ربما كان الأجمل في بدء العام الجديد أن نفكر وصحبي بتلبية دعوة صديقنا علي حسين- أبو ربيع، لنقضي اليوم الأول من العام الجديد في بلدته "إسكاكا"، هذه البلدة الصغيرة التي كانت على وعد تكرر مني ولم تسمح الظروف لي أن أزورها، ورغم المطر كنت أتوجه قبل ظهر السبت إلى نقطة اللقاء، أتأمل رام الله تحت المطر، ألتقط بعضاً من الصور لدروبها، أتنشق الياسمينات المبتلة بالمطر، فأشعر بالقطرات على أوراقها تروي حكاية رام الله والياسمينات الدمشقية، وتروي قصة عشقي لهذه المدينة التي أعشقها إلى درجة الجنون، فنحن في عشقنا للمدن كما تقول الشاعرة اللبنانية دانية بقسماطي: "نحب المدن بقدر ما تغدق علينا من الدفء واللهفة والرعاية ولربما لهذا نعشق الترحّل".
في شارع الإرسال التقيت صديقي التوأم الكاتب والدكتور هاني الحروب، وصديقنا المهندس الفنان فهيم عيد الذي سيقلنا في سيارته للوصول إلى هدفنا، وفي أواخر شارع الإرسال التقينا أصدقاء لأصدقائي هم د. رباح تيم، القادم بعد غياب طويل إلى الوطن، وسليمان مطر القادم يحمل معه عبّق القدس، فركبوا معنا، ورافقونا الطريق مروراً في بير زيت فجسر عطارة فعيون الحرامية وصولا لمفرق زعترة، ومن هناك دخلنا قرية ياسوف الجميلة والمعتنى بها وبشوارعها جيداً، حتى وصلنا إسكاكا، وما أن وصلنا بيت مضيفنا أبي ربيع، ونظرت إلى سحر الطبيعة والبلدة، حتى أخرجت عدسة التصوير وبدأت بالتقاط الصور قبل أن أسلم على صديقي ومضيفنا الجميل.
كرم الضيافة خصلة مزروعة في أبناء شعبنا، وبعد أحاديث تراوحت بين الهم العام والثقافة والأدب، كنا نتجمع حول الغداء التقليدي (المسخّن)، والذي أقر أبو ربيع والحضور أنه وجبة مميزة يتميز بها شمال الضفة المحتلة وشمال فلسطين، فهي وجبة مرتبطة بالزيت الجديد ووجود أفران (الطابون) ما أعطاني المجال للزهو ببلدتي جيوس، والتي تشتهر بالزيت، وما زالت بعض أفران (الطابون) فيها لم تندثر، ووجبة المسخن هي طبق التكريم والضيافة الأساس فيها. وبعد ذلك قررنا الخروج في جولة في البلدة بعد أن توقف المطر مؤقتاً، وكنت قررت أنه حتى إن لم يتوقف المطر فسأقوم بالجولة، فالوصول إلى بلدة تحمل في جنباتها بعضاً من عبّق التاريخ لوطني فرصة لا يمكن أن أضيعها بتوثيقها صورة وكلمة، فخرجنا جميعنا باتجاه ما تبقى من البلدة القديمة، ومعظم الوقت كنت أقفز كشاب في العشرينيات من العمر لالتقاط الصور، فحين أجد بعضاً مما تبقى من ذاكرة المكان، أشعر بالحجارة القديمة والأبنية التي بدأت بالاندثار تروي لي الحكاية؛ حكاية شعب بنى هذا الوطن منذ قبل التاريخ، حتى جاء لصوص التاريخ ليسرقوه ويزيفوا قصة لا أساس لها، للاستيلاء على أرض تفوح بالقدسية والطيبة.
تقع قرية إسكاكا على رأس جبل جميل، تشرف من ارتفاعها البالغ (600م) عن سطح البحر على سهول وجبال تحيط بها، ترى الساحل الفلسطيني بوضوح منها، وهي تقع إلى الشرق من مدينة سلفيت وتبعد عنها حوالي أربعة كيلومترات، وتقع بالقرب منها قرية ياسوف ومدينة سلفيت، وقد سميت بهذا الاسم حسب أحد الروايات لأنها تعني باللغات القديمة المكان المرتفع، وفي رواية أخرى أنها مأخوذة من "السكة" وهي الطريق، وإن كنت أميل إلى الرواية الأولى، فهي تتناسب مع موقعها وطبيعتها أكثر من الرواية الثانية، وتشرب القرية من ينبوعين؛ نبع العين ونبع القصب وأهم مزروعاتها: الحبوب والخضار، وتكثر فيها أشجار الزيتون والفواكه.
المباني القديمة والتي تمثل ذاكرة القرية أصبحت قليلة، فنسبة كبيرة منها جرى هدمة وإزالته، وقسم قليل جرى ترميمه وبث الحياة فيه وأصبح مراكز تهم القرية، لكن من الواضح مما تبقى من أبنية، سواء مهدمة أو آيلة للسقوط، أو التي جرى ترميمها، أن البلدة كانت تتميز بنمط معمار جميل، نمط بيوت "العقود" التي كانت مشهورة في فلسطين، وتعتمد الحجارة في البناء، والقباب للمنازل، والنوافذ المستطيلة بقوس نصف دائري في أعلاها، وكذلك النمط نفسه في الأبواب، إضافة إلى الأدراج الخارجية التي تصعد للقسم الأعلى في المنـزل المسمى "العلية"، أو باتجاه سطح المكان، إضافة غلى وجود مسجد قديم لم يعد مستخدماً للصلاة بعد بناء مسجد حديث، وهو المسجد العمري، وأعتقد أن من الضروري ترميمه فهو يحتوي نقوشاًَ وأعمدة جميلة، وهو مسجد قديم جداً، ويعود بنائه إلى سنة (785هـ)، ومن الخطأ أن يهمل، فهو يحمل في حجارته ذاكرة المكان، إضافة إلى وجود مقام ديني يسمى "مقام أبو الزرد"، كما هو منتشر في كل المواقع في فلسطين؛ قباب وقبور تحمل صفة المقامات، ومن المؤسف أنه من ضمن المباني القديمة التي جرى هدمها مبنى كان معصرة قديمة للزيتون، ولكنه ذهب بسبب الإهمال الذي أدى لانهياره وهدمه فيما بعد، ولعلي آمل من أهل القرية أن يحافظوا ويرمموا ما تبقى من مباني قديمة، فهي ذاكرة لأجيال قادمة لم تعش ما عشناه أو عاشه أجدادنا.
أنهينا الجولة في هذه المنطقة التي تروي الحكاية بزيارة قبر الشهيد ربيع الذي استشهد شاباً بعد فترة من محاولة اغتياله من الاحتلال، حيث أصيب بشلل نصفي وإصابات بالغة أدت لاستشهاده فيما بعد، وهو الابن الأكبر لمضيفنا وصديقنا أبو ربيع، لنعود باتجاه البلدة ونواصل الصعود إلى تلة مرتفعة في منطقة يسمونها الدير، وإن اختلفت أسباب تسميتها بهذا الاسم، ومن هناك رأينا جمال الطبيعة والتلال التي تطل عليها إسكاكا، وحقيقة أن المشهد الجمالي في هذه المنطقة ساحر ومثير للمشاعر والراحة النفسية، وتمنيت لو أن الفصل ربيع لأمتع روحي بالربيع على التلال وعزف الناي، إلا أن مشاهدة المستوطنات التي أقامها الاحتلال وهي تحاصر البلدات المجاورة، إضافة إلى ما استولت عليه مستوطنة "جاني أرئيل" من أراضي إسكاكا يثير في القلب غصة ليس من السهل ابتلاعها.
عدنا إلى بيت مضيفنا للراحة بعد الجولة واحتساء القهوة، قبل أن نودع مضيفنا ونعود إلى رام الله، فرحين بالتعرف إلى بلدة لها بعض من عبق التاريخ، وزيارة صديق غالٍ ورائع وكريم، لنعود إلى رام الله مساءً، ونحن نحمل في دواخلنا أجمل مشاهد تركت أثرها في أرواحنا كلنا..
أصحوا من نومي وأمارس السير في شوارع رام الله مبكراً، وأعود إلى صومعتي وأحتسي القهوة وطيفي الذي لا يفارقني، وأذكر ابنتي وأبنائي وزوجتي في البعيد، وأستعيد ذاكرة الأمس وزيارة إسكاكا، وأتأمل الصور التي التقطتها عدستي، وأحلق مع شدو فيروز وهي تشدو:
"أعطني الناي وغنِّ فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل اتخذت الغاب مثلي منـزلاً دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
... ... ...
... ... ...
أعطني الناي وغنِّ وانسَ داءً ودواء
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء".
صباحكم أجمل..
(رام الله 2/1/2011)