يقدم الباحث العماني هنا أول كتاب كامل عن المفكر الراحل، يتتبع فيه مسيرته الحياتية والعلمية، ويعرض في سلاسة ووضوح باهرين أكثر أفكاره تعقيدا وكثافة، كاشفا عن إضافاته الفكرية والمنهجية، وعن مشروعه العلمي الكبير، فضلا عن الجوانب الإنسانية الحميمة في شخصيته فنشعر مع الكتاب حقا بفداحة الفقد وحرارة الوداع.

نصر حامد أبو زيد: الإنسان والعالِم

من قُحافة الميلاد إلى قُحافة الممات

عبدالله آل تويّه

 

«أنا أحب الحياة وأتمنى قبل أن أموت أن أنظر في عيون أحبائي وأقول لهم وداعاً»

«يكون الإنسان حيّاً فقط عندما يكون عقله يقظان”(1)

«لا أريد أبداً أن أعطي انطباعاً بأنني ضد الإسلام، أنا بعيد عن ذلك. ولا أريد أيضا أن أعطي انطباعاً بأنني سلمان رشدي جديد. أنا لست كذلك. إن أسوأ ما أخشاه هو أن يعتبرني الغرب ناقداً للإسلام. هذه الصورة ليست دقيقة بالمرة. أنا معلم وعالم ومثقف وباحث. إن دوري هو إنتاج المفاهيم. إنني أتعامل مع القرآن بوصفه نصّاً موحى من الله إلى النبي محمد. ذلك النص وصل إلينا بلغة البشر، اللغة العربية. بالنظر إلى أبحاثي أنا ناقد للخطاب الديني الإسلامي. [من ضمن أهدافي] هو أن أظهر كيف تستخدم المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الدين من أجل الوصول إلى السلطة. إن كتاباتي تهدد بعض أولئك الذين يوظفون تلك السلطة. ومع ذلك فأنا أعد نفسي مسلماً. ولدت مسلماً، وتربيت مسلماً، وأعيش مسلماً، وإن شاء الله سأموت مسلماً” (2) .

«إذا نظرت إلى المجتمعات العربية والإسلامية، فإنك سترى غالباً أن كل الحكومات جاءت إلى السلطة من دون اختيار الناس لها. وستجد – في الغالب - نظاماً عسكريّاً وعوائل مالكة عفا عليها الزمن ]واقفة[ على رؤوس الشعوب، أو حاكماً ورث السلطة من سلفه. وفي بعض الأحيان تطل السلطة الحاكمة الجديدة باسم جديد ومظهر حداثي: كل ما عليك فعله –في هذه الحالة- هو أن تنبش بأظافرك في قشرة هذا الاسم والمظهر الحداثي الجديدين وسترى نفس الوجه القديم مخبّأً تحت القشرة. العقلية القبلية لا تزال حية وفي أتم عنفوانها. القاعدة هي الطاعة. إن كل مؤسساتنا -السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية- ذات بنية سلطوية. إن عليك إما أن تنتمي إلى اليمين وإما إلى اليسار- وبالتالي فإن عليك أن لا تعصي قاعدة قبيلة المثقفين التي تنتمي إليها أيا كانت. إنها حالة مزرية».(3)

“بقدر ما أنا ضد الأصولية الدينية أنا ضد الأصولية في أي نظام فكري آخر ... العلمانية قد تكون أصولية، الليبرالية قد تكون أصولية، أي ادعاءً بامتلاك الحقيقة ضد أي ادعاء آخر مماثل أعتبره شكلاً من أشكال الأصولية ... عليّ أن أقول إنني أتعلم الكثير من طلابي، أنا أشجع طلابي على أن يكونوا نقديين لأفكاري. إنه من دون هذا النقد المتواصل لن تتطور الأفكار. لا أريد من طلابي أن يقلدوني، لا أريد أن أكون إماماً. أنا عالم وأي نتيجة أتوصل إليها من المفترض فحصها... وكم أكون سعيداً حين أرى في رسائل طلابي للماجستير والدكتوراه نقداً لأفكاري. أنا أشجعهم على ذلك. لا أحد يستطيع ادعاء المعرفة المطلقة وإلا سنخلق أصولية أخرى»(4) .

* * *

الكتابة عن الموت صعبة جدّاً وقاسية ومؤلمة. الكتابة عن رحيل أبو زيد أكثر صعوبة وأكثر قسوة وأكثر إيلاماً. سيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل قول كل شيء عن لحظة وفاة أبو زيد في الخامس من يوليو 2010م في القاهرة. لقد كان خبر وفاته مفاجئاً وفاجعاً ومؤلماً إلى أبعد الحدود، ذلك أنه غادر الحياة باكراً جدّاً جدّاً ولم يفرغ بعد من كتابه الأخير حول نظريته الجديدة في التأويل القرآني: القرآن: من النص إلى الخطاب. ناهيك عن مشاريع فكرية أخرى عن القرآن كان أهمها مشروعه الكبير المشترك مع زميله وصديقه الدكتور علي مبروك - أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة - لتأسيس المعهد الدولي للدراسات القرآنية في إندونيسيا، ومشروع ترجمة الموسوعة القرآنية الصادرة في هولندا مؤخرا إلى اللغة العربية. ومع رحيل أبو زيد يكون العالم الإسلامي والغربي قد خسرا واحداً من أهم علماء القرآنيات والإسلاميات العلمانيين وأبرزهم اليوم في العالم قاطبة. لكن خسارة الوطن العربي ومصر على وجه الخصوص لنصر حامد أبو زيد كانت متواصلة في حياته وحتى مماته. لقد كان تكفيره في عام 1993م واتهامه بالردة أكبر تشويه وتزييف للوعي العام حول كتاباته وأفكاره وبحوثه العلمية، عن القرآن بصفة خاصة والتراث الإسلامي بصفة عامة. ولأن العالم العربي لا يقرأ ولا ينتج معرفة، فقد كان كافياً وَصْمُهُ بالمرتد والكافر في عام 1993م، من قبل الإسلام السياسي ومشايخ كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، لقتل صورته الحقيقية التي حُجِبَ أكثر تفاصيلها عن الوعي العام بل وكذلك النخبوي.

اليوم، بعد رحيل عالم القرآنيات الأميز والأبرز في العالم، الصورة لا تزال مشوهة ومفبركة ومزورة عن نصر حامد أبو زيد. لكنْ هل تحققت أمنية أبو زيد في النظر إلى عيون أحبائه وتوديعهم قبل الرحيل الأخير؟ إنني أشك في ذلك كثيراً، ذلك أن المرض الفجائي الذي ألم به لم يمهله طويلاً كي يقول وداعاً. غادر أبو زيد إندونيسيا إلى مصر قبل انتهاء مهمته هناك التي كان من المفترض أن تنتهي في نهاية يونيو الفائت. هل أحس باقتراب موعد الرحيل؟ هل أراد أن يكون أقرب إلى قُحافة - مسقط رأسه - من أي مكان آخر ليُوارى الثرى هناك؟ لكن المؤكد هو أن صديقه علي مبروك يعرف تفاصيل كثيرة عن حيثيات ما جرى في حياته في الأسبوعين اللذين سبقا رحيله إلى عالم الملكوت. ويكفي هنا اقتباس ما له دلالة في هذا السياق من كلام الدكتور علي مبروك، ويالها من دلالة! فحتى علاج أبو زيد في مصر تدور حوله استفهامات كبيرة!: «لا أستطيع الحكم على أي كلام طبي، ولكن عندما تركته لأول يوم في المستشفى كانت حالته لا بأس بها، فقط لحظات قليلة يبتعد فيها ثم تصبح حالته على ما يرام. وعندما جئنا من المطار كان يتحدث مع السائق بشكل طبيعي جدّاً. لا بد لي من الإشارة إلى أن الخدمة الطبية في مصر سيئة فعلاً، يكفي أننا قضينا عشرة أيام في المستشفى في حالة عدم يقين. لم نكن نعرف مما يعاني نصر بالضبط. الأطباء كانوا يضعون فروضاً ويختبرونها، وكل فرض يقومون باختباره ليومين أو ثلاثة أيام،. قيل إنه يعاني من فيروس، وقيل جلطات صغيرة في الرأس ومالاريا والتهاب سحائي. يبدو أن الانهيار الذي أصابنا في كل المناطق لم يستبعد المجال الطبي.” ويضيف علي مبروك: «لم يدخل أبداً في غيبوبة. حتى الفترة التي انفصل فيها عن العالم، كان ما يزال يتحرك ويفتح عينيه، وجسمه كان يقوم بكل وظائفه الحيوية. أتصور أن معدل الانهيار في إندونيسيا كان أقل منه في مصر، على الرغم من تعاطيه للأدوية التي كان يفترض أن تساعد جسمه على مقاومة الفيروس. عبرت للطبيب عن هذه الملاحظة، ووافقني، بدون أن يعلق أو يفسر. دوماً كان يقال لنا إنه ما دام الجسم قد دخل في منطقة الفيروس فعلينا أن نتوقع أن تظل حالته هكذا لشهرين أو ثلاثة، وعندما يشفي لا يمكن التنبؤ كم سيخسر من قدراته العقلية والذهنية. وقيل لنا إننا نحتاج إلى وقت. أصبت باليأس من كل هذا الكلام. والآن لا أعرف هل يتعلق الأمر بأنه بدأ العلاج متأخراً، أم بالتأخر في القدرة على تشخيص المرض، ولا أعرف أيضاً تفسير الفيروس، هل هو صحيح أم لا”.(5)

إن تصريحات علي مبروك حول مرض صديقه وكيفية تشخيص حالته من قبل الأطباء تسحب مصداقية الخبر – على الأقل حتى هذه اللحظة - الذي قيل فيه إن موت أبو زيد كان نتيجة فيروس غامض! وكيفما كان من أمر مرض أبو زيد فإنه ليس من المرجح التحقيق في السبب الرئيس لوفاته – المرض - في مصر ولا حتى مساءلة الأطباء الذين فشلوا في تشخيص حالته لعشرة أيام متتالية، لأن التحقيق الذي قامت به مصر كان ضد أبو زيد منذ البداية. كان ذلك هو التحقيق في إيمانه وكتاباته وفكره في محكمة الأحوال الشخصية في القاهرة في 1993م، ومن ثم إعلان التكفير والردة والتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس - أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة - في 1995م، الأمر الذي أجبره على الرحيل مرغماً إلى هولندا. إن تشييع جثمان أبو زيد ظهر ذلك اليوم الحزين جدّاً في الخامس من يوليو الفائت إلى مقبرة القرية في قُحافة كان كاشفاً ودالاًّ على مقدار التشويه والتزييف الذي ألحقه الخطاب الديني بفكره في مصر، التشويه والتزييف اللذين لاحقا أبو زيد حتى قبره. بسبب هذا الخطاب شُيِّعَتْ جنازة أبو زيد «وسط إقبال متوسط من ذويه وأهالي المنطقة، كما خلت الجنازة تماماً من أيِّ شخصيات عامة أو مسؤولين أو وفود رسمية”.(6)

حقّاً فما كان يخشاه أبو زيد أن لا يشيع جثمانه في مصر باحترام يستحقه أي مسلم غادر إلى الرفيق الأعلى. كان أبو زيد قد أوصى زوجته الدكتورة ابتهال يونس – في وقت مبكر من الحياة في المنفى - بعدم إرسال جثمانه إلى مصر لو وافته المنية خارجها: «كل مصري أعرفه يتوق إلى أن يدفن في تراب مصر. لكنني أخبرت ابتهال أنني إذا مت في المنفى أن لا تعيد جسدي إلى وطني. نتيجة للإعلان الرسمي للمحاكم المصرية بتكفيري، أشعر وكأن أمي نبذتني. كيف يمكن أن أنام في سلام في حضنها بعد أن عاملتني بشكل ظالم؟”(7). وعندما شاهد أبو زيد الإهانة التي وجهت إلى جثمان الشاعر نزار قباني في 1998م، حين وقف الإسلامويون كتفا إلى كتف لمنع دخول جثمان قباني إلى المسجد للصلاة عليه، قام بتأكيد طلبه لزوجته: عدم إرسال جثمانه إلى مصر لو وافته المنية خارجها. ومع أن جثمان أبو زيد لم يهن بالطريقة التي كان يخشاها، إلا أن توديعه إلى قبره في قحافة لم يكن يليق بمقامه الكبير على الإطلاق.

انتقل أبو زيد إلى الرفيق الأعلى بعد 15 عاماً من المنفى الاختياري في هولندا، مخلفاً نتاجاً نوعيّاً وفيراً في حقل الدراسات الإسلامية والقرآنية باللغتين العربية والإنكليزية. كان جرح أبو زيد من وطنه غائراً وعميقاً جدّاً بحيث إنه زار مصر بعد سبع سنوات فقط (2002/2003م) من رحيله إلى المنفى. وخلال الثماني سنوات المنصرمة زار أبو زيد مصر عدة مرات، وألقى فيها عدداً من المحاضرات بدعوات من أصدقاء ومؤسسات. ولعل أبرز تلك الزيارات كانت مؤخراً إلى مكتبة الإسكندرية حيث ألقى هناك سلسلة من المحاضرات عرَّف فيها بآخر بحوثه وإنجازاته العلمية. وعندما وصل إلى هولندا بصحبة زوجته في أكتوبر عام 1995م رفض اللجوء السياسي والجنسية اللذين عرضتهما عليه الحكومة الهولندية، ورفض تقديم نفسه ضحية، لأنه يعتبر نفسه واحداً من أبناء أمة منكوبة بالكامل. كان أبو زيد مدركاً منذ البداية للسياق التاريخي الذي يمر فيه العالم العربي الذي يرزح تحت سلطة الدكتاتورية والفساد، وأن صراعه في مواجهة الخطاب الديني الإسلاموي في مصر وخارجها هو أحد تجليات تلك الدكتاتورية وذلك الفساد. ومنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى ليدن Leiden– وصل قبل ذلك إلى إسبانيا وألمانيا - انخرط في عمل دؤوب لتجديد الفكر الإسلامي. إن اختياره لهولندا وجهة جديدة للحياة بعد التكفير والحسبة ذو دلالة مهمة بالنسبة إلى الفكر الإسلامي، فجامعة ليدن واحدة من أعرق الجامعات في أوروبا وتأسست في 1575م، كما أن بها-مدينة ليدن- واحداً من أعرق المراكز الأكاديمية في الدراسات الإسلامية الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1593م، وهو الأعرق في أوروبا على الإطلاق. وهناك في هولندا كان في جعبة أبو زيد الكثير ليقوله عن القرآن والفكر الإسلامي.

اليوم ونحن نتذكر أبوزيد يكون لزاما أن نتذكره إنساناً وعالماً معاً. لا تدَّعي هذه المقالة تقديم قراءة نقدية في كتابات أبو زيد، فقراءة نقدية لكتاباته تستدعي الغوص عميقاً في بنائه الفكري الشاهق، وهو ما لا تقوم به هذه المقالة. وبالرغم من ذلك سأحاول هنا موضعة فكره - القرآني على وجه الخصوص - في سياقه المعاصر والإطلال على سيرته الذاتية لمحاولة الربط بين أبو زيد الإنسان والعالم. إن هذه المقالة، بالنسبة إلى كاتبها، وفاء وعرفان لأبو زيد العالم والمفكر والباحث والمثقف والكاتب والإنسان والمواطن والصديق.

(1) من القرية إلى الجامعة: الشاعر والمفكر

وصل أبوزيد إلى الجامعة في وقت من حياته متأخر قليلاً، حيث منعه الفقر والعوز وضنك الحياة من دخولها باكراً. كان عليه منذ سن الرابعة عشرة –توفي أبوه وهو في هذه السن- أن يعيل أشقاءه الخمسة (بدرية وآيات وكريمة وأسامة ومحمد)، وأن يعاون أمه في توفير الملبس والمأكل والتعليم لهم. ومنذ تلك السن، وحتى تخرجه بالليسانس، عمل في قطاع اللاسلكي -التابع لوزارة الاتصالات-  في مركز للشرطة، وجنبا إلى جنب مع عمله إلتحق بالتعليم النظامي. وهكذا حصل على الدبلوم المتوسط والثانوية والليسانس وهو على رأس العمل. وبعد اطمئنانه إلى مستقبل أشقائه كان عليه أن ينظر إلى مستقبله هو نفسه. وفي سن الخامسة والعشرين وصل أبو زيد إلى جامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية، وحصل على الليسانس من كلية الآداب في 1972م ليعمل بعد ذلك معيداً فيها في قسم اللغة العربية. وقبل دخوله الجامعة كان أبو زيد دودة قراءة، وكان قد قرأ من الكتب ما لم يقرأه مجايلوه من الطلاب. كانت القراءة هي المتعة الوحيدة لأبوزيد منذ سنين الطفولة الباكرة حيث إنها الشيء الوحيد الذي كان يستطيعه بالمقارنة بأقرانه في الكُتَّاب والمدرسة في قريته قحافة(8) .

وفي الكُتَّاب بقحافة أتم أبو زيد حفظ القرآن في سن الثامنة. ومنذ سن باكرة جدّاً أدرك قيمة التعليم وأنه فِعْلٌ مشترك بين المعلم والتلميذ وليس تلقيناً. في سيرته الذاتية (مذكراته) التي نشرت بالإنكليزية في 2004م تحت عنوان “صوتٌ من المنفى: تأملات في الإسلام” يتحدث أبو زيد بنوستالجيا حميمية عن سنوات حياته الأولى في القرية عندما كان يقرأ على أصدقاء والده الأميين ومنذ تلك الأيام أدرك أن التعليم رحلة ذهاب وإياب وأنك في عملية تعليم الآخرين تتعلم منهم في إشارة إلى أن فعل القراءة على أصدقاء والده الأميين جعله يتعلم من أسئلتهم وتفاعلهم معه(9). وعندما وصل إلى الجامعة تحقق حلمه في أن يكون معلماً. بدأ حياته شاعراً عامِّيّاً - حصد عدداً من الجوائز- وقاصّاً وناقداً أدبيّاً. كان أبو زيد مولعاً بالشعر والقصة القصيرة والرواية والأدب والفن والموسيقي منذ سن باكرة، وحيث إن الكتب كانت رخيصة على جيبه في ذلك الوقت من الخمسينيات والستينيات فقد تمكن من قراءة الأدب الفرنسي والروسي المترجم وبالطبع الأدب العربي. وقبل دخوله الجامعة كتب عدداً من المقالات الأدبية ونشر عدداً من القصائد. ومن بين مقالاته التي كتبها قبل دخول الجامعة مقالة عنوانها “أزمة الأغنية المصرية”.

لكن هذا الشاعر الشاب القادم من قُحافة في طنطا بدلتا النيل إلى القاهرة لإكمال دراسته الجامعية في اللغة العربية والنقد الأدبي مسكوناً بأحلام الأدب والنقد والإبداع لم يكن يدري أنه سيسلك طريقاً مغايراً غير الذي كان يريده ويتمناه. كان الدكتور جابر عصفور صديق أبو زيد ورفيق عمره قد تخصص حينها في النقد الأدبي في القسم نفسه، الأمر الذي كان مغرياً لرفيقه أبو زيد ليلحق به في نفس الدرب ويكمل الماجستير في نفس التخصص. لكن المفاجأة كانت حين طلب من أبو زيد أن يتخصص في الدراسات الإسلامية، وذلك لافتقار قسم اللغة العربية آنذاك لمتخصص في هذا المجال. تردَّد أبو زيد كثيراً في قبول المنحى الجديد الذي فرضه عليه أساتذته، خاصة لأنه كان يعرف أن الشيخ أمين الخولي (1895-1966م) الذي كان مشرفاً على نفس القسم ومن بعده تلميذه محمد أحمد خلف الله (1916-1998م) قد عانيا الأمرَّين بتطبيقهما المنهج الأدبي في الدراسات القرآنية. كانت محاكمة ما كتبه خلف الله في رسالته للدكتوراه – التي رفضتها الجامعة وطردته منها ومنعت الخولي بعد ذلك من الإشراف على أي رسالة في الدراسات الإسلامية - “الفن القصصي في القرآن الكريم” ترتسم أمام ناظري أبو زيد محذرة ومنذرة بقادم مجهول. ولم تفلح توسطات رفيق دربه جابر عصفور في ثني الأساتذة عن التخصص الجديد الذي أرادوا أبو زيد أن يأخذ منحاه. وهكذا وجد أبو زيد نفسه في قسم اللغة العربية متخصصاً في الدراسات الإسلامية، وشاغلاً لنفس الكرسي في نفس القسم الذي أجبر أمين الخولي على تركه فيما بعد بالتقاعد القسري. وكان عليه أن يترك الشعر، مع أنه كتب بعض القصائد في سنوات حياته اللاحقة، إذ وجب عليه منذ تلك اللحظة التي عين فيها في التخصص الجديد أن ينبش في التراث الإسلامي قراءة وفحصاً وتمحيصاً ونقداً. (تجدر الإشارة إلى أن أمين الخولي كان رئيساً لقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة ورئيساً لتحرير مجلة الأدب التي تولى إنشاءها، وهي المجلة التي نشر أبو زيد فيها قصائده الأولى حين كان شابّاً يافعاً). واقع الأمر أنه بمجرد خروج بحثه الأول من قسم اللغة العربية “الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة” في 1976م(10) بدأت ملامح جديدة في نقد التراث الإسلامي تبزغ في الوطن العربي إعلاماً بظهور مفكر جديد.

إن إعادة تذكر تلك اللحظات المهمة من تارخ الفكر المعاصر في أواخر سبعينيات القرن الفائت - تاريخ دخول نصر أبو زيد إلى معترك الفكر الإسلامي - ذات دلالات مهمة وعميقة، وهي أمر يستدعي تذكر علماء النهضة المصريين هنا ونحن بصدد بسط إنجازات أبو زيد الفكرية والعلمية وعلى الأخص المتأخر منها-كتاباته الإنكليزية- غير المعروفة للقارئ العربي. لم يكن محمد أحمد خلف الله وأستاذه الخولي الوحيدين اللذين ارتسمت صورتاهما أمام أبو زيد وهو يتقبل تخصصه الجديد- على مضض- بل كان قبلهما تاريخ طويل لعلماء النهضة المصريين الذين عانوا من وجه التخلف الديني والاجتماعي والسياسي. معاناة أبو زيد لاحقاً كانت أشد وأعنف لأن الفساد السياسي في مصر كان قد وصل إلى أبشع صوره. من علي عبد الرازق – الأزهري - و”الإسلام وأصول الحكم” 1925م، مروراً بطه حسين - الذي درس في الأزهر هو الآخر قبل أن يدخل إلى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة فيما بعد) - “في الشعر الجاهلي” 1926م، وصولاً إلى محمد أحمد خلف الله و”الفن القصصي في القرآن” 1947م وانتهاء بنصر حامد أبو زيد 1993م كان التكفير هو العنوان الرئيس لكتابات هؤلاء المفكرين.

كان طه حسين (في الشعر الجاهلي) - الكتاب الذي يصفه أبو زيد بالقنبلة - هو من أعاد إحياء أفكار الأزهري محمد عبده (1855-1905م) في اعتبار القصص القرآني مجازاً وليس تأريخاً، وهو بصدد بسط نظريته حول مصداقية الشعر الجاهلي وقضية الانتحال. وكان علي عبد الرازق هو من تصدى للفكرة السلفية - السائدة حتى اليوم - القائلة بأن نظام الخلافة هو نظام إسلامي إلزامي وتجب استعادته، بل ذهب إلى دحض وجود أي نظام للحكم في القرآن. أما محمد أحمد خلف الله فقد أخذ الدرس الأدبي في القرآن خطوة أبعد - متأثراً بأفكار أستاذه الشيخ أمين الخولي حول أدبية القرآن - مفصلاً في دراسته للدكتوراه ما أجمله عبده حول القصص القرآني، ومعتبراً الوحدات السردية للقصة الواحدة مستقلة بذاتها(11). وقبل هؤلاء كان هناك الأزهري “الفلتة” رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م) الذي دخل الأزهر في سن باكرة ليدرس الفقه والحديث والتفسير. لقد أحدث هذا الأزهري انقلاباً في تاريخ النهضة في مصر. ابتعثه محمد علي باشا إلى فرنسا ضمن بعثة علمية ليكون مؤذناً وإماماً لطلاب البعثة. ولأنه أزهري فريد من نوعه تماماً تعلم الفرنسية وأجادها، ثم صار مترجماً ترجم إلى العربية العديد من الكتب الفرنسية وهو لما يزل بعد على مقاعد الدراسة. (وجدير بالذكر أن الطهطاوي، الذي كانت وظيفته الأساسية في بعثة محمد علي باشا- استمرت بين عام 1826 وعام 1831- إماما للطلاب، هو الوحيد بين زملائه في البعثة الذي اشتغل بالترجمة من الفرنسية إلى العربية) ومن بين ما ترجم كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو، وكتاب “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو، وغيرهما. وعندما عاد إلى مصر أسس “مدرسة الألسن للترجمة”. هذا ناهيك عن كتبه التي ألفها، ولعل من بين أهمها “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي يسجل فيه إعجابه بالمرأة الباريسية وتمنيه على المرأة المصرية أن تكون مثلها. وكان هناك جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) - ملهم محمد عبده - ومحمد عبده الذي سافر هو الآخر إلى فرنسا وغيَّر مسار الفكر الإسلامي في النظر إلى القرآن، معتبراً إيَّاه كتاب هداية وعظة واعتبار، وليس كتاباً في العلم والتاريخ. كان محمد عبده أول من قال بمجازية القصص القرآني، مهيِّئاً بذلك الطريق لطه حسين “في الشعر الجاهلي”. أكثر من ذلك - بالنسبة إلى محمد عبده - إن وجود السحر والحسد في القرآن، لا يعبر عن وجود فيزيقي بل يتساوق فقط مع فهم العرب في الزمان الذي أنزل فيه القرآن. لقد كان محمد عبده ملهماً لكثيرين في مصر - قاسم أمين وطه حسين مثالاً - وسائر أرجاء العالم الإسلامي. وقد بلغ انفتاح الأستاذ الإمام أنه بعث برسالة إلى الروائي الروسي العظيم تولستوي يُثني فيها عليه وعلى مبادئه الإنسانية العظيمة، وقد رد الأخير على الإمام برسالة شكر وإجلال سائلاً إيَّاه فيها بعض الأسئلة منها ما يتعلق بمذهب البهائية(12) .

وبينما سكت عبد الرازق عن ما وُجِّهَ إليه من اتهامات التكفير - التي وجهها إليه الأزهر - في حينها، مؤثراً عدم الخوض في مسائل حساسة نالت من شخصه الكريم، تراجع طه حسين وحذف العبارات التي أثارت الجدل والصخب حول كتابه، وغيَّر عنوان الكتاب إلى “في الأدب الجاهلي”، وانتهج طريقاً أكثر هدوءاً فيما بعد في حياته، ألف خلاله كتبا عديدة منها في الإصلاح الفكري والتعليمي في مصر. وبالنسبة إلى خلف الله فقد وجد نفسه وحيداً في منازلة خصومه في مجلة الرسالة الأدبية الأسبوعية التي كتب فيها عدداً من المقالات في 1947م ردّاً على اتهامات التكفير التي وجهت إليه وشرحاً لأفكاره حول مجازية القصص القرآني في أطروحته للدكتوراه(13) .لقد كانت النتيجة التي توصل إليها علماء النهضة ومفكروها المصريون ابتداءً من عبده ومرواً بحسين والخولي وانتهاء بخلف الله هي أن القرآن “نص أدبي بامتياز”(14) .

مسكوناً بهذا التاريخ والإرث الحافل لعلماء النهضة ومفكريها أعاد نصر حامد أبو زيد قراءة القرآن والحاضر والتراث الإسلامي متجاوزاً ومضيفاً إلى النتائج التي توقف عندها علماء النهضة المصريون والعلماء المسلمون غير التقليديين في سائر أرجاء العالم الإسلامي كما سنرى لاحقاً. إن الفارق الرئيس بين “جلّ” علماء النهضة المصرين ونصر أبو زيد هو أن الأخير لم يُقدِّم شعرةَ تنازل واحدة للخطاب الديني حتى آخر لحظة من حياته الحافلة بالإنجازات الفكرية والفتوحات المعرفية. حقّاً، فإن كتابات أبو زيد اللاحقة على تكفيره كلها كانت تعميقاً لمناهجه العلمانية والليبرالية في قراءة النص الديني بالتزام الشرط المعرفي. متأثراً هو الآخر بمنهج الدرس الأدبي في القرآن - الذي بلغ نضجه عند الخولي وتلميذه خلف الله - قام أبو زيد - لأكثر من ربع قرن - بتطبيق نظرية “القرآن نص أدبي” على كل دراساته القرآنية (1976-2004م). وفي عام 2004م - كما سنرى لاحقاً - تجاوز أبو زيد منهج الدرس الأدبي للقرآن، متقدماً خطوات ليست يسيرة على حقل الدراسات القرآنية الإسلامية والغربية معاً، بما فيها دراساته نفسها السابقة على هذا التاريخ. مبتدئاً بقراءة التأويل المعتزلي العقلي للقرآن توصل – على مستوى البحث اللغوي - إلى نتيجة مفادها أن التراث الإسلامي عبارة عن منظومة متكاملة من المجالات المتعددة التي انبثقت من القرآن بوصفه مرجعية مشتركة لكل علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة وفقه لغة ونقد أدبي ... إلخ(15) .

والمعتزلة هم رواد التأويل العقلي في العصر الإسلامي الأول الذين - بخلاف الأشاعرة - أوَّلوا الآيات التجسيدية لله في القرآن على أنها مجاز، كما أنهم رفضوا تماماً فكرة إمكانية رؤية الله بعيون البشر. وفي ضوء ذلك يكون المعتزلة – مؤسسو التأويل المجازي للقرآن - الممثلين الأوائل لتأويل قرآني تقدُّميّ. لكن تأويل المعتزلة العقلي للقرآن - في مقابل التأويل الحرفي عند خصومهم الأشاعرة - لم يكن كافياً بالنسبة إلى أبو زيد للشروع في تأسيس تأويل قرآني منفتح وأكثر تقدمية من التراث الحي للمعتزلة ذلك أن مبادئ المعتزلة التأويلية للقرآن أنتجت استجابة لظروف اجتماعية وسياسية: «كان الاستنتاجُ الرَّئيسُ الذي توصَّلتُ إليه، بعد مقارنةِ خطاباتِ المعتزلةِ وخصومِهم، أنَّ القرآنَ صار ساحةً لمعركةٍ فكريَّةٍ وسياسيَّةٍ ضروس. وقد مُوْضِعَتْ تلك المعركةُ في واحدةٍ من المراحلِ الحاسمةِ لبنيةِ النَّصِّ القرآنيِّ (سورة آل عمران، الآية 7). يَتَّفِقُ المعتزلةُ وخصومُهم على مبدأِ أنَّ القرآنَ يحوي آياتٍ مُتشابِهاتٍ وأخرى مُحْكَمَاتٍ، وأنَّ الآياتِ “المُحْكَمَاتِ” هن “أم الكتاب”، وبالتالي تكون هي المرجع في فهم المتشابهات. ولكنَّهم يختلفون عندما يتعلَّق الأمرُ بالتَّطبيقِ العمليِّ. وهكذا فإنَّ الخلافَ لا يدور حول معنى القرآنِ فحسب، بل يتضمَّن بِنْيَتَهُ أيضًا، حيث إنَّ ما يعتبرُه المعتزلةُ “مُحْكًمًا” يعتبره خصومُهم “مُتَشَابِهًا”، والعكسُ صحيحٌ. صار النزاع حول “المعنى” استناداً إلى تصور ما للمبنى هو أول مبدأ “تأويلي” يتم إقراره في تاريخ التفسير”.(16)

وبعد هذه النتيجة كان على أبو زيد البحث مجدداً في التراث عن أفق تأويلي أكثر رحابة من الجدليات الدياليكتيكية لعلماء اللاهوت أو علماء الكلام - المعتزلة - التي صيغت على أرضية خلافية ضد خصومهم الأشاعرة. وهكذا كانت دراسة أبو زيد الثانية “فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي” (1980م) استكشافاً وبحثاً ونقداً للتأويل الصوفي للقرآن عند المتصوف الأندلسي العظيم محيي الدين بن عربي. وبخلاف “الاتجاه العقلي في التفسير” الذي جادل فيه أبو زيد مفاهيم التراث الاعتزالي في التأويل القرآني بتوظيف نظرية “القرآن نص أدبي”، معتمدا على أدوات تأويلية وتحليلية لا تتوسل العلوم اللسانية الحديثة، طور في “فلسفة التأويل” نظريته في التأويل بتوظيف مفاهيم وأدوات قراءة جديدة – مضافة إلى علوم التراث - من العلوم الإنسانية الغربية: الهرمنيوطيقا (علم تحليل الخطاب) والسميوطيقا (علم الدلالة أو علم العلامات) والنقد التاريخي والسوسيولوجيا. وبتطبيق مناهج اللسانيات الحديثة على تأويل ابن عربي لاحظ أبو زيد: “أن العلاقة بين المفسر والنص ليست علاقة إخضاع من جانب المفسر وخضوع من جانب النص، والأحرى القول إنها علاقة جدلية قائمة على التفاعل المتبادل”.(17) في هذا التفاعل المتبادل لا يمكن إغفال الظروف التاريخية والموضوعية لكل من المفسر والنص. لقد كان هذا الكتاب الثاني الذي نقل فكر أبو زيد إلى مرحلة أعمق من بنائه الفكري في النظر إلى الدرس القرآني، الدرس الذي سيواصل فحصه ونقده بتعمق أكبر حتى وفاته في يوليو 2010م. النتيجة التي توصل إليها أبو زيد بعد دراسته لتأويل القرآن عند ابن عربي كانت واعدة كثيراً جدّاً بتحقيق تأويل ديمقراطي للقرآن: “قد يكونُ التأويل الصُّوفيَّ المُكَوِّنَ المُمْكِنَ لتأويلية ديمقراطيَّةٍ مفتوحةٍ في الثَّقافةِ الإسلاميَّة... إنَّ مشروعَ ابنِ عربيّ التأويلي مؤسَّسٌ بالكاملِ على تأكيدِ طبيعةِ القرآنِ الاشتماليَّةِ، التي تعني الجمعَ، مُقَابِلَ الفُرْقَانِ، الاسمِ الآخرِ للقرآنِ الذي يعني الفصلَ والتَّفريق. وبواسطةِ هذا التَّأكيدِ سَنَّ ابنُ عربيّ محاولةً لدمجِ كلِّ المعارفِ السَّابقةِ وحتَّى عصرِه (من أفلاطونَ وحتَّى ابنِ رشد) في القرآن. إنَّ تأويل ابنِ عربيّ يفتح معنى القرآنِ ومعنى الإسلامِ ليكونا معنيَين ختاميَّين، أي بمعنى أنَّهما معنيَّان يدمجان المسيحيَّةَ واليهوديَّةَ وكلَّ الأديانِ الأخرى. إنَّ إسلامَ ابنِ عربيّ هو دينُ الحُبِّ الشَّامِلِ- كما يُسمِّيه هو في شعره”(18) .وبالرغم من هذه النتيجة الواعدة في التأويل الصوفي للقرآن يؤكد أبو زيد أن تأويل ابن عربي غير منعزل هو الآخر - كما هو الحال مع المعتزلة - عن الظروف الاجتما-سياسية التي أنتج فيها، ومن هنا فإن تأويل ابن عربي للقرآن قد يكون نوعا من اليوتوبيا.

وإذا كان أبو زيد قد بدأ بحوثه العلمية حول القرآن بفحص العلاقة بين المفسر والنص في التراث الإسلامي ممثلاً في كتابيه المشار إليهما سابقاً بغية الوصول إلى الظروف التاريخية والموضوعية لنشأة التفاسير القرآنية ومن ثم التأسيس لتأويلية مفتوحة للقرآن، فإن كتابه “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن” (1990م) كان بمثابة إعادة تعريف للقرآن، وتباعاً إعادة تعريف للإسلام. إن السؤال: ما القرآن - في ضوء العلوم التقليدية المعروفة بعلوم القرآن وإطار الثقافة الإسلامية قديماً وحديثاً بشكل عام - سيظل يرافق أبو زيد حتى آخر لحظات حياته، لأن الإجابات التي توصل إليها في التسعينيات من القرن المنصرم حول ماهية القرآن كانت تثير المزيد والمزيد من الأسئلة، التي حملها معه إلى أوروبا فيما بعد وطرح إجابات عنها في كتاباته الإنكليزية المتأخرة. إن “مفهوم النص” لا يقوم بنقد علوم القرآن التقليدية - التي وضعها العلماء المسلمون - فحسب بل إنه أيضاً يعيد تأسيس مفهوم الوحي في الثقافة العربية الإسلامية بموضعته في سياقه التاريخي بوصفه ظاهرة مألوفة لعرب الجاهلية - تتساوق مع حالات اتصال الشعراء والكهان بالجن - وهو الأمر الذي يمكن أبو زيد من تحليل الظاهرة القرآنية في القرن السابع الميلادي بوصفها مُنتَجاً ثقافيّاً: «إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي. والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً. وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقاً عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص. إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها”.(19) وإذا كان القرآن - بحكم استجابته للواقع وأحداث القرن السابع الميلادي وتفاعله معها وهو أمر يعكسه علم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والنص القرآني نفسه - مُنتَجاً ثقافيّاً فلقد صار بعد ذلك مُنتِجاً للثقافة: «لكن القول بأن النص منتج ثقافي يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكون والاكتمال، وهي مرحلة صار النص بعدها منتجا للثقافة، بمعنى أنه صار هو النص المهيمن المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى وتتحدد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها وبين إمداده للثقافة وتغييره لها”.(20)

من هنا فإن الموضوع الأساس المطروح في كتابات أبو زيد عن القرآن كلها ليس مناقشة المصدر الإلهي للقرآن بل محتوى النص القرآني الذي تجلى في اللغة العربية، أي أنها كتابات عن النص وماذا يقول، وكيف يقوله، وليست كتابات عن تاريخ القرآن. وليس من دواعي اهتمامنا - في هذا السياق - التعرض إلى اتهامات التكفير التي وجهت إلى أبو زيد حول وصفه القرآن بأنه “منتج ثقافي” ذلك أن أبو زيد نفسه رد على كل اتهامات التكفير بالتفصيل في كتابه السجالي المهم “التفكير في زمن التكفير” (1995م) وأيضاً في الطبعات اللاحقة لكتابيه “نقد الخطاب الديني” (1990م) و”الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية” (1992م)، ناهيك عن دراسات عديدة لاحقة على تكفيره مبثوثة في عدد من كتبه. وكيفما كان من أمر مكفري أبو زيد فهم يعرفون أنهم منوا بهزيمة ساحقة، استمرت حتى آخر لحظات وفاة المفكر الراحل. وعلى أي حال فإن جزءاً من تلك الاتهامات كان في الأساس يدور حول قضايا خلافية في التراث الإسلامي نفسه مثل محنة خلق القرآن - الإشارة هنا إلى كلام أبو زيد أعلاه حول الوجود الميتافيزيقي للنص في اللوح المحفوظ - بين المعتزلة والأشاعرة والتي حسم فيها الصراع لصالح الأشاعرة فيما بعد بحكم الغلبة السياسية التي تبنت مواقفهم الفكرية، وهو الأمر الذي يعني أن الذين كفَّروا أبو زيد في التسعينيات “يكفرون ضمنيا” تيارات إسلامية بكاملها تختلف مع الأشاعرة ليس في القديم فحسب -المعتزلة- بل في اللحظة الراهنة أيضاً.

وإذن مع “مفهوم النص” لم يعد القرآن نصّاً أدبيّاً فحسب بل نصّاً تاريخيّاً أيضاً -بالمعنى الزماني لكلمة تاريخ= القرن السابع- أو”منتجاً ثقافيّاً”، وكذلك نصّاً لغويّاً.(21) إن هذا يعني، طبقاً لأبو زيد، أن علينا أن نميز بين “المعنى” التاريخي للنص و”المغزى” المتجدد والمستمر في الحياة. أو بعبارة أخرى علينا أن نميز بين “العَرَضي” و”الجوهري” في النص. ومن هنا يميز أبو زيد في درسه القرآني بين “القرآن” المحتوَى في المصحف و”الوحي” بشكل عام و”كلام الله” الذي يكون القرآن أحد تجلياته في الوجود، وهو التمييز الذي ظل يؤكده في محاضراته ودراساته في أوروبا.

(2) في المنهج

بين عامي 1978 و1980م ارتحل أبو زيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الفلكلور - حيث كان برنامج المنحة الدراسي يقتضي ذلك - في جامعة بنسلفانيا Pennsylvania وحيث إنه كان مشغولاً بقراءة محيي الدين بن عربي لأطروحته للدكتوراه، فقد كان في هذه الأثناء يبحث عن أدوات معرفية جديدة لتوظيفها في دراسته لابن عربي وتأويله القرآني. وهناك قرأ علم الهرمنيوطيقا والسميوطيقا والسوسيولوجيا، وبعد عودته إلى القاهرة كتب عدة دراسات عنها مناقشاً فيها ومحاوراً ومجادلاً علماءها الغربيين المؤسسين.(22) وترجم بعضاً من أعمال علماء اللسانيات الغربيين - وهذه الدراسات نشرت لاحقاً في كتابه “إشكاليات القراءة وآليات التأويل” - ولعله كان من أوائل المفكرين العرب الذين يطرقون هذا المنحى في الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، وعلى الأخص في توظيف اللسانيات الغربية في الدراسات القرآنية. متتبعاً خطى مناهج الدراسات اللسانية المتطورة في الغرب قام أبو زيد، منذ عام 1978م على الأقل - بتطوير آلياته الخاصة به وحده في التأويل والقراءة. وإذا كان العلماء المسلمون التقليديون عبر كل العصور الإسلامية يشترطون التمكن من علوم العربية كلها، بالإضافة إلى علوم القرآن، شرطاً معرفيّاً للتفسير القرآني - ناهيك عن الاجتهاد - فإننا مع أبو زيد نتجاوز تلك الشروط المعرفية القديمة إلى ما وصلت إليه العلوم الإنسانية الراهنة من تطور في دراسة النصوص بكل أنواعها وعلاماتها (السميوطيقا). وهكذا فإن المعادلة الشرطية لتقديم معرفة راهنة ومتقدمة عن النص الديني لا تقتصر على علوم القدماء وحدها، وعليها أن لا تقتصر عليها وحدها لأنها ستقع في تأويل منقوص ومبتسر: «وإذا كان الإيمان بثوابت العقيدة لم يمنع من الاجتهاد في شرحها وتأويلها، فمعنى ذلك أن مجال “الاجتهاد” لا سقف يحده ولا شروط تعوقه سوى “التمكن” المعرفي، أي تمام العلم بشروط وأدوات “المعرفة” والتمرس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل إليها التقدم المعرفي في عصر الباحث. وليس معقولاً ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين أن نتمسك بشروط وقواعد “الاجتهاد” التي وضعها أسلافنا تمسكاً حرفيّاً، وهي في مجملها شروط وقواعد “بائسة” بمقياس تطور أدوات المعرفة في عصرنا هذا”.(23)

وبتوظيفه نظريات الروسي يوري لوتمان Juri M. Lotman(24) في مفهوم النص وعلم السميوطيقا، طور أبو زيد نظريته في الوظيفة اللغوية الاتصالية في القرآن، والتي يكون القرآن بموجبها مثل أي رسالة أخرى لا بد أن يكون فيها “مرسل” و”مستقبل” أو “متكلم” و”مخاطب”.(25) وقد مكنت هذه النظرية أبو زيد في كتاباته اللاحقة من تعميق المفهوم التواصلي للرسالة القرآنية في منحيين: رأسي وأفقي. وبالنسبة إلى العلاقة الرأسية فيكون أطرافها الله وجبريل والنبي محمد عليه السلام، وأما الأفقية فيكون طرفيها النبي محمد والناس المقصودون بالرسالة. وعلى الصعيد العملي - في منهج أبو زيد الفكري - فإن هذه النظرية تتيح له أن يذهب خطوات أبعد من القدماء والعلماء المعاصرين التقليديين في ممارسة التأويل وتحليل النص القرآني. وقد قدم أبو زيد كلا الاتجاهين، الرأسي والأفقي، في محاضرتين منفصلتين شهيرتين جدّاً، في هولندا سنتعرض لهما لاحقاً. أما الهرمنيوطيقا أو علم تحليل الخطاب فقد كان أداة أبو زيد الأخرى المصاحبة دائماً وأبداً للسميوطيقا في القراءة والتأويل. وإذا كان أبو زيد أفاد من معطيات الدرس الغربي اللساني، ممثلا في علماء الهرمنيوطيقا خصوصا وعلماء اللسانيات عموما – الألمان بالأساس - ابتداء من شلير ماخر مرورا بديلثي ومارتن هيدجر وهانز جادامر وبول ريكور وجولدمان وهيرش وألفريدناند دي سوسير ... إلخ، بالإضافة إلى فلاسفة وعلماء آخرين أمثال نيتشه وبولتمان وماركس وفرويد، فإنه كذلك أفاد من علماء الإسلاميات والقرآنيات غير المسلمين. وعلينا أن نذكر هنا خبير القرآنيات والإسلاميات الياباني البارز توشيهيكو أيزوتسو  .Izutsu وظل أبوزيد يستشير ويرجع إلى أيزوتسو منذ رسالة الماجستير في 1976م وحتى وقت متأخر من حياته في أوروبا. ولكنه في عام 2000، وفي محاضرته الشهيرة لاعتلاء كرسي كليفيرنجا - التي سنتعرض لها لاحقا - يُخطِّئ بعض النتائج التي توصل إليها أيزوتسو عن القرآن ويتجاوزها(26). إن التعريف بأيزوتسو يتطلب مقالة منفصلة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنه صاحب أول ترجمة للقرآن مباشرة من العربية إلى اليابانية. وعلاوة على كتبه المهمة عن القرآن(27)، فقد كتب أيزوتسو واحداً من الكتب الفريدة من نوعها. إن كتابه “التصوف و الطاوية: دراسة مقارنة للمفاهيم الفلسفية الرئيسة” هو بحق اعتراف ليس بروحانية ثقافات الشرق فحسب، بل بمكونات التواصل بين بعضها بعضا. ومن الطبيعي، بالنسبة إلى التصوف الإسلامي، أن يكون محيي الدين بن عربي هو الشخصية التي يقارنها أيزوتسو بعلماء الطاوية.

(3) «المعنى» و«المغزى» في القرآن: حرية المعتقد وإنسانية المرأة

في أوروبا، بعد عام 1995م، طوَّر أبو زيد أطروحاته القرآنية خطوات أبعد من تلك التي خطاها مع (مفهوم النص) - كتابه المفصلي في منهجه الفكري العام - مركزاً على ضرورة بل حيوية التمييز في القرآن بين “المعنى” و”المغزى”. إن نقطة انطلاق أبو زيد في منهجه البحثي القرآني الجديد ليست مستمدة من الأكاديميا والبحث العلمي فحسب، بل إنها أيضاً - وعليها أن تكون - مستمدة من الواقع المباشر والتجربة والخبرة الحياتية، ذلك أن القرآن ظاهرة حية ومعاشة. وهنا يقوم أبو زيد بربط الأسئلة ببعضها بعضاً - أسئلة النص: المطروحة من قبل المؤمنين في القرن السابع التي يستجيب إليها القرآن، وأسئلة الواقع المعاصر الأكثر تعقيداً - للوصول بالتأويل القرآني إلى منطقة مفتوحة تأخذ “المغزى” القرآني بعين الاعتبار، وهو المغزى الذي لا يتجاهل المعنى التاريخي للرسالة القرآنية في القرن السابع. أو بكلمات أخرى - كلمات أبو زيد - إن على التأويل المعاصر أن يأخذ بعين الاعتبار ارتباط المعنى القرآني في حياة المسلمين اليوم بمعنى الحياة بشكل عام.

لكن فتح المعنى القرآني من أجل تحقيق ديمقراطية تأويلية في حياتنا المعاصرة ليس مشروعاً اعتباطيّاً عشوائيّاً، بل لا بد من وجود قوانين هرمنيوطيقية تحكمه، ولولا ذلك لأصبح القرآن - كما هو حاصل في الخطاب الديني اليوم - خاضعاً لأهواء وإيديولوجيا المؤوِّل. وعليه فإن أبو زيد يرى أن “ديناميكية التشفير اللغوية الخاصة بالنص القرآني تسمح بعملية لا نهائية من حل (تفكيك) لشفرة هذه اللغة. وفي هذه العملية فإن المعنى الاجتماعي - الثقافي السياقي من المفترض أن لا يتم تجاهله أو تبسيطه، لأن هذا “المعنى” حيوي جدّاً وذلك لأنه يشير إلى اتجاه الرسالة “الجديدة” للنص. إن أخذ ذلك الاتجاه – اتجاه المعنى - بعين الاعتبار سيمكننا من التحرك من “المعنى” إلى “المغزى” في السياق الاجتماعي- الثقافي الراهن ... إن الحكم على مشروعية أو لامشروعية تأويل بعينه يجب أن يُقاس بمعايير محددة. وأول هذه المعايير هو الوعي بالفرق بين “ المعنى” الأصلي في سياقه، وهو معنى ثابت تقريباً بسبب طبيعته التاريخية، وبين “المغزى” المُتغيِّر. والمعيار الثاني هو ضرورة أن يكون المغزى متصلاً منطقيّاً بالمعنى. وهكذا تكون مشروعية أي تأويل ممكنة ما دامت لا تتعارض مع هذين المعيارين المنهجيين، وذلك لتفادي القفز إلى بعض النتائج الإيديولوجية “المبتغاة”. وإذا كان النص تاريخيّاً، على الرغم من كونه في الأصل إلهيّاً، فإن تأويله بشري بامتياز”(28) .إذن لا بد من أخذ دلالات التجاوز القرآني للحياة في القرن السابع بعين الاعتبار عند التأويل اليوم. وتندرج تحت هذا -كما سنرى مع أبو زيد- المفاهيم الاجتماعية الخاصة بالمرأة والحرية الشخصية وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان بشكل عام. وبتعبير آخر فإن القرآن يتجاوز المفاهيم السابقة عليه ويدخلها في إطار جديد ومتطور لصياغة حياة ورؤية جديدتين للعالم، وعلينا اليوم أن لا نقف عند حدود معاني القرن السابع وإلا لتوقفنا عن التقدم والتطور.

وإذا كان التأويل في الأساس تواصلاً بين النص والمؤوِّل وما بينهما من سياق تاريخي ولغوي، فإن إدراك التمايز بين المعنى والمغزى “سيجعل المؤوِّل قادراً بشكل صحيح وكفؤ على استنباط “التاريخي” و”المؤقت” من القرآن الذي لا يحمل أي مغزى في السياق المعاصر”.(29) ويمكن القول - باستخدام لغة أدونيس - إن المعنى هو الثابت والمغزى هو المتحول. ولننظر الآن إلى مسألتي المعنى والمغزى في التأويل الذي يقدمه أبو زيد في دراسته الموسومة “المفهوم القرآني للعدل”. في هذه الدراسة لا يناقش أبو زيد المفهوم الإسلامي للعدل - الفقه والفلسفة والتصوف والتفسير - بل يناقش بالتحديد المنطوق القرآني المرتبط بمفهوم العدل. ولأن تقديم المفهوم القرآني للعدل يستلزم موضعته في القرن السابع فلا بد بداية من إيضاح دلالات العدل وارتباطه بالمساواة في الظرف الراهن: “عند التعامل مع المساواة والعدل [في القرآن] يكون من المهم إعادة توجيه الاهتمام البحثي بعيداً عن الردود الإسلامية الاعتذارية في مواضيع مثل تعدد الزوجات وحالة المرأة وغير المسلمين وحرية الدين. إن إعادة تسويق = [وضع القرآن في سياقه التاريخي] القرآن قد تعطينا طريقة موضوعية أكثر لتحليل هذه القضايا”(30) وبناء على ذلك يكون “العدل مفهوماً متعلقاً ومتصلاً بمفهوم المساواة في عين القانون، وهو ما يعني أن على القانون أن يعامل الناس الذين يتقيدون بأحكامه ومعاييره بشكل متساوٍ بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذا [المنطق في التعامل] هو المفهوم القضائي الضمني لمبدأ المساواة. لكن هذا المبدأ، علاوة على ذلك، يثير مجالاً أوسع للمساواة بين الناس لا يكون فيه العدل مقصوراً على المفهوم القضائي الضمني للمساواة. ولأن المساواة مفهوم نسبي محدد بالمعايير الثقافية والاجتماعية وأحياناً السياسية والدينية، فإنه من المتوقع أن يكون مفهوم العدل هو الآخر نسبيّاً. وفي السياق المعاصر -حيث الوعي بحقوق الإنسان- تم تحدي النسبية الثقافية، وقام الفلاسفة واللاهوتيون بإعادة التنبيه إلى السؤال المتعلق بالعدل الإنساني المؤسس على المساواة المطلقة بين الأفراد والأمم بغض النظر عن الفروقات بينهم”(31) .وقبيل مناقشة أبو زيد للمفهوم القرآني للعدل يقوم بتعريف القرآن بحسب منهجه الفكري ليبسط فيما بعد نظريته التأويلية للعدل القرآني. وتجدر الملاحظة أنه في سياقه البحثي يعيد تأكيد عدة محاور حين يعرف القرآن، ومن بين هذه المحاور الطبيعة الشفاهية/ السماعية للقرآن، كما أنه يشير- خصوصاً في أوروبا- دائماً إلى طبيعة النص القرآني الموحى في فترة تجاوزت العشرين عاماً، وهو أمر يعود بنا إلى مناقشاته في كتابه (مفهوم النص).

"الإسلام والعدل الإلهي:

1. طبقا للقرآن فإن الإسلام ليس ديناً جديداً خاصّاً بالعرب، بل إنه نفس الرسالة الأساسية التي دعا إليها كل الأنبياء منذ خلق العالم (الشورى:13)، و(النساء: 163-164). ولذلك يكون مفهوماً معنى اعتبار كل الأنبياء مسلمين بحسب القرآن: (الأنعام: 163، الأعراف: 143، يونس: 72،84،90، النمل: 31، 38، 42، 91، الزمر: 12، الأحقاف: 15 إلخ).

2. بالإشارة إلى معناه المعجمي يعتبر الإسلام هو التسليم المطلق لله رب الكون. ويؤكد القرآن مراراً هذا المعنى كما في قوله: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة: 112). وانظر أيضاً (النساء: 125) و(لقمان: 22)، حيث يعرف القرآن الإسلام بالعروة الوثقى. إن هذا تعبير مجازي يتضمن اتفاقاً بين الله والإنسان. في هذا الاتفاق [أشهد الله بني آدم وذريتهم على أنفسهم بأنه ربهم] (الأعراف: 172). هذا العهد بين الله وخلقه هو الوعي الفطري الذاتي وأيضاً الشهادة على النفس ليس فقط بوجود الله بل كذلك بقدرته المطلقة.

3. وهكذا تكون الفطرة، التي ولد عليها كل البشر، بمثابة القانون الذي يجعل الإنسان مسلماً. ومن ناحية أخرى تكون الفطرة البشرية الأساس للشهادة على النفس والحكم عليها في الحياة الآخرة بالنسبة إلى أولئك الذين لم يدركوا فطرة الله في الحياة الدنيا. وعليه يكون هذا العهد الفطري بين الله والإنسان هو التقييم الذي على أساسه لن يحق لأي فرد أن يقول يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف: 172).

4. وعلى هذا يكون الإسلام هو الدين المعيار أو الفطرة المبنية على العقد الأبدي بين الله والإنسان والتي بموجبها تشهد كل نفس بشرية أن الله هو الإله الوحيد. إن إدراك الإنسان لفطرته في الحياة الدنيا يعني أن نفسه محفوظة ومصانة، وهو ما يلمح بطريقة غير مباشرة إلى أن نفس الإنسان محفوظة به هو وحده ما دام مخلصاً ومنصفاً لفطرته. أما الأنفس غير المحفوظة فهي تلك التي لم تكن عادلة مع نفسها، أي التي فشلت في إدراك فطرتها، وهنا تتحمل مسؤوليتها وحدها.

5. إن قصة آدم وحواء تشير إلى اشتراكهما في المسؤولية عن الفعل الذي دفع بهما إلى الطرد من الجنة... لقد نسي آدم عهده مع ربه (طه: 115). ونتيجة لظلمهما نفسيهما {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين} (الأعراف:23). وجاء جواب الله بالعفو عن آدم فيما بعد (البقرة: 37). وهكذا إذن لا يكون إصدار الحكم مؤسساً على سلطة استبدادية، ولكنه يكون نتيجة لإدراك كل فرد أو عدم إدراكه للفطرة.

6. إن الفطرة، العروة الوثقى، هي الأرضية الصلبة للعدل الإلهي المطلق وللمسؤولية المطلقة لكل إنسان عن وجهته في هذه الحياة. في قصة آدم ونسيانه لعهده مع ربه ما يؤسس للحاجة إلى تذكير إلهي، وهو التذكير الذي تلقاه آدم من ربه بكلماته إليه. وهكذا فإن رحمة الله لا تترك الإنسان وحيداً مع فطرته التي قد لا يدركها. إن الله يساعد الإنسان ليتذكر عهده معه من خلال إرسال الرسل والكتب. هذا بالضبط ما قاله الله لآدم: (البقرة:38-39). وعلى هذا يكون كل الأنبياء بمن فيهم النبي محمد نفسه مذكرين والقرآن نفسه ببساطة يصف نفسه بأنه ذِكْر (ذكرت 52 مرة في القرآن)، وما محمد إلا مُذَكِّر (الغاشية: 21). وهكذا يكون الوحي ممثلاً لرحمة الله التي تشير إلى العدل الإلهي ومسؤولية الإنسان عندما يكون ظالماً لنفسه. إن ظلم النفس في القرآن دائماً يقرن بتأكيد العدل الإلهي ورفض أي معنى للظلم منسوب لله: (البقرة: 57، آل عمران: 117، الأعراف: 160-162، 177، التوبة: 36،70، يونس: 44، النحل: 33، 118، الكهف: 49، العنكبوت: 40، الروم: 9).

7. إن اتِّباع الأنبياء عن طريق قبول رسالاتهم هو في الحقيقة إدراك لعقد الإنسان مع ربه (الفطرة) واتباع لدين الله المعيار [المقياس] سواء أكان هذا الدين اليهودية أو الصابئية أو المسيحية أو الإسلام. الفروقات بين الأديان هي فروقات في تشريعاتها وأبعادها القانونية المؤقتة القابلة للتغيير في الزمان والمكان بينما يكون جوهرها الأساسي للإيمان واحداً. إن هذا الجوهر الأساسي هو الإيمان بالله واليوم الآخر وأن تعمل صالحاً (المائدة: 69).

8. الناس في القرآن مصنفون، بالنظر إلى الرؤية الإسلامية المشروحة أعلاه، إلى أربع فئات أساسية. الفئة الأولى هم الكافرون، وهم الذين ينكرون وجود الله والحياة الآخرة ويدَّعون أن لا حياة بعد الموت. والفئة الثانية هم المشركون الذين يؤمنون بوجود الله لكن مع وجود شريك آخر معه. والفئة الثالثة هم الفاسقون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ولكنهم لا يطيعون تعاليم الله. والفئة الرابعة هم المؤمنون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون بما جاء في القرآن. السؤال الآن هو: هل هناك إمكانية للملحد والمشرك أن يتمتعا بالعدل في أي مجتمع مسلم؟ طبقا للقرآن على الأقل الإجابة بوضوح هي نعم، وذلك ببساطة لأن العدل الإلهي المضمن في مفهوم الفطرة الذي نُص عليه في “العهد الأبدي” بين الإنسان وربه لا يسمح بالظلم في كل الكون”.(32) وعليه يكون الإنسان مسؤولاً عن معتقده الخاص به الذي لا دخل لأحد فيه أيّاً كان هذا الأحد. إن الله لم يُخوِّل أحداً معاقبة كائن من كان آمن أو كفر. الله وحده سيعاقب من كفر بفطرته التي فطره عليها. ولأن العدل الإلهي يُحمِّل الإنسان المسؤولية بناء على الفطرة التي فطره عليها فإنه أيضاً يتولاه برحمته ولا يتركه وحيداً. هذا بالنسبة إلى العدل الإلهي مع الإنسان في حرية المعتقد ومسؤولية الإنسان الكاملة وحده عن أفعاله أمام الله.

لكن ماذا عن القضايا الأكثر تعقيداً وتفصيلاً من هذه المفاهيم الدينية “الديمقراطية” المؤسسة على العلاقة التواصلية بين الإنسان وربه في الرسالة القرآنية؟ ماذا عن العدل الإلهي في القرآن مع الإشكالات الاجتماعية الدقيقة مثل تعدد الزوجات وقضايا المرأة بشكل عام؟ ماذا عن الأمر بـ”القتال” في القرآن؟ إن هرمنيوطيقا أبو زيد تنقلنا إلى فضاءات أرحب في قراءة “المعنى” و”المغزى” القرآنيين المتصلين بهذه القضايا. إن نقطة انطلاقه في تأسيس العدل القرآني في المسائل التي تخص المرأة بشكل خاص – على سبيل المثال- مؤسسة على فهم بنية القرآن اللغوية والتاريخية المتدرجة والتقدمية والتصاعدية قياساً بما كان سائداً من تراث في العصر السابق والمعاصر لنزول القرآن في القرن السابع الميلادي.

"المساواة والعدل:

هناك مواضيع متعددة في القرآن تبدو وكأنها في تناقض مع مفهوم العدل في الزمن المعاصر على الأقل ... إن تعدد الزوجات، تاريخيّاً، هو ممارسات مألوفة في المجتمعات الإنسانية فيما قبل الإسلام. وعليه يكون اعتبار تعدد الزوجات جزءاً من الوحي المشترط قرآنيّاً خطأً عظيماً وغلطاً أكاديميّاً فادحاً. صحيح أن موضوع تعدد الزوجات مذكور في القرآن، لكن الأهم من ذلك هو قياس الخطاب القرآني بالمقارنة بمعايير ثقافات ما قبل الإسلام. ما أعنيه هو إعادة تسويق -[وضع القرآن في سياقه]- الرسالة القرآنية [بالنظر إلى ما قبلها]. إن الآية القرآنية المأخوذة على أنها اشتراط على تعدد الزوجات هي في الأساس تتناول موضوع اليتامى الذين يحتاجون إلى الحماية والمأوى بعد أن فقدوا آباءهم في غزوة أحد ... إن السياق التاريخي وكذلك السياق اللغوي للآية يكشف عن أن السماح الممنوح بتعدد الزواج من أمهات اليتامى (الأرامل) أو النساء اليتيمات ممنوح في حالة الفشل في توفير الحماية كما ينبغي [ولا تأكلوا أموالهم] لليتامى خصوصاً إذا كان أحد منهم قد ورث إرثا (النساء: 3).

في هذا السياق التاريخي واللغوي يكون العدل هو الاهتمام المحوري للقرآن في هذه السورة وذلك ليس فقط في هذه الآية بل في كل الآيات اللاحقة عليها. ومرة أخرى يكرر القرآن حالة الفشل في العدل فيما يتعلق بالزواج (النساء: 129)، الأمر الذي يتضمن تثبيطاً قويّاً عن الزواج بأكثر من امرأة واحدة. المشكلة هنا هي أن التقاليد الاجتماعية فيما قبل الإسلام سادت وسيطرت على المجتمعات الإسلامية وأدبيات الفقه. إن اسم السورة مضلل، وذلك لأن المسلمين أدركوا موضوع السورة (النساء) بدلاً من محتواها عندما قرروا أن يسموها سورة النساء. ولو كانوا قد أخذوا محتوى السورة بعين الاعتبار لكانوا سموها سورة “العدل”. وإذا أضفنا إلى ذلك الصورة المقدمة عن الزواج في القرآن، فإن سوء الفهم سيزول بالكامل. العلاقة الزوجية في القرآن تعتبر واحدة من آيات الله مثلها مثل خلق السموات والأرض (الروم: 21-22)، وانظر أيضاً (النحل: 72). وعموماً فإن حالة المرأة المعبر عنها في القرآن هي حالة تقدمية نسبيّاً وتاريخيّاً. ويمكن إعادة تأويل الآيات في القرآن بالنظر إلى ما تكشفه من خلال سياقها التاريخي ومغزاها في السياق من أجل فض تضميناتها وبالتالي تعزيز المبدأ الأساسي للمساواة المتضمن في مفهوم العدل.

بالانتقال من الموقف القرآني المحدد من العدل إلى مواضيع حقوق الإنسان الأكثر إثارة للجدل ينبغي أن نشير - في ضوء المفهوم القرآني للعدل الإلهي المبسوط أعلاه - إلى أن مبدأ المساواة هو واحد من التعاليم الرئيسة والأساسية للإسلام. في القرآن هناك تصريح واضح في بداية سورة النساء بأن الله خلق الناس {من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} (النساء: 1). وهكذا تكون البشرية مخلوقة من رجل وامرأة في شكل شعوب وقبائل من أجل أن تتعرف إلى بعضها بعضاً (الحجرات:13). وعليه لا تكون هذه المساواة أمر تخيير، بل إنها مسنونة بواسطة الكرم الإلهي الذي أنعم به على الإنسان (الإسراء: 70). بالنظر إلى ما تقدم يكون الإسلام الدين المعيار المتجلي في جميع الكتب المقدسة، والموحى به إلى كل الأنبياء. وإذا كان العنصر الأساس للإيمان هو الإيمان بالله والحياة الآخرة، فإنه ليس مهمّاً أن يكون المؤمن يهوديّاً أو مسيحيّاً أو صابئيّاً أو منتمياً إلى أي دين آخر. إن هذا التعريف للإسلام يكفل حرية المعتقد. لا إكراه في الدين. إن حرية تغيير الدين بعد قبول الإسلام، حتى التحول إلى الشرك أو الإلحاد، متروكة للخيار الحر والأساسي للإنسان. المنطق هو: إذا كانت حرية المعتقد مكفولة ومؤمنة، فإن حق الفرد في تغيير دينه أو دينها مصان ومحميّ. ومع ذلك يكون من الطبيعي بالنسبة إلى نص ديني مثل القرآن أن نعثر على عقاب أخروي للكفر بالإسلام بعد اعتناقه. لكن لا توجد آية واحدة في القرآن تحكم بأي عقاب دنيوي على المرتد عن الإسلام. وبالنسبة إلى عقوبة الإعدام للمرتد، فقد تمت صياغتها من قبل الفقهاء في وقت متأخر، وتم إدخالها إلى الدين المؤسسي ودمغها فيه بوصفها جزءاً من الدين. ومرة أخرى فإن القرآن يؤكد [مبدأ حرية المعتقد وأن الله هو الوحيد الذي خول نفسه بإنزال العقاب بالكفار والمرتدين]: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر....} (الكهف: 29). وانظر أيضاً (المائدة: 54) و(آل عمران: 90) و(النساء: 137). إن هذه المساواة بين جميع البشر بصرف النظر عن الفروقات بينهم مصانة بشكل أساسي ما لم تكن هناك حالة حرب معلنة ضد المسلمين. وفي حالة الحرب فإن ظروف الحرب وشروطها، كما مورست تاريخيّاً، تكون هي الحكم. ومعظم ظروف وشروط الحرب في القرآن نابعة من سورة التوبة. تفتتح سورة التوبة بإعلان الحرب على مشركي مكة، وعليه يجب فهم ظروف الحرب وشروطها في سورة التوبة بوصفها شروطاً استثنائية مورست في التاريخ، لأنه حتى في حالة الحرب فإن الأمان مكفول لأولئك الذين يطلبونه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله.....} (التوبة: 6). إن فكرة الجهاد كاملة - التي لا تعني اشتقاقيّاً “الحرب المقدسة”- تم إدخالها إلى الدين بوصفها واجباً في سياق التوسع العربي بعد وفاة النبي محمد.

هناك سوء فهم لكثير من المفاهيم القرآنية سببه انتزاع هذه الآيات -آيات الحرب- من سياقها، وهذا عائد إلى طبيعة الترتيب الحالي الذي بين أيدينا للسور والآيات (ترتيب التلاوة). حقا إنه مذكور في القرآن فيما يخص المشركين:{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191)، لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار مستوى واحداً من السياق، وهو على التحديد السياق السردي الداخلي والسياق اللغوي للسورة نفسها، فإنه يفهم أن الدعوة إلى القتل تأتي رد فعل على العدوان. السياق يقدم القتال بوصفه الوسيلة الوحيدة لرفع الظلم واستعادة العدل. إن القتال عند البيت الحرام –وفي الأشهر الحرم- غير مسموح به [{حتى يقاتلوكم فيه}] (البقرة: 190-193). إن تصرفات النبي محمد عندما دخل مكة بعد عشر سنوات من إجبار المسلمين على مغادرتها إلى المدينة دليل جوهري ضد الفهم الحرفي لتلك الآيات. كان تصرف النبي بكل بساطة هو أنه عفا عن أهل مكة وسامحهم ودعا الله أن يسامحهم. وفي زمن التوسعات الإسلامية لم تسجل حادثة واحدة على ارتكاب مقابر جماعية من قبل الفاتحين المسلمين في حق الأمم التي دخلوا إليها. إن معنى هذا أن المسلمين في العصر الأول لم يعتبروا آيات القتال تلك متضمنة واجباً دينيّاً إلزاميّاً يدعوهم إلى القتل.

ويمكن تطبيق نفس منهج التسويق (أي وضع القرآن في سياقه) للكشف عن المعنى القرآني المتعلق بمعاملة غير المسلمين. إن الجزية على سبيل المثال مفهوم سابق على القرآن وليست مبتدأة به (التوبة: 29)، بل كانت ممارسة سياسية واقتصادية متعارفا عليها في الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية ... ولحسن الحظ أن الفقهاء المسلمين عموماً لم يعتبروا الجزية مبدأ تحقيريّاً [استنادا إلى المنطوق القرآني “وهم صاغرون”] لغير المسلمين بل اعتبروه ضريبة تدفع مقابل عدم المشاركة في الخدمة العسكرية، وقد استثنوا من ذلك النساء والأطفال والعجزة والكهنة. بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك معتبرين أن للفقراء والمحتاجين من غير المسلمين حقّاً في الزكاة المفروضة على المسلمين وحدهم. إن هذا يدعونا إلى مناقشة مفهوم العدل الاجتماعي في القرآن”.(33) وماذا عن الآيات الصريحة التي تسمح للزوج بضرب زوجته؟! كيف يمكننا أن نفهم الخطاب الإلهي في القرن الواحد والعشرين فيما يخص هذه الآيات؟. هل علينا أن نتمسك بمعناها الحرفي اليوم فقط لأنها موجودة في القرآن؟: «هل من الممكن أن نعلن من مواقعنا الأكاديمية أن القرآن يسمح للزوج بضرب زوجته من أجل تأديبها. لو كان علينا أن نتبع حرفيّاً كل شيء مذكور في القرآن بوصفه قانوناً إلهيّاً سيكون على المسلمين أن يستمروا إذن في فتح أسواق النخاسة كنظام اقتصادي اجتماعي. فالعبيد مذكورون في القرآن أليس كذلك؟”.(34) وبطبيعة الحال فإن سؤال أبو زيد الاستنكاري معناه أن علينا أن لا نتبع المعنى الحرفي فليس كل شيء في القرآن مبتدأ به، بل إنه استعارات من ثقافات وأعراف مختلفة سابقة ومعاصرة على القرآن.

ليس ثمة مجال هنا للاستطراد في عرض رؤية أبو زيد للمفهوم القرآني للعدل. وعلى أي حال فإن المفهوم القرآني المتعلق بالمرأة من وجهة نظر أبو زيد مبسوط بالتفصيل في كتابه “المرأة في خطاب الأزمة”. وهكذا يتضح من خلال التحليلات أعلاه أن القرآن يتعامل - إلى حد كبير - بديمقراطية مع الأفراد في حرية أن يختاروا ما يشاؤون من معتقدات بما في ذلك الإلحاد بالله. إن الله هو الوحيد صاحب الحق في معاقبة من خالف فطرته وتعاليمه إلى رسله ولا يكون هذا العقاب إلا في يوم الحساب. وعليه فإن نتاج الفقه الإسلامي الذي يجرم الردة، ويسن عقوبة الإعدام عقاباً لها، هو نتاج بشري محض يخالف أساسيات التعاليم القرآنية إلى الحد الذي يضع فيه نفسه في مكان الله سبحانه وتعالى. ألم يكن أبو زيد نفسه ضحية للتكفير الذي يستوجب تطبيق حد الردة؟! لكن هرمنيوطيقا أبو زيد القرآنية لا تتوقف عند هذه الحدود. إن قراءة معمقة لكل كتاباته العربية السابقة على هجرته إلى هولندا (1995م) منخرطة في التأويل وتحليل آيات القرآن وسوره في عدة مستويات سياقية لا يتسع المجال هنا للتعرض لها. لكننا سنتوقف ببعض الإسهاب مع تأويل أبو زيد لاحقاً في سياق شرحه لنظريته التأويلية الجديدة: القرآن من النص إلى الخطاب.

(4) القرآن: الله والإنسان في إتصال: جامعة ليدن تكرم أبو زيد

في 25 أكتوبر عام 1995م هبطت الطائرة بأبوزيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس في مطار الشيبول في أمستردام بهولندا ليباشر بعد ذلك اليوم بعدة أيام عمله أستاذاً زائراً للدراسات الإسلامية في جامعة ليدن. ومن جامعة ليدن وفي محاضرته الأولى بعث أبو زيد برسالة شفهية ضمنية إلى الحكومة الهولندية ابتدأها بالبسملة ونطق الشهادتين. كان مضمون الرسالة - النطق بالشهادتين - هو أن أبو زيد ليس “سلمان رشدي جديداً” بل إنه مسلم كما يقدم نفسه إلى الغرب. لقد كان نطق أبو زيد بالبسملة والشهادتين - الشهادتين اللتين رفض النطق بهما أمام محكمة النقض في القاهرة - في جامعة ليدن معبراً للغرب بشكل عام، وهولندا البلد المضيف بشكل خاص، أنه ليس ضد الإسلام كما يمكن أن يفهموا أو يعتقدوا. لم يرد أبو زيد أن يستغل قضية تكفيره، والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته، شماعة في الغرب ينسج عليها قصصاً وحكاياتٍ عن الظلم الذي حاق به وزوجته في مصر. كانت رؤيته لما حدث له وزوجته من بشاعة في مصر أنهما “مجرد أسماء في السطر الأول من هذه القضية”. ولعلنا نستدرك هنا أن ما يقصده أبو زيد بإشارته إلى “سلمان رشدي جديد” لا يتعلق بوصف سلبي لسلمان رشدي الروائي والأديب، فقد دافع أبو زيد عن حقه في الإبداع وعن روايته “آيات شيطانية”، وإنما الوصف هنا يقصد حالة تكفير رشدي من قبل نظام الخميني في إيران وردود الأفعال عليها في الغرب.

وعندما بدأ أبو زيد عمله أستاذاً محاضراً في الدراسات الإسلامية في جامعة ليدن، لم يحظ بأي اهتمام يذكر من قبل أساتذتها وعلمائها، ذلك أنهم كانوا يظنون أن هذا العربي القادم من بلاد العرب مثله مثل “عدد لا يستهان به” من العرب الذين يستغلون إقامتهم في الغرب، وخصوصاً أوروبا، بشكل غير لائق بتاتاً حيث يسيئون استخدام الامتيازات التي تمنح لهم من هذه الدول، إلى الحد الذي يشوه صورة الإنسان العربي بشكل عام. وعليه فقد اعتقدوا أن أبو زيد هو مجرد واحد من هؤلاء الاستغلاليين. لكن سرعان ما تبين لأساتذة جامعة ليدن وعلمائها أن هذا العربي نادر ومختلف عن من اعتقدوه. وكنتيجة طبيعية لاعتراف جامعة ليدن بمكانة أبو زيد وفكره في حقل القرآنيات والإسلاميات أخذ الاهتمام به وبأفكاره وكتبه يتعاظم شيئاً فشيئاً، ليس في هولندا وحدها فحسب بل في كل أرجاء أوروبا الغربية. وتباعاً للسنوات الأولى للهجرة دعي أبو زيد إلى عدد من الدول الأوروبية محاضراً ومناقشاً ومجادلاً في حقل الدراسات الإسلامية، بل والهرمنيوطيقا التوراتية والإنجيلية أيضاً. وكان له حضور بارز في كل من إيطاليا وإسبانيا وألمانيا على وجه التحديد. كما أنه حضر عدداً من المؤتمرات، وشارك في نقاش واسع حول التأويل القرآني في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال أوروبا انفتحت نوافذ الشرق الإسلامي لأبو زيد على الأقل في كل من ماليزيا وإندونيسيا اللتين زارهما عدداً من المرات، وألقى فيهما عدداً من المحاضرات، ناهيك عن تأسيسه للمعهد الدولي للدراسات القرآنية في إندونيسيا. وهو المشروع الذي لم يتح الموت لأبو زيد فرصة رؤيته مكتملاً. وحيث إن أوروبا ومعاهدها وجامعاتها العريقة هي ملتقى لطلاب الإسلاميات من كل حدب وصوب فقد درَّس أبو زيد عدداً كبيراً من الطلاب الإندونيسيين والماليزيين والإيرانيين والأتراك والعرب الذين أشرف على رسائلهم العلمية في الدراسات القرآنية والإسلامية. وكان من الطبيعي في ظل اعتراف أوروبا بأهمية أبو زيد أن تترجم كتبه إلى لغاتها. وقد ترجم بعض كتب أبو زيد ودراساته إلى الألمانية والفرنسية والهولندية، ومؤخراً، في 2009، إلى الإسبانية، وترجم أيضا إلى الفارسية والإندونيسية والتركية. وقد مكن وجود أبو زيد في أوروبا واحتكاكه بمختلف الطلاب من العالم الإسلامي وزياراته المتكررة إلى الشرق الإسلامي واطلاعه الواسع على أفكار العلماء المسلمين في آسيا (ماليزيا وإندونيسيا وإيران) من إعادة تقييم الإسلام المعاصر بالنظر إلى كل أطيافه وممثليه، وهو بخلاف ما كان متاحاً له عندما كان في جامعة القاهرة.

وفي عام 2000م، ونتيجة للتقدير الكبير لإنجازاته العلمية والمعرفية، تم تكريمه بواحد من أهم الكراسي الأكاديمية في جامعة ليدن، يرمز إلى الحرية والنضال نسبة إلى مواقف الشخصية التي سمي الكرسي على اسمها. كان ذلك كرسي كليفيرنجا، كرسي “الحرية والمسؤولية، خصوصاً حرية الدين والضمير” على شرف أستاذ القانون وعميد كلية القانون فيما بعد في جامعة ليدن البروفيسور ردولف كليفيرنجا Rudolph Cleveringa، وفي 27 نوفمبر من عام 2000م قدم أبو زيد محاضرته التدشينية لاعتلاء كرسي كليفيرنجا تحت عنوان: «القرآن: الله والإنسان في اتصال”. وفي الخطاب الاحتفائي الذي قدم بمناسبة تكريم أبو زيد في قاعة المجلس الأكاديمي بجامعة ليدن عقدت مقارنة بين شخصيتي كليفيرنجا وأبو زيد النضاليتين، الأولى في نضالها ضد النازية في أربعينيات القرن المنصرم، وإدانتها إيّاها على خلفية طرد الأساتذة اليهود من جامعة ليدن، والثانية في نضالها ضد سلطة الخطاب الديني والسياسي في البلاد العربية والإسلامية. وفي هذه القاعة المعلقة على جدرانها الأربعة صور وبورتريهات أساتذة جامعة ليدن وعلمائها قدم أبو زيد محاضرته التدشينية وسط حضور أكاديمي بارز، بالإضافة إلى حضور بعض من أصدقائه من مصر وأفراد عائلته بمن فيهم زوجته الدكتورة ابتهال يونس. إن اقتباساً سريعاً من نص الخطاب الاحتفائي لاعتلاء أبو زيد لكرسي كليفيرنجا ذو أهمية بالنسبة إلى هذا التقديم التذكاري الذي نكتبه عن أبو زيد هنا. ومعظم الخطاب الاحتفائي موجه إلى أبو زيد مباشرة بضمير المخاطب: «إن القاسم المشترك بينك - بروفيسور أبو زيد ووليام الصامت وكليفيرنجا - هو بالطبع أنكم جميعاً تحدثتم عن قناعاتكم المتصلة بحرية الفكر وحرية الضمير. لقد أدت بك قناعاتك الفكرية إلى ترك وطنك، الأمر الذي يدل على أن الناس غالباً ما يكونون خائفين من الأفكار أكثر من خوفهم من الأسلحة ... من الواضح كيف أن الخط الفكري الذي انتهجته، حيث بدأت مشوارك الفكري تقريباً بمنهجية صرفة، أوصلك أخيراً إلى منطقة تجعل القيادات السياسية والدينية معها تحس بالتهديد، وكأن جيشا بأكمله تمت تعبئته ضدها. لكن الخط الفكري المنطقي الصارم يجعل من المستحيل أن نجد لحظة كان عليك أن تكون فيها صامتاً. إن السبب في عدم صمتك ليس المنطق الصارم فحسب بل أيضاً لأن الحقيقة هي أنك تلامس الحياة الحقيقية لأناس حقيقيين في عالم حقيقي. قد يكون من الممكن أن نبقى صامتين إزاء العلوم البحتة، لكن الدين دائماً يلامس حياة الناس وسعادتهم، وما له علاقة بحرية الفكر والضمير، وهو ما يجعل الصمت في حالة كهذه خطيئة. لقد وصلت إلى تلك النقطة [نقطة استحالة الصمت] في وقت مبكر من حياتك، وقد وصل إليها كليفيرنجا في 26 نوفمبر من عام 1940م. اليوم نحن نحتفل بكل أولئك الذين وصلوا إلى تلك النقطة، وأظهروا الشجاعة والمسؤولية ليتصرفوا وفقاً لما تمليانه عليهم.

لكن قوة الشخصية ليست مؤهلك الوحيد الذي ستقدمه لطلابك الذين ستدرسهم. إنك في المقام الأول مفكر بارز تخرجت بأعلى الدرجات الشرفية في علوم اللغة العربية والإسلامية، ولديك تاريخ طويل من البحث العلمي والتدريس على أعلى المستويات... إننا نرحب بك في هذه الدائرة من مجلس الشيوخ الأكاديمي في جامعتنا باعتبارك واحداً من أهم الشخصيات التي نفخر بها كثيراً جدّاً، لأنك مثل وليام الصامت وكليفرينجا تحدثت عندما كان ذلك ضروريّاً. إننا نتمنى لك النجاح بوصفك بروفيسور جامعة ليدن، وهو المنصب الذي تتقلده اليوم. إن تقاليدنا تتطلب أن أسألك في هذه اللحظة أن تلقي نص خطابك الافتتاحي”.(35)

مبتدئأ محاضرته بالتعبير عن سعادته الجمة بهذا التشريف التكريمي من جامعة ليدن، واصفاً لحظة التكريم بأنها أسعد لحظات حياته، يعيد أبو زيد ربط إدانات كليفيرنجا للنازية بإداناته هو للعدوان الصهيوني اليومي المتواصل على الفلسطينيين: «“العدل” المؤسس على الحرية الإنسانية غير المشروطة، في رأيي، هو جوهر محاضرة كليفرينجا. لكن هل من الممكن الحديث عن العدل دون التطرق إلى الحالة العالمية اليوم حيث يسود الظلم؟ إنني أشير هنا، على سبيل المثال، إلى القتل اليومي للفلسطينيين، وقصف مدنهم وقراهم من قبل الجيش الإسرائيلي. هؤلاء الناس العزل وأطفالهم يقتلون يوميّاً. إن جريمة الفلسطينيين هي أنهم ببساطة يريدون تأسيس دولتهم المستقلة، ويشيدون منازل آمنة ومدارس ومستشفيات. قبل ستين عاماً من الآن لم يكن بمقدور كليفرينجا أن يكون سلبيّاً وهو ينظر إلى [اليهود] يطردون [من بيوتهم وأراضيهم] بسبب هويتهم. إنني أتساءل ماذا كان سيقول كليفرينجا لو كان واقفاً مكاني اليوم؟ هل كان سيتردد في أن يدافع علنا وبشجاعة عن حق الفلسطينيين في تأسيس دولتهم المستقلة على الأرض المحتلة في 1967؟”(36) .معنوناً المدخل الأول للمحاضرة بـ”كلمة الله مؤنسنة” يعيد أبو زيد مجدداً تعريف القرآن، مركزاً على طبيعته الشفاهية الأصلية، أي قبل تقنينه في كتاب: “المصحف”. ولأن عنوان المحاضرة يتعلق بتبيان التواصل في القرآن بين الله والإنسان فإنه يقوم بمناقشة الرسالة القرآنية من حيث المعطى الإلهي المتجلِّي في اللغة العربية من جانب؛ والاستجابة التي يقدمها المسلم لكلمات الله من جانب آخر. وحيث إن هذا التواصل بين الله والإنسان يتجلى أكثر ما يتجلى في العبادات، فإنه يقوم بشرح وتحليل العلاقة التواصلية بين الله والإنسان في الصلاة والصوم والحج والطقوس المتعلقة بصلاة الميت والعزاء والمناسبات الدينية إلخ. وهنا يحيلنا أبو زيد ضمنيّاً إلى كتاباته العربية التي يقول فيها إن العلاقة بين الله والإنسان - بحسب وجهة نظره - ليست علاقة العبودية بل إنها علاقة العبادية. وعلاقة العبادية هي التي تجعل معاني القرآنية لانهائية ومستمرة في والوجود والكون بين الإنسان والله. ومرة أخرى يركز أبو زيد في المحاضرة - التي هي بالأساس موجهة إلى الجمهور الغربي - على أن المسلمين كافة، بغض النظر عن اتجاهاتهم الفكرية، متفقون على أن القرآن هو: «كلام الله الموحى إلى النبي محمد باللغة العربية على مدى 23 سنة. هذا هو التعريف المتفق عليه وغير المتنازع فيه بين كل المسلمين في تاريخ الفكر الإسلامي، بصرف النظر عن اتجاهاتهم الثقافية واللاهوتية”.(37) ومع هذا الاتفاق في تعريف القرآن إلا أنهم وبكل تأكيد لا يختلفون فقط في معناه بل كذلك في مبناه. وقد تعرضنا قليلاً لهذه النقطة سابقاً في هذا التقديم. وأيضاً مجدداً: «في هذا التعريف يمكننا التمييز بين ثلاثة معان: كلام الله والوحي والقرآن. هل هذه المفاهيم الثلاثة متطابقة لغويّاً وسميوطيقيّاً؟ هل تشير هذه المعاني الثلاثة وترمز إلى نفس المعنى؟ يبدو أن هذه المعاني الثلاثة تم التعامل معها على أنها مترادفات في الخطاب الإسلامي المعاصر، بينما كان علماء اللاهوت الكلاسيكيون على وعي بالفرق في المعنى بينها، وهو الفرق الذي يعكسه الخطاب القرآني”. وإذن فما معنى أن القرآن كلام الله؟ «هل معناه محتوى الرسالة المعبر عنها بلغة البشر؟ أم أن معناه يتضمن اللغة نفسها بوصفها العنصر الرئيس في عملية التواصل؟ إن التعبير القرآني الأكثر وضوحاً في هذا الصدد مذكور في سورة الكهف الآية 109 وسورة لقمان الآية 27 حيث يؤكد القرآن أن كلمات الله لا نهائية وغير قابلة للنفاد. حتى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}. لذلك فإنه من المستحيل نفاد كلام الله بينما يكون القرآن بوصفه نصاً محدوداً في الوجود ممثلاً فقط لأحد تجليات كلمات الله. لكن القرآن يشير إلى نفسه في كثير من الآيات على أنه كلام الله، وهو ما يبدو وكأنه يؤكد التطابق بين كلام الله والقرآن. وهنا يكون تصور الله بوصفه متكلماً مثيراً لكثير من القضايا اللاهوتية المعقدة، التي تمت مناقشتها على نطاق واسع قبل 12 قرناً في ما عرف بمحنة خلق القرآن”.(38)

إن تركيز أبو زيد المتواصل على إعادة تعريف القرآن، والتركيز على طبيعته الشفاهية وظاهرته السماعية واستمراره في التنزل على النبي محمد في مدى 23 سنة، الغرض منه تأكيد طبيعته التواصلية مع الناس المقصودين به، والاستجابة لتساؤلاتهم ومشكلاتهم في الواقع. وبمعنى آخر إن الثلاث والعشرين سنة التي أنزل فيها القرآن كانت عبارة عن تواصل بين الإلهي والبشري. ومع أن هذا الفهم بديهي إلا أنه بحاجة إلى التأكيد وإعادة الشرح في ثقافتنا المعاصرة، وذلك حتى نتمكن من التحرر فعلاً من سلطة النصوص بحسب أبو زيد. «إن كون القرآن نصّاً موحى جزءاً بعد جزء، أي منجماً، معناه أن القرآن يستجيب إلى احتياجات المجتمع ومطالبه. مطالب المسلمين معكوسة في النص القرآني بالتعبير المتكرر {يسألونك} الذي ورد 15 مرة في القرآن. هذه الأسئلة التي يرد عليها القرآن تغطي اهتمامات مختلفة لجماعة المؤمنين، فقد أثيرت أسئلة عن الخمر والميسر (البقرة: 219) واليتامى (البقرة: 220)، وعن المحيض (البقرة: 222)، وعن الحلال من الطعام (المائدة: 4)، والإنفاق (البقرة: 215 و219)، وعن القتال في الشهر الحرام (البقرة: 217)، وغنائم الحرب (الأنفال: 1) إلخ. وبتقديم القرآن إجابات عن هذه الأسئلة تمت الصياغة التدريجية للكثير من الجوانب القانونية للقرآن. وهكذا يعكس القرآن الطبيعة الجدلية للعلاقة بين كلمة الله واهتمامات الإنسان وانشغالاته”.(39)

إذن فإن الإلهي لا يتجاهل البشري لأنه هو المقصود برسالته، بل إنه يستجيب إلى مطالبه ومشكلاته من خلال الوحي. ومع أن أبو زيد لا يناقش كثيراً تاريخ القرآن، بل النص وماذا يقول، إلا أنه هنا يثير الأسئلة حول جمع القرآن ومصحف عثمان، ويبدو معنيّاً كثيراً جدّاً بهذه النقطة بالتحديد لتبيان التدخل البشري الطبيعي الذي حصل أثناء وبعد جمع القرآن في مصحف. وفي هذا السياق المهم يؤكد أبو زيد أن ترتيب التلاوة الحالي في المصحف يحجب كثيراً من تفاصيل تلك العلاقة الجدلية بين الله والإنسان. إن ترتيب النزول الغائب عنا اليوم لو تمكنا من مقاربته سيكشف لنا الكثير عن طبيعة تلك العلاقة الجدلية. “إنه من المهم هنا الإشارة إلى أثر الترتيب الحالي للمصحف الذي يهدم بشكل جزئي التاريخي والمناسباتي لكل جزء من الوحي رافعا بذلك بنيته الدلالية في مستوى أعلى من الواقع الأصلي الذي انبثقت منه تلك الدلالات. ومع ذلك فإن المحتوى الأصلي لكلام الله، أعني قبل أن يتجلى في اللغة العربية، إلهي ومقدس لكن تعبيره المتجلي في اللغة ليس كذلك”.(40) حتى هذه اللحظة من عام 2000م، ومن تاريخ تقديمه لهذه المحاضرة، كان أبو زيد لا يزال يطبق على القرآن نظرية “القرآن نص أدبي”. ومع أنه يعود بين الفينة والأخرى إلى القرآن فيما قبل المصحف، إلا أنه لما يتجاوز بعد بالكامل التاريخ المتراكم لعلماء النهضة المسلمين والدراسات الغربية القرآنية، وخصوصاً الدراسات المعنية ببنية القرآن. ومع ذلك فإن هذه المحاضرة قربت أبو زيد أكثر فأكثر من فتحه القرآني الجديد الذي سنعرضه بعد قليل.

(5) أبو زيد وأركون والعلماء المسلمون والغرب يواصلون الدرس القرآني

في عام 2001م صدر واحد من أهم الأعمال المعاصرة عن القرآن باللغة الإنكليزية في هولندا. كان ذلك العمل هو الموسوعة القرآنية الصادرة عن دار بريل الهولندية العريقة التي دشنت عملاً نوعيّاً متميزاً للدراسات القرآنية. وفي عام 2006م استكمل إصدار المجلد السادس والأخير حتى الآن للموسوعة. وقد بزغت فكرة إصدار الموسوعة التي تغطي المواضيع القرآنية من الألف إلى الياء في عام 1993م، وكانت صاحبة فكرة المشروع خبيرة القرآنيات والإسلاميات الأمريكية جين مكوليف Jane Dammen McAuliffe أستاذة اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة جورج تاون بواشنطن دي سي سابقاً ورئيسة كلية براين ماور كوليج Bryn Mawr College  حاليّاً. وفي هذا العمل الضخم العملاق شارك ما يربو على 100 باحث وخبير إسلاميات وقرآنيات من مختلف الجامعات حول العالم. وقد قامت استراتيجية وضع الموسوعة على تغطية المواضيع القرآنية بناء على تسلسل الأحرف الإنكليزية مع مراعاة مقابلاتها في اللغة العربية. ومع أن الموسوعة القرآنية معنية في الأساس بالمواضيع القرآنية، أي التي يتحدث عنها القرآن مباشرة، إلا أن بها دراسات مصاحبة معمقة مثل دراسات عن مدراس التأويل المعاصر والقديم للقرآن، وعن أثر القرآن في اللغة العربية، وتاريخ جمع القرآن، ومواضيع عن تفاسير القرآن إلخ، ناهيك عن أنها تتناول بالتحليل والدراسة والنقد أهم التفاسير القرآنية التراثية مثل “جامع البيان عن تأويل آي القرآن” للطبري. وإضافة إلى الطبري تحضر أسماء تراثية ذائعة الصيت بتفاسيرها ومؤلفاتها في المواضيع المتفرقة التي تغطيها الموسوعة القرآنية مثل: الزمخشري والحسن البصري ومقاتل بن سليمان وسفيان بن عيينه وسهل التستري والسيوطي والزركشي إلخ. وقد بلغت المداخل التي تغطيها الموسوعة حتى مجلدها الخامس (المجلد السادس عبارة عن فهرسة) حوالي 695 موضوعاً. ويمكن اعتبار الموسوعة القرآنية أختاً للموسوعة الإسلامية الصادرة عن نفس الدار قبل حوالي ثمانية عقود (صدر مجلدها الأول عام 1913م) من تاريخ إصدار الموسوعة القرآنية.

إنه ليس من المرجح التعاطي مع هذا العمل العلمي والأكاديمي العملاق بروح إيجابية في الشرق الإسلامي، خصوصاً وأن العلماء المسلمين التقليديين لا يزالون يرفضون الدراسات الغربية عن القرآن والإسلام ويعتبرونها امتداداً للمشروع الإمبريالي الغربي، والدراسات الاستشراقية التي رافقته منذ القرن الثامن عشر. ومع أن الموسوعة القرآنية ومعظم الخبراء والباحثين – الغربيين على وجه الخصوص - المشاركين فيها هم تلاميذ المدرسة الفللولجية للاستشراق، إلا أن الأطروحات التي تقدمها الموسوعة القرآنية تتعامل مع القرآن بوصفه معطى إلهيّاً موحىً إلى النبي محمد في القرن السابع. هذا وتعبر البروفيسورة مكوليف في مقدمتها للموسوعة عن ذلك الإحساس بالرفض من قبل العالم الإسلامي للعمل الذي أشرفت على تحريره، ولكنها تؤكد أن هناك في العالم الإسلامي من سيرحبون بهذا العمل ويفيدون منه. وبشكل مثير للاهتمام تخبرنا مكوليف عن إدراكها لحساسية الانخراط في مشروع كهذا، محيلة القارئ إلى رفض عدد من الأساتذة المسلمين والغربيين المشاركة بكتابة مواضيع للموسوعة، معبرين لها عن قلقهم وخوفهم من “تبعات” الانخراط في مثل هذا المشروع.(41)

السؤال الآن: إلى متى سيتم تجاهل الفكر الغربي عن الإسلام والقرآن؟ هل سيأتي اليوم الذي تترجم فيه الموسوعتان الإسلامية والقرآنية إلى اللغة العربية؟! كيف سيستقبل العالم الإسلامي الموسوعة القرآنية - التي سينظر إليها على أنها عمل مكمل للاستشراق “المرفوض” - وبها مواضيع كتبها على الأقل ستة باحثين إسرائيليين من جامعة تل أبيب وحدها؟! واقع الأمر أن رفض الموسوعة القرآنية وقبلها الإسلامية في العالم الإسلامي ليس جديداً، فكتب وأفكار العلماء الغربيين في الدراسات الإسلامية على الأقل منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن ينظر إليها بعين “الشك والريبة”. إن السؤال عن إمكانية تقبل العالم الإسلامي للدراسات الغربية عن القرآن بشكل خاص، والإسلام بشكل عام، يجد صداه في رفض تقبل أفكار العلماء المسلمين أنفسهم. ولقد رفض أبو زيد و- هو من داخل العالم الإسلامي - تماماً كما هو الحال مع محمد أركون –رحمه الله - وآخرين. وليس مصادفة أن يعبر أبو زيد عن ذلك الرفض الذي يتحول إلى إدانة، ليس لأفكاره وحدها بل للعلماء المسلمين النهضويين في شتى أرجاء العالم الإسلامي أيضاً - بالقول: «إنَّ المفكرين المسلمين الذين يحملون رأيًا مُختلِفًا عن العلاقةِ بين الإسلامِ والسِّياسةِ؛ مدانون بوصفِهم “مُغربَنين”، وليس بوصفِهم مفكِّرين مسلمين حقيقيّين". وبينما سيظل العلماء المسلمون التقليديون في العالم الإسلامي يرفضون حقل الدراسات الغربية القرآنية والإسلامية، التي لا تتناسب وأفكارهم، سيستمر الغرب في إنتاج علومه ومعارفه عن الثقافة الإسلامية. لكن ماذا عسى هؤلاء العلماء التقليديين أن يفعلوا اليوم وقد دخل العلماء الإسرائيليون منذ عقود، وهنا أيضاً في الموسوعة القرآنية، في دراسة الفكر الإسلامي؟! وماذا عساهم فاعلون مع نولدكه - للتنويه باسم واحد فقط - في كتابه الجدلي الضخم “تاريخ القرآن”؟”

وقبيل مطلع الألفية الجديدة وجهت الأستاذة مكوليف الدعوة إلى كل من أبو زيد ومحمد أركون المفكر الجزائري البارز - رحمه الله - الغني عن التعريف ليكونا عضوين رئيسين في الهيئة الاستشارية للموسوعة القرآنية. وفي هذا العمل الكبير يلتقي العلماء المسلمون والغرب وآخرون على طاولة واحدة، هدفها إعادة تقديم الدرس القرآني في قالب جديد. وبالإضافة إلى أبو زيد وأركون، العضوين العربيين في الهيئة الاستشارية للموسوعة القرآنية، هناك خمسة أعضاء آخرون لهم صيت ذائع في الدراسات الإسلامية من بينهم خبير القرآنيات والإسلاميات الإسرائيلي يوري روبين Uri Rubin البروفيسور في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب. وقد كتب هذا الأخير 16 مدخلاً في الموسوعة القرآنية في مجلداتها المختلفة. وبالإضافة إلى كونهما عضوين في الهيئة الاستشارية للموسوعة كتب كل من أبو زيد وأركون عدداً من المداخل للموسوعة. وبالنسبة إلى أبو زيد فقد كتب المداخل التالية: التكبر (المجلد الأول)، والقرآن في الحياة اليومية، والمرض والصحة، والنية (المجلد الثاني)، والظلم (المجلد الثالث). وفي دراسته المنشورة في الموسوعة القرآنية في 2002م تحت عنوان “القرآن في الحياة اليومية” بدا أبو زيد أقرب من أي وقت مضى إلى تدشين رؤية قرآنية جديدة يتجاوز فيها حقلي الدراسات الغربية والإسلامية للقرآن. يتناول أبو زيد في هذه الدراسة الأثر القرآني الحي والمعاش في حياة المسلمين ابتداءً من العبادات ومروراً بالتعليم وانتهاءً بلغة الخطاب اليومي المتأثرة بالقرآن في المجتمعات المسلمة بل وتأثيره على اللغات الأخرى التي يدين بها المسملون غير العرب. كما يناقش أثر القرآن على فن الخط والزخرفة والأرابيسك والفنون البصرية والتشكيلية والموسيقية إلخ.(42) إن المجال لا يتسع هنا لمناقشة هذه الدراسة المهمة. ويكفي أن نشير فيما يخص اقتراب أبو زيد من نظريته الجديدة في القرآن إلى أنه هنا بدا أكثر إدراكاً أن التركيز على القرآن في الحقل الأكاديمي وحده دون التطرق إلى القرآن الحي والمعاش في حياة المسلمين اليومية يجعل نظرتنا إليه قاصرة وغير عملية. لكن مقاربة القرآن المعاش في اللحظة الراهنة تستلزم العودة إلى “اللحظة القرآنية”، أي القرآن فيما قبل المصحف.

(6) أبو زيد يعيد التفكير في القرآن: القرآن من «النص” إلى «الخطاب”

اعترافاً بأهمية إنجازاته الفكرية والعلمية وذيوع صيته في هولندا أستاذاً بارزاً، وجهت جامعة الإنسانيات بـ يوترخت في هولندا الدعوة إلى أبو زيد ليكون أستاذاً زائراً بها للدراسات الإسلامية، إضافة إلى شغله نفس المنصب بجامعة ليدن في الوقت ذاته. وفي هذه الفترة، أي بعد عام 2001م، كان أبو زيد يعيد النظر في مناهجه التي وظفها في الدرس القرآني حوالي ربع قرن، علاوة على مناهج التفاسير القرآنية الكلاسيكية عند المتكلمين والفقهاء والمتصوفة والفلاسفة المسلمين، بالإضافة إلى مناهج واتجاهات التفاسير القرآنية منذ عصر النهضة، ناهيك عن حقل الدراسات القرآنية في العصر الحديث في أوروبا. وفي عملية البحث والتأمل هذه بدأ أبو زيد في التنبه إلى أن ثمة رؤية واحدة مسيطرة في النظر إلى القرآن في كل التفاسير والدراسات القرآنية في العالم الإسلامي والغربي؛ إنه منهج “القرآن النص” المسيطر على كل الرؤى. وقد آن الأوان - بالنسبة إليه - للعودة إلى القرآن فيما قبل النص أي ما قبل المصحف. وفي 2004م قرر مجلس إدارة جامعة الإنسانيات في يوترخت، بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية أخرى تأسيس كرسي للإسلام والإنسانيات على شرف فيلسوف وفقيه وطبيب قرطبة المعروف في المحيط اللاتيني باسم أفيروس. وكان أول مفكر سيعتلي هذا الكرسي هو البروفيسور نصر حامد أبو زيد أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعتي ليدن والإنسانيات. وقبل قبوله هذا التشريف باعتباره أول مفكر يعتلي الكرسي طلب أبو زيد من مجلس إدارة الجامعة تسمية الكرسي بالاسم العربي (ابن رشد) عوضاً عن الاسم اللاتيني (أفيروس). وقد وافقت الجامعة على ذلك. وهكذا يعيد أبو زيد الاعتبار والاحترام للاسم العربي لابن رشد ولأول مرة في تاريخ أوروبا.

وفي محاضرته التدشينية لاعتلاء كرسي ابن رشد للإسلام والإنسانيات في 27 مايو 2004م قدم أبو زيد فتحه القرآني الجديد، مدشناً رؤية تأويلية ورؤية منهجية جديدتين في النظر إلى القرآن، ليس باعتباره نصّاً بل خطاباً أو مجموعة من الخطابات. إن القرآن النص هو المصحف بترتيبه الحالي، أي بوصفه وحدات نصية متجاورة إلى بعضها بعضاً في المصحف في شكل يعتمد التدرج في ترتيب السور، بحسب أحجامها، حيث تكون السور الطوال الأوائل في الترتيب، بينما تكون السور القصار في نهاية المصحف. وقد قدم أبو زيد هذه المحاضرة - التي نشرت فيما بعد في كتاب كما تملي ذلك تقاليد الجامعة - تحت عنوان “إعادة التفكير في القرآن: نحو هرمنيوطيقا إنسانوية”، وترجمها لاحقاً تحت عنوان “مقاربة جديدة للقرآن: من “النص” إلى “الخطاب”: نحو تأويلية إنسانوية”. ولا يعلم كاتب هذه السطور عن مكان نشر نسختها العربية المترجمة. ولأن أبو زيد ترجم إلى العربية القسم الأول من المحاضرة المتعلق فقط بتأويله القرآني ونظريته الجديدة “القرآن الخطاب” فإننا سنحيل القارئ في هذا النقاش السريع إلى نسختي المحاضرتين العربية والإنكليزية معاً، وذلك لضرورات منهجية. وجدير بالملاحظة هنا مع أبو زيد أنه يركز على إضافة أرقام السور (ترتيبها في المصحف) إلى جانب مسمياتها للتنبيه ضمنيّاً إلى ترتيب التلاوة، في مقابل ترتيب النزول المفقود. وبالنسبة إلى الدراسات الإنكليزية بشكل عام فإنها تعتمد ترقيم السور عوضاً عن أسمائها. هذا وسنرى أبو زيد يقدم اقتراحات لترتيب بعض السور هنا، وذلك في تقديمه لتأويله القرآني لبعض الآيات. إن وقوفاً مسهباً بعض الشيء مع هذه المحاضرة، في هذا التأبين التذكاري، للمفكر الراحل يغدو ضروريّاً جدّاً.

يفتتح أبو زيد محاضرته بربط موضوعها – القرآن - بالسياق المعاصر وهمومه: «لقد أصبح من الضروري إدراك أن العالم صار بالفعل قرية صغيرة لا مجال فيها لأية ثقافة منبتة الصلة بغيرها من الثقافات أن تواصل الحياة، وهل وجدت أبدا مثل هذه الثقافة؟ على الثقافات أن تتبادل الأخذ والعطاء عن طريق التفاعل الحر، وهي ظاهرة ليست جديدة وليست من إبداع أو اختراع السياق الحديث للعولمة. إن تاريخ الثقافة في العالم ينبئنا أن البذور الأولى للحضارة الإنسانية قد ولدت في أحواض الأنهار، ربما في إفريقية السوداء، أو في مصر أو العراق، وذلك قبل أن تنتقل الشعلة إلى اليونان، ثم تعود للشرق في صورة الثقافة الهللينية. ومع انبثاق الطور الحضاري للإسلام تبلورت ثقافة جديدة استوعبت كل العناصر الحية والخلاقة في الثقافات الهللينية والهندية والفارسية وأعادت إنتاجها في مركب جديد، وذلك قبل أن تعيد تصديره إلى العالم الغربي الجديد عبر صقلية وإسبانيا. جدير بالذكر في هذا السياق الفيلسوف العربي المسلم “ابن رشد” المشهور في العالم اللاتيني باسم “أفيروس”، والذي ساهمت كتاباته في بناء نسق موحد يجمع بين الأرسطاطيليسية والتراث الإسلامي، نسق استطاع أن يشيع أنوار العقلانية في أوروبا العصور الوسطى. إن السياق الحالي المعروف باسم الإسلام-فوبيا في الغرب، خاصة بعد حدث الحادي عشر من أيلول وما تبعه من “حرب ضد الإرهاب”، وما أدت إليه هذه الحرب على الإرهاب من تزايد وتائر العمليات الإرهابية في العالمين الإسلامي وغير الإسلامي سواء بسواء، قد تسبب في تشويه الإسلام بوصفه ديناً راديكاليّاً إرهابيّاً إقصائيّاً. من هنا يجب تأكيد أهمية دعوة كل المسلمين، بصرف النظر عن اختلافاتهم العرقية والثقافية، للتفكير مجدداً في القرآن. لست هنا صاحب دعوة يحاول أن يصوغ نسخة خاصة من الإسلام، بقدر ما أحاول أن أخلق فضاء لموقفي التأويلي”.(43)

إن إحداث أي تقدم في حياة المسلمين اليوم مشروط بإعادة التفكير في التأويل القرآني: «وهنا يجب علينا الإلحاح بالمطالبة بضرورة لا مجرد الاستمرار في عملية التفكير وإعادة التفكير مجدداً في التراث ومعنى القرآن، بل بضرورة أن يحاول المسلمون-أينما كانوا- التقدم خطوة أبعد في العملية من أجل إنجاز منهج تأويلي ناجز، وذلك ليكونوا مشاركين نشطين في صياغة معنى حياتهم، في العصر الذي يعيشون فيه، بدل أن يظلوا متلقين سلبيين للمعاني التي تفرض عليهم بالقهر والانصياع من هنا أو هناك”.(44) ومن الطبيعي في هذه المحاضرة التي يقدم فيها أبو زيد نظريته الجديدة في التأويل القرآني أن يعود إلى تاريخ جمع القرآن وإلى التدخل المباشر في ترتيب سوره وآياته الذي قام به المسلمون حين جمعوه وقنونه في كتاب هو المصحف. إن تذكير الوعي المسلم وحقل الدراسات الغربية مرات ومرات من قبل أبو زيد بالطبيعة الأصلية الشفاهية/السماعية للقرآن تجد هنا في هذه المحاضرة تركيزاً لافتاً للنظر، وذلك لأن نظرية أبو زيد القرآنية الجديدة تعتمد أساساً على قراءة أحداث ما قبل وبعيد وبعد جمع القرآن، وعلى ما جرى في موقعة صفين المفصلية في التاريخ الإسلامي. وهنا يعيدنا أبو زيد إلى محاضرته التدشينية لاعتلاء كرسي كلفيرنجا في جامعة ليدن في عام 2000م من أجل تقريب الصورة في مهنجه الجديد: “حاولت في هذه المحاضرة [عام 2000] تطوير بعض الأفكار التي تناولتها في كتاب “مفهوم النص”، وذلك عن طريق إعادة قراءة - ومن ثم إعادة تفسير - بعض القضايا والافتراضات الأساسية في علوم القرآن، وبصفة خاصة تلك العلوم التي تتعرض لطبيعة القرآن وتاريخه وبنائه.

في إعادة القراءة وإعادة التفسير تلك كان من الطبيعي أن أوظف بعض الأدوات المنهجية الحديثة، مثل علم الدلالة والنقد التاريخي والتأويلية، وهي مناهج ليست مألوفة عادة - بل ومرفوضة - في السياق التقليدي للدراسات القرآنية في العالم الإسلامي. ولقد ركزت في تحليلي لعملية “الوحي”، في هذه المحاضرة، على العناصر الأساسية المكونة للبعد “الرأسي” في عملية التواصل بين الله والنبي محمد، وهي عملية بدأت عام 612م تقريباً، وتكررت مرات عديدة في مدى زمني يتجاوز العشرين عاماً. أنتجت عملية التواصل الرأسي المتكررة تلك مجموعة من الخطابات في شكل آيات قصيرة أو مجموعة من الآيات أو في شكل سورة قصيرة.

في عملية تقنين القرآن -أي جمعه وتدوينه وترتيبه في المصحف الذي نعرفه الآن- لم يتم الاحتفاظ بالترتيب التاريخي لهذه الخطابات، بل تم إدماج هذه الخطابات في وحدات أكبر “السور”، ثم ترتيب هذه السور وفقاً لأحجامها، فوضعت السور الأطول في المقدمة والأقصر في نهاية المصحف. أي تم استبدال هذا الترتيب الحالي- الذي صار يعرف باسم “ترتيب التلاوة”- بالترتيب الزماني الذي يعرف باسم «ترتيب النزول”. وإذا تقبلنا المرويات التراثية التي ترى أن القرآن كان قد تم حفظه في الذاكرة الجمعية منذ نزوله حتى تمت عملية جمعه وترتيبه وتدوينه في عهد الصحابة، فإن هذه المرويات تؤكد أن النسخة الأولى لرسم المصحف -أي دون تنقيط وإعراب- قد تم إنجازها في عصر الخليفة عثمان بن عفان (ت: 56 هجرية/644 ميلادية). أما النسخة النهائية للمصحف –أعني بعد إضافة علامات التنقيط وعلامات الإعراب- فقد تم إنجازها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. ومن الضروري حتى في حالة تقبل المرويات التراثية بلا نقد أن نلاحظ بعداً إنسانيّاً آخر – يضاف للبعد الإنساني في عملية الوحي بوصفها فعلا تواصليّاً- يتمثل في عملية التقنين بجانبيها: عملية إعادة الترتيب، وعملية تحويل الرسم الصامت إلى نص مقروء بإضافة علامات التنقيط وعلامات الإعراب.

أدت عملية التقنين تلك إلى خلق قناعة مؤداها أن القرآن “نص”، وتم إلى حد كبير تجاهل طبيعته الأصلية، أو طبيعته التداولية بوصفه “خطابات” متعددة السياقات من جهة، ومتعددة المستقبلين التاريخيين من جهة أخرى. ولقد بدأت حياتي البحثية منطلقاً من هذه القناعة، وذلك بتأثير المنهج الأدبي الذي بدأه الشيخ أمين الخولي متأثراً في ذلك بمعطيات أساليب الدراسات الأدبية الحديثة. ولقد كان رد الفعل العصابي ضد منهج التفسير الأدبي -القائم على التسليم بمفهوم “النصية”- موجهاً ضد المنهج ونتائجه لا ضد المفهوم ذاته.

واللافت للنظر أن الدراسات الغربية عن القرآن بدأت بالمثل من التسليم بطبيعته النصية شأنه في ذلك شأن العهدين القديم والحديث. لكن التركيز في الدراسات الاستشراقية الأولى تمثل في عملية البحث عن الجذور النصية -اليهودية والمسيحية- للنص القرآني. وبالتدريج توصلت الدراسات الغربية المعاصرة إلى التعامل مع القرآن بوصفه “نصّاً” له خصائصه الذاتية، وتاريخه الخاص الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان...  ومن خلال دراسة أنجزتها عن “القرآن في الحياة اليومية” بدأت أدرك أن التعامل مع القرآن بوصفه مجرد “نص” يقلل من شأن حيويته إلى جانب أن هذا التصور “النصي” يتجاهل حقيقة أن القرآن ما زال يمارس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين بوصفه “خطاباً” لا مجرد نص.

القرآن والمصحف: الناطق والصامت:

قد يكون مفاجئاً للبعض القول إن القرآن في الفترة الأولى من تاريخ المسلمين - بالتأكيد قبل الوصول إلى مرحلة التقنين النهائي للمصحف، وقبل تحول الإسلام إلى مؤسسات - كان ما يزال ينظر إليه بوصفه “الخطاب الحي” بينما كان المصحف بمثابة “النص الصامت”. كان علي بن أبي طالب، الخليفة الرابع (656-660م) هو من أعلن مفهوم “المصحف الصامت”، الذي لا ينطق وإنما ينطق به الرجال. وسياق هذا الإعلان سياق هام؛ لأنه يلقي الضوء على الحالة الحاضرة في عالمنا الإسلامي، حيث التلاعب السياسي بمعاني القرآن واضح لا خفاء فيه. كان السياق هو القتال الدائر في معركة صفين عام 657م بين الخليفة الذي اختارته الجماعة ممثلة في “أهل الحل والعقد” من الصحابة، وبين “معاوية بن أبي سفيان” والي الشام، الذي لم يعترف بهذا الاختيار. كان من الواضح أن مسار المعركة يميل لصالح علي ضد معاوية. هنا نصح “عمرو بن العاص” حليفه معاوية أن يأمر جنوده أن يضعوا نسخاً من المصحف على أسنة السيوف. لم تكن تلك الإشارة تعني الاستسلام، بل كانت تعني أن “معاوية” يدعو المتقاتلين لحل الخلاف باستشارة “القرآن”. ولأن المقاتلين في المعسكرين كانوا قد أصابهم التعب فقد وضع الجميع سلاحهم. وضغط أنصار “علي” عليه لكي يقبل حل الاختلاف بالتحكيم كما اقترح “معاوية”، وأن يختار حكَمَاً يمثله من هؤلاء المحايدين الذين لم ينضموا إلى أي من المعسكرين. كان أصحاب “علي” على ثقة بأنهم على حق. وقد لعب “القراء” دوراً هامّاً في الضغط على “علي” لقبول مبدأ “التحكيم”.

كانت مهمة الحَكَمين أن يستطلعا القرآن - من أول سورة إلى آخر سورة - للبحث عن حل. وفي حالة غياب دليل واضح من القرآن يحسم المشكلة كان عليهما أن يستشيرا “السنة المجمع عليها”. ولأنه لم يكن واضحاً وضوحاً بيناً محدداً ما هو الموضوع الذي يستشار فيه القرآن والسنة، فقد اعترض البعض على مبدأ التحكيم وصاحوا “لا حكم إلا لله”. وكان معنى هذه الصيحة أنه لا يصح إطلاقاً تحكيم الرجال، لأن ثمة أمراً إلهيّاً واضحاً في القرآن يحل هذه المشكلة، وهي الآية 9 من سورة “الحجرات” رقم 49: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين”. من هنا أصر من رفضوا التحكيم على مواصلة القتال ضد معاوية، فليس ثمة دليل يغير حقيقة أنهم الفئة الباغية. في رده على مبدأ “لا حكم إلا لله” أعلن علي مقولته المشهورة التي تُميِّز بين المصحف الصامت من جهة، وبين المصحف المنطوق بتأويل الرجال من جهة أخرى. إن هذا التمييز - والعبارة يستشهد بها كثير من الباحثين المعاصرين للبرهنة على الاحتمالات المتعددة للمعنى، وعلى الحذر من التلاعب السياسي بالمعنى - لها دلالات أعمق من تلك التي فهمت على أساسها. إن مجرد النطق بالقرآن، سواء في تأدية الشعائر، أو استشهاداً به في سياق الجدل في الحياة اليومية، سواء كان الجدل سياسيّاً أو اجتماعيّاً، مجرد النطق هذا ينطوي على معنى، أي ينطوي على تفسير ما. وحين يستشهد المحاور الخصم، أو المساجل، بآية أخرى، فإن الاستشهاد يتضمن تأويلاً خاصّاً للآيات التي استشهد بها الخصم، وترسيخاً لتأويل مضاد من خلال النطق بآية أو آيات أخرى. يحدث ذلك من خلال إشارات مصاحبة، مثل التنغيم والوقف والتأكيد، هذا علاوة على الإشارات الجسدية التي تصاحب عادة كل خطاب شفاهي. إن القرآن في عملية التداول تلك يمثل ظاهرة حية تشبه إلى حد كبير ظاهرة “الأوركسترا” المعزوفة، في حين يمكن تشبيه “المصحف” الصامت بـ”النوتة الموسيقية” الصامتة. من هنا يرى الباحث أن على نظرية التأويل أن تأخذ بعين الاعتبار تلك الظاهرة الحية، وأن يكف المفسرون عن تلخيص القرآن هذا التلخيص المُخل إلى حد كبير حين يتم التعامل معه بوصفه “نصّاً” فقط.

إن الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة، سواء كانت معتدلة أم متطرفة، تنطلق من مقدمة لا تقبل النقاش فحواها أن تحديد معايير السلوك الفردي بكل تفصيلاته، وتحديد القوانين التي تحكم حركة المجتمع، هي من حق “الله”. ومثل هذا الزعم بالمصدر المقدس للتشريعات التفصيلية في التأويلية السياسية المعاصرة يعتمد على الأساس المعرفي نفسه الذي استند إليه الرافضون للتحكيم في العصر الأول. ولكن في حين كانت صيحة المعترضين في القرن السابع هي “لا حكم إلا لله”، بمعنى لا يصح تحكيم غير الله - الحكم هنا بمعنى الفصل بين المتنازعين - فإن المعترضين الإسلاميين يصرون على تفسير معنى “الحكم” بأنه “التشريع”، وشتان بين التأويلين. مثل هذا التلاعب السياسي والإيديولوجي بالمعنى القرآني موجود أيضاً في الفترة الكلاسيكية. اعتماداً على أن القرآن مجرد “نص” يصبح التلاعب الدلالي سهلاً، ويمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية”.(45)

ويستأنف أبو زيد تحليل ومناقشة “القرآن النص” عند علماء الكلام والمتصوفة، وخصوصاً محيي الدين بن عربي. وقد عرضنا تحليل أبو زيد لتأويل علماء الكلام والمتصوفة في مستهل هذا التقديم. وبالنسبة إلى علماء الكلام فإنهم اعتمدوا مبدأهم التأويلي في النظر إلى القرآن بوصفه نصّاً على ثنائية المحكم والمتشابه التي تثيرها الآية السابعة من سورة آل عمران. “أما بالنسبة للفقهاء وعلماء الأصول بصفة خاصة، فقد أسسوا مبدأهم التأويلي على أساس التمييز في الخطاب الإلهي بين “المتقدم” و”المتأخر” في ترتيب النزول. هذا التمييز مكنهم من إزالة التناقضات في الأحكام القرآنية بالزعم أن الحكم “المتأخر” من شأنه أن ينسخ الحكم “المتقدم”؛ وذلك على أساس أن “نصّاً” إلهيّاً لا يمكن أن يقع به أي نوع من التناقض. كانت مقولة “الناسخ والمنسوخ” تمثل حلاً تأويليّاً يثبت الأحكام النهائية، وينفي في نفس الوقت وقوع التناقض. ومن السهل على الباحث أن يرى التشابه بين تأويل المتكلمين وبين تأويل الفقهاء، وإن كان مجال التطبيق عند كليهما مختلفاً. الهدف عند كليهما رفع التناقض عن “النص الإلهي”، وإن كانت النتائج حققت اختلافاً وتناقضاً أشد كما أشرنا عند المتكلمين. وعند الفقهاء نجد الخلاف حاضراً في تحديد ما إذا كان حكم ما ناسخاً أو منسوخاً.

لم يكن من الممكن للمتكلمين أو للفقهاء أن يدركوا أن ما يبدو لهم تناقضاً يحتاج لمنهج تأويلي لرفعه، ليس إلا مواقف وترتيبات لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى سياقها “الخطابي”، أي سياق التحاور والتساجل والجدال والاختيار والرفض والقبول ... إلخ. وهذا السياق الخطابي ليس هو السياق النصي، بل هو سياق أوسع يتطلب تحليل أدوات الرفض والتأكيد والإزاحة والتركيب والتفكيك الضمنية في منطوق الخطاب القرآني، أي باختصار يتطلب منا الاهتمام بالطبيعة الخطابية للقرآن، بدلاً من تركيز الاهتمام بالكامل على الطبيعة “النصية” التي ساهمت في إغلاق الاحتمالات، وتثبيت احتمالات موجهة أساساً بإيديولوجيا المؤوِّل، السياسية أو الثقافية أو العقيدية أو المذهبية.

ورغم أن عمل الفقهاء يعكس وعياً محدوداً بطبيعة القرآن من حيث هو “خطاب”؛ فإن مشكلة التناقض في أحكامه ظلت في وعيهم غائبة عن أن تكون جزءاً من بنية الخطاب. لقد مثل لهم التناقض مشكلة لا بد من سبيل لحلها. لم يكن في وسعهم أن يسلموا بأن ظاهرة اختلاف الأحكام وتعددها لا تمثل تناقضاً بقدر ما تمثل أفقاً مفتوحاً أمام الجماعة – أو المجتمع - للاختيار الأنسب للظروف والسياق المتغيرين. من هنا كان سعيهم لإزالة ما توهموه تناقضاً مبنيّاً على محاولة لتثبيت الأحكام من خلال مبدأ “قانوني” فحواه أن الحكم المتأخر ينسخ المتقدم، وطبقوا هذا المبدأ القانوني على القرآن الذي لا يمكن اعتباره “كتاب قانون”. لكن علينا الاعتراف بأنهم كانوا يدركون أيضاً مبدأ “التدرج في الوحي” الذي فهموه في سياق “التدرج التشريعي”. هكذا يمكن القول إن التعامل مع القرآن بوصفه “نصّاً” قد أدى إلى تصورٍ ما باعتباره “كتاباً” بالمعنى القانوني. بناء على مبدأ “التدرج التشريعي” في نص قانوني تمت صياغة مقولات “الناسخ والمنسوخ”، و”المجمل والمفصل”، و”العام والخاص” وغيرها، وهي مقولات يفضي تحليل محتواها تحليلاً نقديّاً تاريخيّاً إلى اكتشاف أن وظائفها الأساسية تتركز في رفع التناقض المتوهم في “نص” إلهي يسيطر على مؤلف يتمتع بكل صفات القدرة والكمال. لم يدرك الفقهاء خطورة النتائج، فعلى أساس مقولة “الناسخ والمنسوخ” قسموا القرآن إلى أقسام أربعة:

ما نسخ لفظاً وحكماً.

ما نسخ حكمه وبقي لفظه

ما نسخ لفظه وبقي حكمه.

ومن الطبيعي أن يكون الصنف الرابع هو الثابت حكماً ونصاً، وهو أغلب القرآن لا كله. ولأن ترتيب سور القرآن من حيث النزول ما زال أمراً خلافيّاً بعيداً عن أي يقين علمي؛ فإن الاتفاق على ترتيب الآيات والمقاطع أشد عسراً، وأبعد عن أي يقين معرفي. ولقد بالغ الفقهاء المتأخرون في تطبيق مقولة “الناسخ والمنسوخ” حتى قيل إن آية “السيف” – الآية 5 من سورة التوبة رقم 9- قد نسخت كل آيات الصبر والتسامح التي يبلغ عددها أكثر من مائة آية. وهكذا نلاحظ أن مشكلة “التعدد” و”الاختلاف” في المواقف والأحكام قد تم حلها بطريقة عشوائية أدت إلى مثل هذا الزعم الخطير. هذه المشكلة في تقديري تمتد جذورها عميقاً في حقيقة أن القرآن تم استقباله واستيعابه –أولاً- بوصفه يمثل “كلمات الله الحرفية” المقدسة مثل الله بلا زيادة ولا نقصان، والتي لا يمكن من ثم مقاربتها بمنهج دنيوي لغوي أو تاريخي. إن القرآن منذ جمعه وترتيبه في “مصحف” تم التعامل معه –ثانياً- بوصفه “نصّاً”. وإذا كان النص البشري يخضع لسيطرة مؤلفه ويعكس قدراته؛ فإن النص الإلهي ومؤلفه –الله سبحانه وتعالى- لا بد أن يقع في أرقى مستويات البناء، التي لا يمكن أن تستوعب “تناقضاً” ما. إن أي تناقض أو اختلاف في “الكتاب الإلهي” لا بد أن يكون ظاهريّاً، ويتحتم على المؤمن العالم أن يكشف الاستواء العميق. ألم يقارن علماء الإعجاز –الباقلاني بصفة خاصة- بين متانة القرآن وضعف المعلقات، بطريقة تكشف عن إشكالية حقيقية أكثر ما تعكس يقينا إيمانيّاً؟ وفي التأويلات الحديثة والمعاصرة من الصعب أن نجد خرقاً للمجال التأويلي الكلاسيكي القائم على نظرية “النص”. والمنهج الأدبي الذي طبقه بعض الدارسين –ومنهم كاتب هذه الدراسة- لا يخرج هو الآخر عن ذلك السياق. ورغم توظيف المنهج الأدبي لإجراءات تأويلية متقدمة فإنه لم يفارق المنهج التبسيطي في التعامل مع القرآن بوصفه مجرد “نص”.(46)

وهكذا تكون معضلة ما أحدثه اعتبار القرآن نصّاً، من إلغاء لأحكامه المتقدمة لحساب المتأخرة، في ضوء اعتبار المتأخر ناسخاً والمتقدم منسوخاً، لاغية للسياق التاريخي، وذلك لتفاعل الوحي مع الواقع واستجابته له وفقا للظروف والملابسات المتعلقة بشروط زمكانية. وبعد بسط أبو زيد لملابسات عملية تقنين القرآن بل وخطورتها وما استوجبه ذلك من تثبيت الأحكام واعتبارها نهائية، وتحليله لإشكالية النظر إلى القرآن باعتباره نصّاً، يعرض بعض تفاصيل رؤيته الجديدة التي يتجاوزر فيها حقل الدراسات الغربية في إحالتين مباشرتين إلى محمد أركون على وجه التحديد:

القرآن بوصفه خطاباً:

أحب في هذا البحث أن أطور أطروحتي عن الجانب الإنساني المتضمن في عملية الوحي، وفي القرآن من ثم بوصفه وحياً، خطوة أبعد بالانتقال من التركيز على البعد “الرأسي” في عملية الوحي إلى إلقاء الضوء على البعد “الأفقي”. ولا أعني بالبعد الأفقي مجرد عملية التقنين التي أشرت إليها – وهي دالة بهذا الصدد - ولا عملية “البلاغ” التي قام بها النبي، ولا عملية الانتشار الأفقي الناتجة عن فعل “البلاغ”، كما لا أعني بها هنا “التراث التفسيري” الذي حول النص الإلهي إلى فهم إنساني. أعني بالبعد “الأفقي” هنا ذلك البعد المحايث لعملية الوحي ذاتها، والمتمثلة في دوال وإشارات ما تزال ماثلة في بنية النص المدون في “المصحف”. هذا البعد يمكن إدراكه وتقديره إذا حولنا منظورنا في التعامل مع القرآن من منظور كونه “نصّاً” إلى النظر إليه باعتباره “خطاباً”، أو بالأحرى “خطابات” لكل منها سياقه الذي لا تستبين دلالة الخطاب إلا به.

يميز “محمد أركون” وآخرون بين “الظاهرة القرآنية” – الخطاب المتلو المتداول - وبين “المصحف” الذي يحتوي على “الصيغة النهائية المغلقة” – بتعبير أركون - التي تم إنجازها من خلال عملية التقنين التي أشرنا إليها، وهي العملية التي حولت الوحي من كونه “خطاباً” وجعلته “ نصّاً”. أريد في هذا الطرح أن أتجاوز اللحظة التاريخية تلك، التي أحدثت ذلك التحول من “الخطاب” إلى “النص”، وهي لحظة تاريخية نجد مثيلاً لها في تاريخ كل الأديان تقريباً. وينبغي هنا الإشارة إلى أنه منذ ذلك التحول دأب المفكرون المسلمون –والمفسرون بصفة خاصة- على التعامل مع القرآن بوصفه نصّاً، هذا رغم إشاراتهم المتعددة للمناسبات التي تعني رجوعهم الاضطراري إلى بنية ما “قبل النص”. لكن هذه العمليات من الرجوع الاضطراري لم تمكنهم من الإدراك الكامل لأهمية الظاهرة الحية، القرآن بوصفه “خطاباً”. ولقد دأب الدارسون للقرآن في العصر الحديث على مواصلة المنظور التراثي في التعامل مع القرآن بوصفه “نصّاً”. إن التعامل مع القرآن من هذا المنظور يشجع إمكانيات التفسير والتفسير المضاد، كما يسمح بالمثل بإمكانية التلاعب الدلالي ليس فقط بالمعاني بل بالمبنى القرآني نفسه، وذلك كما حدث في التأويلات السجالية التي أنجزها المتكلمون في الماضي.

ظل القرآن بالنسبة للدارسين منذ لحظة تقنينه إلى الآن مجرد “نص”. وقد آن الأوان للاهتمام بالقرآن بوصفه “خطاباً” أو بالأحرى “خطابات”. لم يعد كافياً مجرد البحث عن سياق لمقطع أو مجموعة من الآيات حين يكون الهدف مساجلة النصيين أو الأصوليين من أصحاب مفهوم “الحاكمية” مثلاً، أو حينما يكون الهدف التخلص من بعض الممارسات التاريخية التي تبدو غير ملائمة في السياق الحديث، مثل مسألة “الجزية”. ولا يكفي بالمثل الاستعانة بالتأويلية المعاصرة من أجل البرهنة على تاريخيةّ، ومن ثم نسبية، كل نمط من أنماط التأويل، بينما يزعم كل زاعم – ضمنيّاً على الأقل - أن التأويل الذي يقدمه هو وحده التأويل الملائم ومن ثم الأكثر مشروعية. كل هذه المقاربات العليلة تنتج إما تأويلية سجالية أو تأويلية اعتذارية. وبعبارة أخرى: إن التعامل مع القرآن، فقط بوصفه “نصّاً”، سينتج دائماً تأويلية “كليانية” أو تأويلية “سلطوية”، وكلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة. إن أي مقاربة جديدة للقرآن لا تضع في اعتبارها إعادة الاعتبار لطبيعته الأصلية الحية بوصفه “خطابا” – إنْ في الدراسات الأكاديمية أو في تداوله في الحياة اليومية - لن تستطيع أن تنتج تأويلية “ديمقراطية”. إن السعي إلى تأسيس “تأويلية ديمقراطية” مفتوحة ضدّاً للتأويلات “السلطوية” و”الكليانية” ينطلق من حقيقة أن تأويل القرآن هو في حقيقته سعي لصياغة “معنى الحياة”. وإذا كنا حقّاً جادين في سعينا لتحرير الفكر الديني من سلطة القهر والقوة، سياسية كانت أم اجتماعية أم دينية، من أجل إعادة الحق في صياغة المعنى الديني للمؤمنين، فلا سبيل أمامنا إلا محاولة بلورة منهجية تأويلية ديمقراطية. من أجل إعادة وصل “معنى القرآن” بسؤال “معنى الحياة” يتحتم أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن القرآن ليس إلا ثمرة لعمليات من الحوار والسجال والمناظرة والرفض والقبول، ليس فقط مع أو ضد المعايير والثقافات وأنماط السلوك السابقة قبل انبثاقه، ولكن مع معاييره هو ومع تأكيداته هو ومع أحكامه هو بعد انبثاقه. إن “الخطاب القرآني” يمثل عملية محاورة ونقاش واستبدال وتعديل وفق متغيرات السنوات العشرين، أو الأكثر قليلاً، في حياة المستقبل والمتحاور الأول -النبي محمد- وحياة المستقبلين المحاورين من عرب ويهود ونصرانيين أساساً، ثم من مؤمنين وكفار ومنافقين بعد بداية الانبثاق بعدة سنوات.

تعدد الاًصوات لا الصوت الواحد: من يتكلم ومن يستمع؟

بسبب سيطرة مفهوم القرآن بوصفه “نصّاً” على مجمل الدراسات في الشرق والغرب، من الصعب تقديم نسق بنيوي دقيق للخطاب القرآني. وقد حاولت “الموسوعة الإسلامية” في الطبعة الثانية أن تقدم تصنيفاً للشكل أو الأشكال الأدبية في القرآن، فقدمت تصنيفاً يمزج بين “الشكل” و”المضمون”، بل ويخلط بينهما. هكذا صنفت الأشكال إلى:

1. القَسَم وما يتعلق بالقسم.

2. الآيات بمعنى العلامات، والآيات بمعنى الوحدة القرآنية.

3. القصص.

4. الأحكام.

5. الابتهالات والأدعية.

أما محمد أركون، ورغم تأكيده على طبيعة القرآن بوصفه “خطاباً”، فإنه يتبنى تصنيف بول ريكور (الفيلسوف الفرنسي) للأشكال الأدبية في العهد القديم، المبنية على أساس تبني التعريف “النصي”. في هذا التصنيف الذي يتبناه أركون يتكون الخطاب القرآني من:

1. الخطاب النبوي، أو التنبؤي.

2. الخطاب التشريعي.

3. الخطاب القصصي.

4. الخطاب التقديسي.

5. الخطاب الابتهالي (أو الغنائي الشعري).

ومع ذلك –أي رغم التعدد المشار إليه في بينية الخطابات- فإن أركون يؤكد وجود بنية نحوية واحدة ومجال وحيد للتواصل النحوي في القرآن هي البنية: أنا (المتكلم)- أنت (الرسول)- وأنتم (جماعة المؤمنين) وأحياناً غير المؤمنين من مشركي مكة وأهل الكتاب. ومعنى ذلك أن ثمة بينة نحوية مهيمنة هي أنا المتكلم وأنت المخاطب أو أنتم المخاطبين. والحقيقة أن هذه البنية يمكن أن تكون البينة الأكثر حضوراً في نمط من الخطاب، لكنها ليست البنية الوحيدة في كل الخطابات. ويمكن القول إن القرآن لا يمثل خطاباً “أحادي” الصوت، بل هو خطاب “متعدد الأصوات” بامتياز، بمعنى أن ضمير المتكلم لا يشير دائماً إلى “المقدس”، ولست أقصد المتكلم في الخطاب القرآني السردي القصصي، الذي يكون خطاباً حكائيّاً، بل أقصد المتكلم بالقرآن، خارج السياق السردي الحكائي. ومن جهة أخرى فإن صوت “المقدس” لا يعبر عنه دائماً بضمير المتكلم “أنا”، بل كثيراً ما يمثله الضمير الغائب “هو”، وهو دائماً “أنت” في الخطاب الابتهالي الدعائي كما سنرى. إن صوت المقدس في سورة “الإخلاص”، رقم 112، وهي من أوائل السور المكية، غائب وراء فعل الأمر “قل”. وهذا الغياب يخلق احتمالات بأن القائل ليس بالضبط الصوت الإلهي، بقدر ما هو صوت الممثل للمقدس. المخاطب هو “محمد”، والقائل يطلب من “محمد” أن يقول عن “المقدس” –الله- بأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. إذا أخذنا مثالاً آخر من سورة العلق، رقم 96، الآيات من 1-5، وهي أول آيات القرآن نزولاً، فإننا سنجد أن المخاطب هو محمد، بينما صوت المتكلم هو صوت المَلَك الذي يظهر له في غار حراء، ليقدم لمحمد مواصفات “الرب”. ضمير الغائب هو الممثل لهذا الرب. مرة ثالثة سنجد في سورة الفاتحة، السورة رقم 1، أن المتكلم هو الإنسان، بينما يشار إلى الله بضمير الغائب في الآيات الثلاث الأولى، وبضمير المخاطب في باقي آيات السورة، التي تعد نموذجاً للشكل الأدبي المصنف باسم “الابتهالات” أو “الأدعية.”

من الواضح في هذا النموذج أن صوت الإنسان هو المتكلم في القرآن، الذي هو “كلام الله”؛ بمعنى أن كلام الله يتوحد بصوت الإنسان، أو أن صوت الإنسان يمثل كلام الله، وأقصد بعملية التمثيل هنا نقل كلام الله من “عالم الغيب” إلى عالم “ الشهادة”. ومما هو جدير بالتنويه في هذا السياق أن حديثاً “قدسيّاً” يكشف عن علاقة “التمثيل” تلك بشكل باهر، حين يؤكد وجود عملية “تواصل” بين البشري والإلهي في ترتيل هذه السورة، التي يرتلها المسلم 17 مرة في كل يوم على الأقل في الصلوات المفروضة.

الحوار- السجال:

أ‌. مع المشركين:

لكي نكشف أكثر عن الطبيعة الحوارية للخطاب القرآني يكفي أن نستدعي نمط الخطاب المتكرر بشكل لافت “فإن قالوا ... فقل”. أحياناً يشير الضمير في “قالوا” إلى الكفار” حين يتحدون محمداً، أو حين يتفوهون بعبارات مسيئة لربه. والطبيعة الحوارية حاضرة بشكل واضح في السور المكية المبكرة، حين يوَجه محمد إلى الكف عن “مفاوضة” مشركي مكة، والتمايز والانفصال عنهم. المتكلم المضمر هنا – خلافاً لسورة الإخلاص - يمكن أن يكون صوت الله “الآمر”:

قل يا أيها الكافرون

لا أعبد ما تعبدون

ولا أنتم عابدون ما أعبد

ولا أنا عابد ما عبدتم

ولا أنتم عابدون ما أعبد

لكم دينكم ولي دين

ومن الواضح أن هذا التمايز والتفاصل، بهذه الصيغة القطعية المتمثلة في التأكيد بالتكرار واستبدال الضمائر “ولا أنتم ... ولا أنا” يعني فشل حال تفاوض سابقة أصر فيها مشركو مكة على الاعتراف التام من جانب محمد بآلهتهم. بعبارة أخرى، يعكس الخطاب القرآني في بنية السورة وجود حالة “حوار” آن لها أن تتوقف بسبب العجز عن “التفاوض”. حين يتوقف الحوار فإنه يفتح باب السجال، أي تبادل الاتهامات. هكذا بدأ مشركو مكة حرباً لفظية ضد محمد، وضد نبوته متهمين إياه بالافتراء، افتراء كلام زعم أنه من عند ربه. كل هذه السجالات يوردها القرآن ويرد عليها أحياناً في صيغة “فإن قالوا... فقل”، وتلك واحدة من أهم خصائص “الخطاب”، أعني الانغماس في حوار أو سجال مع خطاب آخر، خطاب نقيض.(47)

“لقد بدأ الحوارُ مع المشركين هادئًا وليِّنًا، ولكنَّه صارَ يشتدُّ تدريجيًّا عندما بدأ وثنيّو مَكَّةَ يتفاوضون مع محمَّدٍ، مقترحين عليه طريقةً يُظْهِرُ فيها احترامًا لآلهتِهم، مقابلَ المُقايَضةِ للاعترافِ بربِّه. يبدو أنَّ محمَّدًا قَبِلَ ذلك في سياقِ الحوارِ اللَّينِ الهادئ. إنَّ هذا يستدعي القِصَّةَ الغريبةَ المذكورةَ في المَصادِرِ التَّاريخيَّةِ القديمةِ، التي تروي أنَّ محمَّدًا كان يتلو السّورةَ 53 (النَّجم) في حضرةِ عددٍ من مشركي مَكَّةَ، وعندما وصل إلى ذكرِ أسماءِ ثلاثةٍ من أصنامِهم الأثيرةِ الواردةِ في الآيتين 19 و20، نَطَقَ محمَّدٌ بآيتين قصيرتين هما “آيتا الغرانيق”، وعندما وصل النَّبيُّ في تلاوتِه إلى الآيةِ الأخيرةِ من السّورةِ “فاسجُدوا للهِ واعبُدوا” سَجَدَ المشركون مع المسلمين، في إشارةٍ لمصالحةٍ بين محمَّدٍ وأهلِ مكَّة.

يَرْفُضُ المفكِّرون المسلمون هذه القِصَّةَ بوصفِها تلفيقًا متأخِّرًا، بينما يَقْبَلُ بها كُتَّابُ سيرةِ محمَّدٍ الأوربيّون بوصفِها واقعةً تاريخيَّةً. إنَّه ليس من دواعي اهتمامِنا هنا الانشغالُ بهذا النِّقاشِ؛ لأنَّ القرآنَ نفسَه يُلْمِحُ إلى الحادثةِ في السّورةِ 22 (الحجّ)، الآية 52، مُنقِصًا من سريانِ مفعولِ تينك الآيتين، ناسبًا إيَّاهما إلى تدخُّلٍ شيطانيٍّ على لسانِ محمَّدٍ، تدخُّلٍ عليه أنْ يُلغى. وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يُلقِي الشيطنُ ثم يُحْكِمُ اللهُ ءايته والله عليمٌ حكيم”. وسواءٌ أكانَ هذا الإنقاصُ يعكس عمليَّةَ تفاوضٍ أم لا فإنَّ الحقيقةَ تبقى أنَّ هناك دليلاً قرآنيًّا على وقوعٍ تاريخيٍّ للحدثِ. ويمكن اعتبارُ هذا الإنقاصِ الخطوةَ الأُولى لتمييزٍ حاسمٍ بين “التَّوحيد” و”الشِّرك”، ولكنْ على هذا التَّمييزِ أنْ يُسَنَّ بشكلٍ تدريجيٍّ.

 كانتِ الخطوةُ الأُولى مُعَبَّرًا عنها في واحدةٍ من السّورِ المُبكِّرةِ؛ السّورةُ 109(الكافرون)، حيث يُحذَّرُ محمَّدٌ، عن طريقِ الصَّوتِ غيرِ المعروفِ - صوتِ المَلَكِ - من أنْ يتفاوضَ مع الكفَّارِ، أي المشركين، مرَّةً أُخرى، ولكنَّ عليه في الوقتِ نفسِه أنْ ينأى بعقيدتِه بعيدًا عن عقيدتِهم”.(48) وقد تعرضنا إلى هذه الآيات أعلاه.

"إذا حاولنا ترتيب تطور الخطاب القرآني أعلاه في عملية المساجلة تلك، سنجد أنه بدأ بالسورة 52 سورة “الطور”، ثم بالسورة 36 سورة “يس”، ثم السورة 11 سورة “هود”، ثم السورة 10 سورة يونس، وكلها تنتمي للقرآن المكي، ويصل الخطاب ذروته الحاسمة ويعلن انتصاره النهائي في هذا السجال في السورة 2، سورة البقرة وهي من أوائل السور المدنية. هذا الترتيب القائم على أساس التعامل مع القرآن من منظور كونه “خطاباً” يمكن أن يساعدنا في عملية “ترتيب النزول” عن طريق جمع أجزاء الخطاب التي تم تفريقها في عملية الجمع الحالي. ومن الضروري الإشارة إلى أن جمع شذرات الخطاب المبعثرة في السور ليس هو بالضبط منهج “التفسير الموضوعي”؛ فالخطاب لا يتحدد دائماً بموضوعه، بل يتحدد أساساً ببنيته الحوارية، أو السجالية، أو الهجومية... إلخ".(49) ولن نتمكن هنا من عرض تأويل أبو زيد كاملاً في دراسته عن “القرآن الخطاب”. وختاماً سنعرض لتأويله للحوار مع المؤمنين ولقضية ساخنة وملتهبة على الأقل بالنسبة إلى المسلمين في أوروبا؛ إنها قضية الزواج المختلط:

“السؤال الآن هو عن حالة وجود إجابات مختلفة بخصوص مسألة بعينها، هل نتجاهل هذه الإجابات لحساب إحداهن على أساس تطبيق مقول “الناسخ والمنسوخ”، كما فعل الفقهاء وأشرنا من قبل؟ أم أن علينا أن نعتبر الإجابات إمكانيات مفتوحة للاختيار بحسب اختلاف الزمان واختلاف السياق الثقافي والاجتماعي. لنأخذ مثالاً على ذلك مسألة بعينها كثيراً ما تتم إثارتها دائماً في سياق الحديث عن المساواة وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة في الإسلام... إلخ، وأعني بها مسألة “الزواج المختلط”، زواج المسلم من الكتابية، ولنحاول تحليل الإجابات الواردة فيها من منظور “الخطاب” لا من منظور “النص”. وسنلاحظ من بعد أن السياق كان سياق الإجابة عن سؤال “ماذا أحل” من الطعام (المائدة، رقم 5 آية 4)، ثم استطرد الخطاب القرآني إلى مسألة زواج المسلم من الكتابية، في سياق إعلان “اليوم أحل لكم من الطيبات” في الآية التالية. ومعنى ذلك أن حكم زواج المسلم من الكتابية يقع تحت إطار “الطيبات”، التي تبدأ بإحلال المشاركة في الطعام. هذا ما نراه في الآية التالية مباشرة. في الآية 5 من سورة المائدة، رقم 5، يفهم أن المسلم يحل له الزواج من الكتابية، بينما يبدو أن هذا الحكم قد تم نسخه بالآية 221 من سورة البقرة، رقم 2، حيث يحذر القرآن من نكاح المشركات - وقد اعتبر أهل الكتاب في عداد المشركين في سياقات قرآنية كثيرة - إلا أن يؤمنَّ، بل ويعتبر الأمة المسلمة أفضل من المشركة. يخبرنا ابن رشد في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (الجزء الثاني: باب النكاح) عن وجود موقفين في الفقه: الموقف الأول هو موقف الفقهاء الذين يرون أن آية البقرة تمثل “العام”، الذي تم تخصيصه بآية المائدة. معنى ذلك أن زواج المسلم من “الكتابية” يمثل تخصيصاً للتحريم العام بخصوص زواج المشركات في سورة البقرة. الموقف الثاني هو موقف الذين يعتبرون أن حكم آية البقرة بالتحريم نسخ حكم آية المائدة بالجواز، ومن ثم لا يجوز زواج المسلم من الكتابية.

التعامل مع القرآن بوصفه خطاباً ينقلنا إلى أفق أرحب من أفق “النص” الذي من خلاله صاغ الفقهاء مواقفهم، يستوي في ذلك من اعتمد مقولة “الخصوص والعموم” من أجل إباحة الزواج من الكتابية، أو من اعتمد مقولة “النسخ” من أجل “التحريم”. إن محاولة الفقهاء للوصول إلى حكم واحد أمر مفهوم كما شرحنا من قبل؛ من حيث إنهم تعاملوا مع القرآن بوصفه نصّاً “قانونيّاً” لا يقبل تعدد الأحكام. من منظور تحليل الخطاب يمكن القول إن الخطاب في سورة البقرة –وهي الأقدم تنزيلاً، الأمر الذي ينفي أنها ناسخة- خطاب مستقل عن خطاب سورة المائدة. يمكن تصنيف خطاب آية البقرة بأنه ينتمي إلى خطاب التباعد والانفصال عن المشركين... بينما يمكن تصنيف آية سورة المائدة في سياق خطاب الحوار -التعايش مع أهل الكتاب في المدينة. ولنعد لتأكيد ملاحظتنا السابقة أن السياق في سورة المائدة هو سياق “يسألونك ماذا أحل لهم”، ويكون الجواب “قل: أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح” إلخ الآية. ويتواصل الجواب في الآية الخامسة بإعلان شديد الدلالة “اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم”، ثم ينتقل الخطاب إلى طيبات التعايش الاجتماعي كما يتمثل في السماح بالزواج من المحصنات من أهل الكتاب.

والسؤال الآن هو: أي القواعد يمكن أن يسود، قاعدة التعايش - التزاوج والمشاركة في الطعام - أم قاعدة التباعد والانفصال والتدابر؟. والسؤال الثاني الذي يترتب على الإجابة بالإيجاب على السؤال الأول - أعني اختيار التعايش والمشاركة الاجتماعية الكاملة - هل يظل التعايش قائماً على مبدأ عدم التساوي، أي على جواز زواج الذكر المسلم من الأنثى الكتابية دون جواز زواج الأنثى المسلمة من الذكر الكتابي؟ وهل تتحقق المعايشة الاجتماعية الكاملة في ظل عدم التساوي هذا بين الذكر والأنثى في حقوق الزواج؟

لا يتم التعامل بكفاءة مع السؤال الذي يثار كثيراً في سياق موضوع حقوق الإنسان والمساواة وحقوق المرأة ... إلخ إلا بالعودة دائماً لمنهج تحليل الخطاب. من هذا المنظور لا بد من الاعتراف أن الخطاب القرآني موجه بشكل أساسي إلى “الذكور”، خاصة في شؤون الزواج والطلاق والتجارة، أي في كل شؤون الحياة الاجتماعية. وهذا أمر طبيعي؛ إذ عصر النزول وبيئته ينتميان إلى مجال ثقافي ذكوري. لكن هذه الخصيصة الخطابية قد استثمرت تاريخيّاً لصياغة حقوق للذكور تتجاوز ربما حدود قصد الخطاب ذاته. ومما يجب التنويه إليه في هذا الصدد أن الخطاب القرآني في المجال الديني غير الاجتماعي، أي مجال العمل التعبدي وما يترتب عليه من الثواب الديني الأخروي، يخاطب الذكور والإناث على قدم المساواة، ويؤكد مبدأ المساواة تأكيداً مطلقاً. يظل الأمر في النهاية مرهوناً بقدرة العقل الإسلامي على تحديد الأصل والفرع في الخطاب القرآني: أعني إذا اعتبرنا أن المساواة في التعبد وفي الثواب الأخروي هي الأصل فيتعين علينا أن نمد حكم الأصل على الفرع؛ فنحاول من خلال منهج إبداعي تحقيق المساواة في مجال العلاقات الاجتماعية. أما إذا عكسنا المسألة؛ فاعتبرنا مجال النشاط الاجتماعي هو الأصل في الخطاب القرآني فإن المساواة تصبح فرعاً. هذا التصور هو التصور الذي ساد أفق الفقه الإسلامي، وما يزال مسيطراً حتى الآن، رغم كل اليافطات الدينية التي تجعل من الآخرة أصلاً ومن الدنيا فرعاً.

بالعودة إلى السؤال المثار حول “المساواة” في الزواج المختلط – أي بين المسلمين وأهل الكتاب - يمكن القول من منظور النظر إلى القرآن بوصفه خطاباً إن ذلك ممكن".(50) “ويُمكِنُ التَّفاوضُ بسهولةٍ مع التَّبريرِ الذي يُقدِّمُه “العلماءُ” المعاصرون للإبقاءِ على الموقفِ الكلاسيكيّ. في مُعالَجةِ السّؤالِ الحديثِ حول المساواةِ في الزَّواجِ المُختلَطِ. يكفي هنا أنْ نقولَ: إنَّهم لا يزالون يؤمنون بتفوُّقِ الرَّجلِ في العلاقةِ العائليَّةِ، وبحسبِ ذلك يُحاجِجون بأنَّ عقيدةَ المرأةِ غيرِ المُسْلِمَةِ المتزوِّجةِ من رجلٍ مُسْلِمٍ ستكونُ موضعَ الاحترام. أمَّا إذا كانتِ امرأةٌ مسلمةٌ متزوِّجةٌ من رجلٍ غيرِ مسلمٍ فإنَّهم يخشون أنْ لا يَحْتَرِمَ الزَّوجُ غيرُ المسلمِ عقيدةَ زوجتِه المسلمة. وقد استحضروا أيضًا أنَّ الإسلامَ، من حيث هو آخرُ وَحْيٍ إلهيٍّ، ويَحترمُ اليهوديَّةَ والمسيحيَّةَ معًا، لذلك فإنَّ عقيدةَ المرأةِ غيرِ المسلمةِ المتزوِّجةِ من رجلٍ مسلمٍ تصونُها عقيدةُ الزَّوج. إنَّ الوضعَ العكسيَّ لهذا غيرُ مُمْكِنٍ لأنَّ المسيحيَّةَ تَعترِفُ باليهوديَّةِ فقط، بينما اليهوديَّةُ لا تَعْتَرِفُ بالمسيحيَّةِ ولا بالإسلام. من الواضحِ أنَّ “العلماء” لا يزالون سجيني “رؤية العالمِ” البَطْرَيَرْكيَّةِ من جهةٍ، والرّؤيةِ الدِّينيَّةِ للعالمِ من جهةٍ أخرى. إنَّ قرارَ الزَّواجِ قرارٌ يَخُصُّ الفردَ أو يُفترَضُ أنْ يكونَ كذلك. إنَّه قرارُها أو قرارُهُ في أنْ يَسُنَّا الاشتراطاتِ التي تُريدُها أو يُريدُها لحياتِها أو حياتِه المستقبليَّةِ مع الزَّوج. إنَّ الموضوعَ الجوهريَّ هنا ليس الزَّواجُ المُختلَطُ، لكنَّه -بالأحرى- الحُرِّيَّةَ الفرديَّةَ التي تَستلزِمُ حُرِّيَّةَ الدِّينِ والمُعْتَقَدِ. ليس هناك وقتٌ أو مُتَّسَعٌ لمُعالَجةِ هذا الموضوعِ هنا. يكفي أنْ نذكرَ أنَّه لا تُوجدُ آيةٌ واحدةٌ في القرآنِ تقضي بعقوبةٍ دُنيويِّةٍ، أو عقابٍ قانونيٍّ للرِّدَّة، فحُرِّيَّةُ الدِّينِ التي في شكلِ “لا إكراهَ” مُقتبَسةٌ على نحوٍ كبيرٍ حتَّى من قِبَلِ العلماءِ التَّقليديِّين، لكنْ في أسلوبٍ اعتذاريّ".(51)

وحيث إنها محاضرة كرسي ابن رشد فقد قدم أبو زيد بعضاً من ملامح تأويل ابن رشد(52) «طَوَّرَ ابنُ رُشْدٍ بشكلٍ نقديٍّ نظامَ المعتزلةِ خطوةً أبعدَ من أجلِ فتحِ معنى القرآنِ لما وصلتْ إليه الفلسفة. وحسب ابنِ رُشْدٍ فإنَّ القرآنَ المُرادَ منه مخاطبةُ جميعِ البشرِ والوصولِ إليهم، بصرفِ النَّظرِ عنِ اللَّونِ أو العِرْقِ أو مستوى المعرفةِ، يتضمَّنُ ثلاثةَ أشكالٍ من التَّعبيراتِ الدَّلاليَّةِ. وأوَّلُّ هذه الأشكالِ وأكثرُها شيوعًا هو الشِّعريُّ الخارجيُّ (الخِطَابيَّ) الذي يُخَاطِبُ العامَّةَ، والثَّاني هو الشَّكلُ (الجَدِلِيُّ) الذي يُرَادُ بِهِ مُخَاطَبَةُ علماءِ الكلامِ. أمَّا الشَّكلُ الثَّالثُ والأكثرُها صقلاً فهو الشَّكلُ الفلسفيُّ (البُرْهَانيُّ) المُرَادُ للفلاسفة. إنَّ الفارقَ بين ابنِ رُشْدٍ وعلماءِ الكلامِ الذين يَشُنُّ عليهم هجومًا قاسيًا، مُتَّهِمًا إيَّاهم بإفسادِ مُعْتَقَدِ العَامَّةِ بالتَّرويجِ لتفسيراتِهم بوصفِها الفهمَ الصَّالِحَ والوحيدَ، هو أنَّه لا يَعْتَبِرُ المعنى الشِّعريَّ للقرآنِ الذي يُخَاطِبُ العَامَّةَ أدنى مرتبةً من الفلسفيِّ. إنَّه يؤكِّدُ الفَرْقَ بينهما وليس المرتبة. إنَّ كونَ ابنِ رُشْدٍ قاضيًا وطبيبًا وكذلك فيلسوفًا قد يشرح موقفَه الفريد. وعلى الرَّغْمِ من أنَّه يقتبِس الآيةَ المفصليَّةَ (السّورة 3 (آل عمران)، الآية السَّابعة)، التي يستحضرُها علماءُ الكلامِ دائمًا في سبيلِ إعادةِ بناءِ القرآنِ من زاويةِ “المُحْكَمِ” و”المُتَشَابِهِ”، إلاَّ أنَّه استخدمَها على سبيلِ التَّبريرِ فقط، جنبًا إلى جنبٍ مع مبادئَ شرعيةٍ أخرى مِثْلِ القِيَاسِ الشَّرعيّ. وبذلك يُعطي ابنُ رُشْدٍ الفلاسفةَ الحَقَّ في أنْ يكونوا مُشتغِلين بالهرمنيوطيقا/التأويل. إنَّ هرمنيوطيقا ابنِ رشدٍ لم تُدْرَسْ بعدُ، وذلك على الأرجحِ لأنَّ رسائلَه في علمِ الكلامِ لم تذهبْ أبعدَ من هذه الخطوطِ العامَّة. إنَّ دراسةً مُعَمَّقَةً لهرمنيوطيقا ابنِ رشدٍ سيكون عليها التَّحقيق في كلِّ كتاباتِه، بما فيها تعليقاتُه، فهو -أساسًا- كان منخرطًا بشكلٍ عميقٍ في مُهِمَّةٍ تأويليَّةٍ كبرى»(53). أما المتصوفة فقد كانوا على وعي بالقرآن الخطاب أكثر من الاتجاهات التأويلية الأخرى، وذلك لإدراكهم في الأساس لطبيعة القرآن الشفاهية والسماعية: “حتَّى الآنَ تبدو هرمنيوطيقا المتصوِّفةِ، التي تؤكِّدُ التَّعدُّديَّةَ الدَّلاليَّةَ طبقًا لارتباطِ المُسْتَقْبِل بإنتاجِ المعنى، أقربَ إلى إدراكِ طبيعةِ القرآنِ من علماءِ الكلامِ والفلاسفةِ (ربَّما باستثناءِ ابنِ رشد) والفقهاء. لقد كانوا قادرين، حَسْبَ فكرةِ الارتباطِ الفرديِّ بالقرآنِ، على أنْ يُطوِّروا مفهومَ “السَّماع” (أي الإنصات بخشوع)، مُقدِّمين بذلك الوجهَ الآخرَ للعملةِ، أي القرآنِ، بمعنى القرآنِ الذي يعني النُّطقَّ والتِّلاوة. إنَّ التَّعَامُلَ مع القرآنِ بوصفِه نَصًّا فقط سيجدُ من “التَّأويل” الوجهَ الآخرَ للعملةِ، وفي هذه الحالة هو المصحفُ وليس القرآن”.

(7). العلماء المسلمون يعيدون التفكير في تراثهم: الإصلاحيون وإسلام البداوة

إن الإسلام ليس وجهاً واحداً، أو بالأحرى يمكن القول إن للإسلام أوجهاً ثقافية مختلفة ومتنوعة. ومرة أخرى إن القول بأن الإسلام ليس واحداً ليس معناه الاختلاف في جوهر المعتقد، لكن معناه أن المعتقد الواحد احتضنته ثقافات مختلفة ومتنوعة في شتى أرجاء العالم الإسلامي، وتم إضفاء خبرات وتجارب الثقافات والمجتمعات المسلمة على الإسلام. ومن الطبيعي أن يكون الإسلام والحالة هذه إما تقدميّاً أو وسطيّاً أو متحرراً أو محافظاً أو رجعيّاً إلخ بحسب الأثر السلبي أو الإيجابي الذي تتمتع به تلك الثقافات التي تدين بالإسلام. من هنا فإن ثقافات الشعوب المسلمة المختلفة شكلت أوجهاً متعددة للدين الإسلامي.

في القسم الثاني من محاضرته المهمة هذه يناقش أبو زيد الأوجه المتعددة للإسلام من خلال علمائه وخلفياتهم المعرفية والثقافية والسياسية وهمومهم التأويلية. وفي بانوراما حوارية جدلية يحاور فيها أبو زيد العلماء المسلمين من الهند وباكستان ومصر وشبه الجزيرة العربية للوقوف على مواقفهم التأويلية ومدى وعيهم بـ”القرآن الخطاب” أو “القرآن النص” ومصادر التشريع في الإسلام. إن السياق الذي قدم فيه العلماء المسلمون أفكارهم عن التراث والقرآن سياق حاسم: “كان المسلمون، ولا يزالون حتَّى الآنَ، يُعيدون التَّفكيرَ ويُعيدون صياغةَ وتعديلَ مصادرِ المعرفةِ الإسلاميَّة. إنَّ تراث السُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ كان ولا يزال محطَّ بحثٍ ونقاشٍ عميقٍ ومثيرٍ للجدلِ منذ القرنِ الثَّامنِ عشر. وكان معنى القرآنِ، وبالتَّالي معنى الإسلام، موضوعَ تحقيقٍ وبحثٍ وتخصيصٍ وإعادةِ تخصيصٍ وتفاوضٍ منذ أواخرِ القرنِ التَّاسعِ عشر. إنَّ هذا النَّوعَ من “إعادةِ التَّفكيرِ” كان أساسًا وابتداءً مدفوعًا بالتزامٍ شديدٍ نحو تطويرِ المجتمعاتِ المسلمةِ في اتِّجاهِ الحداثةِ من جهةٍ، والمحافظةِ على روحِ وقُوى الإسلامِ حَيَّةً من جهةٍ أخرى. وكانتِ الحداثةُ في الأساسِ قوَّةً خارجيَّةً فرضتْها من أعلى السَّيطرةُ الأوروبيَّةُ الكولونياليَّةُ على العالمِ الإسلاميِّ بأسرِه، وذلك بعد تفكُّكِ الإمبراطوريَّةِ العُثمانيَّة.

ومع نهايةِ القرنِ التَّاسعِ عشرَ كان البريطانيّون قد نجحوا في استعمارِ معظمِ الهند. وكان الفرنسيّون بقيادةِ نابليون بونابرت Napoleon Bonapart قد احتلُّوا مصرَ في 1798، واحتلَّتْ فرنسا الجزائرَ بعد ذلك في 1830، وتونس في 1881، وزحفتْ بريطانيا إلى مصرَ في 1882، وتَواجَدَ الهولنديّون في إندونيسيا قبل ذلك بكثير. ومع بَسْطِ المشروعِ الغربيِّ احتلالَه على كلِّ أرجاءِ العالمِ المسلم كانتْ هناك اختراقاتٌ أخرى كثيرة.

هنا يستطيعُ المرءُ أنْ يَذْكُرَ على الأقلِّ ثلاثَ قُوى تحدٍّ حرَّضتْ وأسَّستِ الطَّريقةَ التي أعاد المسلمون بها التَّفكيرَ في تراثِهم. وأوَّلَ هذه التَّحدِّياتِ كانتْ الاكتشافاتُ العلميَّةُ والتقدُّمُ التُّكنولوجيّ. التَّحدِّي الثَّاني كان تحدِّي العقلِ والعقلانيَّةِ. أمَّا الثَّالثُ فكان التَّحدِّي السِّياسيّ. وغنيٌّ عن البيانِ أنَّ مسائلَ التَّحدِّي الثَّلاثَ هذه، المُقدَّمةَ هنا كلاًّ على حِدَةٍ، كانتْ دومًا مُتداخلةً ببعضِها بعضًا في اتِّجاهاتِ التَّفسيرِ التي سنأتي على ذكرِها. (1) قُدِّمَ العلمُ والتُّكنولوجيا للعالَمِ المسلمِ في شكلِ تجهيزاتٍ عسكريَّةٍ غريبةٍ وغيرِ معهودةٍ تَسبَّبتْ في هزيمتِهم أمامَ القُوى الغربيَّةِ الإمبيريقيَّةِ، وقادتْ إلى احتلالِ أرضِهم من قِبَلِ غُزاةٍ غيرِ مسلمين؛ فعندما وصلَ الجيشُ الفرنسيُّ إلى الإسكندريَّةِ في 1798 كان مقاتلو المماليكِ مستعدِّين لخوضِ معركةِ رجلٍ لرجلٍ، لكنَّهم صُدموا برؤيةِ آلياتِ المدفعيَّةِ العتيدةِ التي تَقْتُلُ عددًا كبيرًا من الجنودِ بطلقةٍ واحدةٍ من مسافةٍ بعيدة. وقد أحضرَ نابليون بونابرت مع جيشِه عددًا من علماءِ الطَّبيعةِ والاجتماع. يُخبِرُنا الجَبَرْتِيُّ في تاريخِه عن رَدَّةِ فعلِ “علماء” الأزهرِ الذين كانوا مدعوّينَ لمشاهدةِ تجاربَ كيميائيَّةٍ عُرضتْ لهم في المختبرِ الذي أُسِّسَ في مصر. لقد كانوا مرعوبين، وفرَّ بعضٌ منهم متمتمًا بالاستعاذةِ، لأنَّهم فهموا تلك التَّجارِبَ على أنَّها سحر. كانتْ هذه أُولى صدماتِ المفكِّرين المصريّين مع التُّكنولوجيا الحديثةِ بواسطةِ التَّحقيقِ والبحثِ العلميِّ الحديث. ومن ثَمَّ كانتِ استجابتُهم أنْ يتعلَّموا من أجلِ أنْ يحصلوا على القوَّةِ ليكونوا قادرين على الرَّدّ. من هنا كان تَعَلُّمُ العلومِ الحديثةِ، عن طريقِ البِعْثَاتِ الطُّلابيَّةِ للتَّحصُّلِ على العلومِ في أوروبا، واستيرادِ التِّقنيَّةِ الحديثةِ، خصوصًا أسلحةَ الجيوش. كانتْ هذه الاستجابةُ الأساسَ لكلٍّ من تركيا ومصر.

(2) من داخلِ القوَّةِ العسكريَّةِ كان هناك سلاحٌ فكريٌّ يُحمِّلُ الإسلامَ مسؤوليَّةَ ضعفِ العالمِ المسلم. وفي هذا السِّياقِ كان العالَمُ الإسلاميُّ مفهومًا ومُقارَبًا ومُخاطَبًا في ذهنيَّةِ المُسْتَعمِرِ بوصفِه مسلمًا [فقط]، من دونِ إضافةِ هويَّةٍ بديلةٍ إليه؛ مثلِ هنديّ أو إندونيسيّ أو عربيّ. وأصبحَ الأمرُ أكثرَ تعقيدًا عندما قَبِلَ المُسْتَعمَرُ هذه الهُوِيَّةَ التي فرضها عليه المُسْتعمِرُ من دونِ مساءلةٍ، وعن طريقِ دمجِهم في صفةِ إسلاميٍّ اختزلتْ هويَّتَهم، وهكذا تمَّ بذلك خلقُ أزمةِ هويَّة. لقد كان هناك تأييدٌ واضحٌ لضرورةِ إهمالِ، بلْ وحتَّى تركِ الإسلامِ، إذا كان على هذا الجزءِ من العالمِ أنْ يصنعَ أيَّ تقدُّمٍ تجاهَ اللَّحاق بالحداثة. يكفي أنْ نذكرَ الفيلسوفَ الفرنسيَّ إرنستْ رينانْ Ernest Renan (1832-1892)، والسِّياسيَّ والمؤرِّخَ الفرنسيَّ جابرييل هانوتوGabriel Hanotaux (1853-1944 (54) الذي خَدَمَ وزيراً للشّؤونِ الخارجيَّةِ من 1894 إلى 1898. افترَضَ رينان اللاتطابقَ الحتميَّ بين الإسلامِ وكلٍّ من العلومِ والفلسفةِ، فكلُّ ما يُسمَّى علمًا إسلاميًّا أو فلسفةً إسلاميَّةً هو، بِحَسْبِ رينان، كما جاء في أطروحتِه للدُّكتوراه (1852، ابنِ رشدٍ والرُّشديَّة) محضُ ترجمةٍ من اليونانِ، وأنَّ الإسلامَ - مِثْلَ كلِّ العقائدِ الدُّغمائيَّةِ - مؤسَّسٌ على الوحي، وهو عدوٌّ للعقلِ والتَّفكيرِ الحُرّ. وحمَّلَ هانوتو الإسلامَ أيضًا مسوؤليَّةَ تخلُّفِ العالمِ الإسلاميّ. وكان ادِّعاؤه مبنيًّا على الفارقِ اللاهوتيِّ بين الإسلامِ والمسيحيَّة. وطبقًا له فإنَّ عقيدةَ التَّجسيدِ في المسيحيَّةِ لها نتائجُها في بناءِ جسرٍ بين الإنسانِ وبين الله، مُحَرِّرَةً بذلك الإنسانَ من أيَّةِ عقيدةٍ حتميَّة. من جهةٍ أخرى فإنَّ عقيدةَ التَّوحيدِ الإسلاميَّةَ الخالصةَ خلقتْ مسافةً غيرَ مُجَسَّرَةٍ بين الإنسانِ وبين اللهِ، دون أنْ تتركَ مساحةً للإرادةِ الإنسانيَّةِ الحُرَّة. وعن طريقِ هذا التَّفكيرِ اللاهوتيِّ شَرَحَ هانوتو الاستبداديَّةَ السِّياسيَّةَ التي يَتَّصِفُ بها العالمُ الإسلاميّ.(55) استجاب جمالُ الدِّينِ الأفغانيُّ (1838-1897)(56) ومحمَّد عبده (1848-1905) دفاعياً لهذه الهجمةِ، مُرجعَيْنِ تخلُّفَ المسلمين ليس إلى الإسلامِ بحدِّ ذاتِه، ولكنْ إلى فهمِ الإسلامِ الخاطئ عند المسلمين المعاصرين. وهما يُحاجِجان: لو أنَّ الإسلامَ فُهِمَ على نحوٍ ملائمٍ، وشُرِحَ على نحوٍ صحيحٍ، كما كان الحالُ في العصرِ الذَّهبيِّ للحضارةِ الإسلاميَّةِ، فإنَّ المسلمين ما كانوا ليهزموا ولما سيطرت عليهم القوى الأوربية.

إنَّ السّؤالَ الأساسَ الذي واجه المصلحين المسلمين المُبكِّرين والجددِ هو ما إذا كان الإسلامُ متطابقًا مع الحداثةِ أم لا. كيف يُمكن لمسلمٍ مؤمنٍ أنْ يعيشَ في بيئةٍ اجتما-سياسيَّةٍ حديثةٍ دون أنْ تفقدَ هي/ هو هويَّتها وهويَّتَه بوصفِه مسلمًا؟. هل يحتضن الإسلامُ العلمَ والفلسفةَ؟. وجاء ثانيًا السّؤالُ حول تطابقِ الشَّريعةِ، التي تشكِّلُ المجتمعَ التَّقليديَّ، مع القانونِ الوضعيِّ الذي يُشكِّلُ الدُّولَ المستقلَّةَ الحديثةَ، أوِ العكس. هل كانتِ المؤسَّساتُ السِّياسيَّةُ الحديثةُ- مثلُ الدِّيموقراطيَّةِ، والانتخاباتِ، والبرلمانِ- مقبولةً لدى الإسلامِ؟، وهل تستطيعُ أنْ تَحُلَّ محلَّ المؤسساتِ التَّقليديَّةِ للشّورى وسلطةِ “علماء” أهلِ الحلِّ والعَقْد؟.

(3) كانتْ مناقشاتُ مثلِ هذه الأسئلةِ مطمورةً في سؤالِ الدِّينِ والسِّياسة. وقد ظهرَ موضوعُ الإسلامِ السِّياسيِّ تحت الاحتلالِ الكولونياليّ لمعظمِ الدُّولِ الإسلاميَّةِ في وقت مبكِّر؛ على سبيلِ المثالِ في 1798 في مصرَ حيث صار المسلمون واعين لطرائقِ الحياةِ المختلفةِ التي جلبها المستعمرون إلى حياتِهم اليوميَّة، فالمستَعمِرون يَظهرون ويَلبسون بشكلٍ مختلفٍ، ويتصرَّفون ويتكلَّمون بطريقةٍ مختلفةٍ. يأكلون الأكلَ الحرامَ، ويشربون الخمرَ، ويتواصلون بشكلٍ حُرٍّ مع نساءٍ لسن من محارمِهم، بلْ إنَّ نساءَهم يلبسنَ ملابسَ غيرَ مُحتشِمةٍ. وباختصارٍ: كانتْ هويَّةُ المسلمين الاجتماعيَّةُ والدِّينيَّةُ منتهكةً إلى أبعدِ الحدودِ بسببِ التَّواجدِ المُباشِرِ لأولئك الدُّخلاءِ في منطقةٍ إسلاميَّةٍ خالِصةٍ ومختلفةٍ.  وبصورةٍ مُفارِقةٍ أو متناقضةٍ ربَّما قَدَّمَ بونابرت نفسَه لـ”العلماءِ” المصريين بوصفِه حاميًا “للعقيدةِ” من بابا الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ والسُّلطانِ العُثمانيِّ الفاسد. ومن ثَمَّ ذهب بزعمِه إلى ما هو أبعدَ مُتظاهِرًا أنَّه اعتنقَ الإسلام. لمْ ينجحْ شيءٌ من هذا. لقد ظَهَرَ موضوعُ السِّياسةِ بعدَ انهيارِ الإمبراطوريَّةِ العُثمانيَّةِ مع نهايةِ الحربِ العالميَّةِ الأُولى. وطرح قرارُ الحركةِ التُّركيَّةِ الوطنيَّةِ الجديدةِ إلغاءَ الخلافة مسألةَ ما إذا كانتِ الخلافةُ مؤسَّسةً إسلاميَّةً أمْ أنَّها فقط شكلٌ لنظامٍ سياسيٍّ يمكن الاستعاضةُ عنه بنظامٍ آخرَ دون فقدان هويَّةِ الإسلام؟. وفي خِضَمِّ هذه الحالةِ من المحنةِ والتَّخبُّطِ، في مثلِ هذه الفترةِ الانتقاليَّةِ، وجدَ العالمُ الإسلاميُّ نفسَه فجأةً مُجرَّداً من هويتَه، أي الخلافة. وقد حاولتْ شخصيَّاتٌ سياسيَّةٌ، مثلُ الملكِ فاروقَ في مصرَ والشَّريفِ حسين في شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ، أنْ تُحيي الخلافةَ، وكان كلٌّ من الاثنين يطمح إلى أنْ يُنَصَّبَ خليفةً لكلِّ المسلمين.

لقد دافع المصريُّ علي عبد الرَّازق (1888-1966) عن مبدأ إلغاءِ الخلافةِ، مُثبتًا أنَّه لا يُوجدُ نظامٌ سياسيٌّ محدَّدٌ يُسمَّى إسلاميًّا. كانتِ استجابةُ محمَّد رشيد رضا (1865-1935) مختلفةً؛ لقد دافعَ عن الخلافةِ بوصفِها نظامًا إسلاميًّا أصيلاً ومن المفترضِ إعادةُ تأسيسِه، وأنَّ الفشلَ في سبيلِ تحقيقِ ذلك سيجعلُ المسلمين يواجهون خطرَ الرُّجوعِ إلى الجاهليَّة(57). وكاستجابةٍ سياسيَّةٍ لهذه الفكرةِ تأسَّستْ جمعيَّةُ الإخوان المسلمين في مصر في 1928م، وكان هدفُها الأساسُ هو إعادةُ تأسيسِ مجتمعٍ إسلاميٍّ في مصرَ يكون مثالاً نموذجيًّا يتمُّ نسخُه في كلِّ مكانٍ قبل إعادةِ تأسيسِ الخلافة. من هنا صارتِ الأسلمةُ إذنْ مُضَادَّةً للتَّحديث الذي قُدِّمَ بوصفِه تغريبًا. إنَّ الحركاتِ الإسلامويَّةَ السِّياسيَّةَ المُعاصِرةَ، الموصوفةَ عادةً بأنَّها أصوليَّةٌ في الخطاب الغربيِّ العامِّ، منبعثةٌ كلُّها من جمعيَّةِ الإخوانِ المسلمين. في مثلِ سياقٍ كهذا تاريخيٍّ مُلتبِسٍ لمْ يكنِ السّؤالُ حول طبيعةِ القرآنِ، و”بِنيتِه”، وكذلك خلفيَّتِه التَّاريخيَّةِ، مُقارَبًا عن كثبٍ أبدًا، بوصفِه النَّصَّ الأساسَ للإسلامِ بامتيازٍ وُضِعَ فوق أيِّ تحقيقٍ نقديٍّ. لقد كان المصدرَ الرَّئيسَ، والأساسَ المُصانَ، والوحيدَ، للإلهامَ الذي يجبُ التَّمسُّكُ به؛ إنَّه أوَّلاً وأخيرًا كلامُ اللهِ الحَرْفِيُّ. [وفي هذا السِّياقِ] فهمَ المسلمون المبحثَ الاستشراقيَّ حولَ القرآنِ وتاريخِه وبنيته على أنَّه جزءٌ من المؤامرةِ الأوربيَّةِ على الإسلامِ والمسلمين.

بادئَ ذي بدءٍ أُريدُ أنْ أُقدِّمَ، بشكلٍ مختصرٍ، الوجهَ الآخرَ اللاعنفي والأكثرَ انفتاحًا، وربَّما الوجهَ اللِّيبراليَّ للإسلامِ المعروفَ فقط لدى المفكِّرين النَّزيهين وغيرِ المنحازين، وهو وجهٌ مُغيَّبٌ بطريقةٍ ما، وصوتٌ مُخْرَسٌ تمامًا في وسائلِ الإعلامِ الجماهيريِّ في الشَّرقِ والغربِ على السَّواء. من هذا العرضِ آمُلُ أنْ ينبثقَ سؤالُ “إعادة التَّفكيرِ في القرآنِ” بوصفِه حيويًّا، إذا ما أرادَ المسلمون حقًّا أنْ يتابعوا مشروعَ التَّحديثِ الجوهريِّ الأساسِ، بمشاركةٍ بنَّاءةٍ أكثر. من أجلِ تقديمِ عرضٍ موجزٍ لهذه العمليَّةِ من المشاركةِ على المرءِ أنْ يَرْسُمَ الخطوطَ العريضةَ للمبادئ الإبستمولوجيَّةِ للإسلامِ الكلاسيكيِّ كما وصلتْ إلى العصرِ الحديثِ واستلزمتْ إعادةَ التَّفكيرِ فيها. دعوني أُوضِّحُ أنَّ المصادرَ الأربعةَ التي سنرسم خطوطَها العريضةَ هنا تمثِّلُ وجهًا واحدًا فقط من أوجهِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ، أي وجهَ الشَّريعة، وأنَّ هذه المصادرَ تقدِّمُ المبادئ الإبستمولوجيَّةَ المُسَمَّاِة (علم أصولِ الفقه) التي استُنتجَ منها القانونُ المعياريُّ، أي الفقه. كانتْ كلُّ الحركاتِ النَّهضويَّةِ إلى حدٍّ كبيرٍ موجَّهةً من قبلِ حالةِ الأوضاعِ التي أصبح الإسلامُ فيها مثبَّتًا، أي الإسلامُ بوصفِه دينًا موجَّهًا قانونيًّا من خلالِ الشَّريعة. إنَّ مفكِّري الإسلامِ يُدركون أنَّ الشَّريعةَ وجهٌ واحدٌ من أوجهٍ متعدِّدةٍ لتراثِ الإسلامِ وثقافاتِه، وهو وجهٌ يُمكنُ - على الأقلِّ - تمييزُه من أوجهٍ متعدِّدةٍ، مثلِ الفلسفةِ وعلمِ الكلامِ والتصوُّفِ... إلخ. إنَّ السَّببَ وراءَ اختزالِ الإسلامِ إلى المجالِ المعرفيِّ للشَّريعةِ يرجع إلى حقيقةِ أنَّه منذ القرنِ الخامسِ للعصرِ الإسلاميِّ، أي القرنِ الثَّاني عشرَ الميلاديِّ، تمَّ بشكلٍ تدريجيٍّ تهميشُ الفلسفةِ وعلمِ الكلامِ الإسلاميِّ، وأيضًا الفلسفةِ الخلاقةِ للمتصوِّفة. إنَّ فلاسفةً ولاهوتيّين غيرَ أرثوذوكسيّين، مثلَ الشَّهيرِ ابنِ رشد، كابدوا درجاتٍ متفاوتةً من الاضطهاد. حقًّا إنَّ متصوِّفةً عظماءَ مثلَ الحلاجِ (أُعدم 910م) والسَّهروردي (شهاب الدِّين يحيى، (أُعدم 1191م)، للتنويه باسمين فقط، قد أُعدما.

يظهر أنَّ عمليَّةَ “إعادة التَّفكير” في التُّراثِ، التي بدأتِ استجابةً لتردِّي الوضعِ الذي كانتْ المجتمعاتُ الإسلاميَّةُ ساقطةً فيه، أخذتْ خطوتَها الأولى مع المبدأ الثَّالثِ، أعني الإجماع. وقد كان من السَّهلِ فعلُ ذلك عبر المطالبةِ بنوعٍ جديدٍ من الإجماع. يُعتبرُ شاه والي الله (1702-1762) عرَّابَ الإسلامِ النَّهضويِّ في الهند. وبسببِ هذا التَّوجيهِ الخاصِّ للإسلامِ الهنديِّ كانتْ معادلتُه النَّهضويَّةُ مزيجًا من الصُّوفيَّةِ والشَّريعةِ الموجَّهةِ فكريًّا. ومقارنة بالحركةِ الوهَّابيَّةِ في شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ التي أسَّسها محمَّد بنُ عبد الوهَّاب (1703-1792)، والتي أخذتْ منحى إصلاحيًّا أرثوذوكسيًّا جدًّا، يُمكنُ شرحُ الفروقاتِ بينهما بالتَّوافقِ مع الخلفيَّةِ التَّاريخيَّةِ والثَّقافيَّةِ المختلفةِ للإسلامِ، في كلتا البيئتين الاجتماعيَّتين؛ فبينما أُعيدَ تشكيلُ الإسلامِ في الهندِ، بسببِ تفاعلِه مع التُّراثِ الهنديِّ في ما قبلَ الإسلامِ مثلِ الهندوسيَّةِ والبوذيَّة، بقي الإسلامُ في شبهِ الجزيرةِ العربيَّةِ متجذِّرًا إلى حدٍّ بعيدٍ في تقاليدِه وأعرافِه البدويَّة. إنَّ التَّأثيرَ الكبيرَ لانهيارِ القوَّةِ المغوليَّةِ، التي دفعتْ إلى فقدانِ المسلمين قوَّتَهم، دفعَ بشاه والي الله إلى حدٍّ بعيدٍ إلى تشجيعِ إحياءِ سلطةٍ مركزيَّةٍ قويَّةٍ عن طريقِ استحضارِ مفهومٍ لسلطتين مُكمِّلتين لبعضِهما بعضًا، أي خليفتين، أحدُهما سياسيٌّ والآخر فقهيٌّ، والاثنان مسؤولان عن صيانةِ الإسلام. ويستخدم شاه والي الله مصطلحَ الظَّاهرِ لوصفِ السُّلطةِ السِّياسيَّةِ، قاصدًا بذلك المعنى الخارجيَّ. ولهذه السُّلطةِ يُخصِّصُ مسؤوليَّةَ الحفاظِ على النِّظامِ الإداريِّ والسِّياسيِّ وتطبيقِ الشَّريعة. ولمفهومِ السُّلطةِ الفقهيَّةِ يُوظِّفُ مصطلحَ الباطنِ، قاصدًا بذلك المعنى الدَّاخليَّ، وتكون مسؤوليَّتُه إعطاءَ الإرشادِ للقياداتِ الدِّينيَّةِ للمجتمعِ، وهو دورٌ أخذَه شاه والي الله على عاتقِه.(58) إنَّ التَّشابُهَ بين هذا الاتِّجاهِ واتِّجاهِ ابنِ عبد الوهَّابِ واضحٌ، أي التَّوحيدَ بين السُّلطةِ السِّياسيَّةِ وسلطةِ الفقيه، ليعملا في اتِّجاهِ انبعاثِ الإسلامِ من حالتِه المُتفسِّخة. يبقى الفارقُ بين الاتِّجاهين في هذه النبرة الصُّوفيَّةِ التي هي خصيصةٌ في الإسلامِ الهنديّ.

وضمن هذه النَّبرةِ الصُّوفيَّةِ، ومن أجلِ تأسيسِ مكانةِ الفقيه بوصفِه شريكًا في شؤونِ الدَّولةِ، كان شاه والي الله قادرًا على أنْ يكونَ ناقدًا للبِنيةِ الكلاسيكيَّةِ للشَّريعةِ، وكان قادرًا على رفضِ التَّقليدِ، أي التَّقيُّدِ غيرِ النَّقديِّ بآراءِ “علماء” مدارسِ الشَّريعةِ الكلاسيكيَّة. وكان بمثابةِ باعثٍ لرغبةٍ في توظيفِ الجهدِ الشَّخصيِّ لتقريرِ الاجتهادِ عن طريقِ توظيفِ القياسِ. وعن طريقِ بعثِ مبدأِ الفهمِ الشَّخصيِّ صار شاه والي الله قادرًا على تجاوزِ تاريخِ الرُّكودِ في مجالِ علمِ الشَّريعة. لقد شدَّدَ على روحِ الشَّريعةِ الملائمةِ لكلِّ الأزمانِ والأمكنةِ، بدلاً من شكلِ الشَّريعةِ المُشَكَّلَةِ والمُصاغةِ بالتَّوافقِ مع شروطِ الزَّمانِ والمكانِ. وبهذا فإنَّه لا يُعيدُ إحياءَ مفهومِ المصلحةِ،(59) أو النَّفعيَّةِ للمجتمعِ، في المدرسةِ المالكيَّةِ للشَّريعةِ فحسبُ، ولكنَّه أساسًا وابتداءً يعتمد على التَّمييزِ الصُّوفيِّ الرَّاسخِ بين الشَّريعةِ والحقيقةِ، حيث تُعتبرُ الأُولى تاريخيَّةً ومحدودةً في الزَّمانِ والمكانِ، بينما تُعتبرُ الثَّانيةُ الحقيقةَ التي يتمُّ الوصولُ إليها عن طريقِ التَّجرِبةِ الرُّوحيَّةِ التي تقود إلى رؤيةٍ للواقع. ولكونِه فقيهًا صوفيًّا فقد حاولَ تطهيرَ السُّنَّةِ من أيِّ تأثيرٍ لاهوتيٍّ، لأنَّ اللاهوتَ يُشكِّلُ عبئًا ثقيلاً على التَّفكيرِ العقليِّ في قضايا إمَّا أنْ تكونَ مُشارًا إليها بوضوحٍ في الكتابِ المقدَّسِ (القرآنِ وتراثِ النَّبيِّ، أو السُّنَّة)، وإمَّا قضايا غير مذكورةٍ في أيٍّ منهما. وعلى النَّقيضِ من ذلك فإنَّ السُّنَّةَ، حسب رأيه، هي الممارسةُ المتَّفقُ عليها في المجتمعِ الإسلاميّ. وبمثلِ هذا التَّمييزِ فَصَلَ شاه والي الله بنجاحٍ السُّنَّةَ عن اللاهوتِ الذي هو، حسب رؤيتِه، ما جعلَ أهلَ القِبْلَةِ) المسلمين (يصبحون فِرَقًا منفصلةً وأحزابًا مُتباعِدةً، في ما وراءَ نطاقِ اتِّباعِهم جوهريَّاتِ الدِّين.(60)

وبينما شَجَّعَ الخِطَابُ النَّهضويُّ الهنديُّ المُبَكِّرُ الذي قدَّمه شاه والي الله، كما سنرى، على تطوُّرٍ لاحقٍ، لمْ تتطوَّرِ الوهَّابيَّةُ أبدًا أبعدَ من الأفكارِ الأساسِ التي صاغها المؤسِّس. إنَّ الاتِّحادَ المُطْلَقَ بين الدَّغمائيَّةِ الدِّينيَّةِ والنِّظامِ السِّياسيِّ لَمْ يُعطِ مجالاً لمعارضةٍ سياسيَّةٍ، بلْ إنَّه أيَّدَ إيديولوجيَّاتٍ أكثرَ راديكاليَّةً وأُصوليَّةً. حاليًّا، وفي سياقِ الضَّغطِ الأمريكيِّ لإعادةِ تشكيلِ العالمِ العربيِّ بأسرِه سياسيًّا وفكريًّا هناك لقاءاتٌ ومؤتمراتٌ... إلخ كثيرةٌ تهدف أساسًا إلى تصويرِ الوهَّابيَّةِ بوصفِها نظامًا ليبراليًّا ومنفتحًا وديموقراطيًّا. إنَّها محاولةٌ لوضعِ بعضِ المكياجِ على نَفْسِ الوجهِ القديم".(61)

وإذا كان أبو زيد ينقد إسلام شبه الجزيرة العربية، ممثلاً في خطابه الوهابي، فإننا نضيف هنا أن إسلام شبه الجزيرة العربية في “مجمله” و”معظم” اتجاهاته لم يتطور البتة، وعلاوة على كونه متجذراً في البدواة فهو في “مجمله” متحالف مع السلطة السياسية من رأسه حتى أخمص قدميه. إنه الإسلام الرسمي الذي ينطق بتوجهات السلطة السياسية ويمشي في ركابها حذوك النعل بالنعل. ولقد تصادمت أكبر اتجاهات هذا الخطاب، واستعر تصادمها، ووصل أوجه في الربع الأخير من القرن العشرين، مشركاً في ذلك عموم الناس وهمومهم التي تتحكم فيها إيديولوجيا الخطاب الديني السائد في شبه الجزيرة العربية. كان العنوان الرئيس الكبير لهذا التصادم: من صاحب الإسلام الحقيقي؟! أي من يمتلك الحقيقة الدينية، الحقيقة بألف ولام العهد؟! ولأنه تصادم ديني “كهنوتي” في بيئة مغلقة فكريا وعقائديا فقد تحول الصراع مباشرة إلى صراع “هويات”، شاغلاً عموم الناس ومهيجا أحاسيسهم. كانت النتيجة الطبيعية لتصادم مثل هذا، بين تيارات هي بالأساس رجعية وصاحبة رؤى وأجندات سلطوية، إنتاج خطابات دينية رجعية ومتخلفة.

وهنا في شبه الجزيرة العربية ذهب فقهاؤها - فقهاء السلطة - مراحل أبعد في تأكيد الرجعية والتخلف، فأضافوا مبدأ خامساً إلى مبادئ الشريعة الإسلامية الأربعة. لقد أضافوا مبدأ “العُرْف”. وعن طريق توظيف أعرافهم البالية وقيمهم الاجتماعية المتخلفة قاموا بممارسات همجية على حقوق الناس، وليس أقلها التفريق بين الأزواج في المحاكم على اعتبار “نقاء الدم”. وخرجوا في الفضائيات وقدموا فتاوى حول “العبيد” و”الأحرار” وزواج “المرأة الحرة”، وكلها مفاهيم تؤكد أن “علماء” شبه الجزيرة العربية في “مجملهم” لا يزالون يعيشون بأجسادهم وعقولهم في القرن السابع الميلادي، القرن الذي أوحي فيه بالقرآن إلى النبي محمد ، حيث يباع البشر ويشترون في الأسواق كالأغنام. ولا يزالون حتى الساعة يفهمون الآيات التي تتحدث عن الإماء والغلمان والعبيد في القرآن على أنها اشتراطات إلهية يجب الحفاظ عليها “تطبيقاً لأحكام القرآن”. إن إعادة قراءة كل الآيات المتعلقة بالعبيد والإماء والغلمان في القرن السابع سوف تبين لنا أن فقهاء شبه الجزيرة العربية -الوهابية والإباضية قطبي الصراع المشار إليه آنفاً- قاموا بتحريف وجهة النص القرآني ومقاصده الرفيعة لحساب مواقعهم الاجتماعية وتثبيت حالة التمييز بين البشر على أساس العرق. ومن هنا، وبالرغم من الخلاف الفكري بين الاتجاهين المتصارعين –الذي يتبنى أحدُ اتجاهاته بعضَ أفكار المعتزلة العقلانية جدّاً مع الفارق- إلا أنهما وجهان لعملة واحدة هي التخلف. إن تلك الفتاوى التي يقدمونها في قنوات التلفزة المحلية والفضائية عن العبيد والإماء وملك اليمين ما هي إلا دعوة لإعادة فتح أسواق النخاسة والمتاجرة بالبشر تحت يافطة الدين. ومعلوم أنه هنا أيضاً في شبه جزيرة العرب فتحت أسواق النخاسة قبل الإسلام وبعده، وحتى وقت ليس بالبعيد، وبيع فيها البشر مثل البضائع وبمباركة رجال الدين وأدبياتهم. وقد آثر علماء شبه الجزيرة العربية الصمت في الوقت الحالي حيال تلك الممارسات التي تلاقي الإدانات المتواصلة- والإدانات المكتوبة في كتب تتناولها باعتبارها موضوعات مستقلة بنفسها- من أبناء شعوب المنطقة، خصوصاً أولئك الذين يمس هذا الأمر حياتهم بشكل مباشر.

وإذا كان الصراع بين المعتزلة وخصومهم الأشاعرة قد حسمه المأمون سياسيا لصالح المعتزلة عدة سنين، وحسم المتوكل الصراع بعدها لحساب الأشاعرة حتى الآن؛ فإن الصراع بين الإباضية والوهابية في القرن الواحد والعشرين - والذي لا يزال مستعراً حتى اللحظة على شاشات الكمبيوتر في الفضاء الإنترنتي وفي الأدبيات الشفهية والمكتوبة أحياناً بصيغة لا تذكر الخصم مباشرة - لن يحسم أبداً. إن الطريقة الوحيدة لحسم هذا الصراع هي أن يدرك الطرفان أنهما متأخران على الأقل مئتي سنة عن أفكار العلماء المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي، وتباعاً فإن عليهما أن يسارعا في إصلاح حالة التخلف التي يعيشانها. وجدير بالذكر هنا أن كل ممارسات التخلف والرجعية التي مورست باسم الدين تمت كلها تحت الغطاء السياسي، ولا غرابة في ذلك لأن السياسي يمثل الرجعية والتخلف نفسيهما. لقد غاب مشروع تحديث الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وهو المشروع الذي سبق ورأينا في التحليل أعلاه أنه كان شاغلاً للعلماء المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي بسبب صدمة الحداثة التي أتى بها الاستعمار. ومع تفجر ثروة النفط في شبه الجزيرة العربية استُورِدت كل أنواع الحداثة المادية بما فيها أعتى الأسلحة الحربية المتطورة، بينما بقيت الحياة والأفكار -وخصوصاً الفكر الديني- كما هي لا تُغادر مكانها، بل إن الذي حصل هو العكس: ارتد المجتمع على نفسه خوفاً من أفكار الحداثة الحقيقية. ولأن الخطاب الديني - الخطاب الرسمي - في شبه الجزيرة العربية يستمد سلطته - على مستوى الخطاب والممارسة في الواقع - من السلطة السياسية مباشرة فإنه يشكل سدّاً منيعاً ومرعبا لكل من يحاول الاقتراب من سدنة هذا الخطاب الرجعي بالنقد العلمي الحر. وهكذا يجد الجيل الجديد الذي يريد الإصلاح وينشد التغيير نفسه أمام معضلة حقيقية تجعله غير قادر على إنتاج خطاب نقدي واضح وصريح للمرجعيات الدينية المتنفذة. ولأنه خطاب خائف من القمع والاعتقال والتكفير، بل وحتى القتل يقوم بإنتاج خطابات “تلفيقية” و”تبريرية” حفاظا على السلامة.

إن الخطاب الديني الشبابي الجديد المنفتح الذي ينشد الإصلاح والتغيير في شبه الجزيرة العربية واقع الآن تحت فكي كماشة السلطتين الدينية التقليدية السلفية الرسمية من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى. لكن الخطورة كل الخطورة لو نجحت السلطة السياسية في تطويق “الخطاب الجديد” بالكامل -الذي لم يخرج من معقله بعد- وسحبه إليها لتنفيذ أجنداتها. وفي المقابل سيضطر “الخطاب الجديد” إلى تقديم “ترضيات” للخطاب السلفي. سيكون ثمن كل هذا أننا سنعود إلى الوراء ملايين السنوات الضوئية. وفي سياق هذا التقديم عن أبو زيد علينا أن نتذكر الآن، والآن تحديداً، أن تحالف الديني مع السياسي واقع حي. لقد كان التحالف بين السياسي والديني في طرد أبو زيد من الكويت في ديسمبر2009 – مع حصوله على تأشيرة دخول من السياسي في الأساس!- كاشفا بما لا يدع مجالا للشك أن السياسي لا غنى له عن الديني والعكس صحيح. الذي حصل هو أن الحكومة كانت تريد تمرير قرار في مجلس الأمة الكويتي لصالحها وحيث إن الإسلامويين “البرلمانيين” يقفون عقبة أمام ذلك القرار كان لا بد من أن يدفع أحد ما ثمن الفاتورة. وقد دفع أبو زيد ثمن الفاتورة للإسلامويين مقابل أن لا يتصدوا لقرار الحكومة!. إنها فانتازيا ما بعدها فانتازيا. يالها من حالة مزرية حقا! لكن الخاسر لم يكن أبوزيد بل الخطاب السلفي الإخواني في الكويت، فقد خسر فرصة الإنصات بتمعن لواحد من أهم المصلحين المسلمين في العصر الحديث. ومن الرجعية والتخلف نستطرد في عرضنا لأبو زيد مع الفكر الإصلاحي والتقدمي في مصر القرنين التاسع عشر والعشرين:

"ظَهَرَ في مصرَ اتِّجاهٌ نهضويٌّ مُشَابِهٌ، وذلك بعدَ أوَّلِ مواجهةٍ مع أوروبا، لكنَّه- على الأرجحِ - أكثرُ ليبراليَّةً. كان الشَّيخُ رفاعة رافع الطَّهطاوي (1801-1873) مبعوثًا ليعملَ إمامًا لأوَّلِ بعثةٍ عسكريَّةٍ مصريَّةٍ إلى فرنسا (لاكتسابِ التَّدريبِ العسكريِّ الحديث)، وكان مُلْهَمًا بشكلٍ كبيرٍ من قبلِ أستاذِه حسن العطَّار، شيخِ الأزهرِ لخمسِ سنواتٍ (1830-1834) الذي حاول أنْ يُدخِلَ العلومَ الدُّنيويَّةَ إلى المنهاجِ الدِّراسيِّ لأقدمِ مؤسَّسةٍ إسلاميَّةٍ تعليميَّةٍ في مصرَ: الأزهر. وبشكلٍ مُتناقِضٍ جاء الاعتراضُ على ذلك من الرَّئيسِ الفرنسيِّ لكليَّةِ الطَّبِّ في القاهرةِ، على أرضيَّةِ أنَّ على الأزهر أنْ يستمرَّ مؤسَّسةً دينيَّةٍ حصريَّةٍ. لَمْ يجدْ الشَّيخ حسن العطَّار، الذي كان نفسُه ضليعًا في العلومِ الدُّنيويَّةِ بما فيها الفَلَكُ والطِّبُّ والكيمياءُ والهندسةُ، بالإضافةِ إلى الأدبِ والموسيقى، لَمْ يجدْ تناقضًا بين المعرفةِ الدِّينيَّةِ والعلومِ الدُّنيويَّة.(62) إنَّ مساهمةَ الطَّهطاوي في دراسةِ الإسلامِ و”إعادةَ التَّفكيرِ في التُّراثِ”، إلى جانبِ كونِه رائدًا في عمليَّةِ الصَّحوةِ الفكريَّةِ، تعتمد على حقيقةِ أنَّه يُعطي منعطفًا جديدًا لفكرةِ “العلماء”، ووفقًا لرأيِه فإنَّهم ليسوا مجرَّدَ أوصياءَ على تراثٍ مثبتٍ ومؤسَّساتيّ. ولأنَّه كان ضليعًا في الشَّريعةِ الدِّينيَّةِ، باعتبارِه شافعيًّا من حيث المذهبِ، فقد آمنَ بضرورةِ تكييفِ الشَّريعةِ مع ظروفٍ جديدةٍ، وأنَّ من المشروعِ فعلُ ذلك. ومِثْلَ شاه والي الله، إلى حدِّ بعيدٍ، أثارَ الطَّهطاوي إعادةَ فتحِ بابِ الاجتهادِ الذي أُعْلِنَ غلقُه في السَّابق. بلْ إنَّه ذهب خطوةً واحدةً أبعدَ فاقترحَ أنَّه ليس هناك فَرْقٌ بين مبادئ الشَّريعةِ ومبادئ “القانون الطَّبيعيّ” الذي بُنيتْ عليه المبادئ الأوروبِّيَّةُ الحديثة. هذا الاقتراحُ ألمحَ إلى إمكانيَّةِ إعادةِ تفسيرِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ في لتتناسب والحاجات الحديثةِ، كما اقتَرحَ مبدأً يُمكِنُ استخدامُه لتبريرِ هذه الفكرةِ، وهو أنَّه من المشروعِ للمؤمنِ، في ظروفٍ مُعيَّنةٍ، أنْ يَقبلَ بتفسيرٍ مُخالِفٍ مأخوذٍ من مبدأٍ قانونيٍّ مُخالِفٍ لقانونِه. وبأخذِ الكُتَّابِ المتأخِّرين بهذه الفكرةِ تمَّ استخدامُ هذا الاقتراحِ في خلقِ نظامٍ حديثٍ ومُنَظِّمٍ للقانونِ الإسلاميِّ في مصرَ وغيرِها.(63)

إنَّه من الجديرِ بالملاحظةِ أنَّ المُصلِحين المسلمين كانوا قادرين على اختراقِ مبدأِ الإجماعِ؛ عن طريقِ استحضارِ مبدأِ الاجتهادِ، المبدأِ الذي كان مجديًا وناجحًا؛ وذلك من خلالِ تأييدِهِمْ للمبدأِ الرَّابعِ: القياس. وبتقليلِهم من شأنِ مبدأِ “الإجماعِ”، كانوا قادرين على أنْ يُبحروا في مُجلَّداتِ الفِقْهِ دونَ أنْ يَحصِروا أنفسَهم باتِّباعِ مدرسةٍ مُحدَّدةٍ، الأمرُ الذي أعطاهم حُرِّيَّةً أكبرَ لاختيارِ الآراءِ ولبناءِ القياسِ الشَّرعيّ. إنَّ هذا النَّوعَ من الإصلاحِ صارَ ذا أثرٍ بالغٍ في مجالِ الصِّياغةِ الفقهيَّةِ وتقنين الشَّريعةِ في كثيرٍ من البلدانِ الإسلاميَّة. ولقدِ اسْتمرَّتْ عمليَّةُ كَسْرِ “الإجماع” في تقديمِ التَّطوُّراتِ الرَّئيسةِ طَوالَ القرنِ العشرين. وبدأتْ طبقةٌ جديدةٌ من المفكِّرين في الانخراطِ في هذه العمليَّةِ، مُتحدِّيةً السُّلطةَ المسيطرةَ لطبقةِ “العلماء” التَّقليديّين في أنحاءِ العالَمِ الإسلاميِّ. ويَعودُ الفضلُ في ذلك إلى عصرِ الطِّباعةِ والصَّحافةِ وإدخالِ أنظمةِ التَّعليمِ الحديثة. كانت هذه كلُّها عناصرَ أساسًا في عمليَّةِ بناءِ الدُّولِ القوميَّةِ في ما بعدَ الاستقلال. الآنَ، ومع الاستخدامِ المُكثَّفِ للإنترنتْ، صارتِ السُّلطةُ التَّقليديَّةُ “للعلماء” وأيضًا سُلْطَةُ المفكِّرين الجُدِدِ متشظِّيتين. وإذا كان “العلماء” التَّقليديّون هم الذين تحدَّوا وأعادوا التَّفكيرَ في مبدأِ “الإجماعِ”، فاتحين بذلك فضاءً جديدًا من التَّأمُّلِ العقليِّ في التُّراثِ، فإنَّه كان على الطَّبقةِ الجديدةِ الطَّالعةِ من المفكِّرين أنْ تَذهبَ خَطوةً أبعدَ في عمليَّةِ “إعادةِ التَّفكير”.(64)

إعادةُ التَّفكيرِ في السُّنَّةِ، نقدُ الحديثِ: ظهورُ تفسيرٍ جديد

لقد تمَّتْ إعادةُ استحضارِ، بلْ وحتَّى تطويرُ هذا المنهجِ التَّقليديِّ لنقدِ الحديثِ في ما وراءَ نطاقِ مجالِه المعرفيِّ التَّقليديِّ النَّقديِّ، وذلك في السِّياقِ الحديثِ لإعادةِ التَّفكير. إنَّ عمليَّةَ إعادةَ التَّفكيرِ في السُّنَّةِ كانتْ مُرتبِطةً بالجهودِ من أجلِ فتحِ معنى القرآنِ، لمعالجةِ مواضيعَ حديثةٍ عن طريقِ محاولةِ تأسيسِ تفسيرٍ قرآنيٍّ جديدٍ خالٍ من الاعتمادِ الكلاسيكيِّ الكبيرِ على المرويَّاتِ في الشُّروحاتِ الكلاسيكيَّةِ للقرآن. بكلماتٍ أخرى: كان نقدُ السُّنَّةِ في الأساسِ واحدةً من نتائجِ انخراطِ المفكِّرين المسلمين في التَّفسيرِ القرآنيِّ، بطريقةٍ مُختلِفةٍ إلى حدٍّ ما عن طريقةِ المفسِّرين الكلاسيكيّين. إنَّ المُطالَبَةَ القويَّةَ بمنهجٍ جديدٍ يَتعامَلُ مع القرآنِ، من أجلِ فتحِ معناه على الظُّروفِ العصيبةِ الجديدة، جعلتْ من الضَّروريِّ إبعادَ التَّفسيرِ القرآنيِّ الحديثِ عن ذلك النَّوعِ التَّقليديِّ المُثْقَلِ جدًّا بالاقتباساتِ من الحديث. كان السّير سيِّد أحمد خان الهنديّ (1817-1898)،(65) الذي لَمْ يكنْ عالِمًا تقليديًّا، أوَّلَ هنديٍّ حداثيٍّ يُدخِلُ مواضيعَ جديدةً غيرَ معروفةٍ في هذا التَّفسيرِ حتَّى الآن. ولكونِه مدافعًا [عن هذا النَّوعِ من التَّفسيرِ]، فقدْ حاولَ تبريرَ الدُّغمائيَّةِ الدِّينيَّةِ المُقدَّمةِ في القرآنِ في ضَوْءِ الاكتشافاتِ العلميَّةِ الحديثة. إنَّ إدراكَ أنَّ القرآنِ يَحتلُّ المكانَ المركزيَّ في توجيه سلوكِ المسلمين، بالمقارنةِ بالدَّورِ المُسيطِرِ للمرويَّاتِ النَّبويَّةِ المقبولةِ عمومًا من “العلماء”، كان في ما يبدو يَكْتَسِبُ شعبيَّةً بين قسمٍ من المفكِّرين والمثقَّفين المسلمين خلالَ أواخرِ القرنِ التَّاسعِ عشرَ وأوائلِ القرنِ العشرين في الهند. وكان هذا الإدراكُ في المقامِ الأوَّلِ مقصودًا به خلقَ فضاءٍ لتفسيرِ القرآنِ بالطُّرقِ الحديثةِ، وكذلك لاستئصالِ الخُرافاتِ السَّائدةِ في المجتمعاتِ المسلمة. كان سيِّد أحمد خان أوَّلَ مَنْ أثارَ هذا الموضوع، وهو يُشيرُ إلى الخروجِ على القياسِ في تفسيرِ القرآنِ، ويَقترِحُ أنَّ هذه الحالاتِ من الخروجِ على القياسِ خاليةٌ حتَّى من المبادئ العامَّةِ التي ينبني عليها فَهْمُ الكتابِ المُقدَّس. إنَّ معظمَ ما قدَّمه الشَّارحون الكلاسيكيّون يهتمُّ فقط بالاشتقاقِ من مجموعةِ القواعدِ المُقرَّةِ للقرآنِ، وعلمِ الكلامِ المُتَزَمِّتِ، والتَّذكيراتِ، ومواضيعَ أخرى شبيهة. إنَّ هناك أجزاءَ غيرَ قليلةٍ من الشُّروحاتِ الكلاسيكيَّةِ “عديمةُ القيمةِ ومليئةٌ بالمرويَّاتِ (النَّبويَّةِ) الضَّعيفةِ والمُلَفَّقَةِ”، أو تَشتمِلُ على قصصٍ لا أساسَ لها مُستعارَةٍ من اليهوديَّة.

لذلك فإنَّه من الإلزاميِّ- بالنِّسبةِ إليه- تحريرُ مجالِ التَّفسيراتِ القرآنيَّةِ من المرويَّاتِ، مُستبدِلاً بها عِوضًا عن ذلك مبادئ “العقلِ” “والطَّبيعة”. وهو مع فكرة أنَّ القرآنَ يعتمدُ على نفسِه، مُستوجِبًا فقط انصرافًا كُلَّيًّا لعقلٍ متفانٍ ومستنيرٍ لفهمِه. إنَّ على مبادئ التَّفسيرِ، طبقًا لأحمد خان؛ أنْ لا تعتمدَ على الحديثِ وإلاَّ فإنَّ خَاصِّيَّةَ القرآنِ الأبديَّةَ والكونيَّةَ ستكون موضعَ مُخاطَرة. وبالنسبة إليه تكون معجزةُ القرآنِ العظيمةُ في كونيَّتِه التي تخلق إمكانيَّةً لكلِّ جيلٍ ليجدَ فيه المعنى المناسبَ لحالتِه، على الرَّغمِ من الزِّيادةِ المُستمرَّةِ في المعرفةِ البشريَّة. إنَّ التَّفسيرَ المُعتمِدَ على الحديثِ يُفضي إلى تقييدِ معنى القرآنِ بحالةٍ تاريخيَّةٍ مُعيَّنةٍ، وبذلك تُحْجَبُ كونيَّتُه.(66) لقد قادَ هذا المنهجُ أحمدَ خان إلى المنهجِ النَّقديِّ للمصدرِ الثَّاني للمعرفةِ الإسلاميَّة، أي السُّنَّة. وتحت تأثيرِ النَّقدِ الإنجيليِّ المُطبَّقِ على عمليَّةِ نقلِ الأحاديثِ، من قبلِ العلماءِ الأوروبِّيّين أمثالِ كارل فاندر Carl PFander (1803-1865)  ووليام مور William Muir (1819-1905) من جهةٍ، واستجابةٍ للموقفِ المُنغلِقِ ذي التَّوجيهِ الوهَّابيِّ المُطوَّرِ من قبلِ أهلِ الحديثِ، من جهةٍ أخرى، “صارَ في نهايةِ المطافِ إلى رفضِ كلِّ الأحاديثِ تقريبًا بوصفِها غيرَ جديرةٍ بالاعتمادِ عليها”.(67) ولكنَّ تفنيدَه للحديثِ لا يعني أنَّه يرفضُ السُّنَّةَ كلَّها، على الرَّغمِ من أنَّ الحديثَ يُعتبرُ الحَامِلَ الرَّئيسَ للسُّنَّة. ومثل أحمد خان يبدو أنَّ المصريَّ محمَّد عبده (1848-1905) يملكُ موقفًا نقديًّا، وإنْ كان أكثرَ حذرًا تجاه المادَّةِ التي وصلتْ في صورةِ المجموعةِ المُشَرْعَنَةِ للسُّنَّة. لَمْ يتوسَّعْ عبده نظريًّا في إعادةِ تعريفِ المرويَّاتِ الموثوقةِ، لكنَّه أحيانًا يُفَنِّدُ المرويَّاتِ التي تتناقض إمَّا مع المعنى الصَّريحِ لبعضِ المقاطعِ القرآنيَّةِ وإمَّا مع العقلِ والحِسِّ العامّ. إنَّ هذا مُبيَّنٌ بشكلٍ واضحٍ في رفضِه للمرويَّاتِ ذاتِ الصِّلةِ بالسِّحرِ أو المَسِّ الشَّيطانيِّ، وكذلك المرويَّاتِ التي تذكر الملائكةَ المُنزلين لمقاتلةِ العدوِّ في صفِّ المقاتلين المسلمين، كما سنرى. إنَّ تفسيرَه شبه العقلانيَّ للقرآنِ يُحتِّمُ منهجًا نقديًّا للمرويَّات.(68)

شهدتْ بدايةُ القرنِ العشرين ظهورَ حركةِ أهلِ القرآنِ في الهندِ بوصفِها استجابةً نقديَّةً للبروزِ القويِّ المرتبطِ بسلطةِ السُّنَّةِ من قِبَلِ جماعةِ أهلِ الحديثِ، وهو بروزٌ كانتْ نتيجتُه ميْلاً تِجَاهَ نسخةٍ شعائريَّةٍ من الإصلاح. إنَّ التَّحدِّيَ الأساسَ الذي قدَّمه أهلُ القرآنِ لَمْ يكنْ حول موثوقيَّةِ السُّنَّةِ كما نُقِلَتْ من خِلالِ الأحاديثِ، ولكنَّه كان أساسًا حول ما إذا كانتِ السُّنَّةُ تَقِفُ في نَفْسِ المكانةِ التي يَقِفُ فيها القرآنُ وحيا إلهيّاً. إنَّ الموقفَ الكلاسيكيَّ الذي يَعُدُّ السُّنَّةَ شكلاً من الوحي مساويًا للقرآنِ في السُّلطةِ، وإنْ كان مُختلِفًا في الشَّكْلِ، قد تمَّ تحدِّيه. إنَّ خِلافاً شبيهًا، وإنْ كان أقلَّ حِدَّةً في نبرتِه من ذلك الذي في الهند؛ كان أيضًا يحدث في مصر. تمامًاً كما كان أهلُ القرآنِ الهنودُ متأثِّرين بتأكيدِ سيِّد أحمد خان كونيَّةَ القرآنِ مقابلَ تاريخانيَّةِ السُّنَّة؛ طَوَّرَ نُقَّادُ السُّنَّةِ المصريون موقفَ عبده الحَذِرِ تجاه أدبيَّاتِ الحديثِ إلى موقفٍ أكثرَ راديكاليَّةً، رافعين شعارَ “الإسلامُ هو القرآنُ وحدَه”، في سلسلةٍ من المقالاتِ في “المنار” سنة 1907م.(69) لقد كانتْ هناك ردودٌ قويَّةٌ ضِدَّ هذا الزَّعمِ من عددٍ من الدُّولِ الإسلاميَّةِ بما فيها واحدةٌ من الهند.(70) إنَّ واحدةً من أكثرِ النَّتائجِ إثارةً للاهتمامِ في النِّقاشِ حول موثوقيَّةِ الحديثِ كانتْ ظهورَ محاولاتٍ لفصلِ مسألةِ سُلطةِ السُّنَّةِ عن مشكلةِ الموثوقيَّةِ التَّاريخيَّةِ لنقدِ الحديثِ، لقبولِ نتائجِ النَّقدِ الجديدِ للحديثِ، على الأقلِّ جزئيًّا، بينما تمَّ الحفاظُ على موثوقيَّةِ السُّنَّةِ من حيث المبدأ.

كان هذا هو المنهجُ العامُّ في تناولِ السُّنَّةِ الذي دعا إليه معهدُ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ في لاهور.(71) إنَّ محاولةً شبيهةً لكنْ أكثرَ صقلاً لفصلِ سُلطةِ السُّنَّةِ عن موثوقيَّةِ الحديثِ الصَّارِمةِ تُوجدُ في عملِ الباكستانيِّ الحداثيِّ فضل الرَّحمن (1919-1988)، الذي خَدَمَ رئيسًا للمعهدِ المركزيِّ الإسلاميِّ الباكستانيِّ في ستِّينيَّاتِ القرنِ العشرين. تمَّ تأسيسُ هذا المعهدِ في عهدِ نظامِ الجنرالِ أيّوب خان للمساعدةِ في الدَّعوةِ إلى التَّفسيراتِ الحداثيَّةِ لإسلامٍ مُتطابِقٍ وحاجاتِ النِّظام. إنَّ أعمالَ فضل الرَّحمن في السُّنَّةِ يجبُ أنْ تُفْهَمَ في ضوءِ خلفيَّةِ السِّياسةِ الدِّينيَّةِ في باكستانَ خلالَ ستِّينيَّاتِ القرنِ العشرين، وبالأخصِّ في ضوءِ خلفيَّةِ الخِلافِ بين غلام أحمد برويز (واحدٌ من جماعةِ أهلِ القرآن) وخصومِه من “العلماء” الباكستانيّين. إنَّ رفضَ برويز الرَّاديكاليِّ للسُّنَّةِ، ورؤيتَه الخاصَّةَ للدَّولةِ الإسلاميَّةِ بوصفِها الوريثَ الحقيقيَّ للسُّلطةِ النَّبويَّة،(72) كانا مُرتبِطًين في أذهانِ خصومِه بجهودِ حكومةِ أيّوب لتتجاوزَ “العلماء” من أجلِ الدَّعوةِ إلى إسلامٍ حداثيّ. ارتاب خصومُ الحكومةِ، على نحوٍ صحيحٍ تمامًا، في أنَّ أيّوبَ كان مُصمِّمًا على تجاوزِ المصادرِ التَّقليديَّةِ للسُّلطةِ الدِّينيَّةِ في رسمِه للسِّياسة. واستنتجوا، على نحوٍ غيرِ صحيحٍ على الأرجحِ، أنَّ أفكارَ برويز كانتْ تُمارِسُ تأثيرًا غيرَ مناسبٍ على سياسةِ الحكومة. وهكذا صارَ النِّقاشُ حول العلاقةِ بين الدِّينِ والدَّولةِ، والدَّورِ ذي الصِّلةِ بـ”العلماء” والحكومةِ في رسمِ سياسةٍ تَخُصُّ السّؤالَ الدِّينيَّ؛ مُرَكِّزًا على أفكارِ برويز، وبشكلً خاصٍّ على موضوعِ السُّنَّة. وكان الاهتمامُ أيضًا مركَّزًا على الصَّوتِ الرَّئيسِ للنِّظامِ في الشّؤونِ الدِّينيَّةِ، أي على المعهدِ المركزيِّ للبحثِ الإسلاميِّ ورئيسِه.(73)

إنَّ قِصَّةَ المعهدِ ودورِه في بِنيةِ الدَّولةِ في باكستانَ جديرةٌ بالذِّكرِ، فهي تُوضِّحُ كَمْ كان نقدُ السُّنَّةِ ذا أثرٍ في عمليَّةِ صياغةِ القانونِ الحديث. إنَّها تُوضِّحُ أيضًا فَشَلَ حركةِ الإصلاحِ عندما تكون مرتبطةً، بشكلٍ كبيرٍ، بالسِّياسةِ البراجماتيَّةِ للأنظمةِ السِّياسيَّة. يُمْكِنُ إيجادُ مثالِ باكستانَ بدرجاتٍ متفاوتةٍ في بلدانَ إسلاميَّةٍ أخرى، حيث إنَّ الدَّولةَ قادرةٌ على التَّلاعُبِ بالمفكِّرين ليخدموا إيديولوجيَّةِ النِّظام. يبدو واضحًا أنَّ بِنيةَ المعهدِ المركزيِّ للبحثِ الإسلاميِّ كانتْ مُصِرَّةً على أنْ تكونَ شِبْهَ علمانيَّة. وكما أشارَ مسعود(74) فإنَّ فضلَ الرَّحمن - الذي كانَ خرِّيجَ جامعةِ أكسفورد، وفي وقتِ تأسيسِ المعهدِ كانَ يُدَرِّسُ في جامعةِ ميغيل في مونتريال بكندا - “جَمَعَ مجموعةً من المفكِّرين الذين لَمْ يمثِّلوا اتِّجاهاتٍ متعدِّدةً فحسبُ بلْ أيضًا توجُّهاتٍ إسلاميَّةٍ مختلفة”. وقد مَثَّلَتْ هذه المجموعةُ مدارسَ إسلاميَّةً مختلفةً في الفكرِ والتَّنوُّعِ الإثنيِّ والمحليِّ في باكستان. وبالإضافةِ إلى دراستِهم في المعارفِ الإسلاميَّةِ التَّقليديَّةِ كان عليهِم جميعًا أنْ يحصلوا على درجاتٍ علميَّةٍ في العلومِ الحديثةِ، مثلِ الاقتصادِ والسّوسيولوجيا والعلومِ السِّياسيَّةِ... إلخ. وكانتْ لدى هؤلاء المفكِّرين أيضًا درجاتٌ علميَّةٌ متقدِّمةٌ من جامعاتٍ مشهورةٍ في الغرب. وتمَّ ابتعاثُ الكثيرِ منهم إلى الولاياتِ المتَّحدةِ وكندا. وحيث إنَّ المعهدَ عَمِلَ كصهريجٍ فكريٍّ استشاريٍّ ليُساعدَ في العملِ التَّشريعيِّ فقد زُوِّدَ بموادِّ البحثِ من أجلِ التَّخطيطِ التَّمهيديِّ للقوانين المتعدِّدةِ. وقد ساعد المعهدُ المركزيُّ المجلسَ الإرشاديَّ الإسلاميَّ الذي كان بدورِه يقدِّم المشورةَ لمجلسِ النُّوَّاب. إنَّ القوانينَ الباكستانيَّةَ للأسرةِ، التي سُنَت في 1962، مثَّلتْ تفسيرًا ليبراليًّا للقرآنِ والسُّنَّة. عارض المحافظون هذه القوانينَ لأنَّها قيَّدتِ الزَّواجَ التَّعدُّديَّ وأعطتْ حقوقًا للمرأةِ لَمْ يسمحْ بها القانونُ الإسلاميُّ التَّقليديّ.

ووجد المعهدُ نفسَه هدفًا لدعايةٍ عدائيَّةٍ. صارَ فضل الرَّحمن يُسمَّى بأبي الفضلِ، وهو الوزيرُ سيِّئُ الصِّيتِ للإمبراطور أكبر، والذي - على ما يُظنُّ - أسَّسَ دينًا جديدًا. فضل الرحمن غير معروف تقريبا في العالم العربي، وفي قصته شبه كبير بقصة أبو زيد: أثارَ كتابُ فضلِ الرَّحمن “الإسلامُ: مدخلٌ عامّ”، الذي كُتِبَ أساسًا دفاعًا عن الإسلامِ ضدَّ النُّقَّاِد الغربيّين، خلافًا. نَزَلَ سُكَّانٌ تبلغ نسبةُ الذين يقرأون منهم 25% إلى الشَّوارعِ، محتجِّين ضدَّ كتابٍ لَمْ يقرأوه ولَمْ يستطعْ معظمُهم قراءتَه. استفادتِ المعارضةُ السِّياسيَّةُ لأيّوب خان من الظَّرفِ، وأعلن العلماءُ أنَّ رحمن مُهَرْطِق. وبدأ الاضطرابُ في دكَّا، دائرةِ مولانا احتشامِ الحقِّ ثانوي الذي كان يقودُ هذا الاحتجاجَ ضدَّ رحمن وأيّوب خان. وقد أدَّتِ الاضطراباتُ في كلِّ أرجاءِ البلادِ في 1969م بأيّوب خان إلى أنْ يستقيل. وكان رحمن مُرغَمًا على تركِ البلادِ، وقد درَّسَ في جامعةِ شيكاجو حتَّى وفاتِه في 1988م.

تفكيكُ الشَّريعة

هل سيساعدُنا التَّعاملُ مع القرآنِ بوصفِه خطابًا مُنْخَرِطًا بشكلٍ عميقٍ في حوارٍ مع المؤمنين، وكذلك غيرِ المؤمنين، في مواجهةِ الأسئلةِ القانونيَّةِ المُلتهِبةِ وغيرِ المحلولةِ، المُعتبرَةِ وحيًا إلهيًّا من قِبَلِ معظمِ المسلمين؟. قد تكون بعضُ الجماعاتِ الرَّاديكاليَّةِ لا تَزالُ تتباكى وتُقاتلُ من أجلِ إعادةِ إحياءِ الخلافةِ، لكنَّ الدُّولَ القوميَّةَ المُستقرَّةَ في كلِّ بلدٍ مسلمٍ في العصرِ ما بعدَ الكولونياليِّ شهدتْ تحوُّلاً نحو قضيَّةِ القانون. إنَّ التَّعَهُّدَ بتأسيسِ دولةٍ إسلاميَّةٍ محكومةٍ كليَّةً بالشَّريعةِ هو الآنَ موضوعُ نزاعٍ بين الاتِّجاهين الأساسيَّين للخطابِ الإسلاميِّ المُعَاصِر. ذلك أنَّ الإسلامَ هو الدِّينُ الرَّسميُّ للدَّولةِ، ومبادئُ الشَّريعةِ هي “مصدرُ التَّشريع” هو مادَّةٌ في الدُّستورِ في كلِّ الدُّولِ الإسلاميَّة. إنَّ النِّزاعَ الذي يَأخُذُ شكلَ صراعٍ خطيرٍ وعنيفٍ بين الدَّولةِ والجماعاتِ الرَّاديكاليَّةِ، بين الفينةِ والأخرى، ليس حولَ تطبيقِ أو عدمِ تطبيقِ الشَّريعةِ في الحياةِ الاجتماعيَّةِ والفرديَّةِ بِقَدْرِ ما هو حولَ درجةِ التَّطبيقِ، وبالتَّالي ما إذا كان النِّظامُ السِّياسيُّ غربيًّا أم لا، ومن ثَمَّ معاديًا للإسلام. إذا كان كافيًا بالنِّسبةِ إلى الفردِ أنْ يُقِّرَّ بالإسلامِ، وأنْ يؤدِّيَ الأعمدةَ الأربعةَ الأخرى له - الصَّلاةُ خمسَ مرَّاتٍ في اليومِ، وصيامُ شهرِ رمضانَ، ودفعُ الزَّكاةِ السَّنويَّةِ المفروضةِ، وتأديةُ الحجِّ إنِ استطاعَ تَحَمُّلَ ذلك مادِّيًا - فإنَّ ذلك ليس كافيًا بالنِّسبةِ إلى المجتمع. إنْ لمْ تكنْ هناك دولةٌ إسلاميَّةٌ فإنَّ كلَّ مسلمٍ يُصبِحُ مسؤولاً أمامَ اللهِ عن مثلِ هذا الفشلِ الدِّينيِّ، وهذا ما يدعو إليه ممثِّلو جماعاتِ الإسلامِ الرَّاديكاليِّ وما يُسمَّى بالخطابِ الإسلاميِّ “المعتدل”. إنَّ المفكرين المسلمين الذين يحملون رأيًا مُختلِفًا عن العلاقةِ بين الإسلامِ والسِّياسةِ؛ مدانون بوصفِهم “مُغربَنين”، وليس بوصفِهم مفكِّرين مسلمين حقيقيّين. إنَّ آراءَ المفكِّرين المسلمين غير التَّقليديّين واللاراديكاليّين غيرُ معروفةٍ أبعدَ من حدودِ العالمِ الإسلاميِّ، خصوصًا أولئك الذين يُفضِّلون مُخاطَبَةَ قرَّائهم بلغاتِهم الإقليميَّة. أمَّا بالنِّسبةِ للدُّعاةِ الرَّاديكاليّين جدًّا والمُحرِّضين فإنَّ الإعلامَ الغربيَّ مُتحمِّسٌ جدًّا لتقديمِ أفكارِهم، مُبتدِعًا بذلك انطباعًا في العقلِ الغربيِّ أنَّ للإسلامِ وجهًا واحدًا: وجهَ بنِ لادن.

اسمحوا ليَ الآنَ أنْ أُقدِّمَ رأيي الفكريَّ في الشريعة بشكلٍ مختصرٍ. إنَّ الآياتِ القرآنيَّةَ التي تبدو محتويةً على تضميناتٍ قانونيَّةٍ، والتي تُعتبَرُ أساسَ الشَّريعةِ، هي حوالي 500 آيةٍ بحسبِ المصادرِ التَّقليديَّةِ. وعلى هذه الآياتِ، التي تُعادِلُ 8% (75) من القرآنِ كامِلاً، بنى الفقهاءُ نظامًا من الاستقراءِ والاستنباطِ يُسمَّى بـ”علمِ أصولِ الفقه”. وبحسبِ هذه المبادئ أضافوا مصدرًا ثانيًا إلى جانبِ القرآنِ، أي السُّنَّةَ النَّبويَّة. وقد صنَّفوا السُّنَّةَ مصدرًا ثانيًا للتَّشريعِ، واعتبروها مقدَّسةً مثلَ القرآن. ولأنَّ مَصْدَرَين مقدَّسين لمْ يكونا كافيين لتنظيمِ المشكلاتِ السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ، وكذلك الجنائيَّةِ المتزايدةِ، فقد عَمَدَ الفقهاءُ إلى تبنِّي مبدأٍ ثالثٍ مبنيٍّ على الأحكامِ الشَّرعيَّةِ المُطبَّقةِ والمُتَّفَقِ عليها قَبْلاً، المُسمَّاةِ بـ”الإجماعِ”، أي إجماعِ جيلِ المسلمين الأبكرِ، أي صحابةِ النَّبيّ. ثُمَّ إنَّ مبداً رابعًا من “الاستفسارِ العقليِّ”، أي الاجتهادِ صارَ مُلِحًّا بشكلٍ عاجلٍ، من أجلِ أنْ يتمكَّنوا من حلِّ المشكلاتِ التي لمْ تكنْ محلولةً في المصادرِ الثَّلاثةِ الأخرى. لكنَّ مبدأَ الاجتهادِ هذا كان فعليًّا مقصورًا على تطبيقِ آليَّةِ القِيَاسِ، الذي يعني التَّوصُّلَ إلى حلٍّ لمشكلةٍ مُعيَّنةٍ عن طريقِ مقارنةِ حالتِها فقط بمشكلةٍ مُشابِهةٍ تمَّ بتُّها في أيٍّ من المصادرِ الثَّلاثةِ السَّابقة. إنَّ أدبيَّاتِ الشَّريعةِ كاملةً -كما تُعبِّرُ عنها المذاهبُ السُّنِّيَّةُ الرَّئيسةُ الأربعةُ على الأقل- مؤسَّسةٌ على المبادئِ المذكورةِ آنفًا، الأمرُ الذي يعني أنَّ الشَّريعةَ نِتَاجٌ من صُنْعِ الإنسانِ، لا شَيءَ مُقَدَّسًا فيها. إنّه من غيرِ المُمْكِنِ أيضًا الزَّعْمُ بصلاحيَّتِها بصرفِ النَّظرِ عنِ الزَّمانِ والمكان.

إذا تفحَّصنا سياقيًّا بعضَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ القرآنيَّةِ، مثلَ عقوبةِ الزِّنا والسَّرقةِ والحِرَابَةِ، وكذلك القتل، فإنَّ السّؤالَ هو: هل هذه العقوباتُ مُبتدأةٌ أساسًا عن طريقِ الإسلامِ وهي لذلك إسلاميَّة؟. الجوابُ قَطْعًا: لا. إنَّ كلَّ هذه العقوباتِ كانتْ، عمومًا، موجودةً قبل الإسلامِ، ويعودُ بعضٌ منها إلى القانونِ الرّومانيِّ ومُتبنًّى في التُّراثِ اليهوديِّ، بينما كانتِ العقوباتُ الأخرى تراثًا أكثرَ قِدَمًا من ذلك. إنَّه من غيرِ المُرَجَّحِ في العصر الحديثِ لحقوقِ الإنسانِ واحترامِ وحدةِ الجنسِ البشريِّ أنْ يُعتبَرَ بَتْرُ أعضاءٍ من جسدِ الإنسانِ، أوِ الإعدامُ، عقوبةً دينيَّةً إلزاميَّةً مرتبطةً بالمقدَّس. ويتوجَّبُ على المظاهرِ الأخرى للشَّريعةِ، مثلِ تلك التي تتعاملُ مع حقوقِ الأقلِّيَّاتِ الدِّينيَّة وحقوقِ المرأةِ وحقوقِ الإنسانِ بشكلٍ عامٍّ، أنْ تُراجَعَ ويُعادَ النَّظرُ فيها أيضًا. إنَّ إعادةَ تسويقِ (=وضعِه في سياقٍ جديد) الأحكامِ القرآنيَّةِ، وفحصَ بنيتِها اللُّغويَّةِ والأُسلوبيَّةِ -بوصفِها خطابًا- سوف يكشفان أنَّ عملَ الفقهاءِ كان في الأساسِ عبارةً عن بَسْطِ معنى هذه الاشتراطاتِ وإعادةِ تشفيرِها في سياقاتِهم الاجتماعيَّةِ المختلفة. القرآنُ في حدِّ ذاتِه ليس كتابًا في القانون. وقد سبق أنْ دلَّلنا أنَّ التَّعبيرَ عن الأحكامِ الشَّرعيَّةِ يَتِمُّ في أسلوبِ الخطابِ، الأمرُ الذي يكشفُ عن سياقٍ من الارتباطِ مع الاحتياجاتِ البشريَّةِ في وقتٍ محدَّدٍ، وهو أمرٌ يفتح بالمقابلِ تخصيصَ “المعنى” المُرادِ في كلِّ مجالٍ معرفيٍّ للمعنى. بوصفِه خطابًا يُتيحُ القرآنُ خياراتٍ متعدِّدةً، وحلولاً مختلفةً، وبابًا مفتوحًا للفهم. الاستنتاجُ هو: أنَّ الزَّعْمَ بأنَّ أدبيَّاتِ الشَّريعةِ مُلْزِمَةٌ لكلِّ المجتمعاتِ الإسلاميَّةِ بصرفِ النَّظَرِ عن الزَّمانِ والمكانِ هو ببساطةٍ نِسْبَةُ القدسيَّةِ إلى النِتاجِ الفكريِّ البشريِّ والتَّاريخيّ. وإذا كان هذا هو الحالُ فليس ثَمَّةَ إلزامٌ لتأسيسِ دولةٍ ثيوقراطيَّةٍ تزعمُ أنَّها إسلاميَّة. إنَّ مُطالَبةً كهذه ما هي إلأّ دعوةٌ إيديولوجيَّةٌ لتأسيسِ سُلْطَةٍ ثيو-سياسيَّةٍ غيرِ مُساءلة؛ إنَّها إعادةُ بعثٍ لأشدِّ الأنظمةِ السِّياسيَّةِ شيطانيَّةً ودكتاتوريَّةً على حسابِ البُعْدِ الرّوحيِّ والأخلاقيِّ للإسلام.(76)

في ختام النسخة الإنكليزية من المحاضرة، التي عرضناها أعلاه، يدين أبو زيد المشروع الاستعماري الأمريكي الجديد في أفغانستان والعراق، ويحذر من أن مواجهة العنف بالعنف ستكون على حساب تطوير المجتمعات المسلمة التي لن تنظر إلى الأمريكي المحتل إلا بوصفه عدوا وغازيا لا بد من مواجهته.

(8). الدولة الدينية والديكتاتورية والفساد والمثقف والمواطن

وهكذا تكون المطالبة بتطبيق الشريعة ارتداداً إلى الوراء. وإذا أضفنا إلى ذلك أن في المجتمعات المسلمة قوى رجعية ومتخلفة تطالب بهذا التطبيق السريع والشامل، فإن المطالبة بتطبيق الشريعة تتحول إلى إرهاب على حساب جوهر الدين. ولا يكون تحقيق ذلك ممكنا إلا بتأسيس الدول الدينية. إن تأسيس هذه الدولة الدينية معناه المباشر العودة إلى العصور الحيوانية وعصور الظلام. إنها دولة الشيطان التي تقف ضد كل الحريات والقيم الإنسانية وتمارس القمع والبطش والغطرسة وتعدم الناس، ويحدث كل ذلك باسم الله الواحد الأحد!. وأجندات هذه الدولة الشيطانية معدة سلفا وتنتظر التطبيق العملي المباشر والكامل والشامل والقسري، وذلك حين تأسيسها. إن نموذج هذه الدولة الشيطانية التي ستحرق الحرث والنسل متحقق في التاريخ بل والآن!، وقد رسم الخطاب الديني الراديكالي –الذي يشترك الخطاب الديني “المعتدل” معه كثيرا جدا في أفكاره- عبر أدبياته المنشورة ومحاضراته المتلفزة والمسموعة أجنداتها ومراسيمها التي أقلها تحريم الموسيقى والفنون وهدم التماثيل التذكارية كي لا نعود إلى عبادة الأصنام، وإدخال المرأة إلى بيت الطاعة، و”تأديب” الأدب، وصولاً إلى تطبيق “حد” الردة... إلخ.

أما الآن، وحتى يسفر المستقبل عن مفاجآته، فنحن بالأساس نرزح تحت سلطات دكتاتورية قمعية نازية فاشية شمولية لا تقل خطورة عن تلك الدولة الشيطانية المزمع تأسيسها متى ما سنحت الفرصة. وليس مفارقة في السياق العربي أن تكون السلطة السياسية اليوم حليفا للخطاب الديني الإسلاموي المؤثر، فقد رأينا مع أبو زيد أن هاتين السلطتين، وإن اختلفتا ظاهريا، تمتحان من نفس المرجعية ألا وهي الدين. وهما سلطتان لا تختلفان على مبدأ تطبيق الشريعة بل تختلفان حول درجة التطبيق. وفي محاضرته التي قدمها في الكويت من بيته في القاهرة عبر الهاتف تحدث أبو زيد عن هذا التحالف رابطا إياه مباشرة بحدث طرده من مطار الكويت، متسائلا عن الوعي بما حدث: “ما هو الدرس؟ الدرس هو أننا يجب أن نعي أن هناك هذا الزواج الكاثوليكي بين السياسي والديني في مجتمعاتنا، ليس فقط أن الخطاب الديني يحول الدين الي سياسة، وإنما أيضا أن الخطاب السياسي يحول السياسة الي دين... الخطاب السياسي والخطاب الديني قد يختلفان في المفردات، قد يختلفان في بعض المفاهيم، ولكن في بنيتهما العميقة كخطاب ينطلقان من منطلقات ثابتة واحدة. لماذا التضحية بالمثقف؟ لماذا حينما تم ابتزاز هذا السياسي رضخ للضغط؟ حرصا علي منصبه، حرصا على كرسيه المزور ... لماذا تكون التضحية بالمثقف؟ هل لأن المثقف في مجتمعاتنا العربية هو كما نقول في مصر “ابن البطة السوداء”؟ هل هو النقطة الضعيفة؟ أعتقد أيضا أن هذا سؤال مهم، لماذا المثقف؟ لماذا المثقف هو دائما المستهدف؟”.(77)

ولأن الزواج بين السياسي والديني هو زواج كاثوليكي، فإن طلاقه إن لم يكن مستحيلا فهو على درجة بالغة من التعقيد. إن الحالة الوحيدة التي يتمنى فيها الديني سرعة التطليق من السياسي هي فقط عندما يتمكن الديني من الانقلاب عليه، والاستيلاء على سدة الحكم والسيطرة على الجيش. وبالرغم من هذا الرباط الوثيق بين السلطتين عن طريق زواجهما الكاثوليكي في البلاد العربية إلا أنهما تتصادمان في بعض الأحيان عندما تختلف الأجندات. ولأن السياسي يستخدم الديني للسيطرة وغسل الأدمغة وتجييش الجماهير مع أو ضد، بحسب الأجندات، فإنه يحول الدين عن طريق حليفه الديني إلى “أفيون”. ومع تمادي الديني في تجريع الناس “الأفيون” ينقلب السحر على الساحر، وتدرك السلطة السياسية حينها أنها تمادت في تدليع حليفها الديني ولم تنتبه إلى كمية “الأفيون” الرهيبة التي سمحت بها والتي صارت تشكل تهديدا مباشرا لوجودها. وهنا تهب السلطة عن آخرها وتقيم الدنيا ولا تقعدها فتسجن وتعتقل وتعذب، بل وتعدم الديني خوفا على الكرسي. وبعد أن تطمئن السلطة تماما إلى أنها لم تسحب فقط “بضاعة الأفيون” من الأسواق بل كذلك قضت على وكيلها الموزع، وكيل السلطة السياسية، فإنها تعود إلى عادتها القديمة وتعيد الأبواق من جديد إلى السلطة الدينية، الأبواق التي هي في الأساس أبواق السلطة السياسية. وحين يصل الخطاب الديني إلى أوج قوته وتفوقه في العمل الجماعي والحشد والتجييش، ويريد الدخول إلى “البرلمان”، فإن السياسي يرفض ذلك ويدعي رفضه للحزب الديني مع أن هذا السياسي نفسه ينص في “دستوره” على أن دين الدولة هو الإسلام! فكيف يصح له إذن أن يمنع أحزابا دينية بعد هذا؟!

إن هذه الظاهرة – التحالف والاشتراك في المرجعية بين الديني والسياسي - محللة ومفككة بالتفصيل في كتاب عرَّاب نقد الخطاب الديني في العالم العربي، نصر أبو زيد: “نقد الخطاب الديني”. وفي سياق شبيه، يتعلق بأدلجة الدين من قبل منظري الخطاب الديني أنفسهم، يمكننا استحضار أهم الأمثلة في تاريخنا الحديث - للتنويه باسم واحد فقط - على التلاعب بالدين وقيمه النبيلة وتوظيفه في ممارسة الإرهاب من قبل الخطاب الديني المتطرف. كان اغتيال المفكر الراحل فرج فودة في 1992 على يد الخطاب الديني التكفيري – المدعوم خطابيا من ما يسمى بالإسلام “المعتدل” - دليلا دامغا على أن الدين يمكن أن يستغل ويستخدم كـ”أفيون”، فقد سأل القاضي قاتل فرج فودة: “لماذا اغتلت فرج فودة؟”. يجيب القاتل: “لأنه كافر”. والسؤال الثاني: “ومن أي من كتبه عرفت أنه كافر؟”. القاتل: “أنا لم أقرأ كتبه”. وهنا جاء السؤال الثالث مندهشا: “كيف؟”! لكن إجابة القاتل كانت صادمة ومفاجئة إلى حد مذهل: “أنا لا أقرأ ولا أكتب”! إن هذا نتيجة التجهيل والعبث بعقول الناس. إنه الجهل المؤسس، بتعبير محمد أركون، الجهل المؤسس تعليميا ووعظيا. ومع أن الوعاظ اليوم يبرعون في استخدام أهم ما وصلت إليه التكنولوجيا الغربية الحديثة على صعيد الاتصالات، بل منهم من تخرج من جامعات غربية في العلوم الإنسانية، إلا أن الفارق بين معظمهم وقاتل فرج فودة هو فارق في الدرجة وليس في النوع، إذ إن فكرة الإسلام السياسي الذي عليه أن ينتصر ويحرر البشرية في نهاية المطاف هي الفكرة التي دمغت بها عقول هؤلاء منذ الميلاد وحتى الممات.

إن خطورة الخطاب الديني على الوعي العام والخاص أكبر بكثير من أن نختصرها في هذه الأسطر السريعة. إننا بحاجة اليوم إلى دراسات أنثروبولوجية ونفسانية كثيرة ونوعية لدراسة الآثار الجسيمة والخطرة التي ألحقها هذا الخطاب بعقليات الشعوب وضمائرها. لقد تم الفصل بين الإنسان وبين حريته الفردية في الاختيار، وشُوِّه مفهوم التدين في المجتمعات، وأصبح التدين –الذي هو بالأساس شيء يخص الفرد وحده- عبارة عن رقابة جماعية على الآخرين، وتباعا تم تشويه الدين نفسه. أصبح رجل الدين يفتي في كل كبيرة وصغيرة، وخرجت مجلدات ومجلدات من الفتاوى التي تتبعها المجتمعات المؤمنة حرفيا: “نتيجة الأسئلة الآن أصبحنا نعيش مؤسسات الفتوى، تجعل المواطن الذي كان يعرف منذ أربعين سنة كيف يمارس حياته دون أن يضطر للسؤال عن كل التفاصيل، ودون أن يطلب فتوي في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، أصبح الآن يسأل في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، نسمع أشياء مُضحكة، ومُبكية في الوقت نفسه”.(78) هذه هي الرؤية الفقهية التقليدية للعالم التي لا تحترم حرية الإنسان، لأنها تتعامل معه “باعتباره مقيدا، باعتباره الإنسان المكلف، المقيد بقيود الحلال والحرام، وقد تم في الفكر الفقهي المعاصر اختصار مساحة المباح، لأن هناك الحرام وهناك الحلال، وهناك المكروه وهناك المباح. دخل المكروه في الحرام، والمباح تم اختصار مساحته إلى حد كبير”.(79) ومرة أخرى فإن المشكلة الأساسية التي نعيشها في مجتمعاتنا المسلمة اليوم هي سلطة الديكتاتورية والفساد التي تتلاعب بالدين. “الدولة الدستورية، الدولة التي تعيش طبقا للدستور، وتنظم حياتها طبقا للدستور، هي بالطبيعة أو بالتبعية دولة القانون. هذه الدولة ليس لها دين، ولا يجب أن يكون لها دين، الدين هو أمر المجتمعات وليس أمر الدولة، وهذه طبعا مسألة من مسائل الخط الأحمر، كيف ننقي دساتيرنا من هذه الفقرة التي تقول: الدين الإسلامي دين الدولة. خاصة في الدولة المتعددة الأديان، ربما أضع المسألة في شكل كاريكاتوري، الدولة لا تصلي، الدولة لا تصوم، الدولة لا تذهب إلى الحج، الدولة لا تدفع الزكاة. الدولة هي دولة المواطنين، إذا كان للدولة دين فمعنى ذلك أن المواطنين الذين ينتمون إلى دين غير دين الدولة هم بالضرورة مواطنون من الدرجة الثانية. الأدهى من ذلك أن المواطن الذي ينتمي إلى نفس الدين وله رأي مخالف، واجتهاد مغاير لمؤسسات الدولة وما يحيط بمؤسسات الدولة من الفكر الديني، أيضا يتعرض للخطر”.(80)

وبالرغم من دعواته المستمرة والمتواصلة لعلمنة مؤسسات الدول الإسلامية اليوم، لا ينفي أبو زيد أهمية الدين ودوره في المجتمعات. وبالعودة إلى الاقتباس المتعلق بالمثقف المظلوم والمنبوذ، أو المثقف ابن البطة السوداء - المثقف الضحية، ضحية السياسي والديني - يؤكد أبو زيد ضرورة أن يكون المثقف مستقلا عن السلطة. وبالتأكيد إن في بلادنا العربية من المثقفين المنبوذين الكثير والكثير، إن في داخل حدود الوطن العربي أو في المهجر. هؤلاء هم المثقفون المستقلون، إنهم المثقفون الناقدون لأي سلطة كانت. ويستطرد أبو زيد: “المثقف يجب، ولن أمل من تكرار هذا، أن يحافظ علي استقلاله. لأن السلطة السياسية، والسلطة الدينية، في مجتمعاتنا كلاهما يحاول أن يأخذ المثقف إلى جانبه، باسم الحرب على الإرهاب، وأنا لا أتحدث هنا عن الحرب العالمية على الإرهاب، وإنما الحرب على الإرهاب داخل مجتمعاتنا. باسم الحرب على الإرهاب تم تجنيد المثقفين لمساندة الأنظمة، وفي هذه المساندة ضد الحرب على الإرهاب، لم ينتج المثقف معرفة حقيقية بأسباب نشوء الإرهاب في مجتمعاتنا. ولم يستطع المثقف أن يرى ما تمارسه السلطة السياسية من إرهاب ضد المواطنين، في جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة. المثقف في رأيي يجب أن يكون حارس قيم لا كلب حراسة. حارس قيم بمعنى حتى لو النظام السياسي في بلدي وفي وطني الذي أنتمي اليه تبنى الأفكار التي أؤمن بها كاملة، يجب عليَّ دائما أن أحافظ على هذه المسافة المعرفية، هذه المسافة المعرفية تجعلني حارساً لهذه القيم، لأن القيم في تطبيقها السياسي تُصاب بكثير من التلوث”.(81)

وهكذا تتلاعب السلطة السياسية برجل الدين والمثقف بحسب الظروف والمعطيات التي تتعامل معها السلطة. وفي خضم ذلك يكون المواطنون هم ضحية إرهاب الأنظمة العربية. إن على المثقف أن يحافظ على المسافة بينه وبين السلطة حتى لو تبنت السلطة أفكاره عن الحرية والديمقراطية. هذه المسافة الفاصلة بين المثقف والسلطة السياسية هي الضامن الوحيد فقط لأن يبقى المثقف مستقلا عن السلطة وناقدا لها؛ إنها الوضع الصحي والطبيعي. ومثلما هناك المثقف المقموع في البلاد العربية هناك مثقف السلطة الذي يدافع وينافح عنها ويبرر أجنداتها. إن هذا الموديل من المثقفين، مثقفي السلطة، أصبح مثل السيل العرم ومنتشراً في كل حدب وصوب. ومهمة هذا النوع من المثقفين، بالإضافة إلى تبرير ممارسات السلطة السياسية ومباركتها، الإنابة عنها في إخراس الأصوات المعارضة وتجهيل المواطنين. وهنا تلعب السلطة كل الأدوار إلى درجة يمكن معها وباستخدام المثقفين الموالين لها الترويج بأن السلطة السياسية ديمقراطية وليبرالية وحداثية بل وحتى علمانية. وتتبنى السلطة السياسية في هذا السياق أطروحات حداثية وتقدمية لتقديم صورة مشرقة عن النظام السياسي. وحين يكون النظام السياسي في أزمة مع المثقف يتم استدعاء الدين لتوجيه ضربة معاكسة. وعن طريق التوظيف المتبادل لهذه البروباجاندا يتم خداع المواطن وتشويهه وتزييف وعييه من خلال تسويق وجه مغاير ومختلف تماما لحقيقة السلطة السياسية. وباستمرار مثقف السلطة في التطبيل والتزمير وتقديم خطابات تنويرية وتقدمية في حق السلطة العربية السياسية يتحول تدريجيا إلى “طرطور” في يد السلطة على استعداد تام لبيع كل شيء – بالمعنى الحرفي لكلمة بيع - للسلطة السياسية. وإلى جانب المثقف “الطرطور” هناك المثقف الذي اختار أن يكون جالسا على الزاوية لا ينبس ببنت شفة عما يدور حوله إما خوفا من بطش السلطة، وإما جهلا بمعنى وجوده في هذه الحياة، والأكثر من ذلك جهله بمعنى الإبداع والفكر والفن وصلتها بالحياة اليومية المعاشة. هذا هو المثقف الصامت أو المثقف “اللاأدري”. وبين الدورين اللذين يلعبهما المثقف “الطرطور” والمثقف “اللاأدري” يكون الرابح الأكبر هو السلطة السياسية. ويغيب عن مثقف السلطة أنه بالنسبة إليها مجرد أداة لتمرير مخططاتها مثله مثل الخطاب الديني. أما بالنسبة إلى السلطة السياسية فإنها على استعداد للتخلي عن أي مثقف “طرطور” إذا فشل في تنفيذ مخططاتها أو فضح أحابيلها بالخطأ وأعلنها للغير.

لكن السلطة في البلاد العربية المسيطرة على كل شيء ظاهريا لا تتلاعب بالديني والثقافي فحسب، بل بكل شيء يمكنه إبقاءها متحكمة في مصائر الناس إلى الأبد. إن الأدوار التي تنيطها السلطة بالديني والثقافي ليست كافية لإحكام القبضة على الشعوب في زمن الاتصالات والقرية الكونية، وعليه فلا بد من السيطرة حرفيا وعمليا على كل منفذ. وهنا يتم استدعاء المرأة وقضاياها إلى المقدمة. والآن وقبلا، في معظم البلاد العربية، يتم الترويج لقضايا المرأة إعلاميا وشعبيا، وتقوم السلطة السياسية بإدخالها إلى “البرلمانات” وتعيينها في مناصب قيادية. والهدف المعلن من هذا هو وضع المرأة في طور متقدم اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وإشراكها في صنع القرار. لكن الحقيقة هي أن السلطة العربية السياسية – كما هي عادتها دائما - تتلاعب حتى بقضايا المرأة وتتخذ منها مطية لإكمال اللعبة بتفاصيل جديدة. إن الهدف من التلاعب بالمرأة هو توجيه ضربة إلى الإسلامويين من جهة أولى مع الإبقاء عليهم حلفاء لها في الوقت نفسه، وتوسيع “القاعدة الشعبية” “المؤيدة” للأنظمة الحاكمة من جهة ثانية، ومغازلة الغرب من جهة ثالثة. إنها بروباجاندا للضحك على الشعوب والاستهتار بها، لأن حقيقة واقع الحال يناقض تمامًا ما تروج له السلطة. الهدف النهائي من كل هذه التمثيليات والمساحيق هو إبقاء السلطة السياسية في السلطة إلى الأبد. وسواء أحليف السلطة السياسية كان الديني أم الثقافي أم المرأة أم الثلاثة مجتمعين فإن الخاسرالأكبر هو المواطن الذي يقضي جل حياته مخدوعا ومقهورا. لكن الحليف الأقوى والأقدر دائما على تنفيذ مخططات السلطة في غسل الأدمغة وتضليل الناس هو الديني بامتياز.

المثقف بعد كل شيء هو المواطن. وإذا وضع المثقف نفسه في برج عاجي واعتقد بأنه مواطن متميز لأنه كاتب ومبدع وفنان ومفكر، فإنه في الحقيقة والواقع يحتقر نفسه وإبداعه وفكره وفنه، لأنه يعتقد خطأ أن الفن والفكر والإبداع مناطق معزولة عن الواقع. المثقف الكاتب والمفكر والفنان والمبدع صاحب مهنة هي الكتابة والفكر والفن والإبداع، مثله مثل أي مواطن آخر يعمل في أي مجال كان. هكذا يقول أبو زيد: “حقوقنا كمثقفين لا تنعزل ولا يجب أن تنعزل عن حقوق أدنى مواطن في أدنى بقعة من العالم العربي. إذا عشنا بهذا الإحساس بالصفوة، هذا الإحساس بأننا فوق البشر، بأننا لنا ميزات لأننا نعمل بالفكر، هذا خطأ يجب أن نتحرر منه، الفكر عمل والرجل الذي ينظف الطريق يعمل، هذا عمل وهذا عمل، وإجادة هذا العمل لا تقل عن إجادة هذا العمل الذي يُسمَّى الفكر. الفكر عمل، الفكر ليس ميزة، كوننا مثقفين، وكوننا نفكر، وكوننا نؤلف كتبا، وكون أن هناك قنوات يمكن أن تعبر عنا، لا يجب أن تكون ميزة. الدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المواطن يجب أن تكون في القلب من دفاعاتنا وألا يكون هناك أي مهادنة في هذا الدفاع”.(82)

وحين يدرك المثقف العربي أنه مثقف مسؤول تجاه ما يحدث للمواطنين من ديكتاتورية وفساد وقمع وغطرسة فسيستقل عن السلطة، وسيكون مثقفا فاعلا وليس متلقيا سلبيا لأفعال السلطة. لكن هذا “المشروع” لم يكتب له النجاح بعد فما يزال المثقف العربي –مع استثناءات قليلة- غارقا في النرجسية: “لقد آن الأوان للمثقف العربي أن يقطع الحبل “السري” الذي يربطه دائما بالسياسي تأييدا أو رفضا، فيظل يدور في إطار “رد الفعل” دون “الفعل”. إن مهام الثقافة الوطنية، ثقافة الحرية والاستنارة والعقلانية، لم تنجز بعد رغم مرور أكثر من قرنين على بداية عصر النهضة. لقد كان كل إنجاز تعقبه كبوة لا تقضي عليه فحسب، بل تدفع الوضع إلى الوراء خطوة أو خطوتين. وعلينا الآن أن نتدارس الكبوات جيدا ونفهم أسبابها، وفي ظني هنا أن من أهم أسباب انحسار إنجازات الثقافة الوطنية أن التنوير الذي تم هنا أو هناك ظل يتحرك في إطار “النخب” دون أن يطال عمق المجتمع. الدليل على ذلك أن مظاهر التحديث التي صاحبت أفكار التنوير لم تكد تتجاوز المدن الكبرى، بل بعض أحيائها، دون القرى والكفور والنجوع. والحال كذلك فمهمة المهمات التي ينبغي أن نحملها على عاتقنا وتشغلنا هي كيف يصل التنوير إلى مستحقيه، وكيف السبيل إلى خلق جدار مقاومة صلب من “الناس” ضد الانكسارات والتراجعات؟ ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يحس الناس صوت المثقف في قضاياهم، لأن أصوات المثقفين تعلو اعتراضا واحتجاجا حين يقصف قلم أو يعتقل مفكر أو يقتل كاتب، لكنهم لا يرون المواطن المهان دائما في كل لحظة من لحظات اليوم. إن المثقفين يعيشون بوعيهم في العواصم ويكتبون عن الفقراء وحين يتحول دفاع المثقف عن “حقوق الإنسان” إلى دفاع عن حق المواطن في أن يتنفس هواء نظيفا ويشرب ماء نظيفا ويأكل طعاما غير فاسد، وهي تندرج تحت مفهوم حقوق الحيوان أساسا، فربما يحس هذا المواطن أن المثقفين مواطنون مثله وليسوا جزءا من جهاز السلطة القمعي. هنا يستعيد المثقف مواطنته، وقد تستعيد الثقافة وطنيتها”.(83)

وإذا كان الإنسان بشكل مطلق يمتلك وعيا من أي نوع فإنه يصح القول بأن كل الناس مثقفون بشكل أوبآخر. وبناء على هذا المواطنون كلهم مثقفون بطريقة أو بأخرى يحددها مقدار وعيهم بذواتهم ومحيطهم الذي يعيشون فيه. ويجب تغذية هذا المفهوم عند كل المواطنين. إن علينا تأصيل مفهوم “المواطن النقدي” بتعبير أبو زيد في سياق مشابه. المواطن النقدي هو المواطن الناقد والمتفحص لممارسات السلطة السياسية أو أي سلطة كانت. المواطن النقدي هو المواطن الذي يعي أن توفير الكهرباء والماء والشوارع وطرق الاتصال والنظام الصحي المتكامل وسبل العيش الكريم ليست منة أو امتيازات من السلطة الحاكمة بل إنها أبسط الحقوق التي على الدولة توفيرها وعلى أحسن ما يكون. وحين يصل المواطن إلى هذا الوعي البديهي والطبيعي عليه أن يسائل السلطة في حال فشلها في توفير هذه اللزوميات والأساسيات. ومن ثم عليه أن يسائلها عن حقوقه باعتباره مواطناً في حرية التعبير والانتخاب والاعتراض على سياساتها وإنشاء الأحزاب المعارضة. فقط حين نصل إلى هذا المستوى من الوعي بوجودنا في هذا العالم سنستطيع تحقيق تقدم على صعيد حياتنا كلها وحياتنا السياسية بشكل خاص. وأيضا مع أبوزيد: سنحقق وجودنا بوصفنا مواطنين لا رعايا. إن أبسط نتائج التحقيق العملي للمواطن النقدي في بلادنا العربية هو القضاء على مفهوم المثقف “الطرطور” الذي لن يجدي السلطة نفعا حينها فكل المواطنين عارفون لحقوقهم، كما أن المثقف “اللاأدري” سيضمحل وسيبقى دائراً حول نفسه دون أن يجرؤ على نفسه أبدا وعلى رفع رأسه قليلا ليرى أنه لم يدر عن أي شيء في حياته أبدا بما في ذلك إبداعه نفسه.

لكن تحقيق مفهوم “المواطن النقدي” في وطننا العربي الكبير قد يكون نوعا من اليوتوبيا؛ فالسلطة السياسية الحاكمة تسيطر على التعليم والجامعات والأرزاق. إنها تشوه المواطن عن طريق تحويله هو نفسه إلى نوع من السلطة داخل الأسرة، فيقمع أبناءه وزوجته، وفي المدرسة يقمع طلابه وطالباته، وفي الجامعة يفعل المثل... إلخ. إن الهدف النهائي والأخير للنظام الحاكم هو السيطرة على كل شيء عن طريق كل شيء بما في ذلك الماء والهواء والشجر والحجر، وصولاً إلى تنفيذ المخطط بالكامل: ألا وهو تركيع المجتمعات. وبالرغم من كل هذه السيطرة إلا أن فضاء العالم المفتوح اتصالاتيا اليوم أصبح يخيف الأنظمة ويقض مضاجعها، لأن قطاعا كبيرا من الشباب العرب أصبحوا يجدون منافذ لهم للتعببر عن حقوقهم وقول: لا لسلطة الديكتاتورية والفساد. هذه هي الأنظمة العربية؛ إنها بعد كل شيء أنظمة فاشلة ومهترئة بامتياز، بالرغم من كل ما تبديه من تماسك وغطرسة. إنها أنظمة خسرت كل الحروب مع العدو الحقيقي على أرض المعركة الحقيقية. وحين فشل العسكر في أرض المعركة الحقيقية وعرفوا خيباتهم وفشلهم الذريع وأدركوا أنهم ليسوا معدين لحروب حقيقية أداروا كل قواهم العسكرية نحو الداخل لقمع كل الأسئلة عن هزيمتهم في أرض المعركة الحقيقية. وهنا صارت البلاد العربية مسرحا لعبث العسكر الفاشل والعاجز عن حماية حدوده الخارجية. وإلى هذا العسكر أسندت مشاريع التنمية والتعمير وبناء الإنسان!. وبالنسبة إلى تلك الجيوش التي لم تشارك في أي حرب يكفي أن نعرف أنها، إلى جانب أجهزتها الاستخبارية والأمنية بل وحتى مؤسساتها المدنية والاقتصادية، من صنيع المستعمر وتصميمه.

وهكذا يكون القمع والتسلط على البشر نتيجة طبيعية للفشل السياسي لأنظمة مهزومة ومهترئة. إنها أنظمة خائفة أساساً من المواطن ومما يكتبه ويقوله: “نحن نعيش في نظم سياسية أمنية، في دولة أمنية. قبضة الأمن في رقاب الناس في كل مكان. أحدهم قال لي: من حقك أن تطلب اعتذاراً. قلت له: الأنظمة دي حتعتذر لمين ولاّ لمين ومين. أنا شخص معروف وأي قهر ضدي يغطى إعلامياً. لكن ماذا عن القهر الذي يطال المواطن العادي؟ ماذا عن القتل اليومي للمواطن في أقسام الشرطة وللطلاب في أقسام المحاضرات. حين تقول لولد في المحاضرة: إخرس. أستاذ جامعة يقول لتلميذه إخرس ما تبقاش سخيف. هذا نوع من القهر أيضاً. لا أريد أن أصنع من نفسي شهيداً وضحية. لكن هذه المجتمعات تعبر عن ثقافة بائسة، وأنظمة ديكتاتورية أشد بؤساً. والشكل الوحيد لحماية هذه الأنظمة الديكتاتورية أن تشارك المتطرفين في مطاردة أي فكر نقدي. لأن الفكر النقدي يهدد السلطة أيضاً. الفكر النقدي لا يتحدث فقط عن التاريخ والتراث. الفكر النقدي إذا كان يهدف إلى تحرير الناس من سلطة النصوص فإن أول هذه السلطات هي الديكتاتورية. أنا أحتقر هذه السلطات رغم أنني لا أعتبر أن هذه السياسات موجهة ضدي شخصياً. هذه السلطة تخاف من رواية، من قصيدة، من لوحة، من أغنية. المشكلة أن الحكومات تتبنى ثقافة الإقصاء هذه قبل الجماعات المتطرفة. ثقافة البؤس هي الثقافة المعادية لأي شكل من أشكال الفرح الإنساني. الفرح الإنساني جزء منه الاستمتاع بالمعرفة، والاستمتاع بالموسيقى والأغنية والقصيدة، الاستمتاع بالجمال، جمال الناس وجمال الطبيعة. شوارعنا قبح، إعلامنا بشكل عام قبح، الوجوه التي تطالعنا أحياناً فيها قبح. فساد سياسي، فساد اقتصادي، فساد اجتماعي “.(84)

وأمام هذا الفساد الجارف الذي وصلت إليه الأنظمة العربية، ومعه أفسدت الحياة كلها، لن تجدي كل محاولات صبغ الوجه السياسي العربي بالمساحيق وآخر الصيحات في عالم المكياج، والسبب في ذلك هو أن قبح ذلك الوجه أشنع من أن تجمله أي عملية تجميل. كان أبو زيد مثالا حيا على المواطن المثقف المستقل، وكل كتاباته مكتوبة بعقل وقلب المواطن، بما في ذلك كتابه المفصلي “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”. وختاما لهذا الباب الذي طرحنا فيه رؤى أبو زيد التأويلية المتأخرة في محاضرته التدشينية لاعتلاء كرسي ابن رشد في جامعة الإنسانيات بيوترخت في هولندا، ويمَّمنا قضايا المثقف العربي والسلطة السياسية العربية والخطاب الديني سريعا، لا بد من المرور سريعا الآن على قضية تكفير أبو زيد في 93-1995م وما لها وما عليها.

(9) «التفكير في زمن التكفير»: أبو زيد يهزم مكفريه

سبق أن عرضنا سريعا المواقف التي آل إليها معظم علماء عصر النهضة المصريين- القرنين التاسع عشر والعشرين - بفعل ردات الفعل التي قوبلوا بها من المجتمع والجامعة والسلطة الدينية ممثلة في الأزهر والخطاب الإسلاموي السياسي، والتي تمت كلها تحت نظر السياسي وعلمه. لكن مع أبو زيد في تسعينيات القرن المنصرم كان الأمر مختلفا تماما. وبالرغم من شراسة الهجوم الذي تعرض له على الصعيدين الشخصي والأكاديمي في بيئة فاسدة سياسيا ومهنيا إلى أبعد الحدود، إلا أنه بقي متماسكا وقويا ولم يقدم أي تنازلات عن مشاريعه الفكرية حتى لحظة وفاته في يوليو الفائت. لقد كان أبو زيد على وعي ذكي بما حدث لعلماء النهضة المصريين والمفكرين المجايلين له في مصر وداخل أسوار الوطن العربي. المعادلة التي فهمها أبو زيد كان مغزاها أن أي تراجع عن أفكاره معناه العودة معرفيا وعمليا إلى المربع الأول، وهو أمر لم يكن ليقبل به أبدا، خصوصا في ضوء إنجازاته المعرفية النوعية المتعلقة بالفكر الإسلامي بشكل عام والفكر القرآني بشكل خاص. وهنا فضل أبو زيد الارتحال إلى هولندا لمواصلة العمل والتفكير في بيئة مهنية صحية. ولا بد من الإشارة إلى أن هجرته القسرية إلى هولندا كانت لتفادي الاغتيال المادي الذي كان يخطط له المتطرفون الدينيون في مصر المدعومون خطابيا من الإسلام السياسي “المعتدل”. لكن اغتيال أبو زيد معرفيا كان أمرا مستحيلا، ذلك أن مكفريه الذين كان منهم أكاديميون متخصصون، كانوا على درجة عالية غير مسبوقة من التهافت المعرفي، إلى درجة أن منهم من لم يكن يفهم مغازي كتابات أبو زيد الفكرية، وهو من هو في حقل الدراسات اللغوية!. هذا ناهيك عن باقي المتنطعين والمتعالمين الذين ذهبوا مع ركب التكفير دون أن يقرأوا حرفا واحدا من كتاباته. وفي الجانب الآخر كان أبو زيد المفكر في مرحلة اختبار قاسية لأفكاره وأبحاثه العلمية التي اختُبِرت في محنة التكفير وخرج بها منتصرا بامتياز، ذلك أن طرازه الفكري كان أكثر صلابة وعمقا من الذين تنازلوا عن أفكارهم من علماء عصر النهضة. ومرة أخرى فإن الهزيمة التي ألحقها أبو زيد بمتزلفي الخطاب الديني الإسلاموي تحسب له وحده فقط حتى مع وقوف الجامعة - ممثلة في كلية الآداب وقسم اللغة العربية وبعض أساتذتها معه - لأن النتيجة النهائية هي أن جامعة أبو زيد – جامعة القاهرة - خسرت الرهان مجددا في 1995، وكانت قد خسرته مع الشيخ المفكر أمين الخولي بإجباره على التقاعد القسري - من قبل السياسي - في 1954م، وحرمانه من الإشراف على الدراسات الإسلامية، وقبل ذلك مع تلميذه المفكر أحمد محمد خلف الله في 1947. كانت خسارة الرهان متمثلة في فشل الجامعة في الحفاظ على بنيتها الأكاديمية من الانهيار أمام السيل العرم والهجوم الذي جاءها من داخلها وخارجها على السواء.

لكن محاكمة فكر أبو زيد لم تنته في 1995 بإعلانه مرتدا بحكم المحكمة، وإصدار حكم بتطليقه من زوجته الدكتورة ابتهال يونس فحسب، بل استمرت في أدبيات الخطاب الديني والإسلام السياسي بشكل عام. وقد قاد عبد الصبور شاهين - رحمه الله - بنفسه تلك الحملة التكفيرية في مسجد عمرو بن العاص الذي كان يؤمه، وانبرت سلسلة من المكفرين في طول البلاد وعرضها تتناقل كلام شاهين وآخرين من أشاوس التكفير. ويسرد أبو زيد بعض تفاصيل هذه الحملة التكفيرية بقيادة شاهين في سيرته الذاتية المنشورة بالإنكليزية في 2004. وفي الخامس من أغسطس من عام 1996 أيدت المحكمة العليا حكم محكمة الاستئناف بالتكفير والتفريق بين الزوجين الصادر في 14 يونيو 1995. وعند صدور حكم المحكمة العليا المؤيد لحكم الاستئناف كان أبو زيد وقتها غادر مصر إلى المنفى: هولندا. وقوبل حكم التأييد من المحكمة العليا بغضب واستنكار شديدين من المثقفين المصريين الذين يصف معظهم اليوم الخامس من أغسطس 1996 ذاك بأنه أحلك يوم في تاريخ مصر.(85)

وفي القاهرة 93-1995م جاء رد أبو زيد على حملة التكفير من داخل وخارج الجامعة قويا وحاسما وذا دلالات تاريخية مهمة جدا، في مصر على وجه الخصوص، والعالم الإسلامي على وجه العموم. لم يكتف أبو زيد، بعد حملة التكفير ضده التي لم يسبق لها نظير في التاريخ المعاصر، بالرد على اتهامات التكفير واحدة واحدة، بل قام في خط متواز مع الرد بتعميق منهجه الفكري، وإثبات صحة النتائج التي توصلت إليها كتاباته قبل التكفير، وعلى الأخص النتائج التي توصل إليها في الطبعة الأولى من كتابه “نقد الخطاب الديني”. وعلاوة على إثراء كتابيه “نقد الخطاب الديني” و”الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية”، بعد حملة التكفير قام بتوسيع شرح وتحليل مفهوم التاريخية وعلم تحليل الخطاب بشقيه الهرمنيوطيقا والسميوطيقا التي تقوم عليها كتاباته في الحقل الإسلامي بشكل عام والقرآني بشكل خاص. وواقع الأمر أن كتاب “نقد الخطاب الديني” على وجه التحديد كان السبب الرئيس في تكفيره، إذ إن عبد الصبور شاهين قرأ فيه ما يخصه بشكل مباشر، فعلاوة على التحليل الذي يقدمه أبو زيد لسلطة الخطاب الديني في الكتاب وتوحد منطلقاتها الإيديولوجية مع السياسي فإنه يكشف فيه عن أثر تلاعب الخطاب الديني في مصر بعقول الناس، وهو التلاعب الذي شهدت عليه فضيحة شركة الريان للاستثمارات الإسلامية التي نهبت أموال المصريين تحت دعاوى الاستثمار الحلال، والتي كان شاهين وغيره من ممثلي الخطاب الديني من الذين روجوا لها وقدموا فتاوى داعمة لمخططاتها. والغريب المستغرب في شأن تكفير أبو زيد هو أن شاهين – أحد أعضاء لجنة ترقية أبو زيد - لم يكن قد قرأ أيا من كتب أبو زيد قبل موضوع الترقية!: “أعتقد أن شاهين غضب بعد قراءته صفحات مقدمة نقد الخطاب الديني ... وفي تقريره لم يعلق على الجزء الأكبر من أعمالي البحثية، كما أنه لم يناقش منهجي الفكري. وعندما قرأ الأساتذة في القسم الذي أعمل فيه تقريره الذي رفض ترقيتي إلى درجة الأستاذية اعترضوا على ذلك وكتبوا رسالة إلى عميد الكلية. وقد كتبوا في التقرير أن شاهين لم يكن مواكبا للبحث العلمي في تقريره، كما أنه لم يكن مطلعا على التطورات النظرية في علوم مثل السميوطيقا. كما أن الأساتذة كانوا على قناعة بأن شاهين إما أنه لم يقرأ كتاباتي أو فشل في تقدير أعمالي بالكامل... وختاما كتبوا بأن شاهين كان يقدم حكما عن إيماني وليس عن مؤهلاتي الأكاديمية”.(86)

وفي حواره مع البي بي سي العربية في 1995 قال أبو زيد بشكل لا يقبل التأويل إنه لا تراجع عن أفكاره وكتاباته مهما حصل: “لن أتنازل عن أفكاري من أجل هذه الحفنة من الأفاقين وشذاذ الآفاق الذين يتمسحون بالإسلام ويرقصون حول جثة الضحية- كما تفعل القبائل البدائية- التي سيتناولون لحمها... أنا لا أتمسك بأفكاري من أجل العناد لكن لأنه لم يقنعني أحد عن طريق البرهان العقلي والجدل الفكري بأن هناك خطأ فأنا متمسك بها، أفكار الآخرين سواء عبد الصبور شاهين أو تلامذته وأشياعه هي أفكار فلماذا تعتبر أفكارهم الدين الحقيقي الذي يحكم على أفكاري بالكفر؟ ... “مستطردا في الإجابة عن أسئلة الإعلامي فيصل القاسم الذي حاوره وقتها: “حضرتك عارف اللي بيحصل للفنانين الآن، سيكف الفنان عن الرسم والتشكيل بحجة أن ذلك صنع للأصنام، وسيكف المغني عن أن يغني والموسيقي عن أن يقدم موسيقى. باختصار سنكف عن أن نكون بشرا، وسنعود إلى مرحلة الحيوانية. لن يتجرأ باحث بعد الآن على أن يقدم بحثا حقيقيا. سيكتفي كل الباحثين بتكرار ما سبق قوله في الكتب القديمة، هذه أأمن الطرق. إذن نحن نحارب الإبداع، نحن نجمد الدلالات الرفيعة للإنسان في القرآن ... أنا أطالب بحوار فكري على أرض متساوية ... لا يمكن حسم الخلاف الفكري إلا بالحوار الفكري وليس عن طريق المحكمة ... من الذي أعطى لنفسه حق في أن يكون إلها ينطق بالحق وما سواه باطل؟!”.(87)

لكن شاهين نفسه تعرض لهجمة تكفيرية فيما بعد بسبب كتابه الجدلي “أبي آدم”. وفي هذا الكتاب حاول شاهين إثبات أن آدم جاء من أب وأم، وهو خلاف القصة القرآنية عن آدم الذي خلقه الله مباشرة من تراب. ويصف أبو زيد كتاب شاهين بأنه محاولة للمزاوجة بين الداروينية والقرآن. والمفارقة في قصة تكفير شاهين هي أن المحكمة برأت الأخير خلافا لما حصل لنصر أبو زيد. وقد وقف أبو زيد المفكر والمواطن ضد تكفير شاهين، واعتبر الأمر برمته حربا على حرية التفكير. وعند سؤاله من قبل أحد الصحفيين هل ما إذا كان يدعم شاهين في قضية تكفيره أم لا أجاب أبو زيد: “نعم، بكل تأكيد أنا أدعمه... وسأدافع عن حقه في حرية الكتابة”. ويردف أبو زيد في سيرته الذاتية تعليقا على ما حدث لشاهين :”كيف يمكنني أن أكون سعيدا عن التكفير الذي يلاحق شاهين بنفس الطريقة التي لاحقني بها؟ أعتقد أنه إذا لم يكن بإمكانك الدفاع عن خصمك في حالة مثل هذه فلن تستطيع الدفاع عن نفسك. عندما ندافع عن خصومنا الإسلامويين فنحن في الحقيقة ندافع عن أنفسنا، وأنا لا أعني بالدفاع الدفاع عن مصالحهم، لكنني لا أستطيع الدفاع عن مبادئ الحرية واستثناء الإسلامويين منها”.(88) وهكذا يكون دفاع أبو زيد عن شاهين وأمثاله هو دفاع عن حق الكاتب في التفكير والكتابة بحرية. إنه ليس دفاعا عن شاهين المكفر بل شاهين المفكر. ولكن الرأي العلمي لأبو زيد في كتاب “أبي آدم” هو أنه كتاب ضعيف جدا وهزيل ولا جديد فيه: “لم يقدم شاهين أي جديد، وأنا لا أعطي كتابه قيمة فكرية عالية. حاول شاهين أن يظهر في كتابه وكأنه مفكر ليبرالي، لكنه وقع في أخطاء لا يقع فيها طالب المرحلة الجامعية الأولى عند كتابته بحثا”.(89) ومع كل ما جرى لشاهين بقي شاهين هو شاهين وبقي نصر أبو زيد هو نصر أبو زيد، والفارق بينهما فارق بين التقليدية والرجعية، والتخلف عند الأول والتقدمية والليبرالية عند الثاني.

لكن تكفير أبو زيد والمزايدات عليه استمرت حتى بعد وفاته. وقد خرج عميد التكفيريين في مصر في إحدى الفضائيات في نفس اليوم الذي ووري فيه جثمان المفكر الراحل الثرى محضرا كتب الخصم – كتب أبو زيد - معه إلى الأستوديو كعادته، وقال في حق أبو زيد كلام الوعاظ المحرضين والمعروف عنهم فيما يخص فكر أبو زيد. وكان من بين الكتب التي أحضرها كتاب “مفهوم النص”. والمثير هذه المرة مع عميد التكفيريين أن كتاب مفهوم النص الذي رفعه عدة مرات أمام الكاميرا كان فيما يبدو مصورا ومغلفا بغلاف بلاستيكي شفاف. وأخذ عميد التكفيريين – كعادته - يكيل الاتهامات لأبو زيد ويتهمه بأنه يقول إن الله أسطورة في كتابه مفهوم النص. بل ويتهمه أيضا بأنه لا يذكر القرآن بتاتا في الكتاب بل إنه يصف القرآن بالنص فقط. وقد فات عميد التكفيريين يوسف البدري أن عنوان الكتاب الكامل هو “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، وفات مقدمة البرنامج - التي كانت معنية بالإثارة أكثر من الحقائق - أن تطلب من البدري إخراج النسخة التي في حوزته من كتاب “مفهوم النص” من غلافها البلاستيكي، وأن يقرأ عليها وضيفها الآخر والمشاهدين العبارات من “مفهوم النص” التي تقول إن الله أسطورة! لقد كان خصوم أبو زيد في نهايات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين هم أنفسهم خصوم المعتزلة - مع الفارق - في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (الثالث والرابع الهجريين )(90) إنهم “التَّقليديّون الذين ثبَّتوا التَّفسيرَ الحَرْفِيَّ لكلِّ الآياتِ القرآنيَّةِ، إلى الحدِّ الذي جعلهم يؤكِّدون الواقعَ الوجوديَّ لكلِّ الصِّفاتِ الإلهيَّة، وكلِّ الصُّورِالأُخرويَّةِ، بل وأقرّوا حتَّى فكرةَ إمكانيَّةِ رؤيةِ اللهِ بعيونِ البشر”.(91)

إن ما حصل لأبو زيد، كما سبقت الإشارة، هو نتاج الفساد السياسي في المقام الأول.هذا هو الحال الذي وصلت إليه جامعة أبو زيد في التسعينيات من القرن الفائت. وفي أوروبا تحدث أبو زيد مرارا وبمرارة شديدة عن سوء حال جامعته التي صارت مسرحا لتدخلات قوى سلطوية وقمعية وإقصائية أفقدتها قيمة كونها جامعة للعلم والمعرفة. ووصل سوء المآل بجامعة طه حسين وعبد العزيز الأهواني وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله وحسن حنفي ونصر أبو زيد مبلغا كبيرا يعبر عنه أبو زيد في أحد لقاءاته المتأخرة مع جريدة القدس العربي: “حين دعيت للمشاركة في الاحتفال في الذكرى المئوية لتأسيس جامعة القاهرة سنة 2008، تفاجأت أن الفاعلية نظمت في فندق. قلت: معقول أن الجامعة المصرية تحتفل بمئويتها في فندق؟ هذه جامعة “مكسوفة” من نفسها. خجلانة من روحها، زي ما تكون بتداري عورة”.(92) وإجابة على سؤال آخر، يضيف أبو زيد: “الجامعات في مصر تحولت إلى جوامع. جوامع بالمعنى السلبي طبعاً”.(93)

وبالنتيجة، لكل التراجعات التي شهدتها الحياة المصرية بسبب وصول الفساد السياسي إلى أقصى درجاته، شهدت مصر تراجعات كبيرة في نواح عديدة. وإنجازات الفكر النهضوي المصري تراجعت عنها هي الأخرى. إن التراجع الذي قدمه بعض مفكري النهضة المصريين ذهب خطوات أبعد من التنازل عن الأفكار التي كفروا بسببها. لقد وقف بعضهم ضد التجديد والسبب كامن في مدى وعيهم العلمي بالتراث وبواقعهم: “ولقد بدأ طه حسين والعقاد حياتهما مجددين على مستوى الفكر واللغة والأدب، وانتهى كل منهما محافظا رجعيا يقف في وجه تيارات التجديد التي انبثقت من أفكارهما الأولى. إن التجديد على أساس “إيديولوجي” دون استناد إلى وعي علمي بالتراث لا يقل في خطورته عن “التقليد”.(94) وبالنسبة إلى خلف الله- الذي طردته جامعة القاهرة ورفضت رسالته للدكتوراة -كما سبق ورأينا- فقد تراجع هو الآخر خطوات إلى الوراء، فبعد ثلاثة أشهر من رفض رسالته الموسومة “الفن القصصي في القرآن” قدم خلف الله بحثا آخر إلى الجامعة لنيل شهادة الدكتوراة يصفه أبو زيد بالمتهافت.(95)

وسبق ورأينا مع أبو زيد أن صدمة الحداثة التي جاءت مع الغرب المستعمر إلى العالم الإسلامي حرضت العلماء المسلمين على إعادة التفكير في تراثهم ومصادر المعرفة الإسلامية، وقد كانوا على وعي متفاوت بأن الإسلام بحاجة إلى تحديث. لكن صدمة مفكرين آخرين بحضارة الغرب وحداثته أحدثت حالة عسكية تماما. وهنا نذكر سيد قطب -الأديب والناقد والراديكالي فيما بعد- الذي ارتحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح فيما بعد منظر الإخوان المسلمين ومحرضا كبيرا على قيم الحرية والليبرالية وداعيا إلى العنف. آخرون أمثال خالد محمد خالد- بعد كتابه “من هنا نبدأ” الذي دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة- نحا منحى تقليدياً في كتاباته. آخرون مثل محمد عمارة -وهو واحد من أهم من قدموا وحققوا كتب علماء النهضة أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق- ومصطفى محمود- رحمه الله- وفهمي هويدي وقفوا في صف الإسلام المحافظ. وقد كان لهؤلاء الثلاثة الأخيرين موقف سلبي جدا من قضية تكفير أبو زيد. لكن الوجه الآخر لقضية أبو زيد كان مشرقا جدا، إذ وقف عقل مصر وضميرها ممثلين في عدد كبير من مثقفيها وكتابها وحقوقييها في وجه حملة التكفير من 1993 وحتى هذه اللحظة. وجمع أبو زيد كتابات الذين وقفوا معه في وجه حملة التكفير في كتاب “القول المفيد في قضية أبو زيد”.

وبالنسبة إلى أبو زيد - في سياق حملة التكفير ضده - بقي القرآن، منذ مبحثه الأول في 1976 وحتى لحظة وفاته، كلام الله. ولا يوجد في كتب أبو زيد كلها ما يقول عكس ذلك. وفي محاضرته الآنفة الذكر في نسختها الإنكليزية – الموجهة إلى القارئ الغربي بشكل أساسي - يصدر أبو زيد افتتاحية استهلاله التأويلية للسور والآيات التي عرضناها بالقول: “القرآن كلام الله، لا خلاف حول هذا المعتقد”، وهو التصريح الذي يثير حيرة العلمانيين والإسلامويين معا!، ولكن أيضا مع أبو زيد القرآن ليس كلام الله الحرفي. إن مجرد إثارة هذا الأمر تثير حساسية العقل المسلم اليوم مع أنه موضوع مطروق في التراث المتأخر: "كيف سنتعامل مع ما صرح به عالم القرن الخامس عشر الموسوعي جلال الدين السيوطي (ت: 1505) من أن النبي محمد استقبل الوحي (القرآن) فقط في محتواه وأن الصياغة الفعلية للقرآن هي من عند النبي محمد نفسه؟ اليوم، لا يمكن مناقشة هذه الفكرة بل وحتى التطرق إليها في العلن. لقد خسر الناس حياتهم في الحديث عن هذا الموضوع .(96) وهكذا إذن يكون معنى القرآن، على الأقل طبقا للسيوطي، من عند الله أما لفظه فهو من عند النبي محمد. وقد سبق ورأينا مع أبو زيد أن تصور الله متكلما يخلق مشكلة لاهوتية معقدة. وقد تعرض المعتزلة لإشكالية اللغة بشكل عام ولغة الوحي بشكل خاص، وناقشوا بشكل معمق نظرية الاصطلاح والمواضعة والتوقيف من الله للغة في هذا الخصوص. وعودا على سياق الحديث عن تأويل أبو زيد القرآني الذي عرضناه فإنه يمكننا القول إن أبو زيد يعيد الاعتبار في الغرب إلى القرآن بوصفه كتابا روحيا وأخلاقيا عظيما. إنه ليس كتابا في القانون أو التاريخ أو العلم بل كتاب موعظة وهداية -إذا استخدمنا كلمات الأستاذ الإمام محمد عبده. وبالمثل يعيد أبو زيد الاعتبار إلى الإسلام بوصفه دينا روحيا وأخلاقيا عظيما. وبالمثل أيضا يعيد الاعتبار، في أوروبا على وجه التحديد والغرب عموما، إلى العلماء المسلمين الحقيقيين الذين قاموا بتجديد مفاهيم الإسلام وتحديثه ليستجيب بإيجابية للتطورات التي شهدتها مجتمعاتهم. ناهيك عن إعادة الاعتبار إلى الفلسفة والتصوف الإسلاميين، خصوصا عند كل من ابن رشد -”تراث العرب تنوير الغرب” - ومحيي الدين بن عربي... إلخ.

(10) أبو زيد ونقد الغرب:

في 2006، في هولندا، صدر كتاب أبو زيد الأخير “إصلاح الفكر الإسلامي: تحليل تاريخي نقدي”، بالاشتراك مع باحثَين آخرَين. وفيه يواصل أبو زيد قراءته وتحليله للفكر الإسلامي ومفكريه في كل من إيران والهند وباكستان وإندونيسيا ومصر. ويعد هذا الكتاب – الذي يتقاطع مع المحاضرة الآنفة الذكر - استكمالا للنقاشات التي قدمها أبو زيد في محاضرة كرسي ابن رشد. ويناقش أبو زيد في الكتاب أسئلة الحداثة المؤرقة للعلماء المسلمين في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين مع توطئة تناقش الفكر الإسلامي والحالة السياسية للعالم الإسلامي قبيل مرحلة الاستعمار. وعلاوة على ذلك يقدم أبو زيد قراءاته في أفكار العلماء والمفكرين المعاصرين (على الأقل حتى وقت قريب) أمثال الجزائري البارز محمد أركون – رحمه الله - والإيراني البارز عبد الكريم سروش وعبد الله النعيم ورفعت حسن وطارق رمضان. أثار هذا الكتاب جدلا واسعا في الأوساط الأكاديمية الهولندية، وكان مصدر ذلك الجدل هو أن أبو زيد يُذَكِّرُ العقل الغربي دائما وأبدا بمسؤوليته عن تحطيم العالم الإسلامي في عصر الاستعمار. الأمر الآخر الذي أثار ضجة حول الكتاب هو أن أبو زيد يرد على المشروع الأمريكي -ناهيك عن إدانته- الداعي إلى تجديد الفكر الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وينبه إلى أن تجديد الفكر الإسلامي، أولا، هو حاجة ضرورية للمسلمين خارج نطاق أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وثانيا، أنه لا جديد في الدعوة الأمريكية لأن العلماء المسلمين كانوا منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن منخرطين في عملية من إعادة التفكير في كل مصادر المعرفة والشريعة الإسلامية وعلى رأسها إعادتهم للتفكير في القرآن نفسه. ولن ندخل في عرض أفكار أبو زيد عن المفكرين الذين يناقشهم في الكتاب، لضيق المقام هنا، ومن بينهم من عرضنا أفكاره، في سياق المحاضرة التدشينية المفصلية أعلاه. وفي نفس السياق، سياق نقد أبو زيد للغرب، يعيد أبو زيد في أكثر من مناسبة تذكير العقل الغربي العلماني من خلال هولندا بأنه هو الذي أنشأ دولة لليهود في فلسطين عام 1948 على حساب الفلسطينيين، وأنه هو أيضا من أنشأ دولة للمسلمين في شبه القارة الهندية هي باكستان في 1947 على حساب الدولة الأم الهند، وتحديدا على حساب مشروع غاندي الوحدوي المؤسس على الدولة الوطنية!، وبهذا تكون بريطانيا الاستعمارية مسؤولة تاريخيا وأخلاقيا عن الحدثين كليهما.

إن قوة شخصية أبو زيد وجسارته الفكرية والنقدية حاضرتان دائما ليس فيما يخص العالم الإسلامي وحده بل أي سلطة استبدادية أخرى أيا كانت. وقد وجه نقدا لاذعا للغرب في أكثر من مناسبة وسياق. وفي رد استنكاري على تصريحات جورج بوش يوجه أبو زيد في سيرته الذاتية عددا من الرسائل الضمنية والصريحة إلى الغرب وأمريكا الاستعمارية على وجه التحديد: “مباشرة بعد حدث الحادي عشر من سبتمبر استمعت إلى الرئيس بوش يتحدث عن حاجة الأمريكيين إلى عدم المساواة بين الإسلام كدين وبين الجماعات المتطرفة في داخل الإسلام. لقد سررت لسماع ذلك... لكن سروري سرعان ما تبدد مع استمرار بوش في الحديث. أنا لست إسلامويا. لكنني شعرت بإقصاء تام حين سمعت بوش يتحدث عن “ثقافتنا، قيمنا، حريتنا، ومثلنا الديمقراطية”، واضعا “نحن” و”الآخر” جنبا إلى جنب، ملمحا إلى أن “الآخر” ليس متحضرا. إنني أنتمي إلى هذا العالم “غير المتحضر”. أنا ناقد لثقافتي لكنني لا أزال أنتمي إليها. إن هذا التصنيف لقيمنا “نحن” وقيم “الآخر” هو مجرد صناعة في عقل الإنسان في الغرب وموجود في عقل الإسلامويين أيضا. إنها نفسها عملية الإقصاء عند بن لادن عندما يتحدث عن الكفار (المسيحيين واليهود)، وبوش يتحدث عن ثقافتنا “نحن”، قيمنا “نحن”، حريتنا “نحن” ومثلنا “نحن” الديمقراطية. ماذا يعني بوش بـ”نحن”؟ إن الحرية والديمقراطية لا تنتمي بشكل اقتصاري إلى مجتمع بعينه”.(97) وفي تعليق موجه إلى انهيار قيم الحرية والديمقراطية في الغرب وذوبانها بعد أحداث 11 سبتمبر يعبر أبو زيد عن “إحباطه” من اللاجدوى التي وصلت إليها حالة العالم العربي في فلسطين خصوصا بالنظر إلى كل القتل الذي طال الفلسطينيين وكل الانتفاضات التي ستذهب سدى بعد أحداث سبتمبر، الأحداث التي تجب ما قبلها من دماء الفلسطينيين. إننا لن نستطيع أن نرى سوى الوجه القبيح للغرب: “قبل سنتين أو ثلاث فكرت بشكل جدي في أن أحمل حقائبي وأعود إلى مصر. ماذا أفعل هنا في أوروبا؟ أطور الفكر الإسلامي؟ إن هذا الهدف يثبت يوما بعد آخر أنه وهم... يبدو أننا نتجه إلى الوراء نحو الاقتصارية- الغرب بوصفه الظالم، الغرب بوصفه المعتدي، الغرب بوصفه المحتل. لقد كان محمد عبده قادرا على أن يفرق بين أهداف الاستعمار الغربي وبين القيم المفيدة التي قدمها الغرب. لقد ناضل ضد الغرب في استغلالهم للمسلمين وفي نفس الوقت احتضن الأجزاء المفيدة والقيمة في قيم الثقافة الغربية. اليوم، هذا التمييز غير موجود. بالنسبة إلى الجزء الأكبر من العالم العربي، فإن جيل الشباب يكره أمريكا... أنا على قناعة بأن جذور السياسية الأمريكية نحو إسرائيل مغروسة بقوة في أسطورة المسيحية الصهيونية”.(98)

ولأن أبو زيد، العالم الحقيقي، يحترم العلماء الحقيقيين ويقدرهم، فقد كان يحمل معزة خاصة لواحد من أهم العلماء العرب في الغرب. ذلك هو المفكر الفلسطيني العملاق إدوارد سعيد. وقد كان سعيد واحدا من بين ثلاثة أهداهم أبو زيد كتابه المهم والأخير بالعربية عن محيي الدين بن عربي “هكذا تكلم ابن عربي”. وإيمانا منه بأهمية هذا المفكر في العالم طلب أبو زيد من إدارة جامعة ليدن توجيه دعوة إلى سعيد والمستشرق البريطاني الأمريكي برنارد لويس لإقامة مناظرة علنية بينهما. وجاء رد إدارة الجامعة بالرفض!. وهنا وجه أبو زيد سؤالا استنكاريا إلى إدارة جامعة ليدن: “إذن ما الفرق بينكم وبين جامعة القاهرة؟!”. وبالنسبة إلى إدوارد سعيد فقد سدد ضربات موجعة إلى الغرب. إن كتابه – القنبلة - “الاستشراق” الصادر عام 1978 كان أكبر اختراق نقدي يوجه إلى العقل الغربي من مفكر قادم من الشرق. هذا ولا يزال هذا الكتاب يثير الكثير من الجدل في الغرب حتى الآن. ويمكننا أن نستنتج أن رفض إدارة جامعة ليدن لاستضافة سعيد هو خشيتها من إعطائه فرصة لتسجيل انتصارات فكرية أخرى على خصمه اللدود برنارد لويس.

(11) رؤية العالم في القرآن: وضوح أم غموض؟

في المؤتمر الذي عقد حول القرآن في جامعة نوتردام Notre Dame بإنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، في أبريل 2009، تحت عنوان “القرآن في سياقه التاريخي”، وجهت الدعوة إلى أبو زيد والمفكر الإيراني البارز والشهير جدا في الغرب عبد الكريم سروش - الأستاذ في جامعة طهران وهارفارد وكولمبيا سابقا وجورج واشنطن “حاليا” أو حتى وقت قريب - ليقدما محاضرتين افتتاحيتين للمؤتمر. مفتتحا المؤتمر بمحاضرة بعنوان “رؤية العالم المتعددة في القرآن” يستطرد أبو زيد في أسئلته عن القرآن وفيه وحوله، وهي أسئلة طرحها في 2004 إبان محاضرته لكرسي ابن رشد عن مرحلة ما قبل المصحف، وقد سبق وعرضناها آنفا. وهنا يسائل أبو زيد التراث الإسلامي مجددا عن الصياغة النهائية للقرآن التي وصلت إلينا في صورة المصحف الذي نعرفه اليوم. وبالعودة إلى تاريخ جمع القرآن يتساءل أبو زيد: “لماذا قام جيل المسلمين الأول، جيل الصحابة والتابعين، بوضع هذا الترتيب للقرآن؟ لماذا وضعوا السور الطوال في بداية المصحف والقصار في آخره؟ لقد كانوا على علم بترتيب النزول والمكي والمدني. إنه سؤال افتراضي. لكنني أعتقد أنه سؤال بإمكانه الإجابة عن الإشكال الذي نحن بصدده. عندما أنظر إلى القرآن في حالة ترتيبه التاريخي (ترتيب النزول) أتساءل كيف سيبدو؟ سيكون القرآن قصة عن حياة محمد، قصة عن حياة الجيل الأول من المسلمين. وإذن هل يكون القرآن والحالة هذه [في نظر الجيل الأول للمسلمين] غير عاكس لألوهية الرسالة؟ هذا سؤال واحد. والسؤال الثاني الذي أستطيع أن أفكر فيه هو أن الجيل الأول للمسلمين ربما لم يكن يريد القرآن أن يكون مشابها للإنجيل، لأن الإنجيل يبدأ بأصل الخلق ثم يمضي تباعا وكأنه كتاب في التاريخ. وإذن فلقد أرادوا أن يضعوا تمييزا بين بنية الإنجيل وبين بنية القرآن. ربما. وأريد أن أضيف شيئا آخر وأنا أفكر هنا بصوت عال. لماذا لم يسموه الكتاب؟ الكتاب هو أحد أسماء القرآن، “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، لماذا سموه المصحف؟ ربما أرادوا تمييز المجتمع المسلم الجديد عن مجتمعات أهل الكتاب، ربما أرادوا ذلك. ولكنني هنا سأعود إلى المصحف الذي بين أيدينا الآن لأنه هو الذي أنتج وأعاد إنتاج الثقافة التي نتعارف عليها اليوم بالثقافة الإسلامية. وهذه الأسئلة تفسر لي الاختلاف بين مقاربة المسلمين وغير المسلمين للقرآن. إن مقاربة المسلمين للقرآن تركز على مسألة المعنى وبالتأكيد دون تجاهل مسألة البنية والتاريخية واللغة والشكل. لكن محور الاهتمام بالنسبة إلى العلماء المسلمين منذ القديم وحتى الآن هو سؤال المعنى. معنى الحياة بشكل عام، وكيف يكون معنى الحياة بالنسبة إلى المسلمين مرتبطا بمعنى القرآن أو كيف يستطيع معنى القرآن أن يساهم في صياغة معنى الحياة في أي لحظة تاريخية.(99)

والآن سأعود إلى السؤال عن رؤية العالم القرآنية. هل يتضمن القرآن رؤية متماسكة عن العالم أم لا؟ هل يستطيع المسلمون بناء رؤية القرآن للعالم أم لا مع كل التناقضات الموجودة في القرآن تقريبا في كل الموضوعات القرآنية؟ إننا نجد هذه التناقضات في التشريعات، تناقضات في طريقة تمثيل المقدس. في بعض الأحيان يقدم المقدس بوصفه منزها وفي أحيان أخرى يقدم المقدس مشبها بصور تجسيدية مثل العين واليد إلخ وهكذا تكون هناك صورتان متضاربتان عن المقدس. هناك مشكلة مشابهة مع قضايا مثل حرية الإرادة والقضاء والقدر. بإمكانك أن تجد في القرآن ما يدعم حرية الإرادة وكذلك القضاء والقدر. لدينا كل هذه المشكلات التي حاول علماء اللاهوت والفقهاء معالجتها ... الكل حاول معالجة هذه المسائل سواء الفقهاء أو علماء اللاهوت أو الفلاسفة لكن ربما يكون المتصوفة حاولوا القبض على مسألة التوتر بين المتناقضات القرآنية. هل ستسمح هذه المتناقضات القرآنية للعلماء أن يتحدثوا عن رؤية عالمية للقرآن؟... قبل خمس سنوات بدأت أفكر في مسألة رؤية العالم في القرآن... هل علينا أن نأخذ تلك الأجزاء المتناقضة ونعيد بناء رؤية العالم في القرآن؟”.(100)

ويستطرد أبو زيد في عرض تأويلات المسلمين الأوائل، الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة (ابن رشد مثالا) والمتصوفة (ابن عربي مثالا)، لمسألتي الغموض والوضوح في القرآن في سياق الآية الجدلية السابعة من سورة آل عمران. ويرى أن مسألتي الوضوح والغموض هما اللتان تتيحان للقرآن قدرته على التواصل مع المجتمعات المسلمة منذ القرن السابع الميلادي وحتى اليوم. وبحسب أبو زيد لو كان القرآن واضحا بالكامل –كما هو الشأن بالنسبة للكتب المقدسة الأخرى - لكان بقي هناك في القرن السابع ولم يستطع مخاطبة المسلمين اليوم. ويواصل: "بالنظر إلى الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف يمكننا أن نعثر على هيمنة مفهوم عدم اليقين والغموض، القليل جدا هو الواضح. وطبقا للفقهاء الأوائل الواضح جدا من القرآن والحديث النبوي يسمى نصا. وهكذا فإنهم يقيمون تمييزا بين النص [الواضح] والمبهم والمؤوَّل إلخ، ويضيفون إلى ذلك أن النصوص “عزيزة”، أي نادرة. ويعطينا الشافعي مثالا واحدا على هذه النصوص العزيزة “ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم” ويضيف القرآن “تلك عشرة كاملة”، الأمر الذي يعني أن القرآن لا يتيح هنا المجال للقارئ للتأويل لإضافة ثلاثة إلى سبعة. هذا يجعل النص واضحا جدا... هذا هو المثال الذي يعطيه الشافعي على النص في كتابه الرسالة. بالنسبة إلى السيوطي المتأخر عن الشافعي يقول إن “حرمت عليكم أمهاتكم” ليست نصا، أي ليست واضحة لأن هناك محذوف في الكلام، حرم عليكم نكاح أمهاتكم. وما دام علينا أن نضيف شيئا إلى الكلام المحذوف فهذا معناه أن الكلام ليس واضحا وليس يقينا. إذا أخذنا هذه الآراء عن ندرة النصوص الواضحة في القرآن... هل نستطيع أن نسأل- السؤال الكبير- أن للقرآن رؤية للعالم؟ إنها رؤية غير يقينية للعالم. هل هذا تناقض؟ أليس على رؤية العالم أن تكون واضحة؟ لكنني سأضيف شيئا آخر هنا، لو كان القرآن، أو أي كتاب ديني آخر، واضحا جدا سيصبح وثيقة تاريخية. أي لن يكون لديه أي قدرة دلالية أبعد من لحظته التاريخية، أي لن يستطيع إنتاج المعنى خارج سياقه التاريخي. وهكذا حين تريد اللغة أن تنتج المعنى خارج حدود السياق التاريخي عليها أن تتضمن الغموض، عليها أن تكون على مستوى معين من اللايقينية. أعتقد أن الكتب المقدسة عاشت حتى اليوم وستظل تعيش بصرف النظر عن جهودنا في حبسها في لحظتها التاريخية من خلال تحليلاتنا [لمعطياتها] ... إن للكتب المقدسة قدرة على أن تظل حية لأنها ليست واضحة ولم تكن أبدا كذلك ولن تكون. إنها واضحة الآن في هذه اللحظة بالنسبة لهذه الجماعة من المسلمين أو تلك. لكن وضوحها مؤقت؛ فعندما يتغير السياق التاريخي يظهر الغموض مرة أخرى وأخرى، وهذه هي سلطة النصوص. وإذن هناك عناصر لرؤية العالم في القرآن التي بحاجة إلى إعادة بناء في كل مرة. هناك رؤية للعالم في القرآن لكن إذا قرأناه من دون وجوده مبعثرا [في شكل نصوص كما هو الحال مع المصحف]”.(101)

وبينما يرى أبو زيد أن مسألتي الوضوح والغموض هما خاصيتان في بنية القرآن يرى سروش - معقبا على أبو زيد- أن الوضوح والغموض في القرآن هما أمر مقصود من قبل قائل النص - سواء أكان الله أم النبي محمد، والكلام لسروش- وأنهما خاصيتان تتعلقان باللغة بشكل عام، لأن اللغة - بحسب سروش - في طبيعتها أصلا غامضة. والغموض في اللغة موجود دائما وفي كل الحالات سواء أكان المتحدث هو الله أو النبي محمد أو أيا كان ولا نستطيع تجنبه أو تجاهله. ولا يتسع المقام هنا لعرض الاختلاف بين خبير ابن عربي- أبو زيد- وخبير الروميات (نسبة لجلال الدين الرومي) – سروش - إلا أنه تجب الإشارة إلى أن كليهما يعتبر الوحي أساساً حالة من الغموض.

طيلة ما يقارب خمسة وثلاثين عاما من عمر أبو زيد الأكاديمي قام بإعادة قراءة التراث الإسلامي في معظم اتجاهاته وتأويلاته. إن العودة المتواصلة لقراءة التراث أمر لا مناص منه – بحكم المرجعية الإسلامية، وبحكم أننا حضارة النص كما يسميها أبو زيد- لاستنباط الحيوي والعقلاني والنقدي في هذا التراث والبناء عليه بغية الوصول إلى تأسيس هرمنيوطيقا/ تأويلية ديمقراطية في حياتنا المعاصرة. ولما كان التراث الإسلامي متنوعا ومتعددا في رؤيته للقرآن - التي تتراوح بين الرجعية والتقدمية - فقد كان من الطبيعي أن تكون قراءات التراث للقرآن مرتبطة بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للاتجاهات والأطياف التي تقدم تلك القراءات. وهكذا خلص أبو زيد إلى أن رؤية الفلاسفة كانت مرتبطة بالأنطولوجي والميتافيزيقي، بينما كان تفسير الفقهاء مركزا على الاستنباطات القانونية للأحكام، أما المتصوفة فقد كان تأويلهم مختلفا تماما إذ الأهم بالنسبة إليهم هو المعاني الروحية والأخلاقية للرسالة القرآنية. وبالنسبة لعلماء اللاهوت- علماء الكلام- فقد كان تركيزهم التأويلي منصبا على الله والمقدس بشكل عام. أمام هذا التنوع والتعدد في التأويل للقرآن لاحظ أبو زيد غياب الرؤية القرآنية المتكاملة للعالم والوجود في كل هذه الاتجاهات التراثية. وإذن يكون من الضروري والإلزامي- في هرمنيوطيقا أبو زيد القرآنية- تأسيس الرؤية العالمية في القرآن ليس على نتاج التراث وحده بل على الإنجازات المعاصرة أيضا.

أما الإنجاز المعاصر الذي كان أبو زيد يطمح في الوصول إليه فقد سرقه منه الموت الفجائي الفاجع في الخامس من يوليو 2010م الماضي. هناك في إندونيسيا، وحيث كان أبو زيد يؤسس المعهد الدولي للدراسات القرآنية، ويعقد حصصا تدريبية للطلاب الإندونيسيين، كان يسعى إلى إعادة ترتيب القرآن من حيث النزول. وحيث إن مشروعا جبارا كهذا لا يمكن إنجازه من قبل شخص واحد، فقد كان أبو زيد يطمح إلى إشراك طلاب كثيرين من حملة الدراسات الإسلامية والقرآنية الذين سيكون عليهم التنقيب والبحث في التراث الإسلامي بدءا من تراث السنة النبوية كاملا وانتهاء بالتفاسير الأولى للقرآن لمحاولة إعادة بناء الترتيب الزمني لآيات القرآن وسوره. إن مشروعا كهذا يتطلب دائما عالما من طراز فريد مثل أبو زيد. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن المستشرق الألماني الكبير نولدكه وضع افتراضات عديدة لترتيب سور القرآن وآياته زمانيا في كتابه الشهير “تاريخ القرآن”.

(12) رحيمة وابتهال وبدرية وكريمة وآيات ومحمد:

لقد مكنت حياة أبو زيد في القرية، ووعيه الديمقراطي الباكر، من النظر عميقا إلى فقه المرأة في التراث الإسلامي والحياة المعاصرة فيما بعد. ولا يمكن الفصل بين حياته الفكرية وحياته في المجتمع فهما مكملتان لبعضهما بعضا. وفي هذا السياق يرى أبو زيد أن على فقه المرأة الذي ساد منذ عصور الإسلام المظلمة وحتى اليوم أن يتغير لأن السياق المعاصر سياق المساواة. وقد أصبحت المرأة في مواقع متفوقة أحيانا على الرجل، بل إن مسؤولياتها داخل الأسرة تتفوق على الرجل خصوصا إذا كانت المعيل الوحيد ماديا للأسرة: "في الوقت الحديث، وبسبب المتغيرات التي أثرت على جميع مؤسساتنا الاجتماعية وبالتالي بنيتنا الاجتماعية، يمكن اعتبار النساء “قوامون”. إذا كانت المرأة المصدر الرئيس لدخل الأسرة فهي في وضع متفوق. إن تحليل النصوص القرآنية يرينا أن الله يعتبر بعض الناس متفوقين (متفوقين بمعنى المسؤولية) على بعض اعتمادا على مقدار مساهمتهم المالية -[إشارة إلى الآية 34 من سورة النساء] - إن الضمير- الغائب - المستخدم يمكن أن يشير إما إلى الرجال وإما إلى النساء. التأويل هنا مفتوح، لكن بكل تأكيد إذا كانت المرأة هي مصدر الدخل الوحيد، وبالتالي عليها حماية الأسرة، فإنها قطعا “قوام”.(102) وفي نفس السياق يرى أبو زيد أن الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام مثل الميراث على سبيل المثال، وإن كانت تعطي الرجل حصة أكثر من الأنثى، تحد من سيطرة الذكور على اعتبار أن الإناث لا يرثن شيئا في الأصل قبل القرآن. وقد تم لاحقا في التراث الإسلامي – بحسب أبو زيد - اعتبار تلك الآيات إشارة إلى تفوق الرجل على المرأة وهو عكس ما يرمي إليه القرآن، أي الحد من سلطة الذكور المطلقة السائدة في المجتمع. وعلى اعتبار أن القرآن يقدم تجاوزا للعادات والتقاليد السائدة في مجتمع القرن السابع وما قبله فإن علينا –  كما يرى أبو زيد - أن نؤسس المجتمع المدني اليوم لا بالرجوع إلى النصوص بل إلى همومنا ومشكلاتنا المعاصرة. ويرى أبو زيد في سياق مماثل أن حياتنا العربية لا تزال إلى اليوم تميز بين الرجل والمرأة بالنظر إليهما باعتبارهما الذكر والأنثى، وهو الأمر الذي يستدعي التمييز بينهما بيولوجيا، وهذه كارثة بحسب تعبيره.

لقد كانت السيدة رحيمة - رحمها الله - والدة المفكر الراحل أبو زيد سببا رئيسا بعد وفاة أبيه في بث روح الكفاح والعصامية فيه، وهو ابنها الأكبر. وقد لاحظ أبو زيد كيف أن أمه، التي أصبحت مسؤولة عن تربية أبنائها وإعالتهم على نفس القدر من المسؤولية التي كان عليها والده، أخذت مكان الرجل في الأسرة. وفي مجتمع قروي ذكوري استطاع أبو زيد باكرا أن ينتبه إلى حقوق المرأة المهضومة في المجتمع والأسرة. وهو أمر مكنه، بعد وفاة والده، من الأخذ بيدي شقيقاته إلى مستوى أفضل مما كان يوفره لهم المجتمع بحكم طغيان الذكورية عليه. لكن شقيقته الأكبر، بدرية، نالت من ظلم المجتمع الذكوري وغطرسته ما لم يستطع أبو زيد دفعه عنها، إذ كان الوقت متأخرا: “كانت بدرية فتاة ذكية وطموحة وأرادت أن تكمل تعليمها ... وكانت قارئة نهمة علمت نفسها بنفسها، ولكن حظها كان تعيسا حيث لم تكمل تعليمها، أعتقد [لو كانت أتيحت لها فرصة مواصلة الدراسة] لوصلت بعيدا”.(103) بدرية هي الوحيدة من بين أشقاء أبو زيد التي ظلمها الزمن والمجتمع الذكوري - مثل كثيرات في الريف المصري - فلم تكمل تعليمها، وكانت ضحية زواج ظالم نتج عنه مولود لم يكتب له أن يعيش أكثر من أربع سنوات. لكن حظ بدرية التعس لم يتوقف عند حرمناها من التعليم وحرية اختيار الزوج، بل كان الموت الباكر قد أدركها سريعا جدا. وفي أمريكا- حيث - كان أبو زيد متواجدا للدراسة والبحث - تلقى الخبر الفاجع الذي أحزنه كثيرا جدا بوفاة شقيقته الأكبر. كان حزنه على بدرية سحيقا وعميقا حتى أثناء حياتها. وما جعل حزنه أكبر على بدرية هو أنه لم يتمكن من أن يقول لها وداعا، كما أنها لم تتمكن هي الأخرى من توديعه. وعندما حطت الطائرة به في مصر قادما من أمريكا بعد أشهر عديدة على وفاة بدرية، في 1980م، أحس “كأنها ماتت في ذلك اليوم الذي وضعت فيه قدمي على التراب المصري بعد غيابي سنتين”.(104) وفي 2006 توفي شقيقه محمد بمرض القلب. وكان عزاؤه الوحيد هو أنه كان معه لحظة بلحظة في المستشفى حتى لفظ أنفاسه الأخيرة .(105) وداع الأحباب والنظرة الأخيرة إلى أعينهم قبل الرحيل الأخير بالنسبة إلى أبو زيد أمر لا بد منه؛ كيف لا وهؤلاء الأحباب هم أشقاؤه الذين ضحى بسنوات شبابه الأولى ساهرا على توفير الحياة الكريمة لهم.  وما فات بدرية من حياة كانت تستحقها، مثل كل بنات جيلها المظلومات، جعل أبو زيد الذي أمسك بزمام عائلته الفقيرة بعد وفاة أبيه، ينتبه أكثر إلى مستقبل شقيقتيه الأخريين كريمة وآيات حتى وصلتا إلى الجامعة وتخرجتا منها. وحيث إن كريمة وآيات كانتا قد فقدتا أختهما الكبرى استطاع أبو زيد إلى حد ما أن يغطي ذلك الفراغ.(106)

وعلينا في غمرة هذا العرض السريع أن لا ننسى التذكير بأهم امرأتين أثرتا في حياة أبو زيد الشخصية ومسيرته العلمية. تلكما هما أمه السيدة رحيمة وزوجته ورفيقة دربه الدكتورة ابتهال يونس. ولأن أبو زيد الإنسان هو نفسه أبو زيد المفكر والمثقف، فقد وجه شكره وامتنانه وعرفانه إلى كلتا المرأتين في مختتم محاضرته التدشينية لاعتلاء كرسي كليفرينجا - “القرآن: الله والإنسان في اتصال” - في جامعة ليدن عام 2000: “كيف أجرؤ في هذه اللحظة من حياتي على نسيان امرأتين: والدتي، رحمها الله، الأمية والأرملة الضعيفة، التي وجدت نفسها بعد موت زوجها المفاجئ مسؤولة عن ستة أطفال، أكبرهم في الرابعة عشرة. لقد كان عليها أن تواجه مجتمعا بطريركيا. لكنها لم تتبع المسار المتوقع والمحدد سلفا؛ بل قررت أن تخوض معركتها الخاصة. وقد فعلت وفازت. أنا ابن لهذه المرأة الشجاعة، وأنا في قمة الفخر كوني تربيت على يديها. آمل أن تكون روحك يا أمي العزيزة تنظرني في هذه اللحظة وتكون راضية عني. لن أنسى أبدا الدرس الذي علمتنيه، ليس عن طريق الوعظ ولكن عن طريق مثال حياتك: “إن من يعيش لتحقيق مصالحه الفردية وحدها لا يستحق هدية الحياة”. والمرأة الأخرى هي زوجتي، ابتهال يونس التي وقفت معي وتقاسمت معي كل جزئية من أزمة حياتنا. لقد وفرت لي الدفء والدعم والحب، والأهم من ذلك أنها آمنت بنضالي”.(107)

(13) أبوزيد كما عرفته:

على المستوى الشخصي حظيت بالشرف الكبير في التواصل مع الأستاذ الراحل منذ عام 2005م. وقد استمر التواصل بيننا حتى أسابيع من رحيله عن عالمنا. وكانت أول رسالة إليكترونية أبعث بها إلى الأستاذ الراحل في سبتمبر 2005، سائلا إياه ليرشدني إلى الطريقة التي أستطيع بها الحصول على كتابه “إعادة التفكير في القرآن: نحو هرمنيوطيقا إنسانوية”، حيث إن نسخته الصادرة عن جامعة الإنسانيات قد نفدت بحسب ما قرأت على موقع الجامعة. وفي اليوم التالي لرسالتي جاءني الرد من الأستاذ الراحل مرفقا معه النسخة الإليكترونية من كتابه الأخير في وقتها. كان رد المفكر الراحل بسيطا جدا ومتواضعا ودمثا إلى الحد الذي أحسست معه أننا نتعارف منذ زمن بعيد جدا. وقد ظللت والأستاذ الراحل نتخاطب بالإنكليزية لبعض الوقت، وفي كل مرة كنت أبعث إليه برسالة أو أرد على رسالة منه كنت أصدرها بالبروفيسور أبو زيد، ويأتي رده مصدرا بالصديق العزيز، وموقعا بـ”نصر” فقط. وذات مرة أخبرني عالم الإسلاميات الكبير أن علينا أن نتواصل بالعربية، وأن أكف عن مخاطبته بالبروفيسور، وأن أكتفي فقط بـ”نصر”.

لكنني كنت قد تعرفت إلى أبو زيد المفكر في زمن باكر من حياتي. في 1995م كنت قد قرأت كل كتب أبو زيد الصادرة حتى ذلك الحين. شكرا لأخي - محرضي الأكبر على القراءة وتحصيل المعرفة - الذي جلب إليَّ من العاصمة مسقط في زياراته الأسبوعية لبيت العائلة في القرية كتب أبو زيد. وبالطبع لم يكن في مقدوري وأنا في تلك السن - السادسة عشرة - أن أفهم كل كتابات المفكر الراحل، ولذلك واصلت قراءته ومفكرين بارزين آخرين حتى اليوم رغبة مني في الفهم والاستيعاب. في تلك السن كان أبو زيد أول مفكر أقرأ له في قريتي المسكينة البائسة التي تزداد بؤسا يوما تلو آخر. وكانت تلك القراءات الأولى لأبو زيد محرضا كبيرا لي لقراءة الفكر الإسلامي ومفكريه. وقد جلب لي أخي لاحقا على قراءتي أبو زيد من العاصمة مسقط – البائسة جدا هي الأخرى - كتب الجابري وتيزيني وأركون وترجمات طرابيشي كلها وأدونيس وفاطمة المرنيسي والصادق النيهوم ومحمد عبده وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمد أحمد خلف الله .. إلخ، وأغرق بيتنا في القرية بكتب ومجلات وصحف لا تزال روائح حبرها عالقة بأنفي حتى اللحظة. كانت قراءة أبو زيد تدخل في أعماقي وتدفعني إلى مزيد من القراءة والتأمل، وقد وجدت فيها من الإمتاع والمؤانسة مبلغا كبيرا. كانت قراءته في قريتي بمثابة النور في مكان مظلم. وذات يوم سألني أخي - الذي كان يجلب لي الكتب - ماذا وجدت في كتب أبو زيد؟، مشيرا إلى حادثة تكفيره، وقد أجبته حينها أنني وجدت بعد قراءتي له -ولأركون والجابري وتيزيني... إلخ - أن قريتي أكذوبة وأوطاننا أكاذيب، وأن هذا هو زمن الأكاذيب الكبيرة بامتياز!. إن الدرس الأساسي والكبير الذي تعلمته من أبو زيد حين كنت أقرأه صبيا هو أن الوقوف في وجه التخلف واجب إنساني وأخلاقي مهما كانت التضحيات.

عندما تواصلت كتابيا مع المفكر الراحل قبل خمس سنوات عرفت نفس الشخص الذي كنت قرأته قبل عشر سنوات من تاريخ التواصل الأول بيننا. اليوم وأنا أكتب هذه السطور عن المفكر الراحل لا أستطيع إلا أن أقدم الشكر والامتنان والعرفان الكبير لكتابات المفكر الراحل وشخصه وروحه وإنسانه العميق. لقد كان عمق إنسانه وشفافية قلبه وروحه يتنزلان على بريدي الإليكتروني بين الحين والآخر. وأذكر أنني لم أرسل إلى الأستاذ الراحل أي رسالة لم أتلق عليها ردًّا منه إلا في حالة كونه مريضا أو في سفر. وحين ضرب إعصار غونو عُمان في 2007م بعث إليَّ الأستاذ الراحل وإلى أخي ليطمئن علينا وسائلاً عن حال عمان. وكان رحمه الله مريضا حينها وبانتظار إجراء عملية جراحية، وكان يذكرني في الرسالة بأعاصير أخرى تعصف ببلدان أخرى في عالمنا العربي. وهنا يذكر الأستاذ الراحل فلسطين التي هي في القلب من كتاباته ولبنان التي أحبها كثيرا جدا والعراق التي انفطر قلبه لما أصابها من دمار ولحق بشعبها من تقتيل وتشريد. وحين أخبرته بأننا بخير بعث إليَّ بالرسالة التالية:

 

العزيزين عبد الله وسالم

الحمد لله أنكما بخير. أنتم بالنسبة لي واجهة للوطن ...

تابعنا - أنا والدكتورة ابتهال - الإعصار لحظة بلحظة. وشاهدنا بعض مشاهد التدمير

وسمعنا البيانات المزيفة، التي ليس من الصعب كشف زيفها

سلمتم وسلم الوطن

في الوقت الذي عانت فيه عمان من الإعصار الطبيعي، كانت هناك أعاصير أخرى سياسية تقتحم الفضاء العربي في فلسطين ولبنان، ناهيك عن الإعصار المستمر في العراق

لم نعد ندري يا إخوتي من أين تأتينا المصائب

أخيرا ستجرى عملية الغدة، التي انتظار موعد أجرائها، يوم الثلاثاء القادم 26 يونيو

أحيانا تتأكد عروبتي من خلال الجنون الذي أصاب الغدة في العام الماضي، فمضت تنتج هرموناتها الضارة ضد الجسم التي هي جزء منه. ثم في الورم، والورم نوع من الجنون يتمثل في التمدد غير الصحي لبعض الخلايا. هكذا تثبت عروبتي جسديا، والحمد لله ليس عقليا

اضحكوا من هذه المفرقات أيها العزيزين

أترككما في رعاية الله حتى انتهاء فترة النقاهة بعد السلامة من الجراحة.

والسلام

نصر أبو زيد

كان حظي تعيسا جدا إذ لم أتمكن من لقاء الأستاذ الراحل أبدا في الخمس سنوات من تواصلنا، وكم كنت أتمنى أن نلتقي يوما ما في مكان ما على هذه الأرض. لكنني كنت قبيل أسابيع قلائل من وفاته أقرب من أي وقت مضى في السابق على لقائه أو هكذا ظننت، ففي مطلع يونيو الفائت سنحت لي فرصة الحصول على منحة دراسية قصيرة في هولندا، وقد بعثت إلى الأستاذ الراحل آملا في اللقاء. وجاءت رسالته المعتادة لتحط في بريدي الإليكتروني بعد سويعات من رسالتي لكنها كانت مؤكدة لسوء حظي وياله من حظ تعس!:

 

الأخ العزيز عبد الله

أكيد هولندا حتنور بوجودك في هذه الفترة. لسوء حظي سأكون في إندونيسيا من يوم الأربعاء القادم (28 أبريل/ نيسان) حتى نهاية شهر يونيو. أتمنى لك إقامة طيبة وأن يكون لقاء آخر ليس بعيد

نصر أبوزيد

 

كانت هذه هي آخر رسالة بيني وبين الراحل الكبير قبل أن يغادر إلى الرفيق الأعلى.

 

ولد أبو زيد في قحافة بطنطة في دلتا النيل في العاشر من يوليو 1943م، وإليها عاد في الخامس من يوليو 2010م. وبعيد أيام قلائل من وفاته - كما كان مقررا - كانت جامعة ليدن تحضر لاحتفالية تقاعده الرسمي من الجامعة، وكان عنوان الاحتفال “الوجه الإنساني للإسلام”. ذلك الوجه الإنساني للإسلام هو وجه نصر حامد أبو زيد. أبو زيد هو الوجه الحداثي والديمقراطي والليبرالي والعلماني للإسلام.

إنا لفراقك يا أبو زيد لمحزونون ومحزونون. وداعا نصر حامد أبو زيد. وداعا أستاذي العزيز. وداعا، وداعا، وداعا. السلام عليك يوم ولدت ويوم مُتَّ ويوم تبعث حيّا.

 

كاتب ومترجم من عُمان

 

هوامش

(1) Abu Zayd, Nasr Hamid. Islamic Cosmology and Quranic Exegesis, p. 7 وقد قام كاتب هذه السطور بترجمة هذه الدراسة إلى العربية وستنشر الترجمة بالتزامن مع هذه المقالة تحت عنوان “علم الكونيات الإسلامي والتأويل القرآني”. كما أن كل الترجمات الواردة في هذه المقالة هي للكاتب وقد قمت بترجمتها بتصرف واختصار. ولن أشير إلى أماكن نشر دراسات أبوزيد الإنكليزية لأن لا علم لي بمعظمها فقد حصلت على كل مقالاته ودراساته الإنكليزية منه شخصيا.وبعض من تلك الدراسات منشور على موقعي جامعتي ليدن والإنسانيات.

(2)Abū Zayd, Nasr with Esther R. Nelson, Voice of an Exile: Reflections on Islam (Westport, Connecticut:

Praeger, 2004), 11.

(3)170السابق ص

(4) http://www.resetdoc.org/story/00000021258 من حوار مصور مع أبو زيد نشر عقب وفاته على الموقع التالي:

(5) انظر أخبار الأدب، العدد 886، الأحد 11 يوليو 2010.

(6) اليوم السابع http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=250043&SecID=94&IssueID=0

(7)Abū Zayd, Nasr with Esther R. Nelson, Voice of an Exile: Reflections on Islam (Westport, Connecticut: Praeger, 2004), 153

(8) السابق، ص: 18

يتحدث أبو زيد عن عدم قدرته على اللعب مع أقرانه في المدرسة والكُتَّاب بسبب وزنه الثقيل، حيث ولد هكذا، وقصر قامته، وحيث إنه لا يستطيع اللعب مع أقرانه فقد اتخذ من القراءة هوايته الوحيدة. ويشير أبوزيد إلى أنه ظل يجاهد وزنه الثقيل طوال حياته.

(9) انظر السابق، ص: 17-35.

(10) نشير هنا إلى تاريخ إنجاز أبوزيد لرسالة الماجستير وليس إلى تاريخ صدور الطبعة الأولى من الكتاب وكذلك هو الحال بالنسبة إلى رسالته للدكتوراة

(11) انظر Abu Zaid, Nasr, The Dilemma of Literary Approach to the Quran (Critical Essay), Alif: Journal of Comparative Poetics, 2003

(12) انظر روز اليوسف 25 أغسطس، 2007، العدد 4133.

(13) Abu Zaid, Nasr, The Dilemma of Literary Approach to the Quran (Critical Essay), Alif: Journal of Comparative Poetics, 2003 (مرجع سابق)

(14) تجدر الإشارة إلى أن التراث الإسلامي يحتوي على وعي كبير بأدبية اللغة القرآنية وما كتب الباقلاني وعبدالقاهر الجرجاني –كمثالين- إلا دليلا على ذلك. وفي سياق ذكر علماء النهضة المصريين علينا أن نذكر أن سيد قطب –الأديب والراديكالي فيما بعد ومنظر الإخوان المسلمين الكبير- كان على وعي مهم وبناء بأدبية القرآن ويعد كتابه “التصوير الفني في القرآن” مهما جدا في هذا الصدد. عائشة عبد الرحمن –تلميذة وزوجة الخولي- أيضا كانت من بين الذين طرقوا باب الدرس الأدبي للقرآن تأثرا بالخولي.

(15) انظر: نصر حامد أبوزيد، الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في تأويل القرآن عند المعتزلة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 2003، ص 5.

(16) Abu Zayd, Nasr Hamid, Rethinking the Quran: Towards a Humanistic Hermeneutics, Utrecht (Humanistics University Press) 2004, p.14-15.

وانظر أيضا  نصر حامد أبو زيد، مقاربة جديدة للقرآن: من “النص” إلى “الخطاب: نحو تأويلية إنسانوية، ص:161-162.

(17) نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص: 6.

(18) Rethinking the Quran, p. 16 (مرجع سابق)

(19) نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 2000 ص: 24.

(20) السابق، ص 24.

(21) لمزيد من التفاصيل حول مفاهيم أبوزيد وتعريفاته للقرآن في مفهوم النص انظر

Sukidi: Nar āmid Abū Zayd and the Quest for a Humanistic Hermeneutics of the Qurʾān in Die Welt des Islams 49 (2009)p. 181-211

(22) انظر: نصر حامد أبوزيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة السادسة، 2001، ص: 13-49

(23) نصر حامد أبوزيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص: 8.

(24) ترجم أبو زيد دراستين ليوري لوتمان:

1.         يوري لوتمان وآخرون: نظريات حول الدراسة السميوطيقية للثقافات ، ضمن كتاب “ أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة ؛ مدخل الى السميوطيقا ، إشراف مشترك مع سيزا قاسم ، دار إلياس العصرية، القاهرة،6891. ودار عيون، الدار البيضاء، 7891. ص:317-344

2.         يوري لوتمان: مشكلة اللقطة ، ضمن الكتاب المشار إليه في 4. ص:265 -281.

(25) Kermani, Navid, From revelation to interpretation: Nasr Hamid Abu Zayd and the literary study of the Quran, p.169-192

(26) Abu Zayd, Nasr Hamid, The Quran: God and Man in Communication. P. 3 & 4

(27) تجدر الإشارة هنا إلى كتابيه المهمين عن القرآن:

Ethico- Religious Concepts in the Quran

God and Man in the Quran: Semantics of the Koranic Weltanschauung 

(28) Abu Zayd, Nasr Hamid, Toward a Hermeneutics of the Quran, p. 11

(29) السابق، ص 11.

(30) Abu Zayd, Nasr Hamid, The Quranic Concept of Justice, p. 1

(31) السابق، ص:1

(32) السابق، ص: 3-5

(33) السابق، ص:5-8

(34) Abū Zayd with Esther R. Nelson, Voice of an Exile: Reflections on Islam (Westport, Connecticut: Praeger, 2004), 174.

(35) من نص الخطاب الاحتفائي بأبو زيد في جامعة ليدن، غير منشور، وعنوانه الأصلي بالإنكليزية: Welcome speech for Professor Nasr Hamid Abu Zayd, Cleveringa Professor 2000–2001 in Law, Freedom and Responsibility,

especially Freedom of Religion and Conscience on Monday 27 November, 2000

(36) Abu Zayd, Nasr Hamid, The Quran: God and Man in Communication. P. 1

(37) السابق، ص:2.

(38) السابق، ص: 2-3.

(39) السابق، ص: 5.

(40) السابق: 5

(41) انظر

Jane Dammen McAuliffe, ed., The Encyclopeadia of the Quran, vol. 1 (Leiden: Brill), 1-13.

(42) انظر

Abu Zayd, nasr Hamid, Quran in Everyday Life, The Encyclopeadia of the Quran, 2nd Volume P. 80-98

(43) نصر حامد أبو زيد، مقاربة جديدة للقرآن: من “النص” إلى “الخطاب”: نحو تأويلية إنسانوية، ص:183. وسنشير إلى المراجع في الدراسة الأصلية- الإنكليزية- لأبو زيد بخط بارز لتمييزها عن هوامش المترجم.

(44) السابق، ص:183.

(45) السابق، ص: 157-161.

(46) السابق، ص: 163-165.

(47) السابق، ص: 165-171.

(48) انظر

Abu Zayd, Nasr Hamid, Rethinking the Quran: Towards a Humanistic Hermeneutics, Utrecht (Humanistics University Press) 2004, p.22-3.

(49) انظر: نصر حامد أبوزيد، مقاربة جديدة للقرآن: من “النص” إلى “ الخطاب: نحو تأويلية إنسانوية، ص:171-172.

(50) السابق، ص: 172-175.

(51) Abu Zayd, Nasr Hamid, Rethinking the Quran: Towards a Humanistic Hermeneutics, Utrecht (Humanistics University Press) 2004, p.26-7. (مرجع سابق)

(52) كل ما سيلي من استشهادات وحتى نهاية الجزء السابع من المقال هي من الدراسة السابقة وكلها ترجمها كاتب المقالة

(53) Abu Zayd, Nasr Hamid, Rethinking the Quran: Towards Humanistic Hermeneutics, UVH, 2004, p. 17.(مرجع سابق)

(54) هو رجلُ دولةٍ ودبلوماسيٍّ ومؤرخٌ وجَّه توسُّعًا استعماريًّا فرنسيًّا كبيرًا في أفريقيا، وناصرَ تحالفًا فرنسيًّا- روسيًّا ثبت أنَّه كان مهمًّا في الأحداثِ التي قادتْ إلى الحربِ العالميَّةِ الأولى. ولكونه فرنسيًّا قوميًّا فقد كان ملتزمًا بسياساتِ التَّوسُّعِ الاستعماريّ. وخلال فترةِ عملِه وزيرًا بسطتْ السَّيطرةُ الفرنسيَّةُ نفوذَها على غربِ أفريقيا، مدغشقر، وتونس، ونفَّذت اعتداءاتٍ على الجزائر.

(55) انظر ترجمةَ مقالةِ هانوتو بالعربيَّةِ واستجابةَ محمَّد عبده في الأعمالِ الكاملةِ للإمامِ محمَّد عبده، محمد عمارة، 5 مجلدات، بيروت، 1972، المجلد الخامس، ص: 201 وما بعدها.

(56) يمكن إيجاد معلومات موسَّعةٍ عن الأفغانيّ في المصادرِ التَّالية:

N. Keddie, An Islamic Response to Imperialism: Political and Religious Writings of Sayyid Jamal ad-Din al-Afghani (Berkeley, 1983); R. Matthee, ‘‘Jamal al-Din al-Afghani and the Egyptian National Debate’’, IJMES, vol.21 (1989), pp. 151-169; E. Kedourie, ‘‘Afghani and Abduh’’. An Essay on Religious Unbelief and Political Activism, Modern Islam (London, 1966).

(57) بمعنى الوثنيَّة وذلك إشارةٌ إلى مجموعةِ القواعدِ الثَّقافيَّةِ القَبَلِيَّةِ في ما قبل الإسلامِ في شبهِ الجزيرةِ العربيَّة، وتُترجمُ أحيانًا إلى الجاهليَّة. كان رشيد رضا إلى حدٍّ كبيرٍ مؤيِّدًا للإيديولوجيا الوهَّابيَّةِ المبنيَّةِ على مؤلَّفاتِ محمَّد بن عبدالوهَّاب (توفي ـ1135هـ/1792م) الذي كان نفسُه تابعًا للمفكِّرِ المسلم الأرثوذوكسيِّ جدًّا: ابنِ تيميَّة (توفي 685هـ/1328م). ولكون رضا مفكِّرًا تقليديًّا فقد أَلهم حسن البنّا فكرةَ إمكانيَّةِ تأسيسِ دولةِ الخلافة. إنَّ المثالَ النَّاجحَ الذي قدَّمه كلٌّ من محمَّد بن عبدالوهَّاب و محمَّد بن سعود في تأسيسِ دولةٍ ثيوقراطيَّةٍ لتكون مملكةَ اللهِ كانتْ واقعًا حيًّا. إنَّ حُلْمَ كلٍّ من الإيديولوجيِّ والأميرِ الطَّموحِ أصبح حقيقةً من خلالِ دمجِ الإيديولوجيا في الجسمِ العسكريِّ للقبائلِ الذي يُسمى: إخوان. وقد تمَّ تشكيلُ جمعيَّةِ الإخوانِ المسلمين من أجلِ أنْ تكون البذرةَ لدولةٍ إسلاميَّةٍ لمصرَ في المستقبل.

(58) انظر:

Brown, Daniel, ‘‘Rethinking Tradition in Modern Islamic Thought’’, Cambridge Middle East Studies, Cambridge University Press, UK 1996, pp. 22-3.

(59) حُجَّةُ الله البالغة Translated by H. Daiber and D, Pringree, EJ. Beill 1996, p.11.

(60) Rethinking The Quran, (مرجع سابق)

(61) Rethinking the Quran, (مرجع سابق)

(62) انظر “تقرير الحالة الدِّينيَّةِ في مصر”، مركز الأهرام للدِّراسات السِّياسيَّة والاستراتيجيَّة، القاهرة، 1995.

(63) Hourani, op.cited.p.75.

(64) أنظر:

Dale F. Eickelman and Jon W. Anderson (eds.) New Media in the Muslim World, Indiana University Press, 1999.

وخاصَّةً مساهمتيهما في المقدِّمة.

(65) حول السّير سيِّد أحمد خان انظر:

Christian W. Troll, Sayyid Ahmad Khan: An Interpretation of Muslim Theory (Oxford University Press, New Delhi, 1978); Hafeez Malik, Sir Sayyid Ahmad Khan and Muslim Modernization in India and Pakistan (Columbia University Press, New York, 1980).

(66) Rethinking Tradition, op. cited, p. 44

(67) Ibid., p. 33

(68) Ibid., p. 37.

(69) كتب هذه المقالات محمد توفيق صدقي، المنار، المجلد السابع، ص: 515- 525 وأيضًا المجلد العاشر، ص: 683-689 و 717-779.

(70) السابق، المجلد 11، الصفحات: 141-145 و521-527.

(71) Rethinking Tradition, op. cited, pp. 100-1

(72) Ibid., 48.

(73) Ibid., p. 102.

(74) Mohammed Khalid Masud, ‘‘ Islamic Research Institute’’, ISIM Newsletter 1/98, p.43.

(75) هناك خطأ حسابي وقع فيه أبوزيد سهوا حيث إن النسبة المئوية في الدراسة الأصلية هي 16%. وواضح أن هذه النسبة محسوبة على 1000 آية وليس 500 آية من مجموع آيات القرآن التي يصل عددها إلى 6236 وهو خطأ حسابي يتكرر في الكتاب الأخير لأبوزيد حيث يتحدث عن نفس الموضوع. وعموما فإن المقصود بهذا التحليل هو تراث أبوحامد الغزالي ]المترجم[

(76) Rethinking the Quran, p. 35-37, (مرجع سابق)

(77) من محاضرة أبوزيد التي قدمها في الكويت عبر الهاتف من القاهرة. وبعض الاستشهادات أدناه من هذه المحاضرة أو من حوارات مع أبوزيد منشورة في الصحف.

(78) من محاضرة أبوزيد التي ألقاها في الكويت عبر الهاتف من القاهرة ومنشورة في مجلة الكلمة اللندنية على الإنترنت وقد تعذر علي في وقت لاحق على نسخها من موقع المجلة الوصول إلى الرابط المباشر لها وهنا أكتفي بالإشارة إلى موقع المجلة http://www.alkalimah.net/

(79) السابق

(80) السابق

(81) السابق

(82) السابق

(83) مجلة النهج، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، العدد الثالث، ربيع 1995، ص 274.

(84) من آخر حوار لأبو زيد مع القدس العربي أعيد نشره في القدس العربي بعد وفاته بتاريخ 6-7-2010

(85) Voice of an exile, p. 10, (مرجع سابق)

(86) السابق، ص:5-6

(87) من حوار مع أبوزيد أجراه فيصل القاسم في البي بي سي العربية في 1995

(88) Voice of an Exile, page 15. (مرجع سابق)

(89) السابق، ص:15

(90) نشير هنا إلى تاريخ النضج في الفكر الاعتزالي وتشكله كمدرسة قائمة بحد ذاتها. أما نشأة الفكر الاعتزالي فتعود إلى واصل بن عطاء المتوفى في 131 هجرية.

(91) Rethinking the Quran, p.13, (مرجع سابق)

(92) من آخر حوار لأبو زيد مع القدس العربي أعيد نشره في القدس العربي بعد وفاته بتاريخ 6-7-2010

(93) السابق

(94) مفهوم النص، ص:17 (مرجع سابق)

(95) Voice of an Exile, p. 53, (مرجع سابق)

(96) Voice of an Exile, p. 201(مرجع سابق)

(97) السابق، ص: 186

(98) السابق، ص:188-191

(99) هذا النص وما سيلي هو ترجمة للمحاضرة التي قدمها أبوزيد في المؤتمر المذكور. والترجمة هنا هي لحديث أبو زيد المباشر الذي أخذته من تسجيل الفيديو الخاص بالمؤتمر.

(100) السابق

(101) السابق

(102) Voice of an Exile, page 176, (مرجع سابق)

(103) Voice of an Exile pages 38 & 45(مرجع سابق) ،

(104) Voice of an exile page, page 39، (مرجع سابق)

(105) هكذا كتب إلي الأستاذ الراحل في أحد الرسائل الإليكترونية

(106) انظر الفصل الذي يفرده أبوزيد في سيرته الذاتية تحت عنوان “بدرية، كريمة، آيات وشيرين ص: 37-48 (مرجع سابق)

(107) Abu Zayd, Nasr Hamid, The Quran: God and Man in Communication. P. 15-16.(مرجع سابق)