أثارت الرسالة دهشته حتّى قبل أن يقرأها. اسم المرسل وحده كان كافياً لأن يجعل أوصاله ترتعد قليلاً، قبل أن يخاطب نفسه مبتسماً:
ـ من الذي يداعبني هذه المداعبة الغريبة؟!!
وفيما بعد عندما لاحظ الأسلوب الأنيق الذي كتبت به الرسالة خطر له أنّها نواةٌ لعملٍ أدبيّ يزمع صاحبه كتابته، ولعلّه أراد أن يعرض فكرته عليه أوّلاً باعتباره طرفاً من الأطراف في النهاية.
ثم نسي الأمر بعد أن مضى عليه وقتٌ ازدحم بالمشاغل والمشاكل، إلى أن جاءته الرسالة الثانية. لم يكن فيها ما يزيد على الأولى سوى اعتذارٍ لبقٍ عمّا يمكن أن يحدث له من إزعاجٍ أو ضيق، إضافةً إلى مزيدٍ من التأكيد على جدّيّة الأمر.
والواقع أنّ صاحب الرسالة لم يكن في حاجةٍ إلى مثل هذه التأكيدات. فقد اكتشف الأستاذ بعد أن عاد إلى الرسالة الأولى أنّ ثمّة إشاراتٍ فيها على قدرٍ من الأهميّة، وما كان ينبغي أن تفوته. هو في هذه اللحظات لا يستطيع أن يقطع برأيٍ حولها، لكنّه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يتجاهل حال البلبلة والاضطراب التي ألقت به في أعماقها.
أوقف العمل في روايته التي كان يتوقّع أن يفرغ منها قبل نهاية أغسطس المقبل. لم يكن ذلك قراراً اتّخذه بإرادته. لقد كان، في الحقيقة، نتيجةً لدوّامةٍ عنيفةٍ من الأسئلة الغريبة أصابته بما يشبه الشلل. أسئلةٌ متداخلة لم يجد في نفسه القدرة لا على الإجابة عليها وحسب، بل على مجرّد فهمها.
اتّصل به إبراهيم نادل المقهى بعد أن تكرّر غيابه لليوم الثاني:
ـ لا والله يا إبراهيم.. تأكّد أنّني بخير والحمد لله.. اعتذرْ لي من الإخوان.. سأحاول أن أكون بينهم قريباً..
ولم تكن (قريباً) هذه تعني زمناً محدّداً. كان واضحاً أنّه مقدمٌ على تجربةٍ لا يدري كيف ستنتهي، أو متى. والواقع أنّه في هذه اللحظات لم يعد يعرف ما يخشاه. أن يكون الأمر مجرّد دعابةٍ سمجةٍ لم يقدّر صاحبها ما يمكن أن تحدثه في حياته من فوضى، أم حقيقة أدنى ما يمكن أن يحدث لو صرّح بها أمام أحدٍ أن يُتَّهم بالخرف؟
ومدّ يده إلى (الطريق). أخذ يقلّب صفحاتِها. لم يخطر له أنّه سيعيش لحظةً كهذه، يفقد فيها كلّ قدرةٍ له على التركيز. كان غائم الذهن، مشوّشاً، كما لم يكن من قبل. ألقى بالكتاب من يده، وردّد كما لو أنّه يريد أن يتأكّد من شيءٍ ما:
ـ سيّد سيّد الرحيمي..؟!!
عندما كانت (الطريق) في المطبعة اتّصل به جمال قطب يسأله عمّا إذا كان يفضّل أن تكون صورة سيّد سيّد الرحيمي تمثّله في مرحلة الشباب أم الشيخوخة، فاعترض بشدّة:
ـ إلاّ هذه الشخصيّة.. لك أن ترسم أيّة شخصيّة باستثناء سيّد سيّد الرحيمي.. دعه هكذا..
(فعلتَ خيراً. ورغم أنّك أفضتَ في بعض المواضع من روايتك في وصفي، بحيث لن يصعب على رسّامٍ مبدعٍ كالأستاذ قطب أن يقدّم لوحةً تمثّلني على نحوٍ أقرب ما يكون إلى الدقّة، إلاّ أنّ ثمّة ما لن تقوى ريشةٌ على التقاطه مهما أوتيت من الرشاقة والجمال...)
فرضيّة الدعابة الآن أخذت تتهاوى. الرجل يعرف أشياء لا يذكر الأستاذ أنّها تجاوزت حدود الخواطر الخاصّة التي لم يتح لأحدٍ أن يعلم بها على أيّ نحوٍ من الأنحاء.
(ووصفتَني في موضعٍ من الرواية بأنّني ضرير. وأنت تعرف أنّني لست كذلك. لقد وقفتَ طويلاً عند هذه الكلمة، وتردّدتَ كثيراً قبل أن تثبتَها، بل إنّ الأصول المخطوطة للرواية تخلو منها، لكنّك اتصلتَ بالناشر في آخر الوقت، وطلبتَ منه إضافتها في موضعها. ثمّ ندمتَ على ذلك).
إنّها الثالثة فجراً. الصمت الذي كان الأستاذ يعدّه أجمل ما في حيّ العجوزة يتحوّل الآن إلى سائلٍ دبقٍ يكاد يسدّ كلّ مسامات جسده. يتوجّه إلى غرفة سليمان. يقرع الباب بلطف، فيطلّ وجه الرجل العجوز وعلاماتُ القلق باديةٌ عليه:
ـ خير يا أستاذ.. خير..
ـ عفواً يا سليمان.. آسف والله.. لكن أريدك أن تجهّز لي الحمّام..
عاد الأستاذ إلى مكتبه وقد عاوده الشعور بالحيويّة الذي افتقده منذ نحو يومين. جاءه سليمان بفنجان القهوة السادة، وعندما همّ بالانصراف استوقفه متسائلاً:
ـ سليمان.. هل عرفت يوماً شخصاً يحمل لقب الرحيمي؟.. أو سمعت به على الأقل؟..
ـ الرحيمي؟.. هل تعني سيّد سيّد الرحيمي في رواية الطريق؟
ـ سيّد أو سواه.. أيّ رحيمي..
ـ والله يا أستاذ.. مصر كبيرة.. ملايين.. من يدري..
شكره، ثمّ أذن له بالانصراف..
هي دعابةٌ، بلا شكّ.. الانتعاش الذي شعر به بعد الحمّام أعاده مرّةً أخرى إلى فرضيّة الدعابة.. ابتسم وهو يتلمّس في أعماقه ارتياحاً آخذاً بالنموّ شيئاً فشيئاً.. ثمّ وقعت عيناه على الرسالة:
(وقد تتساءل: لم تأخّرتُ كلّ هذا الوقت في مخاطبتك؟.. فلتعلمْ إذاً يا سيّدي أنّني كنتُ سعيداً في البداية لما رأيتُه فيك من اهتمامٍ بشخصي، ولقد عرفت أنّك كنتَ قد عقدتَ النيّة على أن تعود إليّ في عملٍ آخر تروي فيه كيف وصلتُ مصر في اللحظة الأخيرة لأنقذ ولدي صابر من حبل المشنقة.. ثمّ لمّا تأخّر ذلك منك، وخشيتُ أن أظلّ في أذهان الناس ذلك الأب القاسي الذي لا يبالي بما يكابده أبناؤه في دنياهم، كتبتُ إليك لأذكّرك أوّلاً، ولأعرض عليك لقاءً يجمعنا أزوّدك فيه بما تحتاج من معلوماتٍ عنّي أفترض أنّها ليست بين يديك بعد هذه السنوات الطويلة من القطيعة..).
رجلٌ مجنونٌ يعبث معه. أو لعلّ له ثأراً لديه يسعى إلى الأخذ به بهذه الطريقة الرخيصة.. أمّا أن يكون الأمر حقيقةً فضربٌ من الخيال المريض.
غيّر ملابسه على عجل، وقرّر الخروج. كان الشارع خالياً. والأشخاص القليلون الذين مرّوا به بدوا له متشابهين تماماً. قاماتٌ متساوية الطول. أعمارٌ متقاربة. نسخٌ متكرّرة لأصلٍ واحد. لم يبال بالأمر كثيراً. فسّر ذلك على أنّه وهمٌ قادت إليه أجواء العتمة التي لم تتبدّد كلّياً بعد.
في المقهى كان إبراهيم يوزّع المقاعد والطاولات عندما لمح الأستاذ في الخارج. أسرع نحوه:
ـ الأستاذ؟.. تفضّل إلى الداخل يا أستاذ..
إنّها المرة الأولى منذ بدأ عمله في هذا المكان قبل سبع سنوات التي يرى فيها الأستاذ في مثل هذه الساعة المبكّرة من الصباح. وممّا فاقم من قلقه ذلك الشحوب الظاهر في وجهه..
ـ تشعر بالتعب يا أستاذ؟
ـ القهوة إذا سمحت..
عاد إبراهيم بالقهوة، ثمّ انصرف دون أن يتفوّه بكلمة، فقد عرف أنّ الأستاذ ليس لديه استعدادٌ ليستمع، أو ليتكلّم. لم يكن ثمّة زبائن بعد. ولذلك فضّل إبراهيم أن يقوم بأعمال التنظيف والترتيب في أقصى أرجاء المقهى، بعيداً عن المكان الذي اختاره الأستاذ للجلوس، مقدّراً أنّه في حاجةٍ إلى شيءٍ من الهدوء.
أعاد الأستاذ النظر في رسالة سيّد سيّد الرحيمي.
(عنواني على المغلّف كما ترى مختصر، بحيث لا يسمح لك بالتواصل معي مراسلةً. ولقد تعمّدتُ ذلك، فما أريده أن نلتقي وجهاً لوجه، وقد هيّأتُ لهذا اللقاء كلّ الأسباب، وما عليك إلاّ أن تتّصل بفرع شركة الطيران الهنديّة، وستأتيك بطاقة السفر، وهناك ستجد من يستقبلك، ويأخذك إلى قصرٍ خُصّص لإقامتك...).
إلى أين يريد أن يقوده هذا الرجل؟.. إنّه يستدرجه إلى أمرٍ ما.. لديه من الذكاء ما يجعله قادراً على إرباك هدفه. وها هو ذا قد حقّق مراده. ولعلّه الآن يخطّط لما هو أبعد. فما الذي على الأستاذ أن يفعله تحسّباً لذلك، واستعداداً لمواجهته؟.
ـ إبراهيم.. لا أريد لأحدٍ من الإخوان أن يعلم بمجيئي اليوم.. وإذا سُئلتَ عنّي، فأخبرهم أنّك اتّصلتَ بي، وأنّني بخير..
وبينما كان على وشك الخروج التفت إلى إبراهيم، وأضاف:
ـ اعتذر لي منهم.. وأخبرهم أيضاً أنّني أفضّل ألاّ يتّصلوا بي.. أريد أن أخلو إلى نفسي قليلاً.. هذا كلّ ما في الأمر..
في طريق العودة لاحظ أنّ الناس ما زالوا متشابهين. بل إنّ ضوء النهار الذي اكتمل الآن كشف عن أوجهٍ جديدةٍ للشبه فيما بينهم. ولسببٍ ما قفزت إلى مخيّلته صورة سيّد سيّد الرحيمي. ثمّ وجد نفسه مستسلماً لخواطر أشدّ غرابةً. سيّد سيّد الرحيمي الآن في مكتبه. وأمامه شاشةٌ عملاقةٌ تنقل له المشهد بكلّ تفاصيله. جيشٌ من الموظّفين يزوّده بتقارير كاملةٍ عمّا يحدث. ولا شكّ أنّ الأستاذ سيكون واحداً ممّن أوصى موظّفيه أن يولوه عنايةً خاصّةً من حيث تتبّع حركاته وسكناته، ومراقبته أينما حلّ أو ارتحل..
إنّ به حاجةً إلى النوم.. سيّد سيّد الرحيمي يقول في رسالته:
(يؤسفني أنّني تسبّبت لك بكلّ هذا القلق. لكنّني أعدك حين نلتقي بطمأنينةٍ لم تذق مثلها من قبل. وأنت تعرف ـ أكثر من غيرك بالتأكيد ـ أنّني ما وعدت بشيءٍ، ولم أفِ به..).
في البيت تردّد كثيراً.. لكنّه اتّصل في النهاية، فجاءه الردّ:
ـ نعم، فاسمك أمامي في قائمة الحجوزات.. ننتظرُ منك أن تحدّد الموعد الذي يناسبك لنرسل إليك التذكرة..
وحين طلب تفاصيل عمّن قام بعمليّة الحجز، اعتذر الموظّف..
ـ ليست بين يدي أيّة معلومات حول هذه النقطة.. الواضح فقط أنّ الحجز تمّ من الهند..
كان محقّاً إذاً عندما شدّد على جديّة الأمر. ولكن.. ما الذي يثبت أنه سيّد سيّد الرحيمي، وليس شخصاً آخر ينتحل صفته؟..
من الواضح أنّ الإرهاق قد بلغ به في هذه اللحظات مبلغاً خطراً.. ما بقي له من قدرةٍ على التفكير يكفيه بالكاد لأن ينتبه إلى عمق الهاوية التي هو آخذٌ في الانزلاق نحوها..
همّ بأن يرفع صوته منادياً على سليمان. لكنّه تذكّر أنّ سليمان في مثل هذا الوقت يخرج للتبضّع. سيّد سيّد الرحيمي.. سيّد الرحيمي.. الرحيمي.. ولوهلةٍ خيّل إليه أنّ أحدهم قد اقتحم عليه مكتبه. ألقى نحوه نظراتٍ واهنةً، فعرف فيه صابر.. صابر الرحيمي.. بقامته المعتدلة، والبزّة الأنيقة، ونفحات العطر التي كانت تفوح مع كلّ حركة يأتيها..
وكما لو أنّ روحاً أخرى تلبّسته.. روحٌ جديدةٌ فتيّة.. ملامح وجهه الشاحبة أشرقت فجأةً.. دمٌ حارّ أخذ يتدفّق في عروقه بعنفوانٍ لم يعهده منذ سنوات.. وبحركةٍ نمّت عن قرارٍ خطيرٍ ونهائيّ اتُّخِذ توّاً أخرج أوراق روايته التي كان قد عزم على الفراغ منها قبل نهاية أغسطس المقبل.. لحظةُ تردّدٍ خاطفة.. ثمّ أمسك بسمّاعة الهاتف:
ـ أريد أن أحدّد موعداً للسفر إذا سمحت..
وعاد إلى أوراقه.