أول مرة سمع عن حظر التجول كان في شهوره الأولى في كندا. كان الخبر منتشراً لدرجة أن أحس أنه يطارده في مهجره. في البدء من زميل عربي له في العمل قالها بتهكم وكأنه يعايره بتخلف بلده. عند انتهاء الوردية استقبلته به زوجته و قد ابيض وجهها قلقاً. في كل محطة إخبارية وجد الخبر في الشريط السفلي بصفة" عاجل" و بصيغة أن حكومة بلده أعلنت عن حظر تجول من بعد الغروب غداً وحتى شروق اليوم التالي والسبب مجهول. و في كل محطة خبير يتحدث بعربية ذات لكنة أو إنجليزية شرق أوسطية، و يحاول تخمين سبب للحظر أو يعلن عن بدء عهد جديد مكللاً بقانون الطوارئ و حظر الحريات أكثر.
في الصباح الباكر هاتف أباه. لم يقل أكثر من التحية تاركاً أباه ليحكي:
-فجأة أعلنوا الخبر. لا توجد أي اضطربات أو مظاهرات أو حتى اعتصام. و أعلنوها بكل بساطة وكأنهم يعلنون عن ثبوت الرؤية. طبعاً نحن لن نغامر بالخروج ولكنهم لم يعلنوا عن مصير من يخرج مخالفاً الحظر. الناس استغلت أن اليوم عطلة و خرجوا ليشتروا بجنون أطعمة و أدوية تكفيهم لمدة شهر قادم. الزحام لا يطاق ولا يفوقه إلا الإشاعات. من يقول سيحدث انتقال للسلطة، و من يحكي عن نقل سلاح نووي، أو تخطيط للقبض على إرهابي كبير. لكن ليس أمامنا سوى الانتظار.
أخذ يحسب فارق التوقيت ليعلم موعد البدء بالضبط. في استراحة الغداء عنده كان الحظر قد مر عليه ثلاث ساعات تقريباً. قرر الاتصال بوالده للاطمئنان عليه. لم يرد هاتف المنزل، و النقال بدا وكأنه خارج النطاق. جرب هواتف اشقائه ثم أشقاء زوجته. في المنازل لا رد و النقالة لا نطاق. استأذن من عمله متعللاً باضطرابه لظروف بلده. وصل إلى بيته في وقت قياسي. كانت زوجته قد سبقته لتعرف الأخبار من المحطات. كان الخبر مستمراً في الظهور دون أي جديد. ندم على تركه العمل و هو ماكان سيكفل له إضاعة الوقت حتى انتهاء الحظر. جرب أن يأكل أو يشرب. جرب أن يأخذ زوجته ويخرج. جرب مداعبتها وهي حاولت الاستجابة لكنهما كانا كالمخدرين.
عندما أتى منتصف الليل اتصل بنقال والده. كان صوت الجرس أشبه بعصفور يزف إليه انتهاء المحنة. رد والده بصوت نائم. طمأنه بكلمة ولم يزد عليها سوى التثاؤب. أغلق معه و دخل لينام مطمئناً.
في الصباح طلبه والده معتذراً عدم الحديث معه لأنه لم ينم طوال الليل قلقاً. و قال إن التليفونات تعطلت والكهرباء قطعت. و الهدوء سيطر على الشوارع حتى أصابهم بعدواه. و حكى له عن الشروق.
-طبعاً لم يؤذن لصلاة الفجر. لكن وقت الشروق نزلت من البيت وكأنني سجين مؤبد لحظة الإفراج.مع أول ضوء امتلأ العالم فجأة. كلنا خرجنا من كل بيوت الشارع والحي والمدينة والبلاد في وقت واحد ثم توقفنا مرة واحدة كأنها حركة مدبرة. فرحة الخروج لم تلبث غير لحظات حتى غلبها الفضول لمعرفة ما تغير.
سأله و هو يشاهد ما حكاه الأب على شاشة إحدى القنوات من لقطة مرسلة من نقال تحت عنوان "لحظة الشروق. لحظة الخروج"
- وهل تغير شيء.
- على حد علمي لا شيء تغير حولي. فقط أحسست برغبة شديدة في العودة لبيتي.
حظر التجول الثاني أعلن عنه بعد يومين من انتهاء الأول. لم يعلنوا عنه قبلها بيوم مثل السابق، بل أعلنوه في العاشرة صباحاً. معظم من في أعمالهم عرفوا من ذويهم بالتليفون. من كان على سفر خارج مدينته إما قرر قطع السفرة أو استكمالها حتى اليوم التالي. و إن كان حال الناس في الحظر الأول هو الدهشة والاضطراب فحالهم هنا هو الحيرة. فمهما كان ما حدث أثناء الحظر الأول فلابد و أنه انتهى. هذه المرة لم يفزع مثل سابق. أرسل لوالده رسالة يطمئن عليه فيها واكتفى بذلك. لم يهتم بالخبر وتحليله كثيراً مادام لا جديد. في العمل مارس حياته بشكل طبيعي حتى اندهش زملاؤه من هدوئه. لحظة الشروق / الخروج الجديدة لم تتغير عن سابقتها. خروج الناس والنظر حولهم ثم العودة إلى بيوتهم حيث الأمان.
الذعر الذي سببه حظر التجول الثالث سببه الإعلان عنه قبلها بساعتين. نقلت القنوات الإخبارية حالة الطوفان المروري في الشوارع. كل يعدو بسيارته أو في المواصلات أو على قدميه ليهرب من المصير المجهول. كثرت حالات الإصابة من التصادمات وحدثت حالة وفاة بسبب وقوع صاحبها المسكين تحت الأقدام. أبوه كان أحد المصابين. سأله كأنه هو المسؤول عن حظر التجول:
-ما الذي يحدث في البلاد يستدعي هذه العشوائية؟
أعلن عن حالة وفاة واحدة لشخص خالف الحظر بتواجده خارج منزله بعد الغروب. في يوم وليلة أصبح هذا الشخص أشهر رجل في العالم. جميع المحطات خاضت في سيرة حياته وكأنه زعيم شعبه. صارت التخمينات المطروحة عن سبب وجوده بالخارج في ظل الحظر هي الحديث المفضل في القنوات و الانترنت و على ألسنة الناس في بلده كما ذكر أبوه. قيل أنه مصاب بأزمة صدرية لم يتحمل المكوث. و قيل أنه متمرد أراد إيصال رسالته للعالم. قيل مختل ومسطول و متدين و إرهابي. السبب المنطقي الوحيد الذي لم يذكره إلا أبوه:
-وحيد ولم يجد من يبلغه.
صار حظر التجول بعد ذلك يعلن بصورة عشوائية قبل موعده بساعتين أو ثلاث. و صار الناس يلغون مواعيدهم بعد المغرب قدر المستطاع. و يحومون بالقرب من بيوتهم قبل المغرب بساعتين، و هو ما تغير بعد الإعلان عن حظر قبل موعده بساعة. أما إذا أذّن المغرب، فالجميع يخرج في شغف و بداخله نهم ليفعل كل ما كان سيحرم منه لو فرضوا الحظر. فسحة أو زيارة أو وردية عمل أو تسوق أو عيادة مريض أو صلاة عشاء. صارت الأسعار بعد المغرب ضعف العادي لشدة الإقبال. وكما توقع هو من على بعد آلاف الأميال، أتى اليوم الذي ظهر الجيش في الشارع معلناً عن حظر تجول "الآن". مرة أخرى أذاعت إحدى القنوات تسجيلات بالهواتف النقالة. رأى بعض من لديهم سيارات متوقفة يجرون نحوها و أيديهم مشغولة بمشتريات أو أطفال. رأى السيارات تفرمل فجأة وتغير اتجاهها لتعود من حيث أتت. المأساة كانت في المترجلين. طبعاً سيارات الأجرة أوالميكروباص رفضت راكبين بحثاً عن أمان أصحابها الشخصي. ومن كان يحمل ركاباً طردهم بلا أدنى رحمة. لذا أصبح الشارع عبارة عن مئات من البشر من كل الأعمار. فرادى أو عائلات متماسكة الأيدي. الجميع يعدو قدر الصحة أو العدد، على الأرصفة أو وسط السيارات المتزاحمة ذات النفير العالي. بدا المشهد كله كمدينة تعدو من وحش يستعد لالتهام الجميع. الفارق الوحيد أن العدو لم يكن باتجاه واحد. كان في جميع الاتجاهات مسبباً تقاطعات وتصادمات وسقوط. كل هذا ولا رصاصة واحدة انطلقت، ولا حتى عسكري واحد ظهر في المشاهد التي صورها أصحابها من شرفات بيوتهم مطمئنين سعداء أنهم لا يشاركون المصير مع من يصورون. لكن حتى هذا لم يكن حال كل من كان في بيته. حدث الكثير من اقتحام البيوت عنوة و المبيت تحت تهديد السلاح أو حتى بالتهديد الصوتي. أسفرت بعض المقاومة عن جرح الكثيرين من أصحاب المنازل المهاجمة. و تم تسجيل حالة اغتصاب لفتاة في حجرة نومها المطلة على شارع جانبي في دور أرضي. كسر المهاجمون زجاج النافذة و أغلقوا الباب من الداخل قبل أن ينتبه الوالدان لصراخ الابنة ذات العشرين عاماً. و ظلوا معها حتى الشروق مقررين الرحيل قبل أن تظهر ملامحهم. قبل أن يرحلوا أزالوا المتاريس التي وضعوها خلف الباب و فتحوا الترباس. قبلوا الفتاة التي لم تنم ليلتها، و أخبروها و هم يغيرون من نبراتهم أنهم آسفون.
تباعدت تدريحياً بعد ذلك فترات فرض الحظر. و استمر وقت الإعلان عشوائي و إن لم يقع أي اضطراب أو هرج بعد ذلك حتى حينما أعلن عنه عدة مرات بصيغة"الآن". عندما عاد في إجازة إلى وطنه بعد حصوله على الجنسية، كان قد مر عامان على أقرب حظر تجول. فوجئ بأن أي رحلة تصل بلده بالليل تم إلغاؤها. عند وصوله مع زوجته لم يجد أحداً في انتظاره. أوصل زوجته لأهلها و انطلق إلى أهله. طالبه سائق السيارة بضعف ما كان يتوقع و عشر مرات قدر مادفع من ست سنوات في ذهابه للمطار. استقبله أبوه في سعادة معتذراً عن نسيان الموعد. اتصل بإخوته ليأتوا فأخبروه فرحين أنهم سيأتون إليه في الصباح الباكر. تغدى ونام عدة ساعات، وعندما استيقظ وجد نفسه في ظلام دامس. ارتطم بعدة أشياء و هو يحاول تذكر المكان للبحث عن زر النور أو الباب. خرج من الغرفة ليجد الظلام بالصالة لا يعكره سوى شمعة مضاءة، يجلس أبوه في ضوئها ناظراً إلى الفراغ أمامه كأنه يفكر.
-هل الكهرباء مقطوعة؟ هل هناك حظر تجول؟
نظر إليه أبوه و كأنه لا يعلم معنى ما يقال.
- حظر تجول؟
رد بتردد و كأنه بدأ يشك فيما يقول:
-نعم الحظر. كانوا يقطعون الكهرباء. أتذكر؟
-الكهرباء غير مقطوعة.
-ولم الظلام والشمعة؟
-هذا أفضل للأعصاب وأوفر.
كانت أمه تمكث وحدها في حال شبيهة بأبيه. أخوه الأصغر كان يضيء مصباح قراءة ليذاكر على ضوئه. ذهب ليتصل بزوجته عند أهلها فلم يجد الهاتف. دون أن يسأل أخرج هاتفه واتصل بها على رقمها الجديد. ردت و هي لا تقل عنه دهشة.
-جيد أنك اتصلت. كنت أنوي الاتصال بك من هاتف المنزل لكنهم ينزعونه بالليل. يقولون لا داعي لتعب الأعصاب.
سألها وقد بدأ يخمن:
-هل يطفئون الأنوار ويجلسون صامتين.
أجابت في حماس ظهر جلياً رغم همسها:
-نعم..أنتم أيضاً؟. حاول أن تخرج و سترى ما يفعلون.
بالفعل ارتدى ملابسه و اتجه نحو الباب. سأله أبوه بصوت تخلى عن هدوئه:
-أين تذهب.
رد بتلقائية و هو يراقب رد فعله:
-سأخرج لأتمشى. أوحشتني المدينة بالليل.
قال أبوه بذعر هامس كمن يختبئ من قاتل:
-أي ليل؟ لا أحد يخرج بالليل في هذا البلد منذ سنوات كثيرة.
رغم تنويه زوجته إلا أنه كان يشعر بالدهشة.
-كيف؟ كنت أخرج طوال عمري. و أنت وأمي كنتما تخرجان للسينما و التمشية.
مازال أبوه يهمس بالذعر نفسه دون أن يتحرك. فقط يزداد تمسكاً بذراعي المقعد.
-لا يوجد شيء اسمه سينما ولا أحد يخرج بالليل.
استدار ليفتح الباب فوجده مغلقاً بالمفتاح. استدار و قد علا صوته بصورة جعلت أباه يرتعد:
-أين المفاتيح؟
قال كمستعيذ:
-في الصباح تفتح الأبواب.
كاد أن يتمادى و لكن خطر له أن ينتظر حتى يكمل مشاهداته. في الصباح وجد أباه شخصاً آخر. ليس الأب الذي تعوده ولكن على الأقل أقرب له ممن رآه بالليل. أخوته أيضاً تغيروا. هناك شيء في الحديث مبتور. لا وجود لليل في حياتهم. اكتشف أن السينما والمسرح والملاهي انتهت. اكتشف أن لا يوجد أذان ولا صلاة جماعة حتى بالنهار. اكتشف أن تلك هي أول مرة منذ سنين يأتي اخوته لزيارة أبيه أو يرون بعضهم. ودعهم وذهب ليطمئن على زوجته ويسلم على أهلها. لم يجد اختلاف وإن أحس أنه هو وزوجته ضيفان ثقيلان يمثلان اختلالا في حياة الأهل. قرر الاتصال بشركة الطيران ليقدم موعد الحجز. وجد مكاناً في طائرة ظهيرة اليوم التالي. أخبرها وتركها وقد قرر أن يمكث في الشارع حتى الليل ليرى ما يحدث.
قبل المغرب بساعة خلت الشوارع كأنها ساعة الإفطار لكنها أشد وحشة. المطاعم والفنادق أغلقوا. لا يوجد من يعمل بالليل حتى محطات البنزين. كان الطابور أمام محطة بطول عشرين سيارة اختفوا فجأة دون تموين. سار على غير هدى و قد أدرك أنها ليلة طويلة سيقضيها وحده. كل الأماكن التي يتذكرها و يحبها صارت مظلمة موحشة. النهر يبدو في الظلام من على الجسور كهاوية. كاد أن يشعر بأنه آخر رجل في العالم يقف وحده وسط نقيق الضفادع وصوت حشرات الليل. لكن فجأة سمع سعلة. كانت بعيدة و متصلة ويصاحبها ما يشبه الضحك. سار باتجاهها و قد أحس بالحياة تعود. كلما اقترب علا صوت السعال والضحك و الحديث يصاحبهم صوت آخر جعله يضحك. كانت قرقرة الجوزة تعلن عن هويتهم وإن تمثلوا له كأبطال أمام ما رآه. هبط المنحدر المؤدي إلى غرزتهم على الضفة. استقبلوه كأنه صديق ينتظرونه و نعتوه بالبطل. قال أحدهم بطريقة مثيرة للضحك:
-يخرب عقلك كسرت الحظر؟
إذن هناك حظر.
-هل يوجد حظر؟
-نعم. حظر تجول ليلي للأبد.
-وأنتم.. لماذا لا تخافون الليل.
أجاب نفس المتحدث:
-وحده الحشاش لا يعرف الليل من النهار. وحده يطرق الأبواب منتصف الليل دون لوم.
قطع كلامه نفس الجوزة. أخرج الدخان و ابتسم قائلاً:
-لا تسئ الظن. نحن لسنا حشاشين تدفعهم الرغبة. نحن رافضون لم نجد ما نفعله سوى الحشيش. كما ترى البلاد صارت نهار فقط. حتى دون الحظر صار هناك حظر.
-حتى اللصوص؟
-اعتبر أن الليل غير موجود و ستفهم.
-وإذا مرض أحد.
-عيبك أنك غير خيالي. خذ نفس.
بدون تردد سحب عدة أنفاس. وجد بعدها نفسه وقد أدرك المعنى بل وأعجبه. أدرك فعلاً أن الليل غير موجود. الليل حلم لا يجوز الاستيقاظ منه. قال أحد الرفاق وكأنه التقط خيط تفكيره.
-وإذا ظهر من يحاول الاستيقاظ من الحلم تقول..
قال كالمستعيذ:
-في الصباح تفتح الأبواب.
ارتفعت الضحكات و التهاني وإن ابتلعها الصمت كهوة سحيقة.