لاشك في أن الأدب السوداني مظلوم في الساحة الأدبية والثقافية العربية، ولايحظى بما يستحقه من متابعة واهتمام وتحليل. فقد استنامت تلك الساحة لعقود لدعة أن الاعتراف بقيمة الطيب صالح الكبيرة يغنيها عن التعرف على أي انتاج آخر لهذا البلد العربي الكبير. وكأن الاهتمام بهذا الكاتب الكبير والتركيز عليه يبرئ إبراء ذمتها من السودان على حساب غيره من كتاب السودان ومبدعيه. لكن الحركة الثقافية العربية اكتشفت الطيب صالح في الستينيات من القرن الماضي، وقد جرت في نصف القرن الذي مر منذ ذلك التاريخ مياه كثيرة تحت الجسر لم يسع أحد لسبر أغوارها. لذلك سعدت كثيرا باختيار رواية (صائد اليرقات) للكاتب السوداني المرموق أمير تاج السر ضمن القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية هذا العام، برغم تحفظاتي الكثيرة والمعروفة على تلك الجائزة. فهذه هي المرة الأولى التي تختار فيها الجائزة رواية سودانية، بالرغم من صدور الكثير من الروايات السودانية المدهشة في الأعوام الأخيرة. أذكر منها على سبيل المثال (سن الغزال) لصلاح حسن أحمد، وهي رواية مدهشة وكبيرة بأي معيار من المعايير، كانت جديرة، لو كانت تلك الجائزة في أيد أمينة ونزيهة بالفوز بها، أو بغيرها من الجوائز الكبرى قبل عامين. وهناك أيضا رواية (أحوال المحارب القديم) للحسن بكري، و(توترات القبطي) التي صدرت في العام الماضي لأمير تاج السر نفسه والتي سأشير إليها بعد قليل. لكن تلك قضية أخرى كما يقولون.
(1) مسيرة طويلة وثرية:
و(صائد اليرقات) هي الرواية العاشرة لأمير تاج السر، وحينما أقول الرواية العاشرة، فإن من الواضح أننا نتحدث عن مسيرة أدبية طويلة وجادة بدأت منذ أكثر من عشرين عاما حينما أصدر روايته الأولى (كرمكول) عام 1988 وتواصلت حتى اليوم، بهذه الرواية العاشرة. وكان أمير قد نشر قبلها روايتين أتيح لي أن أقرأهما مؤخرا هما (توترات القبطي) 2009 و(العطر الفرنسي) 2010. خاصة وأنني أعجبت بنصوصه منذ قرأت أول رواية وقعت في يدي له، وهي (سماء بلون الياقوت) وكتبت عنها قبل أكثر من عشر سنوات. والروايتان الأخيرتان، السابقتان على (صائد اليرقات) روايتان مهمتان بكل المعايير، لا من حيث الموضوع الذي تتناوله كل منهما فحسب، ولكل رواية عالمها ومناخاتها المتفردة، ولكن أيضا من حيث نجاح الكاتب في اكتشاف بنية سردية ملائمة لكل موضوع، ومغايرة لتلك التي انتهجها في الرواية الأخرى. والواقع أنني اعتبر روايته (توترات القبطي) من أهم الروايات العربية في السنوات الأخيرة من حيث أنها كانت تنبيها للواقع الأدبي إلى ما تموج به الساحة الإبداعية السودانية من مواهب، وأنتاج جدير بالتوقف عنده والاهتمام به، وإلى أهمية هذا الكاتب السوداني والأدب السوداني من ورائه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها رواية تتناول موضوعا بالغ الأهمية، وهو موضوع هجمة التخلف والتأسلم الكاسحة، لم يتناوله السرد العربي بهذا العمق والاقتدار منذ رواية عبدالحكيم قاسم القصيرة الرائعة (المهدي). لذلك كان من الضروري، وهو أمر لم يحدث للأسف، أن يهتم الواقع العربي الأوسع بهذه الرواية وأن تلتفت إليها الأنظار، لأن أمير تاج السر استطاع أن يدق فيها نواقيس الخطر، وأن يحيلها إلى استعارة شفيفة للواقع العربي برمته، بل للمشهد الإنساني الأوسع الواقع في براثن الأصولية والتعصب. ومن البداية يحذرنا الكاتب من أن «هذا النص رواية وليس تاريخا .. لذا لزم التنويه». وهي بالفعل رواية وليست تاريخا، لأن أي تأريخ للحركة المهدية التي تستند إليها أحداث الرواية بشكل واهن، ما كان باستطاعته أن ينفذ إلى جوهر هذه الحركة بتلك القدرة على التأثير، وأهم من ذلك إن يحيلها إلى أمثولة للخراب الذي يؤذن به صعود مثل تلك الحركات التي يملك أصحابها، بسطوة الجهل ورهبوته، أعنة الحقيقة المطلقة، واليقين الذي لايأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه.
فنحن هنا بأزاء رواية تكتب لنا من خلال توترات هذا القبطي السوداني، «ميخائيل» الذي أصبح اسمه بعد إجباره على الدخول في دين الإسلام عنوة «سعد المبروك»، كل توترات اللحظة الحضارية المعاصرة التي يعيشها عالمنا العربي أمام زحف الخراب الحثيث على كل ما كان به من آثار تحضر ومدنية قديمة. رواية استطاعت أن تحيل مدينة «السور»، التي يبقيها الكاتب على تخوم شيقة بين الواقع والخيال، إلى أمثولة روائية لما يمكن أن تتعرض له أي مدينة عربية حينما ينفذ فيها حكم «الشرع»، كما تفهمه جحافل الجهلة من أتباع هذا المتقي السوداني، أو أي متق آخر، والممسوسين بلوثة الشبق إلى الحوريات المستحيلات اللواتي يوعد بهن الشهداء، بعدما انسدت في وجوههم كل سبل التحقق في حياة كريمة في هذا الزمن الردئ. وتؤسس الرواية عبر ما جرى لها ما دعوته في مقال كتبته عنها بجنيولوجيا الخراب، التي تكشف لنا عن أن ما قرأناه في الذاكرة القريبة عن ممارسات جبهة الإنقاذ الإسلامي في الجزائر، أو حكومة «طالبان» في أفغانستان، له تاريخ طويل يمتد حتى الحركة المهدية في السودان والحركة الوهابية في الجزيرة العربية. وأن غياب الذاكرة التاريخية في عالمنا العربي هو الذي يتيح لمثل تلك الحركات ان تكرر أهوالها، دون أن يتعلم أحد من دروسها السابقة، ودون أن نتقدم خطوة إلى الأيام.
أن الرواية ـ باعتبارها جنسا أدبيا ديموقراطيا وعلمانيا بالطبيعة ـ هي وحدها القادرة على القيام بإرهاف الذاكرة التاريخية المطموسة، وطرح أهوال الماضي على مرايا الحاضر كي نتعلم منها، ونستوعب دروسها. ورواية (توترات القبطي) واحدة من تلك الروايات الجميلة التي تبتعث الذاكرة التاريخية القريبة، وتجسد بقوة التخييل الروائي والسرد الشيق عالما كاملا من الخراب، يحكمة «نص أباخيت» الرهيب بأميته وأصوليته وعنفه، له آليات تكريس سطوته الداخلية، وبنية اعتماد شخصياته في وجودهم نفسه، ناهيك عن تحققهم، على تكريس تلك الآليات وديمومتها الجائرة. وهي آليات لاتخلو من رياء وفساد، كغيرها من آليات التسلط والحكم، ولكن ما يميزها ـ كما كشفت لنا هذه الرواية الجميلة وهي تكتب لنا دراما الخراب وتدخلنا في قلب جدلياته الأساسية ـ هو غياب العقل، واحتقار الإنسان، والزراية بكل القيم الإنسانية، بما في ذلك أهم القيم الإسلامية ذاتها، من تسامح واستنارة وعقلانية.
وإذا كانت (توترات القبطي) قد كتبت مآسي امتلاك الحقيقة المطلقة وسيطرة الأصولية وآثارها التدميرية على الأنسان والواقع، فإن روايته التالية (العطر الفرنسي) تكتب لنا غواية الغرب المدوخة وتأثيراتها المرضية على واقع عربي يعاني من الفقر والقهر والأفق المسدود. وهي معاناة تدفع شخوصه إلى التشبث بأي سراب يلوح له. حيث تقدم لنا من خلال بطلها علي جرجار، ابن العقدين الأخيرين اللذين انسد فيهما الأفق كلية أمام السواد الأعظم من الشباب، تشبث الإنسان العربي بأي أمل في الخلاص من واقعه الكريه، حتى ولو كان هذا الأمل محض سراب بلقع لايشي بأي شيء. وتكشف لنا عن آليات سيره منوما إلى حتفه وهو يسعى بهذا السير إلى الخلاص من آليات الأفق المسدود الخانقة. وتكشف لنا آليات هذا السحر الغامض الذي يمتلكه الغرب وقدرته المدوّخة على استلاب البطل وتدميره من الداخل بشكل تدريجي يدفع به إلى الجنون.
(2) صائد اليرقات وعتباتها:
وها هي روايته الجديدة تنبهنا إلى خطر آخر من الأخطار المحدقة بعالمنا العربي، ولكن بشكل أكثر مراوغة ومكرا. فبالإضافة إلى خطر امتلاك الحقيقة المطلقة وما جره على الواقع من خراب في (توترات القبطي)؛ أو وهم الاستحواذ على الغرب والوقوع في سحر غوايته في (العطر الفرنسي)؛ ها هي الرواية الجديدة تنبهنا هذه المرة إلى خطر آخر من الأخطار التي تحدق بعالمنا العربي، وتساهم في تدهوره وترديه، ألا وهو الخطر الأمني الذي أصبح أداة المؤسسة العربية التي تفتقد للمصداقية والشرعية معا إلى إحكام قبضتها على الواقع، والإجهاز على عقله النقدي والإبداعي على السواء. فالأمن عندنا لا يهتم بحراسة البلاد أو حمايتها من مؤامرات الأعداء، بقدر ما يهتم بمراقبة عقلها الإبداعي والنقدي حتى يخرسه فتبقى البلاد جسدا مستباحا بلاعقل يحميه. لكن دعنا نتعرف أولا، وبقدر من التفصيل على ما يدور في هذه الرواية.
ولنبدأ بما يسميه إخواننا المغاربة بعتبات النص، وهو من المصطلحات الشهيرة لجيرار جينيت، أحد أهم منظري السرد الكبار. فعتبة النص الأولى هي العنوان (صائد اليرقات) وهو عنوان تناقضي يفتح الباب بداءة للتناقض كمدخل للقراءة. فالصائد عادة يصطاد الفراشات، وليس اليرقات التي لم تتشرنق بعد، ولم تخرج من شرنقاتها الفراشات. لذلك يثير العنوان القارئ بغرابته، كيف ولماذا يصيد الصائد اليرقات؟ وهي غرابة سرعان ما تتبدد حينما نعرف أن البطل رجل أمن عليه أن يقتنص الفراشات وهي يرقات لم تتشرنق بعد، وأن يجهز على الزهور قبل أن تتبرعم أو تتفتح للحياة. وأن يزرع الموت في قلب الحياة، فهذه هي مهمة الأمن في بلادنا، لكن الأمر سيزداد غرابة حينما نجد أنه، وهذا جزء من سحر هذه الرواية وتناقضيتها، قد اجهز على يرقته/ روايته قبل أن تتشرنق حقا، أو تتحول إلى فراشة. فهناك في هذه الرواية النص الظاهر والنشط والذي يقتنص القارئ لأول وهله ويستأثر باهتمامه، والنص المضمر أو المحجوب أو المراوغ الذي يطل على حياء، ويبعث لقارئه بإشارات واهنة توشك أن تكون غير ملحوظة، عليه أن يتتبعها حتى تزداد تجربة القراءة ثراءا.
وما أن نلج العتبة الثانية وهي الإهداء «إلى فيصل تاج السر، وأساطيره وعوالمه الملونة» حتى نستشعر بإن الرواية تريدنا أن نربط عوالمها الملونة بالواقع المحسوس، وأنها توحي لقارئها بأن الكاتب استقاها من عوالم واقعية لا خيال فيها. أما العتبة الثالثة، وهي المقتطف الاستهلالي: «فإن شئت أن تسأل صورتك، في ليلة دافئة، بعينين غامضتين، والسؤال على الشفتين، فلاتبحث عن ذاتك في المرآة: إنه حوار مخنوق، لاتسمع منه شيئا، بل انزل إلى الشارع في بطء، وابحث عن ذاتك، بين الآخرين؛ هنا تجد الجميع، وأنت بينهم.»(ص7)
هذا المقتطف الاستهلالي الذي لا يعزوه المؤلف لأي كاتب محدد، وإنما يمهره باسم «مقطع أسباني» يؤكد التناقض الذي طرحه العنوان. فالإنسان لايتعرف على ذاته في المرآة، كما نفعل جميعا. وهناك نظرية شهيرة لعالم النفس الفرنسي الكبير جاك لاكان، وهو أهم عالم نفسي بعد فرويد، تقول بأن بداية وعينا بذواتنا وتكوين لاشعورنا الواعي بأنفسنا، تبدأ بما يدعوه بمرحلة المرآة، حينما يرى الطفل ذاته لأول مرة في المرآة كآخر يستغربه ويحاوره ثم يتماهي معه. ولكن هذا المقتطف الاستهلالي الأسباني يطرح نظيرا للمقولة اللاكانية ونقيضا لها في آن، حينما يؤكد أن السؤال عن الذات لا جواب عنه إلا في البحث بين الآخرين. حيث يتجاوز هذا الاستهلال الأسباني تبسيطات الأنا والآخر المعروفة، ليطرح الأنا كجزء أساسي من النحن: «هناك تجد الجميع وأنت بينهم!» وهذه العتبة تردنا إلى مقتطف مماثل من روايته الثانية (سماء بلون الياقوت) «سعد الأرباب كان أبا القرية وأمها، أخاها وأختها، جدها وجدتها وأحفادها، كان عائلتها بلاشك»(سماء ص 9) حيث التصور الجمعي للفرد كجزء لا يتجزأ من الجماعة هو الأساس في العالم السوداني وفي ثقافته التحية. فتماهي الفرد في الجماعة، وتماهي الجماعة في الفرد، من التيمات السارية في عالم أمير تاج السر السردي في كثير من رواياته.
بعد العتبات الثلاث ندلف إلى ساحة الرواية التي يبدأ فصلها الأول «سأكتب رواية، نعم سأكتب رواية»، وينتهي فصلُها الأخير، الفصل العشرون، بـ«كان قد فتح المغلف الأبيض. أخرج مجموعة من الأوراق البيضاء مكتوبة بخط أسود أنيق .. واستطعت وأنا على حافة الانهيار أن ألمح على الصفحة الأولى: صائد اليرقات: رواية». وحينما نصل إلى تلك النهاية نكتشف أن تناقض العتبات كان مفتاحيا، لأن من يبدأ السرد بذلك اليقين الذي يؤكده التكرار «سأكتب رواية. نعم سأكتب رواية» ينتهي به الأمر مكتوبا لا كاتبا. لذلك لم يستطع المكتوب إلا أن أن يقرأ وهو «على حافة الانهيار» اسم الرواية الذي تكشف الآن للقارئ تناقضاته. الرواية التي فرغ القارئ بالكاد من قراءتها، فكيف كان ذلك؟
تبدأ الرواية بسرد بطلها التناقضي الذي يحسب أنه الراوي المسيطر بثقة رجل الأمن القديم على عالمه، فنكتشف أنه تحول إلى الموضوع ... موضوع السرد، وليس سارده. هذه الإشكالية التناقضية التي تسري في الرواية كلها هي التي تغنيها بالدلالات وتعدد مستويات القراءة والتأويل. حيث تبدأ الرواية بهذا الراوي المسيطر على روايته، وهو يرويها بضمير المتكلم، ويقول لنا بثقة: «أنا عبدالله خرفش، أو عبدالله فرفار». لنجد أننا بإزاء راو يحمل، على عكس الكثير من الأبطال الروائيين، اسمين لا إسما واحدا كبقية خلق الله. بل إذا أضفنا الأنا للإسمين، سنجد أنه يكرر ذاته توكيديا ثلاث مرات لا مرة واحدة: أنا عبدالله حرفش، عبدالله فرفار. وهو تكرار يكرس بطريقة الرواية التناقضية لا الإثبات وإنما المحو، عملية المحو التي توشك أن تكون هي ثيمة الرواية الأساسية والتي تتحكم جدلياتها المراوغة في مستوى من مستويات السرد المهمة، والتي توشك في عمق الرواية أن تكون هي المهمة الأساسية لجهاز الأمن العربي في كل مكان: محو هوية المواطن، والزراية بكينونته. فالرواية تنطلق أساسا من عملية محو، حينما قررت إدارة الأمن إلغاء عبدالله حرفش، وإحالته للتقاعد بعد أن فقد ساقة في عملية أمنية مضحكة. فأراد أن يقاوم هذا المحو بالإثبات. وهو إثبات تناقضي بامتياز، لأنه حينما يريد أن يثبت ذاته التي ألغتها المؤسسة الأمنية التي أمضى عمره في خدمتها، وتخلت عنه حينما أرتكب أول الأخطاء، يقرر كتابة رواية، وهو أمر يستغربه هو من نفسه قبل أن يستغربه الآخرون. فهو ليس من قراء الرواية، وكل علاقته بالثقافة هو أنه قد راقب بعض المثقفين الملاحقين من أجهزة الأمن وهم يترددون على المكتبات لشراء الكتب، أو تنصت عليهم في المقاهي التي يؤمونها للحديث في شئونهم الثقافية، وشؤون البلاد.
لكن ما جعله يستسهل هذا العمل، أو يتصور على الأقل أن بمقدوره القيام به، هو أنه قرأ في الصحف عن بائع ورد بنغالي في مدينة نيس الفرنسية كتب رواية عن امرأة أفريقية ظلت تتردد على محله عشرين عاما تشتري ورودا حمراء. وتخيل أنها تبعث تلك الورود إلى حبيب ضائع في حرب أفريقية بشعة، فنجحت الرواية وتسلقت قائمة أكثر الكتب مبيعا. كما قرأ عن «بائعة هوى تائبة في سايجون، كتبت روايتين رائعتين عن حياتها القديمة حين كانت نكرة في زقاق مظلم، والجديدة حين أنشأت مصنعا صغيرا لحلوى النعناع، والآن تترجمان إلى كل اللغات، وينبهر بهما القراء.»(ص9) إذن يستطيع عبدالله حرفش/ عبدالله فرفار بناء على تلك المقدمات الواهية كمقدمات أي رجل أمني، يدبج تقاريره الكاذبة، أن يكتب رواية. ويبدأ عبدالله حرفش رحلة البحث عن روايته كي يكتبها. ورواية (صائد اليرقات) في مستوى من مستويات المعنى فيها، هي رواية هذا البحث الذي يكتشف فيه عبدالله فرفار أنه ليس باستطاعة عبدالله حرفش أن يكتب رواية بحق. فكل ما يستطيع كتابته هو تلك التقارير الأمنية الركيكة التي أنفق حياته في كتابتها، قبل الحادث المضحك الأخير، والذي فاجأتهم فيه سيارة أمنية أخرى من جهاز أمني أعلى فانقلبت سيارتهم، فمات سائقها وأصيب زميله (ع. ب) بالشلل الرعاش، وفقد هو ساقه اليمنى حيث بترت في المستشفى العسكري بسبب الغرغرينا. وأصبح الآن يعيش بساق خشبية وحيدا، فهو لم يتزوج وكرس حياته كلها لمؤسسة أسفرت عن عقوقها له فور تعرضه لأول حادث، أو ارتكابه لأول خطأ.
(3) الرحلة وتنازع السلطات السردية:
وسط هذه الحالة الجديدة التي وجد عبدالله فرفار نفسه فيها تبدأ رحلته، ويبدأ بحثه عن كيفية كتابة روايته، فهو ليس أقل من بائع الورد البنغالي، ولا تقل خطاياه عن خطايا بائعة الهوى الفيتنامية. وقد علمنا فريدالدين العطار في (منطق الطير) أن الرحلة ذاتها هي المهمة، وليست غايتها، بالرغم من أن كل رحلة تبدو على السطح وكأنها لا تهتم إلا بغايتها. ورحلة عبدالله فرفار ليست استثناءا في هذا المجال بأي حال من الأحوال.
وتبدأ رحلته بمقهى «قصر الجميز» الذي يتردد عليه الكتاب والمثقفون. والذي تصفه الرواية لنا من منظور عبدالله، أو من منظور رجل الأمن: «اقتربت من مقهى "قصر الجميز" أقدم مقاهي العاصمة، وأكثرها ضجيجا وزحاما، وعرضا للوجوه المشبوهة في نظرنا، ونظر تقاريرنا اليومية التي كنا نكتبها بمتعة غريبة. كانت في الواقع وجوها لكتاب يحتلون مواقع لامعة في الكتابة، وآخرين يقاتلون بحثا عن مواقع تبدو لهم بعيدة المنال: شعراء متأنقون في سراويل وقمصان زاهية، وشعراء حفاة حتى من صنادل ممزقة، صحفيين يائسين، وسياسيين يدخنون ويرطنون ويتصارعون، ويرسمون للناس وطنا غير الوطن الذي نعيش فيه ونعرفه، ونحبه بكل حسناته وعيوبه. ودائما ثمة نساء يتحلقن حول الضجيج. أو يساهمن في خلقه بضحكات كثيرا ما رسمناها على تقاريرنا الأمنية باعتبارها ضحكات أفاعٍ»(ص 14). ولأننا بإزاء رواية تجعل من التناقض مدخلا لسبر أغوار الواقع، فإنها تدلف ببطلها إلى عش الزنابير هذا، دون وعي منه بأنه الطريدة هذه المرة لا الصياد. حتى وهو يبدأ رحلته بمحاولة استدعاء زيارته الأولى لهذا المقهى حينما دخله في بدء حياته المهنية مخبرا «شابا وخشنا ومدربا على استخراج خامات التآمر حتى من نسمات الهواء وأجنحة الذباب وابتسامات الشفاة حين تبتسم»(ص14).
لكنه يدخله هذه المرة بلا تدريب، وقد تبدل المقهى كما تبدل الزمن نفسه، «لم أعثر على أحد من جرسوناته القدامى أمثال عنتر والشفيع ورامبو السريع، إولئك الذين ساهموا في شهرة المقهى وجلب الزبائن فيما مضى، وعثرت على فتيات نظيفات من لاجئات إثيوبيا المحطمة»(ص15). وقد ذهب للمقهى باحثا عن الروائي (أ. ت) فلازال ملتزما بلغة الأمني القديم الذي يكتب أسماء الأشخاص بحروفها الأولى. ومن هو الروائي (أ. ت) إلا روائينا أمير تاج السر الذي يحيل نفسه إلى شخصية داخل روايته منذ الصفحات الأولى، ليكشف لنا عن أننا بإزاء نص واع بنصيته، قدر وعيه بمرجعيته. لكن (أ. ت) في الرواية شخصية روائية بقدر ما هو شخصية واقعية، حيث يدور الحديث حول روايته (على سريري ماتت إيفا) التي نالت إعجاب القراء، وها هي إحداهن من رواد المقهى تصفها بأنها رواية قد شارك الجن في كتابتها، وهي رواية لم يكتبها أمير تاج السر، وليست ضمن أي من رواياته العشر. وإن كان (أ. ت) قد كتبها بل وعرض علينا فصلين منها في الرواية التي أحالت الكاتب إلى شخصية فيها. فازدواجية (أ. ت) الواقعي و(أ. ت) المتخيل في الرواية هي نظير ازدواجية عبدالله حرفش/ عبدالله فرفار.
في هذه الزيارة الأولى نرى كل شيء في المقهى بعين رجل الأمن الذي يتوجس في كل ما يراه، وينمط كل شخص حسب التنميط الأمني له، فها هو يصف الفتاة التي أثنت على رواية (أ. ت) بأنها «كانت فتاة من ذلك النمط المصنف في تقاريرنا الأمنية: فتاة مندفعة يمكن أن تلج خلية نحل بقدميها وهي تدري أنها خلية للنحل.»(ص17) ويراقب كل ما يدور في المقهى بعين مخبر حقيقي لا تفوته أدق التفاصيل، مما جعل المشهد ينبض تحت وقع وصفه له بالحياة والتوتر والاسترابات معا. ويطرح هذا المشهد منذ البداية عملية الجدل بين «الموهومين والموهوبين» وهو جدل يسرى في كل ثنايا العمل، ويتخل كل حبكاته الثانوية، وخاصة تلك المتعلقة بعلاقة الفتاة المندفعة بـ(أ. ت) وبالرواية التي كتبتها وسمتها (لحظة حب) والتي جاءت بها إلى (أ. ت) كي يكتب لها تقديما. لكن المشهد، وبرغم روايته كله من منظور السارد تتنازعه سلطتان سرديتان هما سلطة الراوي /البطل/ عبدالله حرفش/ عبدالله فرفار، وسلطة الروائي الحقيقي والمتخيل معا (أ.ت)/ أمير تاج السر. وهذا التنازع على سلطة السرد هو أحد موضوعات الرواية الأساسية وهو تنازع الأمني والمثقف على صياغة وعي القراء ومنظورهم ورؤيتهم للعالم. ويسفر هذا التنازع عن نفسه منذ هذه الزيارة الأولى، المواجهة الأولى بين المثقف ورجل الأمن. حيث أنه ما أن يفتح عبدالله حرفش فمه، ويسأل الكاتب سؤاله الأول حتى تنقلب علاقة القوى ويسيطر الكاتب على السرد بدلا من الرواي. حيث يعيد تسميه الراوي «يافرفار – حرفش» ويستجوبه ويحيله إلى موضوع فحص الجميع له، بدلا من فحصه هو لهم. ثم سرعان ما يستخف به الكاتب ويسميه «صاحب المحاولات». وما يلبث الكاتب أن يؤكد وهو يشير إلى أن طقوس الكتابة تختلف عنده من نص لأخر، شيئا يتعلق بالكاتب أمير تاج السر، وهو ما أشرت له في مفتتح هذا المقال من تنوع البنى السردية عنده من عمل لآخر. حيث يؤكد على أن مصدر الكتابة هو رديف عمق التجربة وتغايرها(ص21). وأن كل تجربة تفرض طقوسها المختلفة في الكتابة. لكن تنازع سلطة السرد هذا سرعان ما يصل إلى ذروة دالة حينما يستطرد (أ. ت) في الكشف عن طقوس الكتابة / طقوس التجربة، ويقرر أنه كتب بعض نصوصه وهو في كامل أناقته في بهو فندق راقٍ، وبعضها الآخر بعد التشرد في الشوارع والأزقة، وبعضها الثالث في بيت أمونة البيضا التي تقيم الزار للنساء، وبعضها الرابع وهو نزيل في سجن. فيقرر «فرفار – حرفش» الهرب من الجلسة متذرعا بموعد تأخر عنه، خشية ألا يسمع عن رواية كتبها اللامع في واحد من المراحيض العمومية، فيلاحقه صوت (أ. ت) «انتظر ياصاحب المحاولات! سأحكي عن روايتي التي كتبتها في مرحاض عمومي مخصص للمجندين أثناء تأديتي الخدمة العسكرية. إنها واحدة من أفضل رواياتي» (ص 23) فهذا التخاطر الذي ينهي به النص فصله الثاني يرهف جدل التناظر والحوار بين الشخصيتين/ بين السلطتين السرديتين في النص.
(4) الإطار والحكاية .. تراكب الحكايات وتفاعلها:
يوازي التناظر والصراع بين السلطتين السرديتين في النص، تناظرا وصراعا آخر بين الكتابة والسلطة: فالرواية مشغولة بأمرين أساسيين: أولهما هو تفكيك عملية الكتابة بدءا من طقوسها، مرورا بالعلاقة المعقدة بين الكتابة والتجرية، فهذا النص الروائي هو أكثر نصوص أمير تاج السر وعيا بنصيته، بالرغم من انشغال عدد من نصوصه بدرجة أو أخرى بنصيتها. وثانيهما هو اللعبة الأزلية بين الصياد والطريدة/ السلطة والكاتب/ المخبر والمثقف/ الفن والواقع. فإذا ما بدأنا بالأمر الأول سنجد أنه يمكن قراءة الفصول التالية من الرواية على أنها فصول عملية تفكيك الكتابة المزدوجة على صعيدين: صعيد كتابة فرفار-حرفش لروايته، وصعيد كتابة (أ. ت) لرواية كتابة فرفار-حرفش لروايته، أي للروية التي نعرف في الفصل الأخير من الرواية، الفصل العشرين وهو فصل المواجهة بين الإثنين، واستعادة كل منهما لدوره القديم، أنها الرواية التي انتهينا للتو من قراءتها، رواية (صائد اليرقات) وهي لاتزال مخطوطة. لأننا ابتداء من الفصل الثالث، وحتى الفصل الثامن عشر نتتبع خيطين سرديين متوازيين في عملية الكتابة هما خيط بحث فرفار-حرفش عن روايته، وخيط تبلور تفاصيل الرواية التي يكتبها (أ. ت) معا. فالرواية على صعيد البنية توشك أن تكون رواية مؤطرة: تشكل الفصول 1، 2، 19، 20 إطارا يفتحه الكاتب في الفصلين الأولين ويكمله أو يغلقه في الفصلين الأخيرين. وهو الإطار الذي تكشف لنا الرواية فيه عن أسباب لجوء فرفار-حرفش للكتابة وبداية علاقته المغايرة مع الكاتب (أ. ت). بينما تشكل الفصول الستة عشر الداخلية (من الفصل 3 – 18) صلب الحكاية، حكاية الرحلة/ البحث، بحث فرفار-حرفش عن روايته ومحاولة كتابته لها، وبدايات اكتشافه الحقيقية لعالم المثقفين، أو بالإحرى إخفاقه في الكتابة، وعودته مرة أخرى إلى مهنته الأمنية القديم، وقد ترقى فيها لأسباب براجماتية محضة بسبب اقترابه من عالم الكتابة والمثقفين.
وتكشف لنا الحكاية المؤطرة عن رحلة بحث عبدالله حرفش/ عبدالله فرفار عن نفسه أولا وعن روايته ثانيا. فنتعرف على حياته الفقيرة في بيته المكون من غرفة واحدة كامدة «غرفة واحدة مطلية باللون الرصاصي، وصالة ضيقة بلالون، وحمام، وركن صغير استخدمه مطبخا»(ص24). فهو أحد المهمشمين من ضحايا السلطة التي يتفانى في خدمتها، حتى وهو في بيته، بالرغم من أن وضعه الزري بساقه الخشبية لا يستدر غير الشفقة إلى الحد الذي نفحه معه أحد المارة عشرة قروش وهو يردد: «دعواتك! دعواتك ياحاج!»(ص31). ونتعرف على بعض جيرانه من المهمشين مثله: المشجع (ع. د) وهو كبير مشجعي فريق اللبلاب لكرة القدم، ويعمل أيضا حفارا للقبور. فحال فقراء السودان هنا كحال الكثير من البلاد العربية الفقيرة التي إن لم تكن لصا كبيرا فيها، فإنك لاتستطيع مواجهة أعباء الحياة بعمل واحد، ولابد أن يكون لك أكثر من عمل. كما نتعرف على عمته (ث)، وعلى زوجها المدلك الرياضي أو الممثل المسرحي الفاشل الذي يطارد أدوارا لاتجيء. وعلى الترزي الكردفاني (خ. ر) الذي تغيرت معاملته له بعدما عرف أنه خرج من الخدمة، و(ر. م) صاحب مكتبة (أعلاف) الذي تغيرت معاملته له هو الآخر بعد خروجه من الخدمة، وإن بمراوغة أكثر من الترزي حيث يقول له «نعم لست في الخدمة أعرف، لكن دودة خدمتكم لاتموت بسهولة»(ص 35). ويستريب في طلبه رواية (أ. ت) الأخيرة (على سريري ماتت إيفا) لقراءتها، بل يصرخ فيه «ماذا لديك ضد كاتبها؟»(ص 34). وما أن يشتري فرفار الرواية ويأخذها إلى بيته حتى يبدأ في تخليق طقوسه الخاصة، ليست طقوس الكتابة هذه المرة، وإنما طقوس القراءة.
وما أن نصل إلى الفصل الخامس حتى يرتد بنا النص مرة أخرى إلى الفصل الأول، ولكنه هذه المرة الفصل الأول من رواية (على سريري ماتت إيفا). فنجد أنفسنا بإزاء رواية داخل الرواية في نوع من السرد الشهرزادي الذي تتناسل فيه الحكايات من الحكايات. لكن الواقع الفظ لا يتيح للحكايات التناسل بسلاسة، لأنه ما أن يفرغ فرفار من قراءة الفصل الأول من رواية (إيفا) بلغته الساحرة وعوالمه المغوية التي تكشف عن وعي أمير تاج السر بأهمية تعدد اللغات والخطابات داخل النص الروائي، حتى يدق عليه الباب المدلك زوج عمته (ث) بإلحاح يعيده من النص إلى الواقع، ويذكره فيه بأن موعد المسرحية التي يمثل فيها سيحين بعد ساعتين، وأنه لابد من الحضور كي يشجعه، فقد حجز له أحد مقاعد الصفوة. وعلى مقاعد الصفوة يلتقي بالكاتب اللامع (أ. ت) بالطبع وقد جلست إلى جواره الفتاة صاحبة مخطوطة (لحظة حب) تهمس في إذنه بين الفينة والآخرى كلمات. لكن أيا منهما لايعيره انتباها، وينتهي مشهد المدلك القصير في المسرحية، وقد خطط له المدلك بعناية حيث يفضي الإغماء المسرحي إلى أغماء حقيقي، نهاية تاريخية تنهي العرض في تلك الليلة، وتنتهي بالمدلك في المستشفى. بصورة يتحول معها الفصل السادس إلى فصل أول في رواية فرفار، حيث يكتشف عبر ما جرى فيه أن المدلك أصبح هو الشخصية الروائية التي سيكتبها في روايته.
وحينما يعود إلى البيت يعود لقراءة (على سريري ماتت إيفا) لنقرأ فصلا شيقا آخر في الرواية داخل الرواية. لكن الروائي المحنك لا يمضي بنا طويلا في هذا التناوب بين الروايتين، لأن السيميترية البنيوية حيلة مكشوفة لا يقع فيها كاتب موهوب حقا مثل أمير تاج السر، ولأنه يريد أن يدخل بالجدل بين الكتابة والواقع إلى أرض الواقع المترعة بالتناقضات. لذلك كان طبيعيا أن ينتهي فرفار من قراءة الرواية في ليلة واحدة. فنحن بإزاء رواية شيقة حقا من الفصلين اللذين قدمهما النص. وسوف يدخل بنا في الفصل العاشر بدلا من فصول (إيفا) فصلا من رواية (التفاحة) التي سيكتبها فرفار لأننا هنا في عالم تراكب الإطارات والنصوص وتفاعلها. ولكنه يلجأ إلى حيلة نصية أخرى، وهي أن يترك فرفار يلخص لنا رواية (إيفا)، ويقع في حيرة البطل اللامسمى، والذي منحه هو اسما أمنيا (م. م.) بين إيفا وسانثيا. ونحن نعرف أن أي تلخيص هو قراءة تكشف عن فهم من يلخصها للنص وليس عن حقيقة النص. وفي التلخيص نكتشف أن فرفار غير (أ. ت)، وأنه يفتقر للغة (أ. ت) الشعرية الشفيفة. وأن رواية (إيفا) قد اقتنصته حقا في شبكتها المغوية وأربكته بحبكتها المحكمة، لكنها لم تبح له بأسرارها، ولم تكشف له عن سر علاقة أيفا بسانثيا فيها، ولا عن جدل المطاردة بين الصياد والفريسة. المهم أنه قرأ الرواية، وذهب بعدها بحثا عن الروائي كي يناقشه فيها، ليكتشف حال وصوله للمقهى أنهم «أخذوه» وحينما يسأل عمن أخذه ترد عليه الفتاة التي لم تتذكر حتى اسمه «من يكون في رأيك؟ إثنان تافهان .. من تلك الأجهزة السخيفة»(ص69).
(5) جدل البنية السردية وتصارع النصوص:
وتوقظ هذه الجمله الأمني فيه، والذي لم ينم أبدا، «طعنتني بلاشك. حين وصفت زميلين محترمين يؤديان واجبهما بالتفاهة، وصفت أعين الوطن الساهرة للحفاظ على أمنه بالسخف»(ص69). لكنه يستخدم يقظة الأمني هذه المرة لصالح المثقف الوليد فيه، والمشوق لمناقشة الرواية مع كاتبها. ويدرك بفطنته الأمنية أن أحد التافهين اللذين وصفتهما الفتاة لابد أن يكون زميله السابق (ر. ج) فيذهب لجهازه القديم يتشفع خفيه في (أ. ت) الذي يكتشف أن أمره خرج من يد (ر. ج)، وأن ملفه أصبح هو الآخر نصا موازيا بدأت «إدارة الأمن الوطني» في كتابته داخل أروقتها بعنوان (الطائر الذبيح)، رغم أنه «لم تكن هناك أي تهمة ولا حتى اشتباه»(ص71). فيذهب للمسؤول الذي كان رئيسه السابق. والغريب أن رئيسه السابق في الجهاز الأمني يقبل شفاعته بلا نقاش، ويفرج عن (أ. ت). لأننا سنعرف فيما بعد أنه كان هو الآخر يكتب نصه الأمني الموازي الذي يحتفظ فيه لفرفار بدور سنكتشفه فيما بعد، وحينما يتحول في نظر الجهاز قرب نهاية الرواية إلى (ع. ح) أو (ع. ف). (ص137)
ويعود (أ. ت) إلى مقهاه، وإلى جماعته، ولكن بعد ان استعاد فرفار-حرفش سلطته. لذلك نجده يبتسم خفيه وهو يلاحظ أن الكاتب لايرد على الأسئلة الكثيرة التي تسأله عن مكان غيابه لأنه يعرف «أن الذي نأخذه ونعيده، يظل أسيرا لدينا حتى وهو في كامل حريته» .. و«أحس بزهو كبير أنني محرره وامتلكه في هذه اللحظة»(ص72). لكن هذه الاستعادة لن تستمر طويلا، إذ سرعان ما يستعيد الكاتب سيطرته على السرد من جديد، وهو يواجه فرفار بأسئلته المدببة، بعدما عرض عليه بداية روايته (التفاحة): «من أنت .. ما قرأته ليس بداية رواية، ولكنه تقرير أمني ... لماذا أحظى بشرف متابعتكم ياسيد! أربعة أيام في ضيافتكم، هربت فيها الأفكار كلها. والأن كاتب تقارير بساق خشبية يقرأ (على سريري ماتت إيفا) ويجلس إلى طاولتي يحاورني. تطورت أساليبكم!»(ص83) بعد هذه المواجهة القاسية يعترف له فرفار بكل شيء، بالحادثة التي أودت بساقه وبالاستغناء عن خدمته، وبرغبته في كتابة رواية، بكل شيء باستثناء أنه هو الذي أفرج عنه. ومنذ تلك اللحظة يستعيد الكاتب السيطرة على منظور السرد من جديد، وتتحكم في أحداثه نظريته عن الكتابة باعتبارها نظيرا لتطور الحشرة من يرقة ثم شرنقة ثم حشرة كاملة. ويبدأ فرفار في التخبط في المتاهة التي عليه أن يحيل فيها يرقاته إلى كائنات كاملة، تحلق وتطير.
في هذه المتاهة تتخلق مجموعة من المحاور السردية: أولها محور آليات الكتابة الروائية التي تفتح ساحتها للكشف عن أن كثيرا من يرقات عبدالله حرفش/ فرفار لن تتشرنق ولن تتحول إلى فراشات، وستبقى يرقات تزحف مع التقارير الأمنية التافهة في الأزقه بلا أمل. تدوسها الأقدام أو تجهز عليها الظروف قبل أن تتشرنق. حيث تدير الرواية جدلا بين اليرقات، وهي من انتاج الموهومين، والروايات وهي ما يكتبه الموهوبون. فشتان بين التقارير الأمنية التي تسعى لمضاهاة الواقع وتسجيل حرفيته، وتظل لذلك مجرد يرقة تزحف على الأرض، وبين الرواية التي تسبر من خلال جدل الواقع والخيال فيها أعمق أعماق هذا الواقع. فتتحول إلى فراشة تحلق في أوسع الآفاق. فالرواية شيء آخر! هي ابنة التجربة الحية التي تسعى في الأرض كاليرقات، ولكنها ترتقي بتلك التجربة الدودية بعد أن تتشرنق بالتفكير والمعرفة والموهبة إلى فراشة جميلة تزدهي بألوانها وقدرتها على التحليق والطيران. في هذا أيضا المحور تكشف الرواية عن بنيتها التناقضية بامتياز فعبدالله حرفش/ فرفار أحد أدوات الجهاز الأمني للبطش بالثقافة والمثقفين، طالع من عالم المهمشين، والغ في حضيض بؤسهم، ولكنه ـ كما هو الحال من مؤسسته الأمنية برمته ـ مصاب بذلك العمى الفريد الذي لا يستطيع معه رؤية تناقضية موقفه وموقعه. وكيف أنه ينتمي حقا لعالم المقهورين والمهمشين الذي يعد عالم أمير تاج السر الروائي الأثير.
بعد الجدل والمكاشفة بين (أ. ت) وفرفار، يوجه الكاتب فرفار إلى الاهتمام بشخصية زوج عمته المدلك/ الممثل «أنتبه للمدلك .. صادقه، تعرف إلى ماضيه وتطلعاته بشكل جدي، وربما تخرج بشيء».(ص95) ويستجيب فرفار بالفعل لتوجيهات المؤلف أو بالأحرى يخضع لسلطته. فيذهب لبيت العمة ليكتشف أن المدلك قد حظي بدور جديد في مسرحية (موت رجل أبله). وسرعان ما تتحول تلك المسرحية إلى مسرحية داخل الرواية بمنطق تحاور النصوص وتفاعلها. فشخصية المدلك شخصية روائية فعلا، سرعان ما استغل الدور الصغير الذي يحمل فيه محفة ميت، ليصنع عبره مفاجأة المسرحية. ليس بمساعدة عقار «الإيتيفان» المخدر الذي أحال الإغماءة التمثيلية إلى أغماءة حقيقية ألغيت بسببها بقية المسرحية وانتقل على إثرها إلى المستشفى، كما حدث في المرة السابقة. ولكن بكتابة نص على النص/ نص ضد النص. حيث رفض المدلك أن تنتهي المسرحية بموت الرجل الأبله، ولكنه أحاله بتلك الخطبة العصماء إلى بطل قومي. إلى واحد من «آلاف الرجال الأفذاذ الذين يحمون تراب الوطن، ويصدون إولئك الخونة الذين يريدون رؤية الوطن أشلاء. تلك الأحزاب الخبيثة، تلك القاذورات. أرقد بسلام أيها الشهيد. كلنا فداءك. كلنا فداء الوطن. عاش قادتنا الأوفياء. تسقط الشيوعية. تسقط الإمبريالية. تسقط أمريكا»(ص113). وسرعان ما تدافع الجمهور الذي ألهبت هذه الكلمات حماسه ليحمل المدلك وينطلق به في هتافات مؤيدة للحكومة. لقد حول المدلك النص المسرحي التجريبي/ التخريبي المنتقد للحكومة الساخر من بلاهة الشعب إلى مظاهرة كبرى لتأييد السلطة. مما أثار جنون المخرج (ع. ج) «والذي يملك ملفا ضخما في إدارتنا بوصفه يساريا مخربا»(ص115).
مع هذا الحدث تتحول حياة المدلك إلى نجم من نجوم الإعلانات التليفزيونية، ويلهث فرفار في متابعة قصته، ويتابع معها قصة المشجع الذي أودى بعقله تكريم رئيس الدولة له. ويستمر حثيثا في تتبع يرقاته ورعايتها بالخيال علّها تتشرنق. ولكنه يكتشف في الوقت نفسه أن (أ. ت) اختفى، ولم يعد يتردد على مقهاه. ويتوهم أنه اختفى لأنه سرق منه شخصية المدلك ليكتبها رواية جديدة له. وبمنطق رجل الأمن التوكيدي الذي يتصور معه أن أوهامه حقائق. يحيل عبدالله فرفار هذا الوهم إلى حقيقة: «يوم عرفت أن (أ. ت). قد خانني وسرق مني شخصية المدلك»(ص 138) وهو لم يخنه ولم يسرق منه شيئا، لكنها عجرفة الرجل الأمني وثقته المطلقة والزائفة معا في أن ما يكتبه ويتوهمه هو الحق بعينه. لذلك لم يكن غريبا، أن يستدعيه رئيسه من جديد ويعيده إلى الخدمة «الخدمة الممتازة. لقد ترقيت يافرفار، عدلت رتبتك ودرجتك المالية»(ص 138). ويعهد له بملف (الطائر الذبيح) والكاتبة الشابة الجديدة (س) صاحبة (لحظة حب) أو (يرقة حب) كما كان يحلو له أن يسميها.
(6) تفكيك الكتابة .. تفكيك السلطة:
ننتقل الآن إلى الأمر الثاني في الرواية وهو ما دعوته باللعبة الأزلية بين الصياد والطريدة/ السلطة والكاتب/ المخبر والمثقف/ الفن والواقع. لأن الرواية تقدم لنا في هذا الجانب أهم إضافاتها السردية من خلال ما أود أن أدعوه بمحتوى البنية السردية. فالرواية تبدو على السطح وكأنها رواية سعي فرفار-حرفش للبحث عن وظيفة أخرى، هي الكتابة، يشغل بها نفسه بعد أن استغنى عنه جهاز الأمن الذي كان يعمل به. وتقدم لنا في هذا المستوى السردي الظاهر دراسة تهكمية شيقة لما يدور في الوقع الأدبي، والسوداني منه خاصة. لاتفلت منها متغيرات الواقع الاجتماعي السوداني الدقيقة، ووفود الأثيوبيات للعمل فيه ومقدم عمال البناء الأسيويين إليه، ووقع فرص السفر إلى دبي وأمثالها على بعض مواطنيه. ولا متغيرات الحركة الثقافية نفسها التي تخصها الرواية بالكثير من النقد والتهكم بعد وفود المرأة إلى ساحتها من خلال الكاتبة (س) ويرقتها التي أصبحت بسبب «مؤازرة الجمال» رواية، تحقق لها آليات وجودها شبه المستقل، عن الكاتب اللامع الذي طالما أغرته بتقديم مخطوطتها. حتى إذا ما نشرت المخطوطة وأصبحت رواية تغير موقفها وموقعها معا. تغير إلى الحد الذي سنكتشف معه قرب نهاية الرواية أن حهاز الأمن قد أعد ملفا عنها، ويريد أن يعرف كل شيء عنها «حتى الشامبو الذي تغسل به شعرها، ونوع طلاء الأظافر الذي تستخدمه، كل شيء .. كل شيء»(ص138). كما لاتنسى الرواية وقع الإعلام الكاسح على المواطن البسيط، وكيف ذهب نشر صور المشجع/ حفار القبور مع الرئيس في الصحف اليومية بعقله، وأودى به إلى التهلكة.
في هذا المستوى الظاهري يكتب أمير تاج السر رواية سلسة مشوقة قادرة على اقتناص القارئ في شبكة حبكتها السردية المغوية. تبلغ النزعة التهكمية الساخرة فيها حد السخرية المرّة من الذات ومن مختلف شخصيات الرواية. فالسخرية هي أحد أدوات الكاتب للكشف عن طبقات المعنى المتراكبة في الواقع وفي الشخصية معا. ومن خلال تلك السخرية تكشف الرواية عن تحولات الشخصيات وهي تتخلق على الورق أمام أعيننا، ونحن نتابع تحولاتها تلك: كتحولات (س) من كاتبة مبتدئه نشرت روايتها/ يرقتها بسبب رغبة الكاتب اللامع في مؤازرة الجمال، إلى شخصية خطيرة تدبج الأجهزة الأمنية عنها ملفا، وتريد أن تراه «ممثلئا ويحمله رجلان من شدة ثقله».(ص138) أو كتحول المدلك زوج العمة من ممثل هاو إلى نجم إعلانات، عقب نجاحه في أن يقلب التجريب المسرحي للمخرج (ع. ج) المعادي للنظام، إلى تخريب في المسرح والواقع معا. فاحتفت به الجماهير التافهة، والمؤسسة الأكثر تفاهة. أو كالتحول المأساوي للمشجع والذي يودي به إلى الجنون والموت.
لكن ثمة أكثر من مستوى آخر وراء هذا المستوى الظاهري أو مضمر فيه. وأهم هذه المستويات هو ذلك الذي يبوح به الشكل، أو ما أدعوه بمحتوى الشكل. فالرواية تبدو وكأنها رواية الجدل بين الإطار والحكاية كما ذكرت. فهناك إطار معلن تدور ضمنه الحكاية، هو إطار رغبة فرفار-حرفش في كتابة رواية، وإطار مضمر ينبثق داخل الإطار المعلن، هو رغبة الكاتب (أ. ت) في كتابة رواية فرفار-حرفش وتفكيك العلاقة بين الرواية والواقع، أو كيف تتحول اليرقات إلى روايات. وهما إطاران يناظران في مستوى من مستويات التأويل، رغبة المؤسسة في احتواء الواقع وكتابته بلغتها: المؤسسة الأمنية أو السياسية أو أي مؤسسة أخرى، ورغبة الكاتب في استنقاذ الواقع بكثافته وطزاجته وتعقيدة من أيدي تلك المؤسسات، والتعبير عن حقيقة ما يدور فيه. لذلك تبدو الحكاية المؤطرة بهذين الإطارين، وكأنها حكاية المشهد السوداني المعاصر بمتغيراته الاجتماعية والأمنية، ولا أقول السياسية، فالرواية تكشف لنا أنه ليس ثمة سياسة بالمعنى العميق لهذا المصطلح، بل تعامل أمني وحسب مع هذا الواقع.
وحتى يطرح أمير تاج السر الرواية في مواجهة السلطة/ المؤسسة فإنه يلجأ إلى حيلة سردية أخرى تضاعف من أهمية محتوى الشكل في روايته. هذه الحيلة هي استخدام تقنية الرواية داخل الرواية (على سريري ماتت إيفا)، مقابل تقنية المسرحية داخل الرواية (موت رجل أبله). الأولى يستخدمها الكاتب ويسيطر عليها، بل يسحر بها فرفار-حرفش ويوقعه في قبضته، ويبني بها وعليها روايته، والثانية تستخدمها المؤسسة في تخريب تجريب المسرحي (ع. ج). والفارق بين الإثنين كبير بل شاسع. حيث تنطوي (على سريري ماتت إيفا) على ثراء في اللغة والوقائع وازدواج في الشخصيات: إيفا/ سانثيا وجدلهما مع كلوديا شيفر وفتاة طاجستان اليانعة لينا باروف؛ فإذا ما انتقلنا إلى الشخصية الرجالية: الراوي الذي يوشك في إخفاقه في إخراج فيلمه، أن يكون فرفارا آخر يطارد سراب الفن، ويقنع بمطاردة حسان روسيا، سنجد أن الرواية قدمت قرينه/ سيدي ولدالنبي الموريتاني/ ونقيضه ألكسندر يحيى الروسي. كما أن الجدل الدال فيها بين الصد والقبول، بين إيفا وسانثيا، يوشك أن يستشرف تفاصيل الجدل بين رجل الأمن المتقاعد المقعد والمثقف المهيض/ الجبار معا. وهو المحور الذي تدير فيه الرواية جدلها مع ذلك الجدل المكتوب في الرواية داخل الرواية، بين الأمني والمثقف. في حين أن المسرحية برغم كل نوايا مخرجها التجريبي اليساري الطيبة في تصوير «الشعب الأبله الذي يتخبط في الشوارع .. يبكي أمام حرية ميتة، ويضحك أمام محل أدوات البناء الذي يرمز إلى التعمير غير المتاح لأمثاله.. ثم يضرب برصاص سلطوي بارد، وتأتي المساعدة الخارجية لتجده ميتا، يحمل على محفة لدفنه»(ص 114)، سرعان ما تختطفها السلطة، وتسبغ عليها شعاراتها الممجوجة في خطبة المدلك العصماء. (ص113)، وهتافاته المنحوته ممن ممارسات سلطاتنا الاستبدادية.
وبالإضافة إلى هذه الجدليات السردية، فإن الحكاية المؤطرة في الرواية، في مستوى من مستويات المعنى، هي حكاية هذا التوتر والصراع بين الثقافة والسلطة، في بلاد تعاني فيها السلطة من الأمية واحتقار الثقافة. ففرفار-حرفش الذي يمثل أجهزة الأمن في النص لم يقرأ رواية واحدة قبل رواية (على سريري ماتت إيفا)، ولا يستطيع أن يدرك، ناهيك عن أن يقدر مدى إنسانية الحياة الثقافية التي احتضنته وأحالته إلى بطل لرواية من روايات أحد مبدعيها، في مواجهة قسوة الحياة الأمنية بل فظاظتها وصرامتها الباترة. فهي لم تبتر ساقه فحسب، بل بترت وجوده كله وتركته ضائعا يبحث عن هدف ويطارد السراب. لكن الرواية تكشف لنا حتى في إخفاق فرفار-حرفش نجاحه، فلايمكن للأمني حقا أن يعرف عالم المثقفين دون محاولة حقيقية للانخراط فيه، أي دون التجربة التي لا تكتمل بدونها أي معرفة. وهي تجربة سرعان ما أتت أكلها بالنسبة لكل منهما: الترقية للمخبر، وكتابة رواية للكاتب. هنا تتخلق عملية تبادل أدوار شيقة. حيث سرعان ما يتحول فرفار، في نظر إدارته الأمنية السابقة، إلى مثقف مشبوه، كما ينذره أحد معاونية القدامي: «وقال لي وهو يقلني إلى قصر الجميز كما طلبت منه، إن لدي ملفا قد انفتح في الإدارة مؤخرا، وهو الذي فتحه بنفسه، ليس بصفتي القديمة عبدالله حرفش تميهيدا لإعادتي للخدمة، ولكن بصفتي الجديدة. مثقف مشبوه يجب أن يتابع بدقة. قال خذ حذرك ياعم فرفار. أخبرتك بدافع العشرة، بدافع العيش والملح»(ص127). فللرواية أيضا منطقها الروائي الداخلي الذي يعمل تحت السطح: مثلا فرفار له دور في الإفراج عن (أ.ت) حينما قبض عليه جهازه الأمني الجهنمي السابق. ولكنه لايعلمه بذلك، بل ويتعمد ألا يراه وهو خارج مهيض الجناح من أقبية الجهاز الجهنمي. و(أ.ت) يرد له الجميل ـ دون أن يعرف أن له جميل عليه ـ بالاهتمام به، اهتمام وصل فقط ليس إلى حد إعادة تثقيفه وإرشاده إلى طرائق كتابة الرواية، وإنما إلى حد جعله بطل روايته الجديدة: (صائد اليرقات)! هذا المنطق الداخلي هو الذي يمكن (أ.ت) وهو يكتب روايته التي استلهمها من تجربته مع عبدالله حرفش/ فرفار أن يكتشف أنه عاد إلى عمله الأمني القديم. فمنطق العمل الفني أعمق كثيرا من منطق الواقع نفسه، بل إنه يتنبأ بالواقع ويكشف بحدسه عن مساراته.
ولابد أخيرا من الإشارة إلى بعض خصائص الكتابة السردية في هذه الرواية الجميلة وأهمها: تعدد اللغات السردية، والولع بالصور أو ما يمكن تسميته الكتابة بالصورة، وهي خاصية احتفظ بها الكاتب من بداياته الشعرية، والنزعة التهكمية الساخرة التي تبلغ أحيانا حد السخرية المرة من الذات. وهي نزعة كاشفة تثري وتساهم في تعدد الدلالات والرؤى فيه. وهناك أيضا منطق تناسل الحكايات الشهرزادي الذي تتسم به جل روايات أمير تاج السر، حيث تتوالد الحكايات من بعضها البعض وتتناسل في انسيابية عفوية، ولكنها منسوجة بقدر كبير من المهارة والإحكام كما رأينا في تناولنا لمحتوى البنية السردية عنده. وهناط أيضا ازدواجية الإسم وازدواجية الشخصية. فكل الشخصيات تقريبا لها أكثر من اسم، وازدواج التسمية هو أحد تجليات تراكب الشخصيات وطبيعتها التناقضية وثرائها اللامحدود.