يسائل الباحث جدوى الأدب وماهيته، ويعقد صلة طرحه مع صناعة الهوية، وأزمة الأدب، وجدوى الإنسان المعاصر. كما ويشدد على أثر قدسية مرجعية الواقع، وتحولات ذائقة السوق، ومطلق جماليات الفرد المستهلك في أخلاق الفعل الأدبي.

سؤال الأدب!

سعيد بوخليط

يسائل الأدب جدواه باستمرار، وبقدر مراكماته لتجارب وتحققات، يعمق في الآن ذاته جيوب ذلك الوعي الشقي والذي لا يجد لنفسه هناء وسكينة إلا بتأثير جرعات لحظية لمهدئات وإغواءات سرعان ما ينقضي ويزول مفعولها. هكذا، يتلمص الأدب كل حين من مواصفاته، تصل إلى درجة جلد الذات أو التلدد المازوشي. فتبدأ، مشاهد البيانات والمواقف والخطابات الهوياتية والماهوية، متوخية مجابهة تلك الأسئلة الانطولوجية الجسيمة من قبل: من؟ ولماذا؟ وكيف؟ قد نقطع بالتأكيد هنا، مع ابتذالية شعبوية استنكار مثل: ما جدوى الأدب أمام شخص يتضور جوعاً؟ أو يتلوى ألماً؟ ولك أن ترسم بتلك الخطايا لائحة غير منتهية. بمعنى، كومضة برق قد تستحضر كل إخفاقات البشر وشرورهم الوجودية، من أجل التشكيك في شرعية الأدب؟ مسألة تزداد حدتها، وفاعليتها في أوقات مثل عهودنا الجارية حيث: التشيئ والتوثين والتحقير والنخاسة والرعوية والعبودية ... والروبوتيزم والتألية ... تبلغ الأفق طولاً.

إن طرح سؤال "الجدوى" و"الماهية" ينطوي في ذاته على مسلمات ترسم روافد التأويل المحتملة. تكفي، الإشارة إلى: حينما تطرح بحدة العلاقة القابلة للصيرورة، دائماً بين القائم والممكن؟ ثم تتبلور خريطة هندسية لا تنسجم مع ذاتها وأولوياته، فذاك يستدل بكل الأشكال عن وجود "أزمة" بالمدلول الاقتصادي للكلمة. مما، يتطلب الأمر إعادة النظر في منطلقات والتوابث ثم الرؤى. وإلا، فإن الوضع على المنوال ذاته سيستفحل مؤدياً إلى انفجار قوي يقوض تاريخ الأدب ويحوله إلى جزر نارية متناثرة هنا وهناك، تنتهي إلى الأبد مع مجموع مؤسسة الأدب. بالتالي، العودة القهقري إلى الأزمة البربرية والعهود المظلمة.

افتراض تأزم لجسد الأدب، يحتم على أصحاب الشأن تحديد ما يعنونه بالضبط، مع التسليم جدلاً بأن سؤال الهوية يبرز أكثر لحظات الخلل. هي أزمة مفهوم؟ (بناء، هيكل، أسس...). حينئذ، على الأدب أن يقطع باستمرار مع ما هو مطمئن له ويجتهد نحو صور أكثر راهنيّة وآنيّة؟ إذا كان الوضع على هذه الشاكلة، فلا شك أن التأويلات الأخرى قد تبدو واضحة وظاهرة. ما دام، أن المفهوم سيبقى مرجعية مطلقة، بخصوص التحديد الهوياتي والصياغة المعرفية التي نريدها. وعلى الرغم من كل التراكمات الكمية والنوعية، لا تزال مؤسساتنا الفكرية تستقي أولوياتها المعرفيّة والتحديديّة من ذلك التقسيم "السهل" الفاصل قطعاً بين الأدب وغير الأدب؟ معيارهم في ذلك الكفاءة والملكة التي يوظفها رجل الأدب وعبرها تجليات حكمه، مقابلة الكيفية التي تشتغل بها في ميادين أخرى للوصول بوجه مغاير إلى نتائج مختلفة، لكن في نهاية المطاف القصدية هي ذاتها.

صحيح، ما قيمة الأدب أمام حياة أفراد ينزفون صباحاً ومساءا؟ لكن في المقابل أيضاً، كيف بك الوصول إلى استثمار ما تبقى لهؤلاء المندثرين من أحاسيس كي يدركون بوعي سليم ما هم عليه حقاً؟ لذا، حينما تتحقق كينونتهم، لحظتها يتمتعون بكامل الحرية والمسؤولية، سواء للتمرد ضد وضعيتهم أو لانبطاحهم داخلها، فرحين بما اكتسبوا؟ وفق هذا الثابت، الأدب في تضاد مع التقنية والتألية، كل واحد منهما يجيب على أسئلة الشرط الوجودي بالطريقة التي يعتبرها أقرب إلى بلورة أقصى الممكنات البشرية. مرجعية، التحليل هي نفسها، لكنهما يختلفان بما يتعلق بالمنظومات الاستدلالية. إذن، الأدب زبدة تداعيات حسية وفنية. بينما، التقنية صياغة جديدة للعالم داخل نماذج صورية.

أعتقد، بأنه مع الثورات التي أسستها مسارات العلم الحديث، نتبين حقاً كون الأدب علم حلمي، في حين التقنية أدب "ناضج"، إذا، إذا أمكن قول ذلك. هكذا، انهارت الحدود والفواصل، وتماهى أخيراً الأدب مع أخره، بحيث انتهت الأشياء إلى انتصار باهر للخيال، وحتى بالمعنى الذي ألصق به على امتداد بنية الميتافيزيقا الغربية، أي باعتباره وازعاً "ابليسياً" يقود حتماً إلى التضليل والخطأ. بل، انقلب هذا الخيال إلى أهم "صمام" أمان للحفاظ على سلامة منطق بناء الفرضيات الجديدة. لقد استحالت، أبعاد وهندسات الفيزياء والرياضيات الجديدتين، دون الاتكال الصلب على الحمولات اللانهائية للخيال؟ هكذا، تضاءلت سطوة العقل كما انبنت أطره خلال القرن السابع عشر، وتضاءلت فاعليته أمام الآفاق الجديدة. هكذا "سيحتم" على أصحاب المختبرات تلمس روح النصوص الأدبية خاصة الحديثة منها والتي تستلهم النفس الإشراقي. إن القدرة على والولوج إلى مضامين كتابات شعرية من حجم تلك التي صاغها خيال بودلير أو إدغاربو مثلاً، وكذا متون أدبية طليعية أخرى، وروائية ومسرحية، ولوحات تشكيلية... تتموضع في المقام عينه، مع المبادئ المحددة للنظام الأكسيوماتيكي المسلماتي في ميدان العلوم التقنية. انزاح مبدأ الواقع عن التقييم المطلق والكلياني، باعتباره ثابتاً يقينياً كما اشتغل في المرجعيات الكلاسيكية، انسجاماً مع هوية تروم دائماً الإملاء والتماثل، إلى آخر تلصق به كمقدمة المجهول إكس(X)، ويستنتج فقط نتيجة يفترض فيها انسجامها الاستدلالي والتأويلي مع متواليات البرهنة.

انطلاقاً مما سلف، تأخذ، دلاله "جدوى" الأدب مستويين ابستمولوجيين في التحليل والمقاربة: لحظة، تصميم الواقع بتحويله إلى مرجعية مقدسة، هنا تتناسل بالتأكيد الإديولوجيات الإنسانية المباشرة والفورية، والتي هي حتماً وفية دون نزاع إلى الهويات الأحادية المستوعبة جيداً، للمعادلة التي تقول بأن الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين، بحيث لن يتمرد الأدب لحظة من اللحظات على قاعدة التقويم الأنطولوجي المستمر، كي يحتفظ الواقع على أبسط أبجديات الهوية التي هي روح منطلق وفكرة محركة للتاريخ، ولا يختل التوازن القيمي للإنسانية. إذن: الخير هو الخير، والحق حق، والعدل عدل ثم درجات تجسدها عند البشر. لقد أثتت السجون والمعتقلات والمنافي والملاجئ... كل الكون، لأنه بالطبع لن تكون الحاكمية إلا بالحديد والنار. ذلك شرط مطلق بين من يملك ومن لا يملك؟ بالتالي، قدر الأدب أن يفضح ويلاحق. انتصر أم أخفق؟ لا يهم. يكفي أن نجمل بأن الأدب أسقط الديكتاتوريات وتهاوت تحت صيحاته إمبراطوريات الشر والدناءة. أشعل، الأدب حروب الحقيقة والنار، واجتث مختلف أصول الشر والقبح والنتانة.

نلتمس من الأنثروبولوجيين والإثنوغرافيين، تحريهم لنا ماذا لو لم يكتشف الإنسان الأدب؟ ثم يزداد فضولنا لنقول كيف جاء الأدب؟ هل كان صدفة مثل النار؟ أم انبثاقاً مجتمعياً عسيراً؟ ربما، إذا حددنا مثل هذه الحيثيات، فإن ذلك يغنينا على كثير من النقاش الأجوف بخصوص الأدب والأدباء. استنتاجاً، للبعد الأول، أقول بأن الاجترار المتهالك لنفس قضايا النقاش الكلاسيكي على مستوى التعريف والمفاهيم والمناهج والأدوات، يصب تلقائياً في بوتقة الصراع بين الأدب والتقنية، ويضع كل واحد منهما وسط مسار منفصل ومنقطع جذرياً عن الثاني، بل ويشعل حربهما "الدينية" التي هي قطعاً عمياء. في المقابل، تبدو اللحظة الثانية التي تحققت بدينامية وجوهرية الخيال، أعظم توفيقاً و"انسجاماً"، لكي تتهذب التقنية بالأدب. وفي نفس الآن، تلتقط مؤسسة الأدب بذلك الذكاء العلمي مجموع ميكانيزمات التقنية.

هناك دعوة قائمة اليوم، وبإلحاح تنص على خضوع الأدب إلى احتكارات الهولدنغ، وامتثاله لروزنامة قوانين السوق، فيتحول الأدب إلى سلعة، تستهلك كمثلجات الأيسكريم أو الأحذية الرياضية... سعي، له دعاته ورساميله الرمزية وإلا ما تفسير وجود جناح ولـ Best- Seller في الأسواق التجارية على طريقة "هاري بوتر "جيمس بوند"، و"الهارب"... أي موقع اليوم، تحتله نصوص بعض أدباء النهضة الأوربية أو موسوعيي القرن الثامن عشر، ولما لا الملامح اليونانية وتراجيديات شكسبير.

طبعاً، أول تأشير للمراكز التجارية، سينحو باللائمة على ما هو كمي وكيفي. من جهة، سيحتم ارتفاع معدل الأورو، اختزال حجمها حتى يتناسب ثمن البيع مع ما يقدر عليه المستهلك والذي سيضع هذا الذي أضحى "أدباً" في قفته إلى جانب السمك والطماطم والمشروبات الغازية. من ثم، على شكسبير وفولتير عدم الإخلال بتوازن فاتورة المقتنيات، وإلا يصاب الأدب بالكساد. أما كيفياً، ما هو المنظور الممكن للمستهلك؟ بلغة ثانية، ما هي منظومات التفكير "الإيجابية"، بالنسبة لمسارات الإنسان المعاصر. وكل، الشهادات تقر كنتيجة عامة تدنيه إلى درجات من التسطيح والتفاهة، يصعب عليه في إطارها الوقوف على أرضية من قبل تلك التي دافع عنها أدب الصراعات الملحمية: صراع الإنسان مع نفسه ووجوده.

مع الهولدنغ والتروست، ومافيات الأجسام والأمخاخ، تتجلى حقيقة بشكل جدي وبدقة متناهية قضية "جدوى" الأدب. فهذا الأخير، وهو يجابه راهناً أسباب ومسببات "لا جدوى" الإنسان، في عمق دروب مظلمة ومعتمة كلياً، أو بالأحرى يعيش لحظة انفصام مرضية. كيف ، له أن يظل أصيلاً وكونياً امتثالاً دائماً لتشعبات هوية الامتلاء، وكذا الخيال المنفتح الذي يلف ويطوي، منفلتاً من كل تبويب وتصنيف. تبقى الإشارة أيضاً، إلى أن المساحات التي تنحتها تفاعلات "جدية" الأدب من عدمه، تمتد أو تتضاءل بناء على الموقع المؤسساتي والسوسيو اقتصادي لصاحب الأدب. ودون، الرهان على أي نوع من التقسيمات التي قد تكشف عن هشاشتها منذ البداية لأنها تبقى في كل الأحوال ذاتية ونسبية.

فعلى الرغم إذن، أريد فقط استحضار نموذج حامل لواء للأدب، يتقاسم مع الجميع كل الفضاءات المجتمعية سواء تحقق الأمر بالكتابة أو غيرها. أقصد، بذلك الشخص الذي ينبت الفرص في كل مكان، كي لا يتوقف الأدب عن الرحيل، ومن خلاله أن يطعم نفسه بشحنات زمانية دائمة.  في لحظة تاريخية ما، سطع نجم الأديب، الذي نجح عملياً في بلورة نوع من التفعيل الدقيق والصائب لـ: الواحد/ المتعدد. فهو: الروائي ،الشاعر، الخطيب، صاحب المقالة الصحافية، المناضل الحزبي والنقابي، المربي الملهم، والمدافع عن القيم الكونية الخالدة... أظن مع أفق كهذا، فإن مجرد التفكير في العودة إلى دفاتر الأدب المدنية أو الاجتماعية، يشكل ضرباً من "التحريفية" بالمفهوم العقائدي للكلمة. مادام ، أن هذا الأدب حسم ماهيته، مرة وإلى الأبد.

 

Saidboukhlet@hotmail.com

مراكش/ المغرب