل مفردات العلاقة القائمة، والمبتورة في آن واحد على مدار الرواية، والتي تلقي بظلالها النفسية على كل العلاقات الأخرى بنماذج المرأة، والتي تشكل محيط دائرة كبرى تقع هذه المرأة/ الرمز في مركزها، وربما كان لهذا المركز محيط آخر من العلاقات بنماذج الرجل والذي تحكمه علاقات أخرى جدلية تمثل أركانها رموز العشق الممهور بالاغتراب، والسلطة، والمال، والإغراق في الجنس والخمر والمقامرة التي تصل إلى حد المقامرة على الحياة ذاتها.

إذن فنحن بإزاء نص روائي فارق، يتخطى حدود الحكاية المروية  نحو إقامة علاقات جدلية بين المادي المتجسد في أرض الاغتراب، والمعنوي المرتبط بدلالات كل تلك العلاقات التي يشوبها التوتر والقلق والبحث فيما وراء معادلات التشظي والضياع من خلال ما سيورده النص من اتجاهات للجنس والخمر والقمار، كعوامل هدم وتغييب ومحاولات للهرب من الواقع المادي إلى النفسي، ومن النفسي إلى اللا معقول وكبدائل مادية ـ في حالة المقامرة ـ  قد يستفيد منها البعض في إدراك سبل النجاح المادي.

***

تبدو "رقية" بشخصيتها المبهمة، من خلال بداية الرواية، حيث يفتح بها السارد بابا للسرد والعشق الخاطف من أول وهلة، وبمدلولاته المتنامية على مدار السرد: "حدَّقت.. الخجل يخلع عيني.. بعد ثوان تبينت لي امرأة غارقة في جلابة من التركال، قديمة، فضفاضة، مخططة، خمار أخضر صاعد نحو منتصف العينين اللتين لا يمكن تمييز لونهما الأدكن، وكانت ترفع رأسها فينزل خمارها متوترا حادا مكونا هابطا اضطراريا بين مرتفعين ينتهيان فويق الجلابة بين الثديين" ص 17 تكمن هنا براعة الوصف الدقيق الدال، والتي تميز لغة الكتابة عبر الرواية كلها، لتعبر عن طرح السارد لدلالات الحجب والتخفي، التي تتوارى خلفها فتنة لا تغيب عن وعي السارد الذي يطلق خلفها أشواق ظنونه وتعطشه إلى هذا الكيان المغرق في التخفي بغض النظر عن مبدئية تبادل الرغبة من عدمها ؛ ليلقي النص بظلال شخصية السارد، الواقعة تحت تأثير عجزها وانهزاميتها، وشبقيتها المعتمدة على النماذج التي يطرحها ماضيه وحاضره، كاشفا عن جانب منها بهتك غلالة المسكوت عنه، والتي يسبر غورها في قوله: "وحدث أن جلست في حضنها (لأني أسير العادة!) أحسست بفخذي جسد ممتلئين. جسَّم لي الصمت خطأي، كأني لُطخت بالوحل، هتف سي الحبيب ليزيل الأثر.. ربما الوحل:

ـ اللَّلا قريبة سي الجزائري.. سي الشرقي.. تفضَّل هنا

كرسي إلى يساره. تنفست بارتياح، مددت يدي لأصافحها، لكنها هزت رأسها ببرود هزة خفيفة، فبقيت يدي وحدها في الفضاء متشنجة" ص 17

تبدو هنا شخصية (سي الحبيب)، التي تتوسط هذه العلاقة الوليدة، والتي تكوِّن معهما مثلثا أساسيا تعتمده الرواية على نحو من التشابك والعلاقات العكسية، حيث يعطي النص لشخصية (الحبيب)،دورا هاما ومحوريا ومؤثرا على بطلي النص (الشرقي ـ رقية، وحبل السرد/ الواقع المشدود بينهما) بعدا أيديولوجيا دالا على حالة من حالات القمع التي يقع تحت تأثيرها،كمناضل ومعارض بحس وطني وقناعات..

و تتأثر الحالة المعنوية التي يطلقها النص من خلال تداعياته إلى هذا الاعتوار الذي يشوب هذا المعترك/ الجو العام الأيديولوجي، والذي تتجاور معه دلالة الحالة الصحية المتدنية لسي الحبيب، والتي يقول عنها السارد في لاحق سرده:

"وبخوفي الذي يلازمني في لقاءاتي المتكررة مع سي الحبيب كنت ألتزم الحد من إثارته بما يرهق قلبه الضعيف" ص50  بما يشي بالمعاناة التي تلاقيها الشخصية المجبولة على الشقاء والكفاح، كرمز للمقاومة لتلك المرحلة التاريخية التي يعالجها النص، ويمد نحوها بظلال معالجته. بينما تتجلى بداية ً سمات شخصية " رقية/ المرأة "، من خلال اصطحاب السارد كدليل لهاـ" وهنا مفارقة تمثيل المغترب لدور الدليل على أرض اغترابه " ـ  إلى شقة قريبها (المجاورة لشقته !) شبه المهجورة:

"كان ذلك أول صوت يصدر منها، كان نغمة متكاملة، عشرات الآلات الموسيقية المتكاملة في انسجام ترسل النغمات من صدى بعيد. لم أصدق سمعي" ص 23  يرصد الراوي هنا هذه الأوصاف بدءاً من السمع، في إحالة إلى بيت الشعر العربي القديم: "والأذن تعشق قبل العين أحيانا "، لتتابع رحلة الموسقة التي تستمر مع هذا الكيان الغريب الذي اخترق كيان الراوي/ الرواية، وتلبَّسه، قبل اختراقه للمكان. ولكن التحول في جذور العلاقة قد بدأ حينما لم تفلح "رقية" في معايشة هذا الواقع الذي لا يليق بها، وتغيير مسارها نحو شقة الراوي/ سي الشرقي، وكأنما جاءتها كي تحيي أملا في معانقة نموذج الحياة بالنسبة له: "غير أن باب شقتي فتح ودخلتْ، ملأتْ الباحة بثوب أخضر مشجر، مشدود على جسد ممتلئ، كان صدرها الناهد يظهر فتحة واسعة ينحسر عنها الثوب.. ارتبكت ارتباكا شديدا لاحظته دون اهتمام. أهي كهلة الجلابة ؟ أمامي شابة  لا "أميمتي" "سامحك الله يا سي الحبيب لا شك أنك لا تعرفها ... لم أضبط نفسي. وقفت، حدَّقت فيها، كان وجهها يحوي من الحلاوة ما يكفي نصف فتيات العالم، وكدت أهتف من أي سماء نزلت يا ساحرة؟" ص 25

تبرز هنا سمات الجمال الأسطوري المتحققة بالرؤية ـ  بعد السمع ـ  لتكتمل للسارد خطوة جديدة من خطوات اندلاع حرائق هذه المرأة/ الرمز في ذاته، والتي تعكس أيضا هذا الميل الغريزي، والتعويضي في آن واحد، والذي ينتاب السارد عوضا عن دفء الوطن الذي ابتعد  أو أُبعدَ عنه، وحميمية التواصل التي لا يجدها في أرض اغترابه، على الرغم من الإحساس الأولي لولوج الجنة الموعودة !!، في علاقة جدلية أخرى يطلقها النص في فضاء فعالياته، والتي تعقد على هوامشها علاقات أخرى. ولكن نقطة التحول تلك تبرز له لتضعه على أعتاب علاقة أكبر هي علاقته بهذه المرأة/ الرمز، وإن شابها في مستواه الواقعي ما شابها. "وبرغم أنني أحسست بأني بدأت أهيم بها كابحاً فورة شبق شديد، إلا أن هذا الإحساس كان ممتزجاً بإدراك متميز واضح يجعلها عن يقين في الضفة الأخرى من النهر الذي يفصل بيننا " ص 31

تفرض هنا دلالات الاغتراب نفسها على ذات السارد، الذي تتحول لديه كل الدلالات لتعبر عن هذا التأزم/ العلاقة النفسية التي تنبعث من/ تُفرضْ على حواسه، وتهيمن على وجوده المجهض في مجتمع/ غربة لا تعترف بآلامه، قدر عدم اعترافه هو بها، مع احتفاء الشخصية بسمات الميل الغريزي إلى الشبق الجنسي، والذي غالبا ما يحرك مشاعره خلفه بنوع من الغريزة البهيمية.

***

كما تلعب الخمر، والتي يغرق فيها كل شخوص الرواية، دورا دلاليا مهما آخر في فضاء النص ما عدا " سي الحبيب " اتساقا من النص، وتأكيدا على دلالة شخصيته الطامحة للتغيير والمقاومة كرمز للمعارضة السياسية التي تخترق النص بفاعليتها وإن كانت مجهضة، أو غير معلومة الفاعلية. "سألت البقالي عن الفتيات بغمزة عين ؛ فأشار إلى الدوش، كن يزلن الملح بعد رجوعهن من البحر إلى الحمام الصغير معاً. قرع المراكشي كأسي مرتين على التوالي خلاف العادة. ولما كنت أخشي أن تغلق الورشة (يقصد ورشة استخراج المفاتيح) أبوابها فقد أنهيت كأسي الأولى ونهضت واعدا بالرجوع. لكن المراكشي الذي أصبحت صديقه الحميم بعد تينك الجرعتين الخالدتين من النبيذ، غدا في غاية الفزع لمحاولتي المغادرة " ص 36

تلعب الدلالة العكسية للمفاتيح على عدم تواصل شخصية السارد (الشرقي) وعدم تحصله على فرص التحقق.

وأيضا دلالة استنساخ المفاتيح بطريقة خاطئة !! مع عدم وجود بدائل له لاختراق هذا المجتمع/ النقيض رغم احتوائه  له وإن كان احتواءا باردا. هنا يلعب تأثير الخمر دورا هاما ومؤثرا حيث جعل من الغريب صديقا يتعلق بأهداب آخر محصور مثله في دائرة الضياع/ الاغتراب، والتي تفرضها الأجواء المحيطة، مع اقتران الخمر بالعلاقات النسائية المشبوهة، والتي تتلاحق على مدار النص لتشكل موجات متتالية من اختبار الذات في مواجهة ظل هذه الشخصية الأسطورية التي تمثلها "رقية" ـ حتى في عدم وجودها في فعاليات السرد  ـ والتي لا تُغني السارد عن اشتهاء هذه المرأة/ الساحرة/ الرمز (رقية) ـ من خلال سقوط كل ما حوله في هذه الدائرة المحكمة القبضة حول رقاب الجميع !! مع استمرارية وقوعه في الفشل حتى في مغامراته، وفي أسر فتنتها التي تشغل السرد ـ في مواضع أخرى ـ في مستويات أعلى من الافتتان.

"وفي الفترة التي قضيتها أغط في نوم عميق، كانت أصداء أصوات أنثوية رقيقة، لمسات، محاولات جادة لإيقاظي. أفتح عيني على أثرها فتلتصق بجفوني صورة امرأة حبيبة، هائلة الجمال، مجللة بالأزرق، تغوص معي في أحلام عريضة، أتبع خيالها فوق الغيوم، ألمس يدها الخارجية من شباك طائرة، أشد على أصابعها خوف السقوط، لكنها تسحب يدها وهي تضحك فتملأ الدنيا سعادة، أسقط فأراها تحتي تسقط وموسيقى ثرة تنبعث من ضحكاتها فتذيبني ... أغمضت عيني أتذكر تينك العينين اللتين كنت أضيع بسحرهما في طبقات السماء" ص61، 62، 63 هنا يقترن الحلم بالحقيقة بالأمل بتأثير غيبوبة الخمر والمتاهة التي تجتاح السارد " سي الشرقي "، بتجليات هذه الفاتنة/ الساحرة التي اختلط واقع وجودها مع تيمة الحلم التي حقق فيها السارد جُل أمانيه، وعانق فيها الحلم كمعالج للوصل المفقود، ليعبر به عن كل ما يعتمل في ذاته المغتربة عن ذاته نفسه، وعن الحياة المتمثلة في شخص رقية التي ترتقي دوما ـ  كما قلنا ـ  لتشغل درجة أخرى من درجات سموها وإدراك النص/ السارد لمعنى جديد من معانيها وتجل جديد من تجلياتها. "سحبتني وراءها وهي تمسكني من يدي بقبضة رخية، لكني أفلتُّ منها، كان جلوسها قربي قد وتَّرني رغما عني، ارتديت سروالي، لحقتها على مهل إلى المطبخ، كانت تنتظر وخصلة شعر سوداء تنسدل على جبينها المشع." ص67 لتكشف هذه المقابلة المعدة مع سبق الإصرار من السيدة عن تطور جديد للعلاقة بما يعد بمثابة الصاعقة التي  تزلزل شخصية الشرقي، في حين تجمع أطرافها الثلاثة (الشرقي، الحبيب، رقية) كعنصر من عناصر موت الأمل في معانقة رقية/ الحلم/ الرمز للحياة والعشق، بصدها لرغباته ومشاعره الفوَّارة؛ بتعلقها الشديد وعشقها المفرط لـ سي الحبيب، وما يرمز إليه في ضمير النص ؛ كعنصر من عناصر السياسة/الأيديولوجيا، التي تخترق النص، وتمسك بجوهره بأغلال من حديد، ربما لا تكون ماثلة للعيان.

***

"وإذ فتحت الباب ودعوته للدخول لاحظت استغرابا ثقيلا في عينيه، المرة الأولى التي يجمعنا المكان مع شابة تحت سقف واحد،توقف يجول بنظره بيني وبين هالة الشمس في الشقة والمائدة والشموع " ص 73 يشير النص هنا إلى هذا الوجود المذكي لنار الاغتراب والوحدة في نفس السارد، والذي تدفعه فعاليات اللقاء الذي يؤثر إلى حد كبير في مجريات السرد والتحول الجارف (العملي) في نظرة رقية لـ سي الحبيب على نحو من الالتصاق والتماهي، كرمز للالتحام بين رمز الحياة في شخصية رقية، ورمز السياسي المناضل في شخص الحبيب، وما بينهما يقع الراوي المغترب، العاشق الشرقي حائرا محبا، ومؤثرا لمثله الأعلى أو عرَّابه في هذه الأرض/ الوطن البديل، مع هذا اللقاء الذي يشير اليه السارد بصيغة التثنية التي تضعه والحبيب في سلة واحدة، في قوله " يجمعنا المكان مع شابة تحت سقف واحد"  "جلست قبالته، وعيناها هائمتان بوجهه ترفضان مغادرة تقاطيعه، أصبحت بعد ثوان من مجيئه جزءا منه، كأنها عطره الذي ينفذ إلى خياشيمي، سألته:

ـ ما رأيك سي الحبيب بالحب؟" ص75، 76

بما يلقي برياح اليأس التي تجتاح الراوي، وتدفع به في مواجهة مع الحبيب، الحبيب إلى قلبه، والذي يحقق له هو بمواقفه السياسية، ما لم يتحقق له على ارض واقعه، ولا أرض اغترابه، فهو الحائر بين هذا الحب، وعشقه للحياة من خلال شخصية رقية.

لكن علامات التواصل التي يعطيها النص للعلاقة بين شخصيتي "رقية"، و"الحبيب"، تتجسد على نحو من عدم الاكتمال والتوتر، الذي يتوازى مع التوتر الذي تنطبع به العلاقة بين شخصيتي "رقية" و"الشرقي"، لكنه يختلف في طبيعة العلاقة العكسية بينهما من حيث السمة الطاردة للتفاهم والانسجام بينهما، وبما يطرح رؤية النص التي تصب في اتجاه العلاقات المنقوصة، تماما كما في العلاقات الجنسية غير المكتملة ـ سواء بفعل العجز أو فعل التمنع أو فعل النكوص الذي تفرضه الحالة النفسية، الأقرب إلى جلد الذات منها إلى الضعف ـ التي يتعرض لها "الشرقي" في كل نزواته مع النماذج النسائية.

"ثم سدت الطريق متكئة على الباب بحركة رشيقة فاتنة:

ـ لن أدعك تخرج.. اسهر معنا ولا تشرب.

ـ لا أستطيع.

ـ إذن لنسهر عندك.

فقطع عليها الطريق:

ـ أنام مبكرا.

فلمعت عيناها بتحد ساحر:

ـ أتخاف مني؟

مد يده إلى أكرة الباب، فوضعت يدها على يده وضغطت عليها برفق، فحدجها بنظرة جزعة يمتزج فيها توقع واستلطاف .. هتف:

ـ لم يبق شيء في الوجود أخاف منه." ص80

بما يشي بهذه القدرة الممتنعة عن التأثر لدى شخصية " الحبيب " الصلدة التي لا تتجه كلية إلى الحياة بمعناها الفطري في شكل من أشكال المرأة في شخص " رقية "، وإنما إلى سماتها المتجهة نحو معالجة إشكاليات الحياة ذاتها، بمقاومة تداعيات وإشكاليات الوجود بها.

إلا أن قدرة الشرقي على فعل المقاومة تأتي في شأن عشقه للحياة في صورة رقية، التي تراوغه رغم حصاره لها ـ المنبثق من حصار قوتها لمشاعره ـ بطريقة الشد والجذب، والمماحكة التي غالبا لا تؤتي ثمارها الشهية:

"ـ ماذا تنتظر إذن ؟.. التحصل علىّ ؟

لم أشعر بالاستفزاز من جديد.. وبالرغم من أنها كانت تقرأ ما بداخلي، سؤالها خطاف ملاكم عريق، لكن أين الألم والاستفزاز ؟..

اعترفتُ.. وبدا اعترافي نغمة نشاز في قطعة متكاملة.

ـ وماذا بعد ؟ " ص 90

يلعب النص على هذا الوتر المشدود، الذي ما يلبث أن يرخيه، حتى يشده بارتفاعه بذروة العلاقة بين "الشرقي"، و"رقية"، والتي ربما ارتقت لتسمو بعشقها لـ "الحبيب"، ثم عادت لتهبط من عل في علاقات إغوائها للآخرين، إمعانا في ساديتها تجاه " الشرقي"، الذي وقع في شباكها، فريسة مكتملة، بتدلهه السافر، والذي يعبر عنه بتعبير بليغ في تصويره لسؤالها المباغت على انه خطاف ملاكم عريق!!

"فانفجرت تقهقه:

ـ قبل أن أجلس قربك سأوقعه بغرامي (الشاب الفرنسي).

كان عبثها قاسيا، ولكني آنذاك لم أشعر بالاستفزاز (!) أيضا، كنت كمن يراقب طفلة حلوة تتظاهر بأنها تتقن الكثير من الألعاب الخطرة " ص 91، 91 هنا تدار العلاقة بينهما على نحو من التدني الذي يهبط كثيرا بمعدلات صعود الشخصية وتمكنها من التثبت مع السياق الدرامي للنص، إمعانا في التخاذل، المفضي في قراره إلى إمعان جديد في " المازوخية " التي يمارسها " الشرقي " تجاه ذاته، التي لا تحتمل المزيد من التراخي والخمول الظاهري، غير المتسق مع ما يمور بداخله من ثورة عارمة!!

** (نلاحظ هنا هذا التوازي المعنوي بين ثورة "الحبيب" المناهضة لقوانين الحياة/ السلطة، وهي ثورة ظاهرية صرفة تتسق مع الثورة الداخلية الذاتية، وبين ثورة "الشرقي" الباطنة غير المتسقة مع ظاهره، وكل هذا من خلال العلاقة مع/ ضد الحياة)

***

"ارم اللثام.. إنه يشوه وجهك.

ضحكت:

ـ أين الغيرة إذن ؟" ص 94

 تلعب دلالة الحجب هنا دورا هاما في سياق النص، والذي يظهر أيضا تعارضا شديدا بين ظاهر المرأة وباطنها، وازدواجية تعاملها مع الأنماط والمواقف المختلفة، من حيث لكل مقام لديها، طقس من الطقوس، وشكل من الأشكال التي تتلون بها كساحرة، بمفهوم راوي النص/ الشاهد على تداعياته قبل تداعيات الآخرين.

ترتبط شخصية رقية، فيما ترتبط بإشكالية الجنس أيضا، كمعول عليه في استمرار الحياة، ممارسة للوجود أو البقاء، على حد سواء، فالإيحاءات التي يقدمها السارد/ الشرقي تحمل فيما تحمل هذا النزق الذي يذهب بالعلاقة بينه وبين رقية إلى شطوط بعيدة من المتعة غير المكتملة أيضا من الإيحاءات الجنسية، التي ترتبط بحدود ..

"فاستغللت وجود رقية قربي، اتكأت على كتفها، متوسدا لدونة جسدها البض، متخيلا تقاطيع هذا الجسد كأنها لم تكن ترتدي الجلابة، ورفعت يدها إلى فمي وأخذت أقبلها فلم تمانع ولم تشجعني على المزيد في الوقت ذاته، فجعلني ذلك أستصعب إبعاد تفكيري عنها، فرحت في إغفاءة عميقة جدا لم أدر ماذا حدث بعدها." ص 111، 112 هنا أيضا يرتبط الحس (الجنسي) بالحس (الغيبوبي) الذي يطرح أبعاده على سطح النص، كلما اقتربت دلالات التشظي التي يطلقها فعل الجنس والخمر (المرتبطين) بالعجز والهرب من الواقع المزري الذي تنسحب إليه الشخصيات المرتبطة بالنص من قريب أو بعيد، في فعاليات تشظيها. في حين يكتمل للآخرين متعة الحس الجنسي المتفاعل، ربما لخلوهم من إشكاليات قد تشغل السارد، وربما اتساقا مع واقعهم المستند إلى أرض وطن، يفتقد السارد الحس بها ؛ لتربطهما أيضا دلالات الاغتراب مع دلالات الغيبوبة/ الحالة الغيبوبية التي يعيشها الشرقي في بداية كل سياق/ غمرة الفعل الجنسي المبتور سواء كان بالالتحام أو بالإيحاء بذلك. "كان البقالي يجلس على الكرة ووجهه إلى البحر، يلقي محاضرة جادة على الفتيات الثلاث، من إشارات يديه أحسست أنه يشرح لهن لعبة يودون لعبها، هتفت غير مرة، فاستيقظت الفرنسية التي تستلقي تحت الزنجي، حدجتني بنظرة غضب، ثم عادت إلى أحلامها الدافئة "ص 139

لكن الحس بأهمية الجنس لدى السارد، ينمو رغم العجز/ عدم التواصل، محققا معدلات من الرغبة ينمو ثم يعود ليخفت حتى انمحاء الأثر كليةً ؛ لتأثير رقية العكسي، والذي لا يكفل له حتى حق التنفيث عن تلك الرغبات حتى المتاحة منها دون عناء، ودون مقابل منه، والذي في غمرة تدفق هذه الفرص يلوح له الأمر كما في قوله الكاشف:

"آنذاك تخرج رقية تملأ الدنيا.. صوتها، حركاتها، غناؤها.. نزواتها.. كل شيء يبدو أول الأمر نقطة صغيرة ثم تتسع وتتسع حتى تصبح كل شيء.. لماذا أحس بالخدر اللذيذ يسري في أعماقي ويشدني نحو المجهول ؟.. لماذا أضطرب وأفقد رشدي وإحساسي ؟.. لماذا لا أندم على تضييعي هذه الفرص التي ما حلمت يوما بتدفقها علىَّ منذ أن رأيت رقية؟" ص143

بهذا التغلغل في نفسية السارد/ الشرقي المعذبة المؤرقة، ترتقي شخصية رقية إلى نموذج آخر من نماذجها المتنوعة، والضاربة في عمق الواقع بسحريته الفاتنة الدالة على اتساع الرؤية التي تسعى الرواية/ السارد إلى تقديمها. كما يرتبط أيضا هذا التجلي الذي تحدثه رقية في المشهد السردي، والذي يرتبط هنا بمستوى جديد من مستويات غيابها الحاضر، المتمادي في تأثيره في شخصية الشرقي الغارقة في العشق،و المازوخية ؛ بحثا عن حقيقة وجود هذه المرأة الرمز.. يرتبط أيضا بفعل الغفوة التي تحدث للسارد، كجزء من الغيبوبة التي يطلقها حضور بدايات الحس الجنسي، بحضور آخر يقترب من جو صوفي، في شأن الوجد والتدله والارتقاء إلى عالم آخر بديل، قد يستعيض به السارد عن ممارسة غير ممكنة التحقيق.

"لابد أنني غفوت، أحسست بيد حانية تغطي صدري بمنشفة صفراء.. كم طالت الغفوة ؟.. لا أدري. زال التعب، وتلاشى الصداع.. عدت إلى أحلامي لكن بتصورات غير مصحوبة بخدر أو نشوة. هرب النوم"ص144  هكذا تصير الأمور على وتيرة من الاختلاط بين معان كثيرة تتركز في الولوج إلى هذا العالم البديل، الذي تتجسد فيه المرأة /رقية على نحو من السحر والألق، ولا يخرج السارد منه إلا اللمسة وإن كانت حانية إلا أنها من يد أخرى غير يد "رقية" التي يكسبها السرد براعة البلسم في انتزاع آلام الشرقي رغم تمنعها، كما ترتقي به أعلى درجات الحس الجنسي، وإن كان باستعاضة الحلم بديلا عن الواقع المؤرق حتى في أشد حالات الشبق والرغبة، كما في مواضع أخرى:

"لماذا أحس بالسعادة حتى عندما تتدخل في شؤوني وتقتحم علىّ خلوتي ؟.. الله.. كم أنا سعيد!.. وبخاصة وأنا أتتبع هائما صوتها.. بقوته وضعفه!" ص 149

"ضحكت من جديد، فتحت زرين فقط من أزرار الملابس العليا فرأيت وسطهما حمالة الثدي وقميصا داخليا. كلاهما سماوي فاتح.

ـ لقد دفعت لك الثمن.. أو تريد أن ترى القطعة الثالثة ؟

أخذت تحكم الأزرار وهي تبتسم، وتأوهت، هززت رأسي:

ـ هذا يكفي.

فقهقهت:

ـ تكذب.. لن يكفيك هذا..

ـ خطوة أولى.. لي نفس طويل

ـ لن تحصل على شيء حقيقي..

ثم دارت دورة في الهواء، بعد أن أكملت تعديل ملابسها، فحركت هواء الغرفة بحيث انسكب عطرها في أنفي كله. " ص154،155

بتلك الأثيرية التي تميز فعل الحركة المتوثب، والمتسرب من بين يدي السارد/ الشرقي، التي تطلقها رقية  في فضاء النص، وفضاء نفسية السارد في نفس الآن، تصل هنا العلاقة الجسدية المرتجاة إلى طريق مسدود، تتجلى فيه استحالة التلاقي الجسدي أو الالتحام الذي يكفل للسارد/ الشرقي التواصل والعيش في كنف الحياة  في أرض الغربة، بما يدفع الأمر في اتجاه كون العلاقة ترتقي إلى مستوى جديد آخر، تمثل فيه المرأة/ رقية بمستوى أعلى من التأويل، قد يصل إلى كونها وطن من لا وطن له (السارد)، وطن يأبى أن يلقمه حنانه وهو المغترب الذي لا يقر له جفن.

هنا تبدو الدلالة الجنسية ملتصقة بمفهوم الاندماج والاختلاط الباغي غرس جذوره في أرض وطن بديل، لا يخطط في سبيل الاستغناء عنه أو استبداله، بل تملك عليه رقية، حتى حالات ضعفه واعتواره، ووقوعه مصابا على أثر خيبة أمله فيها، على الدرج الذي يسقط عليه النص دلالة الهبوط والسقوط، والوقوع في أسر الإصابة، والتي حتى في أسرها، لم يستطع الانفلات من أسر رقية، التي يستدعيها في بوحه، خارج الإطار الذي كان يؤطر علاقتهما معا، ومن خلال احتباسه في أسر المستشفى، منتظرا قدومها المستحيل لرؤيته:

"كنت أرى ملامح رقية في كل وجه يمر أمامي، سواء أكان ذلك الوجه جميلا، أم قبيحا، ملتمسا جمالها بنسب معينة مختلفة، كان جمالها استثنائيا، وربما كانت هي نفسها حالة استثنائية، وإن كانت ملامح الناس ترتبط بنسخ متكررة تقل عن الأصل أو تقترب منه حسنا وفتنة فذلك لأنها إنسانة فقط، ولولا تلك الرابطة لاعتقدت أنها حلم لا أكثر ولا أقل." ص161  هنا يؤكد السارد على هذه الأثيرية المختلطة بالحلم، والتي تضع هذه الشخصية الفاتنة موضعا يزيدها بهاءً وارتقاءً إلى النموذج الأعلى للمرأة وأنماط  تحولها على مدار النص، فكل شخصية نسائية التزمت بسلوكها وكان مدار تحققها في ثبات انفعالاتها سواء في  دونيتها أو تعففها، إلا هذا النموذج"رقية"، الأقرب إلى التمحور والتحول والتشكل لتأخذ هذه الأشكال المتباينة والمتمايزة لمستويات تأويلها، حتى تصل إلى هذا المستوى الذي يجعلها لا تقارن بامرأة أخرى،كنموذج للمرأة/ الوطن ؛ تحقيقا لهذه الرؤية التي تطرحها فعاليات النص.

***

تلوح شخصية "سي إدريس" في فضاء الرواية؛ لتمثل الجانب المادي أو الطبقة التي أتت من الحضيض إلى القمة بسبب تحصلها المفاجئ والمباغت على المال، وصعودها إلى قمة المجتمع بالتالي، على الرغم من دخولها المبهم في حلبة الصراع السردي لتحقق توازنا دراميا بين الشخصيات الرئيسة بالرواية، حيث تربطه بـ الحبيب علاقة قد تبدو في تلك الهيئة التي يرويها السارد، قائلا:

"وأخذت عينا الشاب الذي طغت فرحته بلقاء سي الحبيب تدمعان فلم يستطع إيقاف شريط الترحيب والسؤال ويمناه تلاعب ظرفا جلديا لمفتاح السيارة مع مفاتيح أخرى بقوة وضعف يتوازيان مع ألفاظه التي تتدفق من فيه، مضيفا امتيازا كبيرا على تلك الحركة التي تنبئ باعتزاز كبير  لملكية مقدسة.

ـ نعم لقد نجحت.. والبركة فيك.. لا أنسى فضلك " ص181

تبدو سمات العلاقة بين الوافد " سي إدريس "، و"الحبيب" على نحو من التقديس والإجلال من جانب " سي إدريس "،نحو "سي الحبيب"  لتبين سابق الفضل، ليكشف السرد عن تجليات العلاقة بينهما كعلاقة بين السلطة والجاه، المتمثل في غنى الشاب وصعوده وقدرته على إحداث التحول في شخصيته لتبدو على النقيض من الحال السابقة، ومن جهة أخرى المساندة الفاعلة من شخصية رجل السياسة المتمثلة  في شخص "سي الحبيب " كما يبين السرد: "ثم نظر بتمكن حوله، فأحسست أنه لا يزال يعيش لحظة نجاح فائق جعله يتصور نفسه مركز العالم. فرك يده محدثا صوتا خشنا غير متوقع من شخص على مثل هذه الدرجة من الأناقة، ثم أدار نظره بحركة لولبية شملت كل شيء أيضا، ولكن بتحد وكبرياء غطت على الصورة القديمة " ص182

***

تلتقي شخصيتا "الشرقي"، و"إدريس" على شرف المقامرة التي يحيل السارد/ النص دلالاتها على العلاقة/ الحالة الجديدة التي تطلقها زفرات أسى الشرقي، لفقدانه أي أمل في معانقة هذا الرمز/ رقية التي لا تهدأ العواصف التي يثيرها وجودها الفاتن، وأطيافها الساحرة القاتلة. "لم يبق سوى الكازينو. فرزت ما يسدد ديوني وأخذت باقي الراتب .. توجهت في الشارع العريض المؤرج برائحة ملكة الليل النفاذ.. عندما خف عبء الليل.. خفت وطأته.. وجدت ما يثير اهتمامي بعد أن ضاعت رقية هذا اليوم، ولكن ماذا سأفعل في الغد ؟.. واليوم الذي بعده ؟.. ولماذا أبحث عن السعادة؟" ص 188

تتوالى التساؤلات المُرة عن الجدوى واللا جدوى من السارد بحس المنسحق المهزوم لتأكده من ضياع فرصته الحياة/ الانتماء إلى وطن بديل، المتمثلة في انعدام أمله في رقية/ الوطن،المتجهة كلية (شعوريا وجسديا) نحو رمز النضال المتمثل في شخص الحبيب، وإن كان حِبَّا له يؤثره على نفسه، ويجله أيما إجلال.!!

لتفرض العلاقة بين الثلاثي (الشرقي، رقية، الحبيب) جدلية وجودها الفاعل على سطح النص المتوتر والمتأزم بدخول هذه الشخصية الرابعة، والغامضة المتمثلة في سي إدريس، الذي تجمعه بالسارد، صالة لعب القمار، وتؤلف بينهما على نحو من القدرية والعفوية:

"فوجئت بالرجل الذي يحدق في المحيط يصافحني بحرارة:

ـ ماذا تفعل هنا ؟

ـ سي إدريس.. وأنت ماذا تفعل هنا ؟

عادت الابتسامة الدبقة. لم أتضايق منها هذه المرة، بل على العكس أحسست ببهجة عميقة، فمنذ ترددي على الكازينو. هذه أول مرة أجد فيها شخصا أعرفه وأتحدث معه. تفاءلت. أخذت ألعب بهدوء من دون اكتراث وأنا أثرثر معه " ص 191

يأتي فعل المقامرة هنا متوازيا مع فعل التآلف الطارئ/ القدري الذي يحدث بينهما، كنوع آخر من المقامرة أيضا، رغم النفور والاختلاف من جهة، ومن جهة أخرى موازيا ودالا على المقامرة على الحياة نفسها، والتي يتفق فيها كل من الشخصيتين اللتين تقامر كل منهما من زاويتها الخاصة. كما يأتي هذا الفعل/ السلوك  راصدا لملامح القلق والاضطراب التي تتملك الشخصيتين، مع وجود هاجس التعويض المادي، وإن اختلفت نسبه وتوجهاته من أحدهما للآخر، حيث القمار إلى جانب الخمر، والمحاولات المبتسرة للوصل إلى الجنس الكامل، هي ما يتوالى على حياة الشرقي على أرض اغترابه، التي لا تني تحصره في زوايا لا يحق للمغتربين ارتياد غيرها، في اتجاه قسري تحكم به الأمور في هذا المنفى/ أرض الاغتراب على نحو من العسف المتواري خلف قوانين الغربة التي تفرض نفسها على الأجواء. لتقوم بينهما هذه العلاقة الجدلية المثيرة للدهشة، والتي تتبدى من خلال المشهدية والحوار الدال:

"كانت سيارته الأمريكية الفارهة والمكيفة ذات لونين أصفر ذهبي مع قهوائي بلون الشيكولاتة، وبحركة بارعة (ظهر وكأنه قضى مدة كي يتقنها)، أدار المحرك:

ـ لقد فقدت الحياة معناها عندي.. حققت كل ما أصبو إليه..

ضحكت غير مصدق، واستمر كأنه يقرأ ذكريات مؤثرة:

ـ لا أعرف لماذا ألعب.. النقود لا تثيرني..

ـ لكنك قلت إن خسارة الآخرين تثيرك..

ـ نعم.. وأخشى أن أشبع منها.. ربما ستكون إثارتي في المستقبل توقع الغيب.. إثارة التوقع هذه بدأت تتمكن مني. إنني الآن أستطيع أن أفعل أي شيء أو لا شيء " ص 195 من هنا تتبدى سمات الشخصية التي يتميز بها شخص " سي إدريس " كمعول عليه في إبراز العلاقة بين المال والحياة والتحول من المقامرة على الحياة إلى المقامرة بها على من دونه، بحيث تصعد فلسفته في الحياة مرتفعا شديد الوعورة، ويبدو هو شديد الدهاء في حياكة الأمور بنظرة المتعالي المتجبر بديلا عن نقيضها في ماضيه المتدني دون سلطة المال القادرة على تحويل أي شيء وفعل أي شيء، لدرجة تطلعه المريض للتوقع، كاختراقه لقدرية الأمور وصيرورتها غير القابلة للتأويل القائم على العنجهية والغرور، واللذين صارا من سمات الشخصية المتصارعة بالحياة، ومعادلها المادي المتمثل في سلطة المال، والمقامرة الخاسرة على حياته التي ضاعت في نزوة طائشة رغم عجزه الجنسي والمتأصل في سمات شخصيته التي تتوارى خلف قوتها المادية الملوثة المصدر!!  

***

كذلك يربط النص في هذه العلاقة الناشئة بين "سي الشرقي" و"سي إدريس"، مع ازدواجية (الخمر والمقامرة)، حيث يلعب النص على عملية التقابل بين الشخصيتين، حيث تتوفر هذه العلاقة على العديد من المفردات التي تطرح التساؤلات الشائكة حول مآل هذه العلاقة التي نمت في بار(خمارة)، وترعرعت في جو أشبه بجو الملهاة التي تفرض الوجود بصورة شبه هزيلة، لكنها قد تنتهي بمأساة !، وهو ما يخبئه النص في ثناياه، حيث تتطلع سلطة المال والجاه ـ ناهيك عن مصدرها الملوث أو المجهول ـ إلى اغتصاب معنى الحياة في رمز المرأة/ رقية، والتي باتت تمثل بالنسبة للـ شرقي وطنا مغتصبا، ربما توازى في الدلالة مع دلالة  مع وطنه الأصلي المبعد عنه، والذي لا يشعر به.

"كان الاختلاف بيننا كبيرا جدا، تجاربه سوَّدت دنياه، لم يتيسر لي المرور بمثلها، تجارب صعبة عميقة، أفقدته إيمانه بكل شيء. استقبلتنا الإعلانات في مدخل الرباط بألوانها البراقة المشعة، وكان امتيازنا قد أصبح فاقد المفعول، فأصبحت سيارتنا الضخمة واحدة في قافلة كبيرة تتجمع وتنفرط اعتباطا. ردد وهو يتذكر رقية:

ـ يا لها من جمال ساحر.. لم أسمع صوتا أجمل من صوتها حتى في ألمانيا.. لكنها امرأة مع الأسف.

اعترف ببرودة:

ـ لم أهتم بالسياسة حتى عندما كنت مع سي الحبيب.. لكن كيف أشرح لك الأمر ؟.. خذ الجنس الشفهي.. " ص212 يطرح النص هنا إشارات العجز الجنسي التي يعاني منها سي إدريس، واتجاهه نحو التنافر من العلاقة مع المرأة، بالنظر التعويضي نحو العنصر الذكوري وتفضيل الممارسة الشفهية للجنس/ الحياة،  في مفارقة جديدة من مفارقات الرواية التي صعدت منحنى دراميا  وصولا إلى الحادث الذي يتردى فيه "سي إدريس" قتيلا ـ رغم ذلك ـ على يد "سي قب" الشخصية قليلة الشأن والقيمة، والمهملة بالنص، والتي تمسك بزمام العدالة، والخادم الأمين لـ  " سي الحبيب "، بعدما تآمرت سلطة المال المتمثلة في "سي إدريس"، على إبعاد عناصر الحماية للمرأة " رقية "، المتمثلة في رمز العاشق " سي الشرقي "، ومن أحبت الاقتران به " سي الحبيب " لينفرد بها، ويأتي تدخل قب لحسم الأمر.. إلا أن المقدمات التي مهدت للحدث، كانت حدسا تنامى في وعي السارد، حاول به تأويل الأمور على قدر من التأرجح بين الخطأ والصواب، والارتباك بين النتائج المطروحة "الأسد لا يستطيع أن يواجه ثلاثة جواميس برية إلا إذا استفردها واحدة فواحدة " القادري خلَّصه مني، وتخلص من سي الحبيب ببرقية كاذبة عن مرض أمه. بقيت وحدها. استفردها. أوقعها." ص243 لكن الحدس الذي يتماشى مع عقلية السرد لا يسمح إلا بما أتت به المفاجأة التي تولدت مع الصراخ الذي أطلقته لرقية ليشتعل الشك (الأبله) في كونها قد صرعت،  بلا مبالاة ربما لا تتسق مع سياق الحادث، الذي من المفترض أن الصريعة فيه الحبيبة والمعشوقة!!

"وحاولت أن أعاود النوم من جديد، لكن إرادتي قطعتها ضربات شديدات على بابي، ثم أصوات أقدام راكضة. لا ليس ذلك بحلم. لقد حدث ما كنت أتوقعه، وتراقص أمامي سي صابر:

" قب.. أغبى إنسان رأيته في حياتي ".. ورددت دون وعي: " يا له من غبي !.. أ قَتًلَها في مثل هذه الساعة ؟ " ص 252

 بذهاب عاصفة "سي إدريس" الذي تكشف التداعيات هذا العجز الجنسي الذي يسمه، وتسقطه على الواقع العام.. يتجه النص إلى منحنى جديد من منحنياته الصعبة، حيث النهاية التي تنقلب فيها النتائج رأسا على عقب

" كبتُّ أسئلة تجيش في صدري. تجاوزتها حيث الظلام

ـ بحثت عن المستحيل حتى وجدته.

تهدج صوتها، بدأت تنتحب، تضرعت:

ـ أجبني..

كان صوتها أقوى من إرادتي، خشيت أن أفقد مقاومتي. هززت رأسي:

ـ كمن قلبا لك أيتها الأفعى ؟

انفجرت تبكي:

ـ أنت تظلمني.. ألم تعرف حقيقته ؟..

مططت شفتي مقلدا إياها  بسخرية مريرة.

ـ وما الحقيقة ؟

ـ إنه عنين.." ص 270 ،271

 إلا أن النهاية المحتومة لكل تلك العلاقات تأتي بما لا تشتهي المرأة التي تخلت عن أفعوانيتها، أو تظاهرت بذلك، ليضع السارد نهاية لسرده/ معاناته المريرة مع كل تلك الصور التى توالت على عقله المجهد، والتحولات الساحرة التي مست جوهره وهزته هزا في إحالة إلى الإنسان بصفة عمومية إنسانيته، في علاقته مع رموز الحياة والقرار، حيث معنى الوطن الذي يتحور مع تحورات الكيان المحتوي لكل العلاقات أو  المرأة/ رقية التي لا ترتقي أبدا إلا إلى ما يروي ظمأ تعطشها إلى الاستعباد كما يقول في مختتم سرده:  "كنت أخشى أن أتداعى أنا الآخر أمام مغريات وعوالم  لا تغيب عنها الشمس، لأني كنت أعرف القليل عن نفسي!، ومن هذا القليل أعرف نقطة ضعف كبيرة ـ عبودية اللذة ـ وكان ارتباطي بها لا يعني سوى فقدان حريتي..  ذبنا نقاشا وميوعة وتداعيا وشرابا، كم مضى علينا؟ .. ماذا فعلنا؟ كان هناك ضباب وسعادة يهومها الخيال، لكني أصررت ـ وفي حالة لا شك فيها من الثمالة شديدة ـ أن تكون أخر ليلة لنا معا" ص272

هنا مع النهاية أيضا يرتبط الحس الغيبوبي الغارق في العشق، بنوع آخر من الإصرار على التمسك بالانفلات من أسر التجربة، تجربة معايشة وطن متنقل، يريد التحول إلى وطن ثابت تقر به عين المعشوقة التي تحولت إلى رمز للسكينة، والود والأريحية، لكنها لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع طباع الباحث عن وطن بديل، وإن كان هذا الوطن حضن امرأة تحركه نحوها اللذة، لكنه لا يجبره على الرضوخ لقوانين غريبة عما يتأصل بداخله، فيأتي الرفض السافر، دالا على الإصرار على جلد الذات المتجذر في ذات السارد، المرتبط بذاك الحس المأساوي لغيبوبية الاغتراب بمعنييها الحسي والمادي على حد السواء.

تغلِّف الرواية تقنيات سردية تتناغم مع لغة سرد شفيفة أحيانا، دالة غالبا، ومحملة برموزها الخاصة والملتفة في أغلب الأحوال في جمل مخملية تعانق اللغة الشاعرة، وتحلق مغردة في فضاءات النفس والشعور.. وتتجلى سماتها في المواطن التي تستبطن لواعج الذات المطروحة على العام.  فهل ما زالت أرض اغتراب السارد، الجنة التي يحسده عليها آدم؟! .. وهل مازالت ثمار تلك الجنة هي رمز المرأة التي قد تتحول في بعض أحوال إلى حضن وطن؟!!

 

أديب وباحث مصري

Mohamadattia_2003@yahoo.com

* محمود سعيد.. روائي عراقي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.