تعود مجلة الكلمة لنشر فصل «تعريف الحسن» المقتبس عن (كتاب النجوى في الصناعة والعلم والدين) لمؤلفه يوسف جرجس شلحت. وهو من أوائل القراءات العربية الواعية فلسفياً لمفهوم علم الجمال واستقلاليته عن غيره من العلوم النقدية.

تعريف الحسن

يوسف جرجس شلحت

إعداد وتقديم أثير محمد علي

 

 

 

في العام الأخير من القرن التاسع عشر، نشرت مجلة "الضياء"، التي أصدرها ابراهيم اليازجي في مصر سنة 1898، مقالة تحمل عنوان "تعريف الحسن"، وهي عبارة عن فصل مقتبس من "باب الصناعة" في "كتاب النجوى في الصناعة والعلم والدين"، والذي كان مؤلفه الخوراسقف يوسف جرجس شلحت (1867-1928) بصدد كتابته، إلى أن ظهرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1903.

يندرج فصل "تعريف الحسن" ضمن أوائل الدراسات في الحداثة العربية، التي تنبهت إلى أن الجمالي مرتبط "بالألفة البشرية" و"الهيئة الاجتماعية"، وميزت بين الدراسة النقدية المرتبطة بمعايير وقوانين وشرح الظاهرة الجمالية، وبين الدلالة الفلسفية للموضوع الجمالي.

ومن الواضح أن فصل "تعريف الحسن" كان قد مهد في الثقافة العربية الطريق للنقاش، وإن بشكل غير مباشر، حول استقلال الموضوع الجمالي وخصائصه عن اللاهوت والأيديولوجيا كمرجعية متعالية، رغم شهادة وآراء رجال الدين فيه، ولمح لارتباط كونيّة موضوع الحسن، كنشاط إنساني، مع تاريخ الجمالي والتأويلات الفلسفية له شرقاً وغرباً.

ينطلق فصل "تعريف الحسن" من التساؤل الجمالي، ليبين صعوبة حسم معنى الجمال وتقديم تعريف جامع شامل له، ويعقد صلته مع نسبية الذائقة. 

كما هو معروف ظهر علم الجمال في منتصف القرن الثامن عشر كنتيجة لتبلور مفهوم الفنون الجميلة واستقلالها الذاتي ومحايثتها للجميل وفكرة الجميل. وبالتالي فعلم الجمال مرتبط أساساً بتاريخ الأفكار والمواقف التي تناولت الموضوع الجمالي. رغم ذلك فإن مقاربة الجمال متأصلة مع الوجود الإنساني، إلا أنها في العصور السابقة على عصر التنوير كانت مقاربة نفعية أخلاقية (Ethics)، فمنذ الإغريق ساد المثال الأعلى للجمال-الخير (Kalokagathia) ومفاهيمه الكلاسية كالجمال الخارجي المجرد، الانتظام، التماثل (السيمترية)، الانسجام، التساوي، الوحدة، التناسب.. الخ.

من جهته، يؤكد الأديب الحلبي الخوراسقف شلحت على التباين والاختلاف في المواقف والمذاهب الفلسفية التي تناولت موضوع الحسن، وربما كانت إشارته إلى سمة الغموض والإبهام في الدراسات الفلسفية الألمانية كانعكاس لموقفه النقدي المحافظ تجاهها. فهو أميل في تناوله للجميل والجمالي للرؤية الكلاسية التوفيقيّة، التي تعقد الصلة ما بين الوحدة والحق والخير المستمدة من مفهوم المطلق المتافيزيقي، وبين العقل والإدراك والفهم والتأمل والصنعة. بتعبير أخر هي محاولة للقول أن لا تناقض بين جمال الحق/ الله وجمال العقل. أي أنه رغم وعيه ودخوله باب علم الجمال في عصره، فإنه عاد وخرج من باب الجمال-الخير الكلاسي، ولم يستطع يجعل الجمال مستقلاً عن الخير وعن الحقيقة، ولا أن يصل إلى أن موجوداً يمكن أن يكون جميلاً وشريراً أو مزيفاً. ولكنه ترك تنويها لهذه الفكرة في الهامش (4) حين اقتبس قول لأبي حيان التوحيدي ما نصهُ "كل خير حسن وليس كل حسن خيراً".

ولد يوسف جرجس شلحت في حلب لعائلة سريانية، تلقى تعليمه في مدرسة الرهبان الفرنسيسكان، بعدها انتقل إلى مدرسة عينطورا في لبنان. عمل في حقل التدريس، ومن ثم انشأ مدرسة الترقي لتدريس الذكور والإناث في حلب. كما عمل في الصحافة فحبر للمجلات والصحف العربية، إلى أن أصدر مجلته "الورقاء" الحلبية التي داومت على الصدور مدة ستة أشهر. خلال الحرب العالمية الأولى أقام في مصر، ثم قفل منها راجعاً إلى سورية حيث عمل في المجمع العلمي العربي بدمشق.

من مؤلفاته نذكر العناوين الدالة التالية:

- كتاب النجوى في الصناعة والعلم والدين (بيروت، 1903).

- الكون والمعبد أو الفنون الجميلة والكنيسة (بيروت، 1907).

- نخبة من أمثال فنلون (حلب، 1910).

- قلادة الذهب في فرنسا والعرب (؟).

- أطباق من ذهب في أمثال حلب(؟). 

 

تعريف الحُسن

هو عنوان فصل من مؤلف جديد يعرف بكتاب النجوى تأليف حضرة العلامة الفاضل الخوراسقف جرجس شلحت السرياني الحلبي موضوعه "الصناعة والعلم والدين" أودعه من المعاني الفلسفية في هذه الأغراض الثلاثة ما تستنير بمشكاته الأذهان وتتحلى بدرر ألفاظه الآذان، وقد رأينا أن نطرف القرآء ببعض ما انتهى إلينا من شذراته الرائقة، تعريفاً بما تضمنه هذا السفر الجليل قبل بروزه وتشويقاً لنفوس المطالعين إلى الظفر بمخبآت كنوزه. والفصل المذكور من "باب الصناعة" أوردهُ في صدر مباحثها، وأفتتحه بأبيات من نظم صاحب هذه المجلة كانت قد نشرت في مجلة الأجيال المشهورة. وهذا نص الفصل قال أعزهُ الله:

وقائلٍ صِفْ لنا ما الحسـنُ قلت له**** هـذا الذي ليس للتعريف فيهِ يدُ

لا يجهل الحسنَ ما بين الورى أحدٌ**** وليس يعلـم منهـم كنهَـهُ أحدُ

سـرٌ يلـوح ورآءَ الحِسّ مرتسماً**** في النفس وَهوَ عن الإدراك منفردُ

لكن ترى العينُ منهُ شـكلَ حاملهِ**** وإنمـا حظُّها مما ترى الجسـدُ

يا نفس أن الحسن لموضوعٌ عامٌ تلهج به ألسنة الخلق في كل أينٍ وآن. فكثيراً ما تسمعين في الهيئة الاجتماعية أصواتاً مرتفعة طوراً، تسلب الحسن عن أشيآء، وتارةً توجبهُ لأشيآء، كأنها محيطة لأصوله وفروعهِ ومبادئهِ ونتائجهِ.

وترين بين القوم واحداً متولّهاً مشغوفاً لدى إنعامه النظر في عجائب الطبيعة ومحاسنها. وآخر مرتاحاً مسروراً بخصال زيد المحبوبة، ومشمئزّاً نافراً من خلال عمرو المكروهة. وآخر حائراً مدهوشاً عند إذ يسرّح سوام الطرف في صرح شاهق البنيان، ويجيل قداح النظر في دميةٍ أو صورةٍ شائقةٍ للعيان. وآخر مقشعراً مستنكراً حين إذ تطرق أذنيه ألحانٌ متدافعة ليست من الإيقاع في شيء، أو أشعارٌ متوعّرة اللفظ قلقة التركيب مستهجنة الأساليب. وآخرَ مستبشراً أثنآء استماعهِ خطبة أنيقة العبارة رقيقة المعنى رشيقة الإشارة دقيقة المبنى. وفي الجملة فلا ترين أحداً أياً كان من أفراد الأُلفة البشرية إلا يشعر بالحسن والقبح مميزاً بينهما في الخَلق والخُلق، والصناعة قاطعاً بهما سلباً أوإيجاباً كأن الحسن حقيقةٌ صريحة لا خفآء فيها.

بيد إنكِ إذا سألتِ أولي الذوق والذكآء من أولئك اللاهجين بالحسن عن أصلهِ، وماهيتهِ، ورسمهِ، وحدّهِ يعودون أحير من ضبّ، بعضهم يتلعثم، وبعضهم لا يحير جواباً، كأنهم بلسان الحال يقولون مقال القيصريّ(1): "الحسن شيءٌ يُدرَك بالذوق ولا يُوصَف" أو يتمثلون بقول الشاعر(2):

 شيءٌ به فُتنَ الورى وهو الذي**** يدعى الجمالَ ولستُ أدري ما هُوَا

وإذا اتجهت إلى الحكمآء منذ عهد أفلاطون إلى هذا العصر، وتصفحت مقالاتهم في الحسن الكثيرة العدد، تُلفينهم في مباحثهم العويصة متضاربي الآرآء متبايني المذاهب. مُعظمهم ولاسيما فلاسفة المانيا ينحون نحو الغُموض في مناحيهم المتناقضة المتفقة على إلقآء أصحابها والمنتحلين لها في خضم الإبهام وهوّة الارتياب.

إذا تبينتِ ذلك، فاعلمي إن الحسن لا يحَدّ على الحقيقة حدّاً وافياً. وقد علم القديس أوغسطينوس السبب في ذلك، فقال ما مفاده "يمكن أن يُحَسّ بالحسن ويُميًّز ويتصور ولا يمكن أن تُوضَح ذاتهُ من حيث أن الجمال كالحق والخير إنما هو الله عينه. ولما كان تعالى لا يمكن أن تُعرَف ماهيتهُ نتج أن الحسن لا يمكن أن تُعرَّف حقيقتهُ". وعليه فكل الحدود التي أتت بها الفلاسفة من قدمآء ومتأخرين هي ناقصة، يدلّ أسدُّها على معناهُ النظري، أو على بعض خواصه أو شروطه، لا على حقيقته وماهيتهِ. وهآءَنذا أورد لكِ هنا حدود لأشهر العلمآء الباحثين في الحسن وأخصُ أقوالهم الشارحة لهُ فأقول:

قال أفلاطون "الحسن ضيآء الحق"(2). ووافقه على ذلك القديس أوغسطينوس ورأى بسامي نظرهِ أن الحسن قائمٌ "بالوحدة المقترنة بالتنوُّع".

قال "إن الوحدة هي صورة الحسن وذاته في كل جنس"، وأخذ أخذهما لامِناي فقال "الحسن في ذاته إنما هو مظهر الحق"، وقال هاجل "الحسن إظهار التصوُّر حسيّاً".

وكأن هذا التعريف وتعريف جُفْروَي واحد وهو "الحسن مجلى غير المنظور في المنظور". وقال شالِنْج "هو غير المحدود في المحدود" وقال كَنْط "الحسن ما يُعجب الخيال دون أن يضادّ شرائع العقل".

وقال ابن سينا "جمال كل شيء وبهآؤهُ هو أن يكون على ما يجب لهُ". وحذا حذوهُ الغزّاليّ حيث قال "كل شيءٍ فجمالهُ وحسنهُ في أن يحضر كماله اللائق به الممكن لهُ. فإذا كان جميع  كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فلهُ من الحسن والجمال بقدر ما حضر".

وقال وُلْفْ ما مفاده "ما يُعجبنا يسمى حَسَناً وحسنهُ قائم بالكمال، وهو يروقنا بقوّة ذلك الكمال المتَّسم هو بهِ". وعلَّم الفيلسوف تبعاً لسقراط هذا المبدأ الجليل وهو "لا حَسَن إلا ما كان خيراً"(4). ووافقهما عليه آبآء الكنيسة فقال القديس امبروسيوس "الجميل ما كان صالحاً"، وكذا قال القديس ريونوسيوس واقليميس الاسكندريّ. وسأل نفسهُ القديس غريغوريوس النيصيّ قائلاَ "ما الحسن" وعقب مجيباً "ما كان من كل وجه جيداً شهيّاً".

ولقد أحسن شمس المدارس إذ قال "إن الجميل والخير متحدان بالذات لابتنآئهما على شيء واحد أي على الصورة، ولهذا يوصف الخير بكونه جميلاً. ويقال جميل لِما يُعجب الناظر إليه، فهو قائم بالتناسب المقتضَى". وقال في محل آخر وما أجلّ قولهُ "يكون الشيء حَسَناً حين إذ تتألق صورتهُ في خلال مادةٍ كل أجزآئها متناسبة".

وقال السيد بوسُوِت "الحسن إن هو إلا تناسبٌ أو مساواةٌ أو بالأحرى نوعٌ من الوحدة"، وقال أيضاً "هو النظام المرئيّ". وقال هتْشازون وتبّاعهُ ما ملخصهُ "الحسن تصوّرٌ تنشئهُ في أنفسنا أشيآء والشيء إذا كان على الحقيقة حَسَناً يكون ذا خيريّة وصلاح وحسنهُ قائمٌ بالمساواة والتنوّع". والأشياء المتساوية كلما كانت أكثر تنوعاً ازدادت جمالاً وسطوعاً. والأشياء المتنوّعة كلما كانت أكثر مساواة ترقت في مدارج الحسن والبهآء". وقال مَرْمُنْتال قولاً شارحاً عاماً سديداً وهو "الحَسَن كل ما يحوي في ذاته ما يُولِدُ في العقل تصوّرَ التناسب".

وعلى الجملة فإن الحسن إنما هو الوحدة والحق والخير والكمال والنظام ساطعةً أنوارها ومشرقةً أضوآؤها بين مظاهر الوجود منوّرةً للعقل مخاطبةً القلب مسترقةً الإرادة مؤثرةً في المصورة وسائر القوى الباطنة مدهشةً الإنسان وخاطفةً بَصَرَهُ وبصيرتهُ. يسمع وينظر، فيُدرِك ويفهم، فيحبّ ويعجب طائراً على أجنحة النجوى، ناسياً نفسهُ في بحبوحة التأمل والإنجذاب والتنعُّم. وهنا يجدر بي أن أُورد لكِ ما أتى به في هذا الصدد الخطيب الخطير الأب لاكُرْدار جاعلاً مقاله مقامَ ختامٍ لهذا الفصل وذريعة تخَطٍّ إلى الفصل التالي. قال "الجمال ظهورُ الوجود في النور والنظام والعظمة والجودة وهي صُوَرُ نورِ ونظامِ وعظمة وجود الله".

(الضياء، القاهرة، مجلد سنة 1899-1900)

 

الهوامش

(1) في شرحه تائية ابن الفارض. ورد في المثل السائر لابن الأثير ما نصه "شيئان لا نهاية لهما البيان والجمال".

[1](2) روى شهاب الدين الحلبيّ في صناعة الترسل قول الشاعر على هذه الصورة:

شيءٌ بهِ فتن الورى غيرُ الذي**** يدعى الجمال ولست أدري ماهوا

بنآءً على أن الجمال في البيان لا يدعى جمالاً، وإنما الجمال في الإنسان والبيان. أما أنا فعلى مذهب الفلاسفة القائلين بأن الحسن اسم مشترك مشاع بين الفصاحة والصباحة، يصدق على كل ما أعجب الناظر، وخفّ على السمع وأبهج الخاطر، وامتزج بالطبع في الخلق والخلق والصناعة. ولذلك أوردتُ البيت في المتن مما أوردتُ وتطاولتُ على صاحبهِ وأوجبتُ ما نفى وعكست ما عكست ومن ذاق عرَف ومن طالع هذا الفصل أنصف. 

(3)  بعض المحققين يعزون هذا التعريف إلى أفلاطون، وبعضهم إلى بلوتينوس، وبعضهم إلى القديس أوغسطينوس. وفي حكمي أن نسبته إلى أفلاطون أصحُ من حيث أن له عليهما فضل التقدم في البحث عن الحسن، وهما نسجا على منواله في ذلك والله أعلم.

(4)  جآء في كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي ما نصهُ "كل خير حسن وليس كل حسن خيراً". ولكن الحسن حق الحُسن ينبغي لهُ أن يكون خيراً.