(1) حسنا لقد قتلته
لم تكن تلك المرة الأولى التي تشرق الشمس فيها، ولكن صباح ذلك اليوم كان مختلفا جدا. ضوء الصباح بدأ يكشف عوالم الغرفة الباهتة، فيما بدت الستارة القديمة وكأنها عازل شفاف سينقشع قريبا، ما يعني أن المشهد سيكون مكشوفا لهم. بقي هو جالسا بنفس الطريقة التي جلس بها منذ دخوله عدا أنه لم يعد واضعا ساقا على ساق. ارتفعت أصوات صنابير المياه في الطوابق السفلية، يبدو أن أحدا ما أفاق من نومه. أخيرا علبة سجائري في جيبي يا إلهي بحثت عنها كثيرا. تحاشيت النظر إليه. درت في الغرفة مرّرّت كل ما فيها بدماغي، أعلم أني لن أعود هنا مرة أخرى.البندقية ما تزال مسندة إلى المقعد الخشبي. كنت أستطيع مسح بصماتي عنها بل أني فكرت في ذلك، ولكني لم أفعل. لم يكن الأمر اكتشافا عظيما منهم كما يقولون في الصحف. الأمر بسيط لا يحتاج إلى كل هذا التلفيق، فمن المعلوم أننا دخلنا سويا
كانت حميدة جالسة على عتبة الممر ممسكة بيد ابن أختها. رمقتنا بنظرة فاحصة عندما تخطيناها، ورغم أنها لم تبد اهتماما بنا إلا انه كان بمقدورها بعد ذلك أن تتذكر لون بذلته بل حتى إنه كان ممسكا بهاتف في يده. في الحقيقة أنا لم أرها بعد ذلك رغم أني طلبت رؤيتها لكنهم ادعوا أنها رفضت. كان هو قد ركن سيارته بجانب الرصيف المقابل، وكانت مفاتيحها فيما بعد على الطاولة أمامي. كنت أستطيع الهرب بها ولكن ذلك كان سيجعلهم يبتسمون على شاشة التلفزيون.
بداية كنت أتأمل العناوين المتراصة أمامي عندما اقترب هو ممسكا بيده ورقة صغيرة كان مشغولا أو هكذا بدا عليه. فيما مضى عندما كنت أرى فتيات الجامعة وهن يبحثن عن مراجع كنت انتظر حتى يتعبن ثم أعرض خدماتي، وكان الأمر ممتعا خصوصا وأنا أجد الكتب التي بَدلت مواقعها سابقا.
اقترب مني أكثر قال" عفوا " عندما لامسني لم أجبه تراجعت قليلا كي أسمح له بالعبور تمتم بشيء ما نظر لي وابتسم بطريقة تشبه ابتسامة القطط. لم تكن تمتمته واضحة لكنه على الأغلب كان يتذمر من طريقة إيجاد الكتب. قلت له " عن ماذا تبحث " بقي يحدق بالعناوين وقال بصوت لا مبال "كتاب في الأدب"
قلت له ساعتها وقلت له بعد ذلك بخمس ساعات " أعلم فهذا ركن الكتب الأدبية"
قال بضيق " إدغار ألن بو أبحث عن كتاب له أو عنه لا بد من وجود شيء ما هنا"
قلت له بسرعة دون أن انظر إليه " توجد كتب كثيرة عنه وكذلك له قرأت قبل فترة كتابا عنه وكان واسعا جدا هناك "عبرت عيناه مع إصبعي إلى حيث أشرت، واتجه مباشرة إليه وسحبه ثم عاد وشكرني وهو يبتسم ابتسامته التي تشبه ابتسامة القطط. ابتعدت عنه إلى الرفوف المقابلة.
أراد هو بعد ذلك بخمس ساعات أن يترك شبابيك سيارته مفتوحة كي لا ترتفع حرارة المقاعد، توقع مني ساعتها أن احذره من اللصوص،ولكني لم افعل. هم إلى الآن لا يعرفون شيئا عن تلك السيارة ولا يذكرونها في كلامهم. عاد بعد وقت لا أذكره كنت أقرا شعرا لرامبو عندما قال بلطف " أرجوك أتعرف مواقع كتب أخرى وعدني مدير المكتبة باستعارة ما أحتاج إليه "
قلت له " كتب عن ماذا "وأنا أعلم انه يأس من موظف المكتبة الذي لا يمل الترديد "الكمبيوتر معطل "
قال بسرعة " كتب ل بو" أشرت برأسي بالإيجاب عبرت القاعة ببطء كي أجعله يماشيني قلت" ما الذي تبحث عنه بالتحديد"
قال"كل شيء يخصه أنا أعد رسالة دكتوراه عنه "
قلت " آه قال برنادشو تم اكتشاف أمريكا ولم يتم اكتشاف بو"
قال كأنه اكتشف شيئا " هو أمريكي"
ابتسمت ثم أشرت إلى كتاب مدرسي كتب عن بو. التقت نظراتنا قال "أين"
"_تعال معي"
كان بعض الطلبة جالسين على طاولات المطالعة فيما كان موظف المكتبة مادا ساقيه من تحت مكتبه وهو يحل الكلمات المتقاطعة.
قلت "هل تعرف كم كانت حياة بو بائسة"
قال "هل أنت متخصص بالأدب الأمريكي"
هو يعلم آني لست كذلك فهذا واضح من ملابسي
"_لا لم أكمل تعليمي ولكن بو كاتب عظيم ولا يمكن لأي شخص أن يجهله ثم ينتظر أن يطلب منه بحثٌ كي يتعرف عليه".
لم يعجبه كلامي ابتسم ابتسامة القطط بعد ذلك بخمس ساعات كان لا يزال يبتسم نفس الابتسامة، وحتى عندما ظهرت صورته في الصحف بقي يبتسم نفس الابتسامة،
كنت أعرف أنهم لا يستطيعون معرفة ما عليهم فعله وأنهم يتخبطون في تصرفاتهم لهذا قررت مساعدتهم،ولكنهم بعد ذلك وعلى شاشة التلفزيون الرسمي أنكروا
أمسك الكتاب وشكرني
قلت له "أنا أعرف كل ما تريده"
ابتسم ابتسامة القطط لمع بعينيه ومض من السخرية. اكتفيت منه، وانشغلت بشيء أخر ولكنه بعد ذلك بخمس ساعات عاد، وعندما أخبرته أنني أعرف موقع كل كتاب في المكتبة بدا مصدقا.
كان قد جاء معي لشرب الشاي عندما أخبرته أنني أتوقع وجود مقالات عن بو في بيتي قال ساعتها شيئا ما عن انشغاله، ولكني عندما خرجت مساء وجدته ينتظرني قال إنه وجد بعض الوقت، وإنه أراد كذلك آن يحدثني عن رسالته. فتح باب سيارته الحمراء وهو يبتسم، كان يتدلى من طرف مرآتها عين زرقاء، إلى الآن لم يذكر أمر السيارة أحد لا بد أن حميدة هي التي منعت الجميع من الاقتراب منها وأنها أخبرت أهل الحي أنها لقريب لها متوقعة أن يشكرها ذلك القريب حين يعود. صعد درجات السلم المتراصة بطريقة تنْبِئ عن حماقة من بناها. نفض كمه جيدا عندما لامس الجدار. فتحت الباب الذي أصدر أزيزا عاليا. كانت الشقة مظلمة وباهتة. دخل بحذر، وعندما أشعلت النور، أشرت له على الأريكة. فكر هو أن لا يجلس، ولكنه جلس لا بد أنه فكر بغسل البذلة. وضع هاتفه النقال على الطاولة القصيرة أمامه، بعد ذلك بأيام قالوا أن هاتفه سرق. لا بد أن زوجة أحدهم ترسل الآن إلى عشيقها رسائل صوتية من خلاله.
قلت له " شاي أم قهوة"
كان وجهه معتما ابتسم ابتسامة القطط، باعد بين ساقيه قليلا، وضع كتابه الذي معه على الطاولة أمامه.كان علي إحضار الكتاب الذي وعدته، أذكر أن غلافه كان ممزقا، وأن طباعته كانت سيئة. كان الكتاب يتحدث عمن تأثر ببو من الشعراء، وكان اسم بودلير يتردد كثيرا في الكتاب على ما أذكر، ولكني بدلا من ذلك أحضرت بندقية. كانت قد استقرت تحت السرير منذ زمن بعيد ملفوفة بخرقة داخل كيس للنفايات، وكانت رصاصتها الوحيدة هناك تنتظر منذ زمن لا أذكره. لم يكن الكتاب مكان ما توقعت عصرت تفكيري للوصول إلى مكانه. قال هو شيئا ما، حسبت أنه يناديني. كنت لا أزال ممسكا بالبندقية. عدت إليه كان يتكلم بالهاتف مع امرأة ٍ كان صوته خافتا ولكن كلمة حبيبتي استقرت في رأسي
أسندت البندقية إلى الأريكة المقابلة، ودخلت المطبخ لأعد له القهوة، المثقفون في بلادنا يشربون القهوة ويستمعون إلى فيروز. شعرت بنشوة وأنا أرسم صورة الفتاة التي يتكلم معها لا بد أنها شقراء وان شعرها بني. سأدعوهما ذات يوم لشرب القهوة، وسوف أحدثهما عن بو كثيرا سيكون ذلك رائعا.
حملت القهوة، رائحة القهوة جعلتني أتوقف عند بائع القهوة المتجول، كان ضجيج السيارات قد علا، ولأول مرة منذ شهور لا أشعر بالغثيان من عوادم المركبات الكبيرة الذي يصدمني أول مروري بشارع الملك داود، بدا بائع القهوة متفائلا صب لي مسحوقا اسود بكأس البلاستيك وهو يبتسم، بل إنه طلب مني أن أجعل ثمنها على حسابه، فكرت أن أبتسم له، ولكني لم أجد فائدة من ذلك. قبّل قطعة النقود وألقاها في صحن متسخ، سامحته في الباقي قال لي البائع بنفس الطريقة التي قال هو بها "شكرا".
وضع فنجان القهوة على الطاولة القصيرة أمامه وانتظر حتى أجلس
قال "يبدو أنك تعيش وحيدا"
كان يبدو عليه الإجهاد في محاولة قول شيء كي يطرد الصمت الذي أثقل الجلسة
قال من جديد " لِمَ لَمْ تكمل دراستك "
فكرت في الشقراء التي اتصل بها، حتى أنني هممت بعد ذلك في رسالتي للنائب العام أن أطلب رؤيتها. توقفت عند بائع الكعك، كان من المستحيل علي أن أشعر بالجوع في ذلك الصباح، ولكني رأيت أن لا أبدل مسيري اليومي. لم أنظر إلى شاربي بائع الكعك الكبيرين مثل كل يوم ولكني تذكرت شاربيه، وأنا أنحني عند أول منعطف وأضع الكعكة بجانب عامود الكهرباء. لم تكن رائحته هي التي دلت عليه، شعرت برغبة بالتقيؤ ارتطمت بشخص ما، قال شيئا وعبر الشارع. سرت بمحاذاة شارع المكتبة. كان أحدهم واقفا هناك، عندما تخطيته ناداني وطلب هويتي الشخصية، أدخلت يدي بجيبي ببطء، ملايين من الأحرف تنهال في ذهني، علا صوت جهازه اللاسلكي، قال لي أكمل طريقك، ثم أدخل رأسه بنافذة سيارته. كان باستطاعتي رؤية المكتبة كان بابها الرئيسي مفتوحا. فكرت به ِ لماذا لم أسأله عن اسمه.
(2) إلى هناك
حسنا، سوف أقوم بالأمر بنفسي، كان عليّ فعل هذا منذ زمن بعيد. يا لهم من حمقى.
خرجت هادئا من أمامهم، لم أكلم أحدا، لم التفت إليهم، اعتقدوا أنني سأقف على الشرفة، أو سأنزل إلى الحديقة، ولكني أكملت السير ببطء كأنني أتمشى، وعند وصولي إلى البوابة الكبيرة انطلقت بخطى حازمة، وأنا أعلم أنهم ينظرون إلي. تجاوزت سيارتي المركونة منذ أعوام، واتجهت إلى الجهة الأخرى، وأكملت المسير.
لا بد أن دهشتهم زادت، وأنهم وقفوا على أقدامهم وأخذوا يتابعونني بأعينهم بطريقة مضحكة، وهم يتهامسون.
أكملت طريقي. كان الشارع مزدحما بالسيارات وبالمارة أيضا. توقفت عند عجوز يبيع السجائر في الطريق. ابتعت علبة تبغ واحدة، وعلبة ثقاب صفراء. ليتهم يروني، وأنا أشعل سيجارتي الأولى. لن أستمع إلى نصائحهم المزيفة بعد اليوم. أخذت نفسا بطيئا. لا أريد أن ابدأ بالسعال على مسامعهم من البداية.
تركت العجوز الذي ابتسم عندما تركت له الباقي، توقعت أن يشكرني، ولكنه اكتفى بابتسامة عريضة. بودي لو التفت خلفي. لا بد أنهم بعثوا من يتبعني، أما هم فأنا على يقين أنهم اقتحموا شقتي بمجرد غيابي عن أنظارهم، واخذوا يفتشون كما يجري في الأفلام السينمائية في كل أرجاء الشقة. هم هناك الآن ينظرون تحت الملاءة، وبين المقاعد، وعند شقوق الجدار في المطبخ. وربما مرر أحدهم أصابعه تحت عقب الباب أيضا. أعلم أنهم لن يتركوا شيئا إلا ويفتشونه. يا لهم من حمقى، لن يجدوا شيئا في الشقة، حتى مفاتيح السيارة أخذتها معي. سيزيد هذا من حنقهم، أعرف ذلك.
عبرت أول منعطف، وأشرت لسيارة أجرة. توقف السائق وأشار بيده من النافذة وقال بصوت مرتفع: إلى أين؟
قلت له مسرعا: إلى هناك.
ضحك السائق وانتظر حتى دخلت سيارته. ثم انطلق بهدوء، كان شابا صغيرا يرتدي قبعة غريبة. مد يده بسرعة وشغّل عداد التاكسي. بقي صامتا مسافة الشارع ذي الاتجاه الواحد. وحينما وصل إلى مفترق الطريق، قال من جديد: إلى أين؟
قلت له: ألم أقل لك إلى هناك.
قال: هل أنت مصمم؟
قلت: له أجل؟
قال: أخشى أن تتراجع في منتصف الطريق وساعتها لا أدري ماذا أفعل.
قلت له: لا تخف.
قال: ولكن عليك أن تعطيني أجرتي مقدما حتى أتأكد من نيتك.
أخرجت ورقة نقدية زرقاء كانت تنتظر منذ زمن في جيبي. أمسكها وحدق بها كأنه يشاهد عملة أجنبية، وزاد من سرعة السيارة، وهو يبتسم برضا حقيقي.
قال لي: لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟
قلت له: علي أن أنهي ما بدأته سابقا.
قال: إنك شجاع.
قلت له: على العكس خوفي هو الذي جعلني أقرر أن أنهي المسألة.
انفصلت السيارة عن الطرق الداخلية في المدينة، واتجهت إلى طريق معاكسة عبر نفق صغير، وأصبح عدد السيارات يتناقص من حولنا، وحينما اتجهنا شمالا لم يعد سوانا في الطريق.
قال: هل تعلم؟ لم تكن لتجد غيري يوصلك إلى هناك.
قلت له: كان هذا واضحا من البداية. هل انتظرت طويلا؟
قال: لا، ولكن هل تعتقد أنك تعجلت؟
قلت له: أبدا كان هذا هو الوقت المناسب بالضبط وبالثانية.. تعلم.. لو أنني تأخرت دقيقة واحدة لانتهى كل شيء.. ولكني بقيت حتى انتهت أخر لحظة لي.
قال: سوف أذكرك لفترة طويلة.
قلت له: لا أعتقد، ربما ستوصل بعدي من هم أحق بتذكرهم.
قال: اجل لست إلا سائقا.
صمتنا فترة طويلة، وبقيت أحدق بالسهول البنية على جانبي الشارع بمجامع عيني.
قال فجأة: هل أنت خائف؟
قلت له: قليلا..
قال: هل استطيع التكلم عن عمرك؟
قلت له: تعرف أن هذا السؤال ليس له أهمية في هذا الوقت بالذات.
قال: معك حق.
بقيت السهول البنية تملأ عيني. كأنها تمتد إلى ما لا نهاية. نظرت إليه كان كمن يقوم بعمل معتاد عليه.
قلت له: هل تحفظ الطريق جيدا؟
قال: بشكل لا يمكن وصف دقته.
قلت له: هل أوصلت أحدا قبلي؟
قال: لا.
قلت: فهمت.
الشارع أوصلنا إلى تقاطع طرق عملاق، لم أشاهد مثله في حياتي. وكأن أيدْ غير بشرية هي التي بنته. توقف السائق حائرا. وبدا كأنه ينظر إلى شيء يخيفه. نظر إلي وهو يبتلع ريقه بصعوبة، وقال: لا أستطيع معرفة الاتجاه الصحيح.
قلت له: لا يمكن..
قال: لا أعرف، لم أشاهد هذا من قبل.
قلت له: ما العمل الآن؟
قال: تعلم أنك لا تستطيع العودة.
قلت: وأعلم أن عليك أن توصلني.
قال: لنمكث قليلا حتى تنقشع الغمة.
صمت برهة وأكمل: هل نسيت شيئا وراءك؟
قلت له: أبدا.
قال: ربما لم تستهلك كل شيء وراءك؟
قلت: لا يمكن هذا، كل شيء هو بالطريقة التي يجب أن يكون بها.
قال كمن تذكر شيئا: خدعتني.. كيف استطعت فعل ذلك؟
أخذت أنفاسه تتزايد وتغير لون وجهه. ابتلعنا الصمت لفترة لا أدري زمنها، وفي النهاية أخذ نفسا عميقا.
رد لي ورقة النقود، وهو ينظر إليّ بعينيه الصغيرتين كأنه يراني أول مرة.
قلت له: لا أفهم؟
قال: بل عليك أن تكون قد فهمت الآن، كما أنت منذ البداية.
فتح باب السيارة، وخرج بدون رغبة وكأن هناك من يدفعه للخروج، وعندما أغلق الباب نظر إلي وقال:
كانت الرحلة منذ البداية لي أنا.. أنت لم يحن وقتك بعد.. عد أدراجك.
لم انظر إلى السهول البنية عند عودتي، أشعلت سيجارة ثانية، وأخذت نفسا عميقا، وجعلت أسعل لعدة مرات.
(3) البيت
لم يساعدني أحد، كانت الطريق مظلمة وشاقة، حاولت أن أستريح في الطريق، ولكن ذلك كان سيجعلني أخسر كثيرا. علمت أنه عليّ أن لا ألتفت ورائي. كانت أصوات مرتفعة جدا، بقيت ألهث حتى بعد مجاوزتي القنطرة. للمرة الأولى منذ خروجي، مددت يدي إلى جيبي.كان لا يزال هناك. أستغرب أني لم أضحك ساعتها.
عندما قطعت حافة النهر، أمسكت ركبتيّ، وجعلت أستنشق أنفاسا كثيرة. لم يكن أحدٌ بانتظاري ٌ غير شجرة كبيرة شبه ميتة. هويت تحتها لفترة، لم أدري كم بقيت. الغريب لم يكن هناك أحد، كان يجب أن أجدهم هنا.
التلة التي صعدتها،أعرفها جيدا، صعدت عليها كثيرا في صغري. كانت مطلة من الجهة الأخرى على غابة فاس. كنت أعرف بيتا قديما أول الغابة، كان يسكنه رجل بعين واحدة، قصدته ، لم أكن حذرا كأبطال السينما، ولم أكن طيبا بالقدر نفسه. الكوخ لم يكن مكانه، ولكن تبدل ببيت يلتف بسور عالي، درت حول السور، لابد من بوابة في الجهة الأخرى. فكرت بترك الأمر، أصلا أنا لم أكن أريد الكوخ، عليّ أن أكمل طريقي، شيئا ما جعلهم يغيرون الاتفاق، ولكن فضول البوابة جعلني أستمر بالالتفاف حول السور. لم يكن السور يشبه الجدران القديمة، بل هو سور عصري مبني بشكل أملس جميل.أخيرا هناك بوابة سوداء، عليها قفل كبير، نظرت من خلال شقوق البوابة، لم يكن هناك شيء يلفت الانتباه، ممر يتوسط أشجار سرو عالية، ينتهي ببيت من طابق واحد،ولكنه يحتل مساحة كبيرة بالنسبة لبيت
قضيت دقائق لا أعرف ماذا يتوجب عليّ فعله. من جهة علي أن أجدهم، شيء ما جعلهم لا يأتون، و من جهة أخرى يمتلكني شعور غريب تجاه هذا البيت. ربما كان به طعام يكفيني مضغ أوراق الشجر. ولكن البيت ساكن حتى الرمق الأخير، رغم أنه يبدو مألوفا. درت مع السور إلى الجهة الأخرى، لعلي أجد شيئا،ربما علي أن أخبرهم عن السور والبيت.
تحسست جيبي مرة أخرى. أشعرني هذا براحة، حتى أنه خطر ببالي أن امرأة ما، قد تسكن هذا البيت. لم أقابل امرأة من زمن بعيد، كل ما أذكره أن للمرأة ملمس طري. لم أتحمل الفكرة. كنت قد أنهيت الدوران حول السور الذي أعادني إلى البوابة مرة أخرى. تحسست الباب لم يكن فتحه سهلا، فكرت بالاختباء وراء التلة هناك، ومراقبة البيت. أنا جئت حسب الخطة، ولكني أجد أحدا، وعليّ البقاء حتى وصولهم. آه نعم أعلم أن الخطة البديلة تقتضي مغادرتي فورا.
اكتشفت ساعتها أني محتاج للنظر إلى وجهي بعد هذه المسافة الطويلة، ولكني لن أستطيع هنا، لماذا لم أنظر من خلال النهر لابد أن صورتي كانت ستظهر كالمرآة أمامي، تراجعت قليلا عن البوابة السوداء، لابد أن المرأة ستتفاجأ لو هي خرجت الآن. ثم أنهم لم يأتوا، وما يهمني شأنهم، لقد قدمت كل ما لديّ، بينما هم لم يأتوا إلى الآن، يحق لي أن أستريح. كم أود لو أنام تحت الشجرة الميتة هناك، دون الخوف أن أجد أحدهم فوق رأسي، ولكني قد أخسر كل شيء، وربما أتعرض للمحاكمة. قد يخيفها وجودي هنا أخشى ذلك. لابد أنها تخرج في الصباح لتسقي الأزهار التي حول البيت. هم لم يأتوا إلى الآن لست المخطئ
(4) برومت
علي الذهاب الآن .. لا أريد الاستمرار أكثر هنا، عليكِ أن تختاري، بوسعك ذلك، كلهم سيرضخون في النهاية .. أنتِ تعرفين ذلك .. بوسعك أن تتركي كل شيء .. حسنا لا تريدين .. كما تشائين، سوف أذهب وحدي، الطريق مهما كانت مخيفة لن تكون أكثر إخافة من ابتساماتهم هنا .. أرجو أن لا توعزي لهم بنيتي. كان يمكن أن أخفيها عنك، ولكن علي أن أخبركِ .. قد تودين أن تفعلي مثلي .. بوسعنا الهروب الليلة بمنتصف احتفالهم المزعوم .. تعالي معي .. أرجوكِ .. حسنا كما تريدين .. سأطلب منك .. آه أبالغ بعواطفي حتى أنني أتجرأ أن أطلب منك طلبا رغم ما تبدينه من عدم المبالاة .. حسنا إذا أمسكوني ورأيتني معهم، لا تجعليني أراكِ، دعيهم يقتلونني كما قتلوا برومت .. لا تجعليهم يقودونك أمامي كما فعلوا بزوجته عندما طلبوا منها أن تبصق عليه.
أتمنى عليك أن تتركيني حتى أستطيع النجاة .. هل تظنين حقا أنني سوف أفشل .. لقد حسبت حساب كل شيء .. حتى كلاب الحراسة البنية بين الجدار الأخير والمدينة .. وكذلك الأشقر تدربت على فك شفرته .. سوف أنجو .. صدقيني .. هل أعود إليك، لا أعتقد ذلك .. أنتِ تضيّعينَ فرصة كبيرة بعدم الاشتراك معي .. سوف تجعلينهم يراقبونك أكثر .. بل سوف يتخلون نهائيا عن ملاطفتك، كما هم الآن، فهم على ثقة أنكِ لست منهم .. سيصوبون أنظارهم تجاهك أكثر، وسوف لن تستطيعي الهرب حتى لو حاولت بعد ذلك، لأن الحصار سيكون قد اشتد عليكِ .. بينما ساعتها أكون أنا على شاطئ مدينة سالم مع امرأة ليست أنت ..حينها ستعلمين أنهم لن يستطيعوا أن يلحقوا بي .. ربما تعرفين ذلك الآن،ولكنك تكابرين.. كل الابتسامات المرسومة على وجوههم، هي صناعية تبعث على الغثيان
..إنهم مبرمجون على الابتسامة.. الم ترِ كيف قتلوا برومت وابتساماتهم لم تفارق وجوههم .. حسنا لم يتبقَ الكثير من الوقت .. لدي أقل من ساعة بوقتهم.. هل تسمعين بدأت أصواتهم بالابتعاد تجاه الصالة الشرقية .. لن يلبثوا أن يعلنوا احتفال نصرهم بمقتل برومت.. ستلقي زوجته خطابا تتكلم فيه عن بداية شكها بزوجها قبل أن يقبض عليه .. حسنا لو كان الأمر كما تزعم فكيف تركته يذهب إذن، وانتظرت حتى أعلنت كلاب الحراسة البنية عن تجاوزه ..اسمعي انقضى أغلب الوقت.. سوف أتجه الآن إلى القاعة الشرقية بخطى واثقة .. عليك أن تأتي بعدي وكأنكِ لم تريني .. بعد ذلك سوف أرووغ منهم ببساطة، وكأنني أريد فعل شيء خاص .. ربما تستطيعين اللحاق بي.. سيكون عليك التفكير جيدا.. إنما بسرعة فلن تجدي الكثير من الوقت أمامكِ .. سوف أتجاوز كل الحواجز دون توقف حتى أصل إلى مشارف مدينة سالم.. الآن عليّ التوجه للاحتفال .. ستلحقين بي.. لن أندم أنني أخبرتكِ .. لن تشي بي .. أليس كذلك.. لن تجديها فرصة للاحتفال مع ابتساماتهم.
(5) سيجارة
تفعلين كل شيء ببساطة، وكأنكِ تطفئين سيجارة منتهية، وكأنكِ تخلعين قفازة قذرة.
انتهى كل شيء .. تجدين َ دائما العبارات التي تريدينها، تستطيعين تشكيل حروف الكلمات كما تشائين، وكأنها أمرٌ واقع لا مفر منه .. سوف تنسحبين بهدوء .. يا لها من جملة مكررة .. قد لا تستطيعين رؤيتي .. سوف لن تستطيعي رؤيتي.. سوف لن أراك إلا بصحبتهِ.
سيخرج من السجن بعد أيام
قبل فترةٍ قلتِ: " السياسيون يسجنون فجأة،ويخرجون فجأة"
كنتِ تعرفين كل شيء .. هذا واضحٌ.. لم يكن أمر خروجه مفاجأة لكي .. كنتِ تعرفين ..
أصبح أمر خروجه من السجن مهما جدا لكي .. شعوره.. تتكلمين عن شعوره ِ الآن .. لم يعد طليقك ِ أصبح الآن زوجكِ.. هو الآن زوجكِ.. وتحولت أنا إلى شخص ما.. شيء ينتمي إلى الماضي .. بحيث عليك أن تلقي بالماضي وراءكِ .. أعلم انكِ ستنظرين لي بعد اليوم نظرة مبهمة ، وأنتِ تجتازين الشارع ممسكة بذراعه كأنه قبطان ٌ يمخر بحرا لجيّ.
لم تذكرينه من قبل بهذه الطريقة.. لم يكن باستطاعتك حتى لفظ اسمه.. كنتِ تطلقينَ عليه لقب " هو" فقط "هو".
كان حينها يقبع في ظلمات السجن. ساقطٌ من ذاكرتكِ.. وأنا كنت شخصٌ مثير ٌ للدهشة.. مثيرٌ للدهشة ِ كما قلتِ مرة .. قلتِ ذلك وأخذتِ نفسا عميقا من سيجارتكِ الرفيعة
وقلتِ: " أنتَ لم تحاول حتى لمس يدي "
تصادمت عينيَّ بعينيكِ الواسعتين .. يا لجرأتكِ تستطيعين التحديق في ّ إلى ما لا نهاية.
قلتِ مرة أخرى: " لم تصافحني منذ عرفتكَ "
أبعدت عينيّ بعيدا عنكِ إلى الشارع، كان المارة يفعلون فعلهم اليومي عبر التسكع البليد .. كنتِ لا تزالين َ تنظرين َ إلي.
قلت لكِ: "مصافحة المرأة حرام "
ضحكتِ.. وضعتِ سيجارتكِ على منفضة السجائر.. نظرتِ إلى رفوف المكتبة .. عبرت عيناكِ مع المجلات .. أخرجتِ واحدة تصفحتها .. لم تنظري للحروف.
قلتِ مجددا بصوت هادئ وكأنك تتكلمين مع نفسك:" أنتَ مثيرٌ للدهشة "
دخل رجلٌ حمل صحيفة يومية، ودفع ثمنها دون أن يتكلم.
قلت لك: " القهوة ساخنة "
رفعتِ سيجارتكِ إلى فمكِ
وقلتِ:" سأعود"
لم تعودي.
(6) القارب
القارب مربوط بإحكام بنتوء صخرةٍ كبيرةٍ على شاطئ يبلله الموج. ولكنه لا يمتد كثيرا فسرعان ما يتصل بغابةٍ شاسعةِ مترامية الأطراف.
ولكنها محاصرة بالماء من كل جانب، مكونة جزيرة تطيش على البحر، محّملة بآلاف الأشجار الوتدية الصامتة، التي لم تلتق عبر مئات سنوات حياتها إلا بالرياح التي تعبرها مسرعة حينا، وهادئة حينا آخر، وربما ساكنة لبعض الوقت.
وليس في تلك الجزيرة موطئ أثر لغير الريح، وربما بعض المطر الذي ينسل إلى البحر مسرعا فوق رؤوس الأعشاب البرية، نحو البحر الذي ولد منه قبل زمنٍ يجهله، وثم يعود إليه من كل زوايا الجزيرة التي لا يستقرّ عليها إلا يسيرا، ملامسا للأشجار التي لم تعرف من الغرباء سواه.
يعاود الليل والنهار مرورهما على الجزيرة المستسلمة لهما، عبر إضاءة ٍ تكشف حتى الظلال بين الأشجار العالية،وظلامٌ يخبئ تحت رماده الأسود حتى البحر.
تسكن الجزيرة على ذلك البحر البعيد، منذ آلاف السنين، وهي لم تر، ولم تستقر بذهن.
(7) نص مونولودراما: وقائع لم تحدث
يفتح المسرح على رجل يجلس خلف طاولة خشبية عليها أوراق غير مرتبة وزجاجة جعة بيضاء وكؤوس فارغة، وهناك غطاء رمادي ملاصق لخشبة المسرح قريب من الجمهور يظهر و كأنه يخفي تحته ملابس وأغطية غير مرتبة، وفي آخر المسرح مغسلة ماء بجانبها باب قديم.
يتوقف الرجل وهو يشيح الأوراق جانبا، يبدو عليه الفقر يرتدي ثيابا شتوية بالية،شعره كث متهدل على وجهه مما يضفي عليه مسحة جمال .. ينظر إلى الجمهور.
_حسنا أتيتم كنت أعرف أنكم لا بد وأن تأتوا، هو طعم لا يمكن إلا ابتلاعه. أعرف هذا أعرفه منذ رأيت الرؤوس تتجمع حول الإعلان. بل أعرفه من قبل أثناء الدقائق التي قضيتها بنصب الشرك لكم.. (يدور حول نفسه ببطء كأنه يبحث عن شيء) حفل مجاني.. قلتم لبعضكم حفل مجاني ..ممثل شاب جديد لا يهم لم يسمع به احد لا يهم ما الخطأ في ذلك اتصلتم ببعضكم .. أحضرتم زوجاتكم وأطفالكم، لا يهم من المخرج ما هي القصة لا يهم .. مجانا .. أكثر ما يمكن فعله في هذه البلدة الفرنسية النائية هو إعلانٌ مجاني .. ليس أكثر إغراء للمغتربين من حفل مجاني فقط لم تظهر في الإعلان صورة لامرأة ولا لممثل معروف، مجانا.هذه الكلمة السحرية ..بلاد الحرية كل شيء بها ممكن الجعة .. النساء .. الملاهي كل شيء ممكن ..لم أغصبكم على المجيء أريد من البداية أن تعلموا هذا الأمر جيدا لم أغصبكم على شيء. إن هي إلا بضع ورقات ألصقتها على أعمدة الكهرباء لم تستمر طويلا فلا بد أن عمال النظافة أزالوهن سريعا.
ولكن ما المشكلة في ذلك لماذا جئتم إذا لابد أنكم تتساءلون أريد أن أقرء لكم دستور البلاد. حسنا إنني أمزح لا تضجروا لا تشيروا بأيديكم على وجوهكم مثل سلسيا عندما كنت أحدثها عن المدرسة. (يضحك مرة واحدة وهو يتكلم) كانت تشير بيدها كثيرا هكذا (ويشير بيده على جبينه) تعبيرا عن سئمها. ولكنها لم تعد تشير بيدها الآن بتاتا.(يصمت قليلا ثم يسكب من الزجاجة قليلا من الجعة في كأس صغيرة ويجرعها دفعة واحده ويكمل) فلابد أن ذلك القذر لا يكلمها عن المدرسة.. أنا أتحدث هنا مع نفسي وسلسيا تعاشره هو .. لو كانت أمي حية لملأتها الدهشة بل هي لن تصدق، كانت أمي لا تتصور أن ترى في حياتها امرأة تدخن..(يضحك) أجل أستطيع الآن أن أخبركم بهذا لم تكن أمي تتصور أن تدخن امرأة أمام رجلٍ، كنت أخجل أن أقول هذا لسلسيا ..أمي كان شعرها مجعدا رماديا أخبرتها مرة أنني سأحفظها سورة من القرآن ففرحت وراحت تلح علي كل يوم متى نبدأ وحين أسمعتها مرة آية سَعِدَت بتكرارها مئات المرات وحين عدت مساء كانت قد قلبت الكلمات .. ..آه أمي كانت تربط شالها حول رقتها السمينة كما كان يفعل الفرسان القدماء. أمي لم تتصور هذا بينما سلسيا الآن مع زنجيّ (الجملة الأخيرة يقولها بصوت مرتفع) هكذا بكل بساطه كما أفعل الآن بكأس الجعة الفارغ (يمسك بالكأس ثم يدعه) أجل الأمر منتهي .. منتهي لا تريد في أحشائها قذرا عربيا آخر. (يخفض صوته) قالت ذلك بينما كانت تجرع الجعة بعطشٍ أبدي سافل .. انتهى الأمر لم تفعل أكثر من ذلك .. كان معطفها الأسود ملقى على السرير بقربها .. قلت لها ابني ..(يصرخ) ضحكت (ينظر إلى الجمهور مباشرة) ضحكت ألقت رأسها إلى الخلف كأنها تبحر في زورق منسيّ .. سلسيا سلسيا أنت حامل لا تستطيعين لا تستط ..(يصمت قليلا ثم يتكلم بصوت خافت وهو ينظر إلى الأرض) لماذا جعلتِه ينمو لماذا أعطيتِه فسحة من الحياة.. ما دمتِ سوف تلقين به.. ببساطة إلى بالوعة الحمام (يصرخ) أيتها الشيطانة القذرة سأقتلك ..(يهدأ كأنه سمع صوتا يذهب إلى الباب يصرخ) لا أريد جريدتكم العاهرة (يصمت من جديد يلتفت إلى الجمهور) كانت تصرخ انسكبت الجعة على ثوبها القصير بللت نفسها، كأنها تتبول..(يتكلم مع جمهور بنبرة أهدأ) هنا.. سأخبركم كان هنا سرير خشبيٌّ مصنوع من شجر البلوط الأحمر (يشير إلى مكان بقرب الغطاء الرمادي) وكان معطفها الأسود ملقا هنا كأنه فهدٌ ميت .. اشتريته لها أنا نعم أنا من أجل أن ترتديه لذلك الزنجي (يرفع صوته لا ينظر إلى شيء معين) بلاد الحرية ..هاه بلاد الحرية (يقلد صوتها) شو يعني لا يهم زنجي شو يعني هذه فرنسا لا يهم لا أحد يلومني.. عاشرت عربيا قبله لم يلمني أحد.. متخلف ..(يعود يصمت من جديد ينظر إلى الأرض كأنه يكلم أحدا) كانت جارتنا زنجية كانت دائما تصطحب أمي معها في ذهابها إلى السوق. ماتت قالت سلسيا يجب أن تقتنع أن أمك ماتت حتى ترتاح ولا تكلمني عن رسائلها التي انقطعت لم تعد ترسل لك نقود هي ميتة يجب أن تعرف هذا أنزع الفكرة من رأسك كي تستطيع أن تعيش بسلام..ماتت (يملئ كأس جعة ولكنه لا يشربه يتكلم بصوت خافت) لم أكن أريد إلا أن تبقى معي .. كانت تفعل شيئا أفقت من نومي على أنينها المكتوم.. بحثت عنها.. صوتها في الحمام..(تتصاعد نبرات صوته) تلهث كأنها تدفع شيء ثقيل..سلسيا ماذا بك لا تجيب يرتفع لهاثها أكثر سلسيا افتحي افتحي الباب استمرت بأنينها طويلا كأنها غابات من الترقب قبل أن يتحطم الباب .. عارية كانت..ملطخ ٌ أسفلها بالدماء سيلٌ أحمرٌ هابط عبر فخذيها يتجمع نحو ثقب البالوعة .. كانت تبكي شعرها التصق بمخاطها .. (يقول بصوت لا يكاد يسمع) أنزلته ..هكذا بكل بساطة (يبدو كأنه يتحدث مع شخص ما يرفع صوته بغضب ولكن ببطء) هكذا بكل ما في الشياطين من برود تركته يهوي كأنه منيٌ أحمرٌ في ثقب الجحيم أي كائن هي أي ملعون سافل يسكن قلبها..كنت .. كنت أريد أن أسميه جميل .. كانت أمي (يهدأ) تريد ذلك أرادت أن تزوجني نبيلة حين أعود من فرنسا.. هاه نبيلة لا بد أنها أنجبت عشرة أولاد هي لن تنتظرني عشر سنين، نعم النساء لا ينتظرن أحدا لا ينتظرن أيّ أحمق في الكون أبدا إنهن سفن شراعية لكل هارب مسعور.أي أحمق تافه هو الرجل أي قارب صدأ هو قبره ..(يصمت قليلا ثم يبدأ تدريجيا بالبكاء) سلسيا حبيبتي لقد تركت كل شيء أحبه كي لا أترككِ سلسيا معبودتي لا تذهبي .. تعلمين كم أحبكِ .. انفطر شوقا لك .. تعالي تعلمين .. كتبي أحرقتها لتفرحي .. أحبك لم أخنكِ في يوم من الأيام أقسم لك بكل الشياطين في الكون أنني لم أخنكِ أبدا .. تلك الشقراء كاذبة أجل أقسم لك كاذبة لا تصدقي .. هي من اقتربت مني في البار قالت أنها تعرفني وأن اسمي ماثيو وأنني كنت جنديا وأنها كانت تعشقني بالزى العسكري أترين جعفر اسمه ماثيو لم ادعها هي .. لحقتني قالت أنها تريد كأس من الجعة كي يدفئها .. أقسم لكِ لم أخنك..حرامٌ عندنا الخيانة .. نحن لا نخون .. سلسيا لا تتركيني لا أستطيع الحياة بدونك .. شوارع البلدة تخيفني جدا كأنها تعرف طريقة نظرات أمي ..(يبدأ بالكلام وهو يبكي بصوت أعلى) أحس بنظراتها خلفي (يضم يديه على نفسه من الخوف كأن أمه خلفه) تزدريني .. أمي.. أرجوك .. لا تغضبي،، أمي أرجوك.. لماذا تنظرين لي هكذا أمي. أقسم سأعود أمي أقسم .. سأقبل قدميكِ.. لا تنظري هكذا أرجوكِ..لا زلت أتذكر الشقوق على كعبيكِ أترين لم أنسى.. قالت لك جارتنا يجب إخفاء قدميكِ في الصلاة .. أمي أترين لم أنسى شيئا.. لم أنسى بلال صديقي كيف أنساه لقد باع ساعته حين سافرت وكان معك في المطار .. أمي لا تنظري لي هكذا .. أحس بك في كل مكان (يشرب بسرعة من الزجاجة ثم يصدر زفيرا قويا تعبيرا عن الشيء الملتهب الذي شربه.. يصمت فترة طويلة) ..ذلك الزنجي ..(ينظر إلى الجمهور) إنه هنا لقد خبأته لتروه سوف أطلعكم على سر خطير إنه هنا .. يا له من دميم بشع كيف قبّلت سلسيا شفتيه القذرتين ..كنت أريد أن أخيفه اختبأت تحت السلم كانا مخمورين تماما .. تبعهما كلبه البني دوفير ..لن تصدقوا أنا مرة أحضرت له كلبه، كان قد اختفى، فجأة رأيته وأنا عائد، كان ينتفض بشدة من المطر، وهو واقف تحت شجرة عارية، قلت له (يجلس على ركبتيه كي يمثل كيف نادى الكلب، يصفق) هيه دوفير تعال سوف أعيدك ..لم يكن صاحبه في الشقة كانت سلسيا _وأنا أنشف شعري _ تصب له الحليب قالت:"سأعيده في الليل" كان يهز ذنبه .. قالت سلسيا بعدها:" إنه زنجيٌ صاحب الكلب" ..أنا.. نعم أنا من أعدت له الكلب ومع من مع سلسيا فكافئني بمعاشرتها ..ولدي ابتلعه ثقب الحمام ليرضى هو..(يلتفت بسرعة إلى الخلف يفتح حنفية الماء ويستمر بلف المفتاح فتره كي يظهر انه يفتح الحنفية إلى الآخر ينزل الماء بقوة إلى المغسلة يصدر الماء صوتا قويا ثم يبقى ينتظر للحظات وهو ينظر إلى الماء ثم يلتفت إلى الجمهور وهو يتكلم) لم يفتحا لي الباب صرخت عليهما ولكنهما لم يقولا شيئا كأنني غير موجود كأنني كائن هلامي .. هل كانت قوتي التي حطمت الباب أم قوة الشياطين التي أرادت ذلك ..وحين وجدت نفسي عندهما كانا عاريين تماما صرخت هي بوقاحة ..لف هو معطفها حول نصفه السفلي أراد أن يعتذر.. أراد أن يغدر بي أجل هذه هي الجملة الحقيقية لما أراده هو.(يصمت ثم يصرخ) اللعين (ثم يذهب بسرعة إلى الغطاء الرمادي يكشف عن رأس أسود لجسد ملقى تحت الغطاء ثم يسحبه بقوه فيظهر نصف جسده الأسود العاري ويبقى الرداء مغطيا شيئا منه) أيها اللعين ..(يسمع نباح كلب ينظر حوله ثم تظهر أمامه ذراع بيضاء لجسد آخر تحت الغطاء يجلس قرب الجسد المغطى، هناك مسافة الآن بين الجثتين يرفع الغطاء عن الجسد الأبيض إلى درجه يظهر منها أنها عارية و يضع ذراعه تحت رأسها) سلسيا أنظري (يشير إلى حنفية الماء كانت مغسلة الماء قد امتلأت و الماء يتدفق على خشبة المسرح) سوف يعود جميل .. سيعود أعرف إنه سيعود مع الماء.. سأعيده إلى أحشائك من جديد سوف يكبر مثل قارب قوي (يمسح وجهها بيده) سلسيا وجهك أزرق .. مساحيق تجميل اجل أنت تحبين هذا دائما تفعلينه لا تنتهي عن ذلك.. ولكن لا تغضبي حبيبتي إنه جميل، لم تكن أمي تحب المساحيق وبّخت نبيلة لأجل ذلك مرة فحمّر وجهها، وغطته بكتاب المدرسة .. لكن هل تعرفي لن أخبرها أجل لن أخبرها ..أمي حنونة ستصفح عني دائما تصفح عني (يقبلها) سلسيا شفتاك متجمدتان .. هل أنت بردانة أجل .. يا لي من أحمق (يضع رأسها برفق على الأرض يغطيها بإحكام تاركا الجثة السوداء بلا غطاء) سوف أحضر لك المعطف لا بد أنه هناك عند الزنجي سوف أطرق الباب عليه (يتكلم هو الآن كأن الزنجي غير موجود) سوف أطلب منه المعطف بأدب كي أغطي سلسيا ثم هو لن يستطع فعل شيء هي معي الآن (يفتح الباب ويخرج
يبقى المسرح فارغا يستمر الماء بالتدفق على خشبة المسرح ثم يصل إلى الجثتين وينزل إلى مقاعد الجمهور. لا يستمر الهدوء طويلا في المسرح تبدأ الهمهمة تعلو بين الجمهور يقف أحد الجالسين في الصفوف الأمامية ينظر وراءه إلى الجمهور ثم ينظر إلى الجثتين ينادي بصوت مسموع هيه هيه ثم ينظر إلى الماء تحت قدميه. يقترب أكثر من الجثتين يصعد الرجل إلى خشبة المسرح ينحني إلى الجثة السوداء يهزها ثم ينظر إلى الجمهور فزعا.. ويصرخ
(8) العائد
لماذا يتوجب علينا أن نموت. كان يمكن أن نأخذ إجازة طويلة مثلا، نقضيها في مكان ما وراء البحر، وبعد ذلك نعود من جديد، في وقت من الأوقات.
كان يمكن لهذا أن يكون أقل كلفة على الأقل.
وأعتقد كذلك أن العودة من الإجازة تلك يجب أن تكون فجائية، وبدون أي إشعار، هكذا بكل بساطة يظهر العائد فجأة في طابور لشراء الخبز.
هذا أفضل من أن يكون للعودة موعدٌ محددٌ، لأن الموعد هذا قد يتحول إلى مهرجان يتم التداعي له، وقد يتوجب على المحتفلين _ إذا حددوا موعدا_حجز قاعات كبيرة تحييها فرق غنائية، ويشارك بها حتى رجال الدين. أما إذا كان العائد من عائلة السلطان مثلا فقد تقام احتفالات كبيرة وقد يصدر عفو عام عن المساجين بهذه المناسبة.
ولكن من جهة أخرى سيكون من غير اللائق، أن لا يجد العائد أحدا بانتظاره خصوصا إذا لم يكن من علية القوم، وسوف يغير هذا من حالته النفسية، خصوصا بعد انقضاء ساعات طويلة في حر الظهيرة، ولا يأتي أحد لملاقاته.
لذا أنا مصر على أن تكون العودة فجائية، ولن أغير رأيي، إن اقتراحي يقوم على فكرة أن يجد العائد زورقا مخصصا لعودته، وذلك طبعا حين يحين الوقت المناسب للعودة.
واعتقد أن الزورق لا يجب أن يكون كبيرا، بل زورقا صغيرا يفي بالغرض فهي سفرة لمرة واحدة. إلا إذا كانت العودة جماعية وهذا سوف أفكر فيه لاحقا. المهم أن العائد سيستقل الزورق عائدا لوطنه مرة أخرى. وهكذا سيتسنى له أن يتأمل جيدا في رحلته.
وما أن يصل العائد إلى شاطئ مدينته حتى يتسرب لقلبه الحنين الوطني. وقد يسجد مقبلا رمل الشاطئ، هذا إذا كان العائد شاعرا أو أديبا ثم سيكون أول ما يفعله _كما أقول لكم _ أول ما سيفعله العائد هو التوجه إلى أول صياد يراه بخطى واثقة. ولأني أعرف هذه المنطقة فمن المؤكد أن الصياد سيكون مشغولا برقع شباكه، لأن الصياد إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون على الشاطئ يرقع شباكه، وهو حين يكون كذلك من الراجح أنه لن يسمع وقع خطوات العائد، ولكن العائد بالتأكيد سوف يستمر بالاقتراب من الصياد، وعندما لا يرفع الصياد رأسه، سيبادر العائد بإلقاء تحية الصباح، هذا إذا كان الوقت صباحا، أما إذا كان الوقت بعد الظهر فسيلقي العائد عليه تحية المساء.
وعادة في مثل هذا الوقت يرد الصياد باقتضاب، فهو مشغول برقع شباكه، والصيادون لا يحبون أن يتكلموا وهم يرقعون شباكهم.
هذا حتما لن يعجب العائد فهو قد ملأ رئتيه للتو من هواء مدينته، وهو الذي توقع أن يجتمع من حوله جمعٌ غفيرٌ ليسألوه عن المكان الذي كان فيه، بل إنه خصص جوابا لكل سؤال توقعه.
ولكن هذا الصياد لا يكترث، بل يبدو عليه الحنق بسبب مضايقة العائد له أثناء ترقيع شباكه، وهذا طبيعي فالصيادون لا يحبون من يشغلهم وهم يرقعون شباكهم.
وهنا أنا متأكد أن العائد سيبتعد عنه متذمرا، ولكنه قد يتفاجأ بعد خطوتين أن الشاطئ خال، وهذا يحدث كثيرا في مدينتي، حينها لن يجد العائد بدا من التقهقر للصياد مرة أخرى. ولأجل لفت انتباهه قد يتنحنح العائد بصوت ظاهر، ولكن الصياد لن يلتفت فقط بل يتأفف غاضبا دون أن يرفع رأسه.
لا أعتقد أن العائد سيستسلم بسهولة، أظنه سوف يتكلم عن الطقس. فعندما لا يجد المرء ما يقوله يتكلم عن الطقس مثل: (الجو حار.. ياه جهنم). أو يقول: (الدنيا ثلج ..تجمدنا).
ولن يحرك الصياد ساكنا عدا أن أنفاسه ستتلاحق بشكل مسموع. ساعتها قد يفقد العائد كل لياقته ويصرخ بأعلى صوته: (أنا العائد من وراء البحر).
حينها وحينها فقط سيرفع الصياد رأسه وينظر بعينيه الصغيرتين هذا إن كان من أصول آسيوية أما إذا كان من أصول افريقية فسينظر بعينين جاحظتين للعائد، ثم يقوم بعصبية ليسحب شبكته مبتعدا وهو يزمجر:(العائد .. العائد.. كلهم يقولون ذلك).
وهذا طبيعي فالصيادين لا يحبون من يعود من وراء البحر، خصوصا وهم يرقِعون شباكهم.
(9) الغرفة المنسية
_"إنه هناك "
اجل أنا هناك في الغرفة المنسية، ستقولين ذلك له، اجل ستقولين له:
" إنه هناك منزوٍ في الغرفة المنسية "
سوف يقترب بحذر إنه حَذرٌ تماما، لماذا يجب عليه أن يكون حذرا.. سوف ترتسم في ذهنه شخصيات عديدة، وكؤوس ربما كؤوس كثيرة هي في ذهنه الآن،.. وربما ترتسم في ذهنه شوكة.. اجل كثيرا ما فكرت فيها شوكة، هل تملكين شوكة هناك ..ضحكتِ وقتها.. الآن ماذا هل تضحكين معه.. اجل.. اجل
" انه هناك منزو في الغرفة المنسية "
تقولين ذلك وتكملين:
" لا،لا، مقفلة إنها مقفلة "
ستقولين ذلك بنبرة صادقة وستعلو وجهك تلك الدهشة الريفية.
كيف تستطيعين فعل ذلك.
أخبرتك مرة بهذا كنا وقتها نسير في حقل الذرة، وكنت ِ تمسكين بيدك حبة ذرة كانت حبة صغيرة.
قلت لكِ ذلك، ضحكتِ. لم يكن الوقت تجاوز العاشرة صباحا، ولكنك ِ كنت مرتاحة. كان أبوك الوحيد قد مات. ضحكنا حينها، قلت لكِ " الوحيد" .. لكنك الآن ستقولين له بدلع:
" هو هناك في الغرفة المنسية بعد ممر طويل "
ستشيرين بيدك بعبثية سوف تفعلين ذلك
لابد انه أحضر جعة معه قال لك، قال إنه سيحضر جعة، وأنت قلتِ له:
" لا تتعب نفسك "
قال:
" ولكن أين سيكون"
قلتِ بسرعة:
"سيكون هناك في الغرفة المنسية ".
لماذا يتوجب علي أنا أن أكون في الغرفة المنسية بينما هو يكون معك أنت وتحت الملاءة الزرقاء .. ضحكتِ.. تحبين الضحك.. يومها في حقل الذرة ضحكتِ قلت لكِ:
" أبوك الوحيد قد مات "
سمعتك بعدها ترددين الجملة كثيرا حتى انك قلتها لزينب.. نَظَرت هي الأخرى نحوي كنت جالسا العق حبة البوضة.. قالت زينب وهي تقهقه:
" أبوك الوحيد".
سوف تخبرينه الآن، لم تخبريه من قبل، ربما نسيت أن تخبريه.. أول مرة يأتي للبيت حسنا، المرة الأولى كانت في السينما.
حتما ستتذكرين ستخبرينه بقصة أبوك الوحيد، قد يفرض هذا سؤالا عليكِ
قد يسألك:
" أين هو "
ستقولين:
" هناك في الغرفة المنسية "
وقد تشيرين بيديك الاثنتين كما تفعلين عند الغسيل. سيعيد السؤال مرة أخرى:
" متأكدة أنت"
_ "نعم نعم "
سيسأل بعدها كما سألتك زينب أول أمس:
" ماذا تريدين به"
ستقولين:
" ظل رجل"
ولكنها لم تضحك، ولا أنا .. في حقل الذرة أنا بكيت عندما أردت أن تريني الشوكة أجل رفعتِ طرف فستانكِ ولكني بكيت
فقلتِ:
" حسنا لن اريك "
تملكين شوكة هناك. أخاف أن أتخيلها. أخاف، لا تفتحي ساقيكِِ.. إنها الشوكة تهز برأسها.
أخبريه أنني في الغرفة المنسية.. هل نسيتِ .. أخبريه لا تدعي الشوكة تهتز سوف أبقى جالسا.. لن اقتحم الممر حتى لو انتهت حبة البوضة. هو معك الآن.
سوف يخاف من الشوكة.. ياه أعرف ذلك..سيقفز عنكِ سيدعكِ عارية وأنت تنظرين له بغضب، وساقاكِ مفتوحتان. سيهرب وهو يمسك بطرف سرواله بيده.. سيهرب، لن يجد بابا مفتوحا هناك، ولا حتى باب الشرفة لن يجد سوى هذا الباب.. باب الغرفة المنسية.
(10) قعقعت معدتي
يوم جديد، أشرقت الشمس، كنت أعلم أنها ستشرق الآن، عندما استطيع رؤية الأشجار جيدا، تخرج الشمس .. دائما بعد الليل تخرج الشمس .. أعرف موعد الشمس قبل خروجها من خلف الستارة ..
.. صَنعَت ماما شايا بالحليب ..وضَعت قطعتين من السكر .. ابتسَمَتْ..
_ ماما .. لم تأتِ المرأة العجوز
_ ذهبت إلى السماء..لا تحرك الجهاز عن فمك، عليك الانتظار ساعتين قبول دخول الحمام، فقط اشرب الحليب واعد الجهاز مكانه.
الستارة ليست سميكة .. ذو الشارب الكبير وراءها .. قعقعت معدتي .. أريد كأسا آخر .. لم تعد الشمس وراء الستارة ..
_ ماما عددت الخراف ولم أنم إلى الآن.
ضَحكت .. ذو الشارب الكبير يوشوشها .. الخراف تقفز عن السور .. قعقعت معدتي .. غَطتني مرة أخرى
قالت
_عليك الانتظار
ذبابةٌ تقف على أنفي ..
_ إنه لم ينم.. قال ذو الشارب الكبير
_لا يهم لا يستطيع الحراك ..أرجوك.
صوته خشن ..كان معه مسدس
_أقول لكِ لم ينم .. أعطيه ِ حبة الدواء.
_فعلت ذلك.
قعقعت معدتي
_إنه لا يفهم .. ولكن لا أستطيع ذلك أمامه.. انتظر ..آآآه ..آآآه.
قرص الشمس لم يأتِ .. الذبابة لا تتحرك .. الستارة الرمادية تهتز ..
_ماما .. ماما عددت الخراف.
قال ذو الشارب الكبير
_ هل أمتعتك ِ
_كثيرا .. ألن تعطيني أجري.
_ليس اليوم.
قعقعت معدتي
_سأعود غدا .. عليكِ أن تنيميه.
الذبابة قفزت .. يدها على جبيني
_ هل نمت جيدا
_قعقعت معدتي
(11) هي
أنا الآن وراءها بالضبط، حتى أن أنفاسي تحرك بعض الشعرات الهائمة من رأسها. كتفاها عاريان، شعرها يرتمي على ظهرها كشلالٍ كما يقول الشعراء. هي تنظر من الشباك لأسفل العمارة، هناك رجلٌ عجوز يسير متكئا على عكازه الخشبي، هي ترمقه الآن، اكتشفت أن بيدها فنجان قهوة، أرَجِح أنه سادة، لا يمكن لامرأةٍ جميلةٍ إلا أن تشرب القهوة بدون سكر، فليس من المتخيل أن تشرب المرأة الحلوة قهوة حلوة. صوت تَرشّفِها للقهوة ممتعٌ. يبدو أنها ساخنة، لأنها تشربها بحذر. خسارة أنا وراءها، آه لو كنت أمامها، لكنت رمقت تدورَ شفتيها الورديتين على حافة الفنجان. إنها حورية أقسم لكم حورية. رائحة الشامبو تفوح من شعرها، لا بد أنها تستخدم نوعا فاخرا من الشامبو، ربما ذلك المرسوم عليه فتاة تصرخ، وهي واضعة وجهها بين كفيها. يا لشعرها المرتطم بعمودها الفقري. إنها تحني رأسها أكثر تركز على شيء ما في الأسفل.لا أستطيع من مكاني سوى رؤية العجوز، إنه لا يزال أمامي. السلحفاة أسرع منه، ماذا لو دخل هذا العجوز مسابقة جري، سوف لن يصل بعد انتهاء المسابقة فقط، بل سيصل بعد انتهاء العام.
آه صوت أنفاسها مع القهوة. أنا ملتصق بها تقريبا بيني وبينها مقدار إصبعين فقط. لو دفعتني نسمة هواء لالتصقت بها، يا إلاهي إنني لا أستطيع حتى تخيل ما سيحدث حينها، انتظروا، أشارت لشيء ما هناك، رفعت ذراعها قليلا، كمية البياض التي تحت إبطها تكفي نساء المدينة. لا أرى غير العجوز في الأسفل، هل مات وهو واقف، لا لا أصدق ذلك يبدو بائسا بتلك العصا المقوسة. ربي، رفعت يدها مرة أخرى، البياض من جديد، الحمد لله أن جاراتها لسن هنا وإلا لكن حسدنها، أفكر لو أحضرت عرّافا، لا بد كان سيقرأ عليها بعض السجع المناسب لهذا الأمر. أشارت برأسها. لا تتخيلون ماذا فعل شلال شعرها الملقى على ظهرها حين أشارت برأسها. ليتني أستطيع أن أصف لكم. أغبط الشعراء ليتني كنت شاعرا. إنها عصفورة. أجل عصفورة، بل هي.. حسنا لن أضيع الوقت بالشرح لكم. بودي لو كانت معي كاميرا ولكن الكاميرا التي تستطيع تصوير هذا الجمال لم تخترع بعد، ليتني اصطحبت معي دافنشي، لكنه كان سيحتاج لسنوات كي ينهي هذه اللوحة. يا إلاهي انتظروا، وضَعتْ فنجان القهوة برفق على حافة الشباك، ورَفَعَتْ شعرها كله إلى الأعلى، وتَرَكته يسقط مرة واحدة. إنني أذوب، إنني أذوب، أنا الآن ذائب، قطعة شمع متهاوية أنا، بل إن قطعة الشمع أقسى مني، لا املك الآن إلا أن أتهاوى. بربكم هل تتصورون معي، ولكن كيف لكم أن تتصورا شيئا لا يمكن للعقل أن يتصوره.
هي الآن ترفع احدي قدميها عن الأرض ثم تعيدها بحنو، وترفع الأخرى بنفس الطريقة. يا إلاهي إنها متعبة، أقول لكم إنها متعبة. لها زمن تنظر من الشباك لا بد أن هذا أتعبها. اصمتوا قليلا إنها ترفع قدمها، وتحكها ببطة ساقها، وكأن ورقتين من شجرٍ سحريٍ تحتكا. لا أملك جسدي، أنا أنتهي، تبا لكم، أنا..أنا، آه نسمة الهواء تدفعني.
تمالكت نفسي، إنها تضع فنجان القهوة على حافة الشباك من جديد، وتلتفت ببطء نحوي، لكم أن تصدقوا، إنها تتأملني بعينيها الواسعتين، مدت يدها البيضاء ومسحت وجهي، ثم حملتني بكلتا يديها وبجهد واضح، أنفاسها تتابع وهي تلفح وجهي، إنها متعبة نعم متعبة، تتأوه كلاعبة تنس تضرب كرتها. ها هي تضعني من جديد بجانب التمثال الآخر، أخذت نفسا عميقا رفعت صوتها الرخيم الهادئ المتشبع بالبحةِ مخاطبة خادمتها
_:"ناني.. من حركه من مكانه ثانية؟ ".