هذه قصة مثيرة، صدرت حديثا في كتاب أعده بنويت فوكون، وهو صحافي متخصص في الشؤون المالية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وكتابه بعنوانه الموحي «الضفاويون» هو قراءة في تاريخ نشوء النضال الفلسطيني ومن بعد مالي. يلاحق الكاتب قصة مال الثورة من بداية الكفاح الفلسطيني، وصعود عرفات لساحة الكفاح الى راهن المنظمة اليوم. حيث المال والثورة بعد أن تحولت الأخيرة الى دولة في طور الولادة.

قصة منظمة التحرير الفلسطينية

إبراهيم درويش

المال والثورة، والثورة والمال، وأين ذهب مال منظمة التحرير وما هو مصير اموالها وشركاتها ومشاريعها، أسئلة يطرحها الكثيرون من الفلسطينيين، وهذه الأسئلة بدت اكثر الحاحا بعد ان تحولت الثورة الى حكومة تدير وزارات ومؤسسات على «دولة» كانت في طور الولادة وان لم تحدد معالمها ورمز الى مناطقها بحروف الف وباء وجيم، دولة اوسلو التي ولدت في القنوات السرية التي عقدها ممثلون عن المنظمة في اوسلو واسرائيليون وانتهت بالمصافحة المعروفة في حديقة البيت الابيض عام 1993 وعودة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الى غزة بعد عام. كما ان السؤال اتخذ بعدا مهما بعد وفاة عرفات (2004)، حيث تساءل الكثيرون عن مال المنظمة واين ذهب، فعرفات الذي عرف بنمط حياة يناسب الثوريين، يعمل كثيرا، وينفق كثيرا على الاخرين وليس على نفسه ومات وبنطاله الخاكي مليء بالثقوب بعد الحصار الذي فرضه عليه عدوه اللدود شارون وأدى في النهاية الى وفاته الغامضة في باريس. ومن هنا بات الكثيرون يتساءلون عن مال المنظمة والسلطة في ظل تصاعد وتيرة الفساد في مؤسسات السلطة وتسرب القصص الكثيرة التي امتلأت بها مواقع الانترنت وما نشر بعد ان اخرجت منظمة التحرير من غزة وسيطرة حماس على القطاع. والاخيرة جاءت للسلطة بناء على بطاقة محاربة الفساد المستشري في بنيات وهياكل المنظمة سواء في غزة المدينة او رام الله التي انتهت عاصمة للسلطة.

وايا كان الحديث والقصص التي انتشرت وتلبست طابعاً عاماً اثناء حياة الرئيس او بعد وفاته خاصة خطف مسؤول الصندوق القومي الفلسطيني السابق من ابو ظبي الى غزة، جاويد الغصين الذي توفي في لندن فيما بعد (2008)، وقتل مدير التلفزيون هشام مكي، وحوادث اخرى. ولم يكن الخطف الا مسلسلا من مسلسلات تجادلات المال والثورة والسياسة في تاريخ النضال الفلسطيني. وقصة الغصين او اخرين ليست الا جزءا من تاريخ العلاقة الاولى والحيوية في تاريخ الثورة بين اثرياء فلسطين الذين دعموا الثورة وبدرجات مختلفة وبين الطريقة التي استخدم فيها عرفات المال بعد صعوده وسيطرته على مقدرات الثورة من اجل تأكيد سلطته، شراء الولاءات والدخول في المغامرات التجارية الاستثمارية التي كانت جزءاً من تمويل الثورة وسلاحها وتوفير الوظائف لابناء اللاجئين. لكن المال على الرغم من توفره لم يكن قادرا على تحقيق الدولة وبناء مؤسسات شفافة وكل هذا يعود الى فشل الرئيس من التحول من قائد ثوري الى زعيم سياسي. وهذا الاتهام حاضر في اية قراءة للسلطة الوطنية التي نشأت على ركام التجربة في الخارج وعودة المنفيين الى غزة لمواصلة السياسات التي تعودوا عليها في ادارة مؤسسات المنظمة سواء في الاردن ولبنان التي تمثل العهد الذهبي لدولة الثورة وجمهورية الفاكهاني ومن ثم تونس واخيرا غزة.

امبراطورية افريقيا
وعليه فالسؤال الحاضر هو اين ذهب مال المنظمة بعد الخروج من لبنان وما هو مصير الشركات والمشاريع الاستثمارية التي قادتها المنظمة في مخيمات اللاجئين وفي الدول الافريقية حيث كانت المنظمة المستثمر الوحيد المرحب به في كافة دول القارة، من شرقها إلى غربها، واستثمر المال الفلسطيني في مزارع للموز في الصومال، ومزارع لانتاج البيض والدجاج في غينيا، ومزارع حمضيات في السودان، ومحلات راقية في الاسواق الحرة في المطارات الافريقية، وما الى ذلك، فبعد ان قطعت دول القارة الافريقية علاقاتها مع اسرائيل فيما بعد حرب عام 1967 برزت المنظمة كأكبر مستثمر في القارة من خلال اذرعتها الضاربة من المستثمرين المتعلمين في الغرب والمؤهلين والعارفين بلغة الأرقام، ولعل مؤسسة «صامد» كانت واحدة من هذه المؤسسات وانتهت مثل غيرها من مغامرات المال التي دخلت فيها الثورة. ومن اجل فهم دور المال في الثورة وايديولوجية الاخيرة عليه لا بد من الاشارة إلى ان الزعيم الفلسطيني طالما اتهم من قطاعات اليسار بأنه قريب من «اليمين» الفلسطيني المحافظ، ويعنون به العوائل والاغنياء من الذين ورثوا المال او كونوه من خلال العقود والشركات التي اقاموها في الشتات، ولان الفلسطينيين يظلون من اكثر الشعوب العربية تعلما فقد كان بمقدورهم الاسهام في بناء الدول التي نشأت بعد الاستعمار وتحديثها، ومع البناء والعقود كونوا ثرواتهم وامبراطوريتهم المالية واقاموا علاقات مع العائلات الحاكمة في الخليج، بل مع المؤثرين في صناعات القرار الامريكية والاوروبية. وهذا «اليمين» هو الذي فتح الابواب المغلقة لعرفات وقادة المنظمة من اجل الحصول على دعم للثورة ومقدراتها. فمنذ البداية، اي بعد سفر عرفات للكويت للعمل كمهندس، كانت الثورة قريبة من «اليمين الرأسمالي» الذي دخل بعض رجاله في مصيدة الثورة وعالمها السري فيما اكتفى بعضهم بكونه بابا يدخل منه الثوار الى غرف القرار. وقام اخرون بتطوير شركاتهم ومؤسساتهم الخيرية التي دعمت الفلسطينيين بعيدا عن تأثير الثورة وشروطها.

المال قوة تفتح كل باب
كان عرفات دائما يعرف انه بالمال يستطيع شراء الولاء والدخول للابواب، فقد استخدمه في اكثر من مناسبة في حرب المخيمات، وعندما عاد للمناطق المحتلة وفي تونس وفي الاردن. لكن المال وان كان اداة للسيطرة الا انه لم يدفع عرفات كي يقود بالقتل بل من اجل شراء التأثير. ويمكن النظر الى الطريقة التي تعامل فيها عرفات مع مال الثورة عبر ثلاثة اتجاهات: كيف نحصل عليه؟ وكيف نستثمره؟ وكيف ننفقه؟ فعبر الاستثمار الجيد للمال يمكن الخروج من اسر تأثير الحكومات وقيادة الثورة في فضاء السياسة المتقلب في المنطقة العربية. والاهم من ذلك فمال المنظمة يجب ان يظل في يده وبعيدا عن انظار الانظمة والاصدقاء الذين قد يتغيرون في اية لحظة.

ومن هنا ففي القصة الغريبة لمال المنظمة والسلطة فيما بعد تلاقت مصالح مال الثورة مع مصالح اعدائها الذين حولهم عرفات لحماة له، فالقصة تبدو غريبة عندما يتم الكشف عنها والبحث في تفاصيلها. هنا عملاء سابقون في السي آي ايه والموساد ومن ميليشيات ذبحت الفلسطينيين تحولوا الى شركاء في «شركة مال منظمة التحرير المساهمة المحدودة»، عمال مكتب يوزعون القهوة ووسطاء متنفعون. وكان هؤلاء مضرين احيانا ونافعين بطريقة انهم وسعوا طريقة استثماره وفتحوا حسابات في قلب اسواق المال الغربية التي حتى توقيع المنظمة على اتفاق مع اسرائيل كانت ترى في المنظمة جماعة ارهابية. كان المال الفلسطيني او مال الثورة لاعبا مهما في اسواق المال في جنيف ونيويورك ولندن وكان لاعبا في انقلابات وثورات، والغريب ان ضابطا من فيجي عاون مسؤول القطاع الغربي، الشهيد ابو جهاد لتهريب الاسلحة للداخل من جنوب لبنان كان قد اخذ منه وعدا بارسال شحنة اسلحة لتنفيذ انقلاب في بلده، لكن اسرائيل التي ارسلت 4 الاف جندي وزوارق بحرية سريعة وطائرات لقتل رجل واحد احبطت بطريقة غير مباشرة عندما اغتالت الشهيد ابو جهاد، فالبنسبة للضابط الفيجي ظل ينتظر انقلابه.

عرفات وبناء مؤسسات الدولة في الخارج
على العموم قصة الثورة مع المال غريبة فهي اما تفشل بسببه او تتقوى به وتحقق اهدافها. وان كان عرفات قد استطاع في عقدين من الزمان بناء مؤسسات المال الفلسطينية واعاد تأكيد هوية الشعب الفلسطيني ووضعها على الخريطة بعد ان اعتقدت اسرائيل انها محتهم من الوجود، الا ان القصة في تفاصيلها اكثر اثارة وتقرأ كأنها فصل من فصول روايات الاثارة يبرز من سطورها الشهداء، ورجال الاعمال، والجواسيس والمنتفعون ومن اثروا على حسابها، وفيها امراء وملكات جمال، وصفقات سكر ودجاج واسمنت، وطائرات تتحطم في غرين لاند، ومحاولات لاقناع كاسترو بيع الفلسطينيين السكر بأسعار محبذة لبيعه في الشرق الاوسط، لكن العجوز الثوري رفض لانه كان مثل عرفات بحاجة للمال ولكل فلس منه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

وفيها أيضاً أحلام وصور عن تداعي الحلم والمثال، وكيف لم يرث ابناء الثوار الشهداء بنادق آبائهم الذين حرصوا على تعليمهم في جامعات الغرب كرصيد للمستقبل ومن اجل ان يكونوا سواعد الدولة البناءة. هناك من نجح وجاء مسلحا بتجربته لانشاء الدولة وهناك من ترك بعد سنوات قليلة وهناك من دمرته التجربة «قصة عمر وبيسان» عندما وقع في اسر اغراء المال والعمولات وعقود بالملايين. فاموال الثورة لم تكن بالالاف بل بالملايين. كما ان قصة المال مع الثورة لا يمكن فهمها من دون العامل الاسرائيلي، الذي استخدم المال من اجل قتل شخصية عرفات وتشويه صورته وربطه بالارهاب علاوة على تأليب الكونغرس عليه، خاصة عندما اجتاحت دبابات شارون الضفة عام 2002 ودمرت اجزاء من المقاطعة، ولم تكن تبحث فقط عن رأس عرفات بل عن وثائق تدينه وتربطه مع المقاتلين من ابناء فتح «كتائب شهداء الاقصى». وفي المال تحضر صورة رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو الذي قال للفلسطينيين بعد فتح كازينو اريحا - الذي كان خطوة على طريق تحويل المدينة للاس فيغاس المنطقة- «صار عندكم مال». في الوقت الذي استطاع فيه عرفات ورفاقه بناء مشروع وطني فلسطيني، اكد الهوية وحاول بناء مؤسسات تكون جاهزة في مرحلة الدولة اسوة بما فعلت الصهيونية، الا ان مشروع الثورة اعاد كتابة قوانين وشروط اللعبة المالية العابرة للدول والحدود ولكن التجربة فشلت عندما وضعت في الممارسة على ارض لم تحرر ابدا وظلت بيد الاسرائيليين. والاسئلة كثيرة عن سبب الفشل. فقد كان الفلسطينيون في الخارج قادرين على بناء دولة مالية عابرة للقارات ولكنهم لم يحققوا دولتهم. اليوم الفلسطينيون منقسمون بين حماس وفتح ومن دون دولة وان بدا ان لديهم واحدة، محاصرون وان بدا انهم احرار، ارضهم يوميا تتناقص وان بدا ان لديهم ارضا، مطالبون اليوم ليس بالاعتراف بوجود اسرائيل والتخلي عن الكفاح بل بيهودية الدولة. كيف نعرف عن مال الثورة الذي انفق وبدد على مدار خمسة عقود وما هو مصير الاموال التي تركها الزعيم واين هي؟ هل لا تزال لاعبة في مشاريع تنقيب الغاز في الجزائر ام انها تعمل في شركات الاتصال التونسية ام انها محفوظة في حساباب خفية؟

الضفاويون
القصة يكشف عنها كتاب مثير اعده بنويت فوكون، وهو صحافي متخصص في الشؤون المالية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وكتابه بعنوانه الموحي «الضفاويون» هو قراءة في تاريخ نشوء النضال الفلسطيني ومن بعد مالي، وقارئ كتابه ايا كان موقفه من تفاصيله ورؤيته للتحليل وطريقة النظر لابعاد القضية عليه ان يحضر نفسه لكم هائل من الارقام تبدأ كما هي الامور بآلاف من الدولارات وتنتهي كما هو الحال بمليارات، وهو مليء بأسماء لاعبين في مال الثورة كانوا معها في لبنان وتونس وانتهوا وزراء ومستشارين بل اصحاب القول الفصل في مال القضية.

يلاحق الكاتب قصة مال الثورة من بداية الكفاح الفلسطيني، وصعود عرفات لساحة الكفاح وسيطرته على خزينة الثورة بعد استقالة عبدالحميد شومان من رئاسة الصندوق القومي الفلسطيني. ويعيد الكاتب الى معركة الكرامة (1968) التي اكدت على زعامة عرفات وكيفية التعامل مع خزينة المنظمة التي كان يديرها ابو مازن، محمود عباس في ذلك الوقت، فمع ان قرار الانفاق كان بيد لجنة يجب ان توقع على الطلبات الا ان الجميع ممن تعاملوا مع عرفات كانوا قلقين من طريقة انفاق عرفات للمال، وانتهى ابو مازن للاستقالة من مالية المنظمة بعد شومان. وينقل الكاتب شهادات عدد من المسؤولين السابقين والعارفين بعرفات عن قرب ومنهم سليم الزعنون وبلال الحسن والغصين.

ويرى الكاتب ان انتصار الكرامة لم يلغ فكرة الانشقاق الفلسطيني الى فصائل متعددة الولاءات ومرتبطة بحكومات ومصالحها، مشيرا الى ان السعوديين فتحوا جيوبهم لعرفات وكانوا يقولون «حدد ما تريد» ولا تكترث بإرسال الفاتورة. يقول الكاتب ان سيطرة عرفات بعد الكرامة على حسابات المنظمة في جنيف عنت انه كان قادرا على التحاور مع الحكام العرب وجها لوجه والمطالبة بالحصول على الضرائب المحصلة من ابناء الشتات العاملين في الخليج. ومن هنا امتلك عرفات كل اوراق اللعبة ، صار المال بيده وحقق استقلاليته والمنظمة بعيدا عن رعاية الانظمة العربية، كما اصبح المال صمام الامان له ولنجاته. وستنمو امبراطورية المال لدرجة تكون فيها المنظمة قادرة على بناء امبراطورية استثمارية في افريقيا تقدر قيمتها بستين مليون دولار امريكي، وتضاف اليها استثمارات في قطاع الكمبيوتر واسطول من الطائرات. لكن ماذا تبقى اليوم من امبراطورية المال في افريقيا؟ يقول الكاتب انه لم يبق منها اي شيء فقد تم تحويل اموال هذه المزارع وبيعها الى مشروع السلطة الجديد فيما تضررت المنظمة في اثناء الازمة المالية الخانقة التي انهت دعم دول الخليج لعرفات بسبب دعمه لصدام حسين حين دخل الكويت، على الرغم من تحذير المستشارين الماليين له، وأدى الدعم هذا لقطع المال عن المنظمة وانهاء الوجود الفلسطيني تقريبا في الامارة التي كان يعيش فيها ما يقرب من نصف مليون فلسطيني.

لبنان والعصر الذهبي
وتظل التجربة في لبنان العصر الذهبي للاستثمار حيث استطاعت المنظمة اقامة شركات ومصانع لتشغيل ابناء اللاجئين، فيما لم يتم تشغيل سوى عدد قليل من الفلسطينيين في مزارع افريقيا، ومثل الاخيرة تركت المشاريع في مخيمات اللاجئين كما بيعت او سرقت بعض المشاريع في افريقيا. وفي بحثه عن تجادلات المال والثورة يشير الكاتب الى ظاهرة امراء بيروت والتي حلت محلها فيما بعد ظاهرة رجال الاعمال الذين ساعدوا عرفات على الاقل لفتح «ثقوب» وليس نوافذ في الساحة الامريكية السياسية. ورجال الاعمال هؤلاء عرفوا بالروتشيلديين العرفاتيين. وسهل رجال الاعمال الذين اقاموا جذورا اقتصادية لهم في العالم العربي فتح عدد من الابواب المغلقة بسبب الحروب في عدد من العواصم العربية، فالكاتب يشيرالى ان جاويد الغصين استطاع بعد مقابلة الشريف زيد إقناع الملك حسين بفتح مكتب للصندوق القومي الفلسطيني في عمان. ويشير الكاتب الى ان رجال الاعمال الذين تضافروا لمساعدة عرفات يضمون اسماء مثل منيب المصري وسعيد خوري وعبد المجيد شومان وحبيب صباغ وغيرهم. ويقول الكاتب ان هؤلاء على الرغم من مساعداتهم لعرفات لم يكونوا بمعزل عن اثار سياساته فقد عانت اعمالهم في مرحلة دخلت فيها معارك مع انظمة عربية. ولكنهم كانوا مهمين من ناحية كونهم جسرا من اجل البحث عن فرص للسلام وتعبيد الطريق امام عرفات لفتح قنوات اتصال مع الولايات المتحدة. ويقدم الكاتب في هذا معلومات مهمة حول دور رجال الاعمال وعلاقاتهم بصناع القرار الامريكي ورجال الاعمال الامريكيين في فتح الباب امام ما يراه الكاتب لقنوات اوسلو السرية. ويؤكد الكاتب ان دعم رجال الاعمال الفلسطينيين لعرفات لم يؤد في مرحلة لان يمتزج مالهم بمال المنظمة فقد حافظوا على استقلاليتهم، واقاموا كما تمت الاشارة اليه مؤسساتهم الخيرية المستقلة.

الاستثمار في الانتفاضة

ظل المال الفلسطيني يطوف في البنوك العالمية واسواق المال ومؤشراتها فيما ظل ابناء الضفة والمخيمات يعيشون ظروفهم الصعبة، ومن هنا جاءت الانتفاضة لتعطي لعرفات المقيم في تونس دوره وتمنح قائدها العسكري ابو جهاد الدور الاكبر في تمويلها. ويرى الكاتب ان الاستثمار في انتفاضة الحجر هو الاكبر وسيثبت لاحقا انه الاربح مقارنة مع استثمارات خارجية. ويتحدث الكاتب عن الاساليب التي استخدمها ابو جهاد لايصال المال والدعم للمسؤولين الميدانيين ومن بينها استخدام الدبلوماسيين العاملين في سفارات دول صديقة للقضية ولديها ممثليات في اسرائيل من اجل نقل المال للقيادة. وينقل عن ساري نسيبة، المحاضر في جامعة القدس انه استطاع نقل مليوني دولار للقيادة الموحدة عبر هذه الطريقة خلال عامين من مساعدته لها. ومن الطرق الاخرى التي اعتمدها ابو جهاد دعم المؤسسات الصحافية الفلسطينية من مثل صحيفة «الفجر» التي اختفى مدير تحريرها يوسف نصري، بطريقة غامضة وسر اختفائه لا يزال من دون حل، واقام ابو جهاد مكتبا دوليا لها في نيويورك ومن خلاله تم تحويل حصة مكتب القدس. ويقول ان ابو جهاد من اجل مواجهة صعود التيار الاسلامي في الانتفاضة اقام تنظيما اسماه «الجهاد الاسلامي» وهو غير تنظيم الجهاد المعروف. كما تمت اقامة اللجنة الاردنية الفلسطينية المشتركة لدعم الانتفاضة وتم نقل معظم الدعم من خلالها كما نقل الكاتب عن محمد ملحم الذي شارك في قرارات الدعم بإشراف من ابو جهاد. ويقول الكاتب ان ابو جهاد الذي قتل وهو يعد برامج الانتفاضة كان بمثابة البنك المركزي للانتفاضة وباستشهاده آل الامر لعرفات حيث اصبح المسؤول عن مال الثورة من دون منازع. لكن تأثيره اصيب بضربة عندما وقف الى جانب صدام في احتلال الكويت. فبعد عام 1991 اصبح عرفات زعيما معزولا «ولم يكن احد يزورنا لتناول الشاي معنا» كما تذكـّر الغصين. وأثرت الازمة على الانتفاضة التي صار من غير الممكن الحصول على الف دولار تحول من تونس كما يتذكر فريح ابو مدين. وتضررت كل مؤسسات الثورة بما فيها صندوق ابناء الشهداء وصحف من مثل «الفجر» و» اليوم السابع». وشهدت الفترة هذه محاولات يائسة للحصول على المال منها محاولة الحصول على صفقة لمساعدة اليمن في استئجار طائرتين فرنسيتين، وارسال مستشاره الاعلامي محمد رشيد الذي كان يعرف في حينه بخالد سلام لكوبا للحصول على صفقة سكر، ومحاولة اخرى لبيع اغنام استرالية بقيمة مليوني دولار لكن الصفقة فشلت حيث «شفط» الوسيط اللبناني معظم المبلغ قبل ان تصل سفينة الاغنام. ويقول الكاتب ان الازمة المالية التي كانت تعاني منها المنظمة ادت بالسي آي ايه إلى الخوف من قيام جماعات تابعة للمنظمة القيام بعمليات ارهابية وبشكل لن يكون فيه عرفات قادرا على السيطرة عليها. وما اضاف لمصاعب عرفات هو دخول الاسلاميين على خط المنافسة في الضفة والقطاع. وكالعادة جاء خط الانقاذ لعرفات عبر اوسلو التي منحت الفلسطينيين اول تجربة لحكم انفسهم. ولكن التجربة كما يشير لم تكن حلما او معلما على قيام الدولة الفلسطينية بل نقلا لنموذج منظمة التحرير في الخارج الى الضفة والقطاع، فالسلطة لم تكن الا شكلا من أشكال «دولة تحت الأرض».

أحلام تبددت في السماء
قبل أن يعود عرفات الى غزة عام 1994 جمع في تونس 300 من رجال الاعمال الفلسطينيين بمن فيهم الاثرياء الذين دعموا مسيرته السلمية في محاولة لاقناعهم لدعم مشروع المنظمة في فلسطين ووضع اموالهم في خدمة المشروع. وذكرهم ان روتشيلد ساعد بن غوريون: «فلماذا لا تقومون بنفس الامر؟». ويشير الكاتب إلى ان عرفات كان دائما يعـلـّق ان السعودية وغيرها دعمت الجهاد الافغاني بـ 10 مليارات دولار فيما لم تتلق المنظمة خلال ثلاثين عاما من وجودها سوى 2.3 مليار دولار. المهم في اجتماع فندق «هيلتون تونس» أن عرفات وعد رجال الاعمال بأن ما يسميها الكاتب «فلسطين ـ انك» ستكون مغزلا للمال ولن تكون بأي حال مغامرة فاشلة. ويقول الكاتب ان الرجال الذين ادوا لولادة هذا المشروع كانوا صناع مال وليسوا قادة عسكريين، ابو اياد وابوجهاد وابو علي حسن سلامة كلهم اصبحوا في دار الآخرة. من تبقى من القادة مثل ابو علاء مسؤول «صامد»، وابو مازن مسؤول مالية المنظمة يعرفون عن الحسابات والميزانيات اكثر مما يعرفون عن البندقية. لكن مشكلة المشروع ستبدأ مع وصول عرفات. فمع أن رجال الاعمال حاولوا تعزيز ودعم المشروع من خلال دفع الشركات الدولية للاستثمار، مثل كوكا كولا وبيكتهل وشركات تنقيب عن الغاز، الا ان حدود السلطة على اراضيها وموقف المعارضة وانتشار الفساد والمحسوبية واستمرار لعبة شراء الولاءات، وآثار الزواج على عرفات وصعود نجم عدد من اللاعبين في المال الفلسطيني وتداخل المال هذا مع مصالح اسرائيلية، وصعود الانتفاضة الثانية، كلها ادت الى النهاية التي نعرفها. ومن الاشياء المضحكة التي يشير اليها الكتاب والمحزنة ان اسرائيل في عملية 2002 قامت بمداهمة وسرقة بنوك فلسطينية، 9 ملايين دولار، استخدمتها لبناء نقاط تفتيش. ويكشف الكاتب هنا عن «سر» وهو اجتماعات في باريس تمت بين مبعوث عرفات، ومبعوث عن شارون، الذي حضر من اجل مناقشة موضوع يتعلق ببناية تعود لطائفة البهرة في مكة وتوسيط مسؤول سابق في السي آي ايه من اصل ايراني ريتشارد بابايان مع رئيس فرنسا السابق فاليري جيسكار ديستان من اجل مناقشة الازمة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ولم ينتج اللقاء عن اية ثمار بل سيقود لاحقا شارون ليهدد محمد رشيد بالقول انه سيقتل عرفات، وعندما قال له رشيد، «هو الذي جلبك للسلطة»، رد شارون: «وسأقتله لهذا». الكتاب مثير من ناحية معلوماته مع ان الكثير منها بات معروفا. حسابات سرية في سويسرا، وتحويلات مالية لباريس وعلاقات تجارية مشبوهة هنا وهناك ومع ذلك يظل جهدا مهما خاصة ان وفاة عرفات التي ازاحت عقبة لم تؤد الى نهاية جمهورية الفاكهاني فنسختها الثانية موجودة الان في رام الله. الكثير قيل وسيقال عن ارث عرفات، في حياته دخل مجلة «فوربس» للأثرياء واحتلت صورته عام 1968 غلاف التايم، وغيره لكن قصة فلسطين المعاصرة هي قصته. الان الفلسطينيون موزعون بين غزة ورام الله، يخصص الكاتب فصولا ً عن صعود حماس وعلاقتها بالمال، جمعيات خيرية، دعم دولي وشرعي لها وهل ستقع في نفس المصيدة؟. والمشكلة كما يختم الكاتب لم تعد محصورة في الصراع بين حماس وفتح، ولكن الجهادية العالمية دخلت الان المخيمات في غزة ولبنان فالى اين تسير القضية؟ ايا كان الحال فالقصة طويلة وهناك توابع وفصول ربما يحتاج الكاتب إلى اضافتها فقصة الثورة مع المال اوسع من هذا. وتظل هذه الرواية مفتوحة على النقد لكن اهميتها تكمن في تفاصيلها وارقامها وشهودها.


West Bankers From Arafat to HAMAS, How Money Made and Ruined PLO and How It Can Bounce Back. By: Benoit Faucon - Mashariq Ltd - London/ 2010