في نصه الروائي (عتبات البهجة) – الصادر عن دار الشروق بمصر 2005 – يؤول إبراهيم عبد المجيد أشياء العالم، والشخوص، والدوال الفنية، والأمكنة، ومكونات الوعي من خلال البهجة الإبداعية؛ وهي حالة تتداخل – بشكل رئيسي – مع مآسي الواقع، وسطوة الحتميات، والاندماج في الأداء المختلط بأحلام المرح في آن واحد. ليست البهجة الفنية معزولة – إذا – في سياق الحلم، ولا تشكل رؤية كلية للعالم ؛ فالبطل/السارد يعي حالات التهميش، والانهيار، والعزلة، والألم المتواترة في السياق الواقعي، ولكنها تتصل أيضا – بشكل خفي – بوهج المرح، والرغبة السرية في ولوج التجربة المأساوية نفسها، ولكن من زاوية حلمية بهيجة لا يمكن فصلها عن الفعل، أو الأداء. إن الفعل يقترن – في كتابة إبراهيم عبد المجيد – بالصيرورة السردية الإبداعية التي تضع الإنسان دائما على حافة التحول، والاكتشاف المستمر للطاقة الحلمية في علامات الكون، والشخوص الفريدة، والتجارب المتجددة التي تطرح نفسها في الطرقات، والأحاديث العابرة، والأخيلة، والذكريات.
إن السارد يحاول أن يجعل من طاقة الحلم الخفية مادة للعمل، والانتشار النصي لها كتجارب تمتلك قوة الحضور المادي، وتستبدل أصلها الخفي الأول داخل الوعي، وخارجه.
و قد اقترنت البهجة في الذاكرة الجمعية بصورة أبولو التي تعزز من البناء الجمالي، والنبوءات، والنور، ثم تطورت لدى فريدريك نيتشه في دراسته لمولد المأساة اليونانية ؛ فقد رأى أن كلا من الأبولونية، والديونيزية – نسبة لديونيسيوس – تمثل قوة فنية جمالية في نسيج المأساة التي تجمع بين النبوءة، والجمال، وتغييب الذات معا.
ومثلما لا يمكن فصل البهجة عن الغياب عند نيتشه، فإن تصور إبراهيم عبد المجيد عن البهجة يأتي دائما في سياق انحراف الآلام، والمآسي، والأحداث العبثية عن مسارها البنائي، أو تناميها في النص الروائي بصورة واضحة ؛ فقد تناول النص شخصيتين تنامت آلامهما بصورة غامضة، ومختلطة ببهجة خفية ؛ هما دنيا التي اقترنت بأحاسيس الحب المتحرر في وعي البطل/ أحمد، وانتحرت دون سبب واضح، وكأن السارد يقاوم اكتمال مأساتها في النص، ويخفي الوظائف السردية التي تعزز من اكتآبها لصالح أحلام البهجة، وأساطير الخصوبة، وكذلك العقيد عباس الذي يكتفي السارد بالإشارة إلى صمته، أو هروبه من بعض الضحايا بينما يعزز وجوده في الحديقة من بناء الخبرات الإبداعية في وعي كل من أحمد، وصديقه حسن. هل ينبت التكوين الجمالي للشخصيات، والأماكن من مرح أسطوري غامض يقاوم الآلام، والموت بصورة غير واعية ؟ أم أن الألم يفتقد حالة الاكتمال المثالي دائما لصالح التحولات الفنية، والكونية البهيجة؟
يقوم نص إبراهيم عبد المجيد – إذا – على قراءة تأويلية فريدة للذات، والآخر، والعالم تقوم على التحويل المستمر للمادة الواقعية إلى جذورها الجمالية، وما يمكن ان تنتجه من أحلام مرحة، ومتجددة في الوعي بحيث تقاوم إمكانات التلاشي، أو الغياب الكامل. ويختلط التفسير المرح المنتج بواسطة الوعي في النص بوهج فعل الاكتشاف الذي يمارسه كل من أحمد/ البطل، وصديقه حسن ؛ إذ يقفان دائما عند مساحة منح السعادة للآخر، أو اكتشافه في حلم البهجة الكامن في اللاوعي. ويمكننا رصد ثلاث تيمات رئيسية في (عتبات البهجة)، تتولد جميعها من تلك القراءة الفريدة؛ وهي:
أولا: تكوين الخبرات الإبداعية من الأحداث، والتكوينات البسيطة.
ثانيا: البهجة، والفراغ.
ثالثا: الصيرورة الفنية للمكان.
أولا: تكوين الخبرات الإبداعية من الأحداث، والتكوينات البسيطة:
يقف كل من أحمد، وحسن عند المستوى الإبداعي من الرؤية في سياق معاينة الشخصيات، والأشياء، ولا يتعمقان في التواصل الواقعي إلا عندما يمنحان شخصا ما بهجة مادية، أو حوارية، وكأنهما يقاومان عمليات العزلة الحتمية، والتهميش، وآلام الضرورة، والحاجة المتراكمة على الشخصية ؛ فهي استثناء مضاف للمنبع الجمالي بوصفه أصلا تكوينيا في العالم، وعلامات الحياة فيه.
إن الشخصيات المتواترة في النص؛ مثل بائعة الشاي، وابنتها سعيدة، وبائعة الحلوى، وزوجها، وبائع الورد، والعقيد عباس، وأبي صفيحة، وغيرهم تنتشر في المجتمع، ولكن النص يقدمها لنا في مسافة شعرية ترتفع عن مركزية الجذور الاجتماعية، وتتحد ببهجة البساطة الأولى التي تقاوم احتمالات الغياب، أو تحولها إلى حكمة مرحة تتجاوز النهايات دائما، وتؤجلها. يعاني أحمد من بعض المشكلات الصحية، ويقوم بعمل فحوصات طبية، ولكن تلك المشكلات تذوب في فعل المشي، والتنزه في الحديقة الصغيرة مع صديقه حسن، ثم تتسع الإشارات السردية التي تحول المرض إلى طاقة متجددة للحياة في مستويين دلاليين ؛ هما:
أولا: ولوج التجارب الإنسانية البسيطة، والانخراط في تأويلها إبداعيا، ومن ثم تتجدد وظائف الاتحاد بالآخر في الأحلام البهيجة التي ينتجها الوعي بوصفها تكرارا جماليا لحدث الحياة المناهض للألم.
ثانيا: أحاديث حسن المتكررة عن الأعشاب، وفوائدها ؛ مثل الكركديه، والدوم، والقرفة بالزنجبيل، والشاي الأخضر، وخل التفاح، والبصل، والثوم، وفول الصويا، وغيرها حتى تتضاعف كميات الأعشاب، وأنواعها عند زيارتهما لطبيب الأعشاب، وصيدليته الغنية.
لقد قام السارد بعملية إحلال تدريجي لدوال الأعشاب في موقع المرض ؛ ليظل في حالة عدم اكتمال دائما. الأعشاب تستدعي النور، والشفاء مرة أخرى من اللاوعي، وتولد رغبة مستمرة في تكرار حدث الحياة، وتجدده ؛ إذ تتحد بالبناء، والعودة إلى مرح البدايات، والاكتشاف الخيالي الأول لعناصر الكون.
* أطياف سعيدة/
تتحول سعيدة/ ابنة بائعة الشاي التي تعاني من التهميش، وضرورة الإنفاق على ابنها إلى مصدر للبهجة في وعي حسن، وكأن تكوينها الجمالي البسيط ينتج أطيافا للحب، وتجدد الحياة، وأخيلة تقاوم حضورها الواقعي، أو تنتصر عليه.
لقد اخترق صوتها وعيه كطيف إبداعي يشبه ما كان يراه صديقه أحمد في ساعات القراءة حتى تستبدل جسد زوجته، وتهيمن على منظوره للعالم.
لقد تحررت شخصية سعيدة من قيودها الحتمية، وأصبحت طاقة إبداعية مجددة لحلم البهجة القديم في وعي حسن ؛ فقد تحول تأويله لبساطتها إلى خبرة إبداعية لا زمنية تتجاوز الحدود، والحتميات الظاهرة.
* حضور بائع الورد، واختفاؤه/
يؤول السارد بائع الورد كأثر جمالي يجمع بين الحضور، والاختفاء. إنه يشبه روائح الورد التي تنتشر، وتتلاشى بسرعة في الطريق المزدحم، وكذلك خوف الرجل المستمر من المطاردة.
و توحي بساطة تكوين الرجل، وملبسه، وكذلك اقترانه ببعض أنواع الورد ؛ مثل الورد البلدي، والزنبق، والفل، والقرنفل، والياسمين بوجود حلمي آخر يخترق الواقع، ويفكك صلابته المادية من خلال فكرة الأثر، وأخيلته، وتحولاته ؛ فقد بنى حسن حديقة في وعيه ؛ ليمنح بائع الورد بهجة، ويستمد منه انتشارا للأثر الجمالي داخله، وخارجه.
* أبو صفيحة، واستباق البهجة /
أبو صفيحة من الشخصيات التي تجمع بين البساطة الشديدة، والعمق في النص ؛ إذ إنه ممعن في الهامشية، ويعاني من الفقر المالي، ولكن بساطته تضاعف من الإحساس بوهج البهجة حتى يستبقها في وعيه حين يرى نفسه تاجرا للكلاب عقب منح حسن له الكلبين، وعشرة جنيهات.
إن تكوينه الجمالي يفجر البهجة ؛ إذ يستبقها، ويؤجل اكتمالها في الوقت نفسه ؛ ومن ثم يكشف تلك المسافة الجمالية للسرد الروائي في النص، وهي التحول باتجاه البهجة الأولى دون تحقق كامل، أو توغل في اتجاه المآسي الواقعية أيضا.
ثانيا: البهجة، والفراغ:
في هذا المستوى الدلالي من النص تتنامى أحلام البهجة بقوة فيما وراء الغياب، ويحتل الإيروس موقع الموت، وتتصارع صور الفناء، والبهجة المتطرفة في الوعي، واللاوعي، وكأن الفراغ ينتج صورا نصية متضاعفة لا يمكن السيطرة عليها، أو إعادة تشكيلها مرة أخرى بصورة إنسانية ؛ لأنها تستعيد حدث الحياة الأكبر من نشوء الوعي الشخصي، أو المعرفة بالآخر.
و قد بدا ذلك واضحا في تداعيات الصور في وعي أحمد أثناء عزاء دنيا، وتحققه الأكيد من موتها ؛ إذ رأى امرأة عارية تجري نحوه في الصحراء، ثم توحد بها، وصارا شعاعا يدور بسرعة، ويعبر المدن، ويكشف عن نساء عاريات، وموسيقى، وورود في الشوارع.
هل اكتسبت البهجة قوة الاختفاء الكامنة في الموت، وحولتها إلى امتلاء إيروسي مضاد ؟
أم أن الفراغ بحد ذاته عودة متطرفة لحلم البهجة، والخلود ؟
إن اتساع الصحراء يفكك مدلول الموت؛ لأنه يختلط باتساع الذات في اللاوعي، وتبدو الموسيقى، والورود هنا كاحتفال أسطورة بخصوبة بهيجة، أو عودة لانهائية لحدث الحياة المجرد من المآسي، والألم.
ثالثا: الصيرورة الفنية للمكان:
الحديقة الصغيرة الهامشية التي تقع وسط الازدحام، وقسوة المادة من أهم مصادر البهجة في النص الروائي ؛ فهي موقع توليدي للخبرات الإبداعية، ووسيط نصي مؤثر في تحول الأشياء باتجاه البهجة، ويجمع التكوين الجمالي للحديقة بين ثلاث مستويات من التحول ؛ هي جذبها الخفي للشخوص، والتكوينات الفريدة، واختلاط الواقع فيها بعملية البناء الجمالي الأسطوري للشخوص، ثم ولوجها الكامل لحلم البهجة الأول دون أن تفقد شخصياتها البساطة الواقعية.
لقد صارت الحديقة في وعي أحمد موقعا للمرح، والتعاطف الكوني، والفني بين الورود، والموسيقى، والنور الذي يرتد بقوة للطاقة الأبولونية الفنية في النص، وكأنه في يوم عيد؛ فثمة فرح، ومهرجانات، وثياب جديدة ترتديها سعيدة، وأمها، وبائعة الحلوى دون أن تتخلى عن البيع. أهو إغواء حلم الخلود؟ أم أن طاقة البناء الفني فجرت المكان في النص، وكشفت عن آثاره الافتراضية الخفية؟
لقد اكتسبت الحديقة الطاقة الكامنة في فعل الكتابة نفسه عند إبراهيم عبد المجيد؛ إذ استسلمت لإغواء التحول، والانخراط في الأداء الجمالي الذي يجمع بين البساطة، وعمق التأويل.
هامش:
(Read – Nietzshe – The Birth Of Tragedy – Translated By Ian Johnston – Malaspina University – College 2000 – p. 13 , 14).
كاتب من مصر