يشخص هذا المقال ـ البيان أعراض الداء العربي ويعد صرخة تحذير من مثقف أصيل، يبحث عن سبل الإصلاح المحرر الذي ينقذ الواقع العربي من عوادي الدمار الذي تنزلق إليه مجتمعاتنا كالسائرون نياما.

الإصلاح المحرر أو تفعيل جدلية السياسي والثقافي

محمد برادة

1. تحديد الإشكال:
لا يمكن للتفكير في الإصلاح أن يتم عبر التأمل الخالص والتحليل البارد للظواهر والمفاهيم، ذلك أن الظرفية المتصلة بلقائنا وحوارنا، هي ظرفية ساخنة، مشحونة بالأحداث المأساوية وبالتعقيدات والصراعات المتجدرة في الواقع العربي المتردي. أن نفكر نحن، في الإصلاح، من موقعنا كمثقفين ومبدعين ومفكرين، لا يعفينا من أن نستحضر الأغلبية المكونة من ملايين الشباب العرب الذين تصطدم رؤوسهم بالأبواب الموصدة، وتتيه نظراتهم وسط سديم الهزائم المتكررة، المزعزعة لانتمائهم إلى الوطن والمجتمع. إنني انتمي إلى جيل كان يستمد معنى حياته من الانخراط في قضايا الكفاح ضد الاستعمار، ومن التطلع إلى تشييد مجتمع وثقافة وطنيين، وهو ما جعل أبواب الأمل مشرعة في وجوهنا. وعلى رغم الخيبات والتعثرات، بعد الاستقلال، كنا نلعق جراحاتنا ونغلب تفاؤل الإرادة على تشاؤم الذكاء.

لكننا اليوم، كيف نبدد شكوك الشباب العربي لنقنعه بأن الإصلاح ما يزال ممكنا، وان هذه الانتكاسات المتلاحقة قابلة للمجاوزة والتخطي؟ أظن أن المدخل الطبيعي، هو التوجه نحو المستقبل، نحو الشباب المسؤول عن بناء المستقبل؛ لكن الربط بين الشباب العربي والمستقبل يقتضي، عند المنطلق، أن نربط بين الإصلاح وبين ضرورة توفير الشروط التي تتيح لهذا الشباب أن يتملك بسرعة الأداة السياسية والثقافية التي تسمح بتشييد وإنتاج المستقبل على أسس مغايرة لتلك التي أصابت آباءه بالحزن والإحباط المزمنين. إن إشكالية الإصلاح التي تطرح في حالة استعجال اليوم، على رغم أنها تلتقي مع أسئلة رافقت مشروع النهضة العربية المجهضة طوال القرن الماضي، فإنها الآن، تختلف بالنظر إلى الضغط الخارجي، والإفلاس الداخلي، وفقدان المشروع القومي مرجعيته التأسيسية التي كانت تسند أنظمةَ الحكم وتضفي الشرعية عليه وتبرر ممارستها للسلطة. وإذا كانت الثقافة العربية قد أنتجت تصورات وإبداعات وأفكاراً مستنيرة، فان السياسة بممارستها التسلطية أحدثت انفصاما عميقا بين الثقافي والسياسي وحالت دون الطرح النقدي المستمر لأسس الفكر السياسي، أي التفكير في دور الدولة والقانون والعدالة وأسس الحكم، والأمة، على ضوء الممارسة والتطبيق.

لأجل ذلك، فإن مسألة الإصلاح السياسي والثقافي التي تفرض نفسها بإلحاح اليوم، على المجتمعات العربية لا يمكن أن تكون جزئية أو ترقيعية، أو محاولة لإنقاذ الماسكين بالسلطة، وإنما هي إشكالية تستلزم إعادة النظر في القائم والموروث، من منظور يتيح تملكَ المستقبل والتفاعلَ مع الدينامية المتحكمة في تدبير صراعات العالم، وتجابه الأطروحات الفكرية والإيديولوجية التي يتوقف عليها مصير الإنسانية. بهذا المعنى، يكون الإصلاح المرجو ثورة لا تعتمد العنف ولا الإرهاب، بل تتوخى تحرير الإنسان العربي من كل ما يشله ويشيئه ويقتل الأمل لديه. وعلى مستوى منطوق الموضوع: "نحو مشروع للإصلاح الثقافي في إطار الإصلاح السياسي للمجتمعات العربية" تطالعنا مفاهيم ذات طابع إشكالي، مثير للأسئلة والتساؤلات: فالإصلاح إذا كان يستبعد العنف وفرض القرارات بحد السلاح، فانه قد يعني إحداث ثورة تبدل ما هو قائم وتعيد النظر في أسسه ومرتكزاته، وهذا ما يؤول إلى التساؤل عن القوى المجتمعية المهيأة لانجاز الإصلاح. والثقافة تحيلنا على الثقافي (le culturel)، أي الرحم التي تتخلق داخلها تصورات ومفاهيم وصيغ الثقافة عبر التحليل والتأمل والتأريخ للممارسات الثقافية، بترابط مع أسئلة المجتمع المتحول باستمرار. ومصطلح السياسة يجعلنا نفكر في علاقته بالسياسي (le politique)، أي في ما يتعدى الممارسة اليومية والحكومية إلى جماع العناصر المحددة لطبيعة الحكم وعلاقته بالسلطة والعنف والهيمنة، ونفكر في مفاهيم العدالة والمساواة والمواطنة، أي في ما يجعل السياسة، قبل كل شيء، تخدم الحياة من أجل حرية الإنسان.

ومصطلح " المجتمعات العربية" يشدنا ـ ما دام الإصلاح متصلا بالمستقبل ـ إلى هذا الحاضر العربي الذي تكاد تتفق أراء وتحليلات الملاحظين في الداخل والخارج، على أنه بدون أفق، ممعن في الانحدار والتراجع سواء على مستوى الثقل السياسي أو التنموي أو العلمي والتكنولوجي. كذلك فإن مصطلح "المجتمعات العربية" يحيلنا على شبحيّة النظام العربي، وعلى اهتزاز مكونات المشروع القومي، وعلى واقع الاحتلال والوصاية الأجنبيتين.

على ضوء هذه الملاحظات، أرى أن الإصلاح السياسي بالمعنى العميق، يحظى بالأسبقية قياسا إلى الإصلاحات الأخرى، لأنه يحتويها ويؤثر مباشرة على قابليتها للتحقق، بدون أن يعني ذلك أن الإصلاح السياسي يغني عن بقية الإصلاحات.
لذلك فإنني سأتناول نقطتين أعتبرهما أساسيتين في هذه الإشكالية وهما:
     أ. السمات البارزة للوضع السياسي في المجتمعات العربية منذ الاستقلال.      ب. ثم: الإصلاح المحرر أو: علاقة الثقافة والفكر بالممارسة.

2. السمات البارزة للوضع السياسي في المجتمعات العربية منذ الاستقلال:
لا يتسع المجال هنا للتذكير بالتحليلات التي أنجزت لتجارب الدول العربية منذ الاستقلالات وتحولها من دولة وطنية ذات بعد قومي تحرري إلى دولة تستبدل العسف والإكراه بالتوافق والحوار، والقمع والتسلط بتعدد الأحزاب وتمثيلها في السلطة. هذا لا يعني أن الدولة هي وحدها المسؤولة عن الانحرافات المتلاحقة التي أدت إلى ما يعرف من انحطاط وعجز عن الفعل المنتج، ولكن الدولة بوصفها الوجه السياسي المشخص للحكم والمسؤول عن تحقيق التوازن بين مختلف القوى والطبقات، قد أثرت إلى أبعد حد في إفراغ الاستقلال من أفقه المتطلع إلى تشييد مجتمع الحق والقانون والى أفق التحرر والحداثة ضمن مشروع قومي يتنامى بالإقناع والحوار واحترام الاختلاف. من ثمة فإن ما ينيف عن 50 سنة من الممارسة الدّوْلتيّة والانقلابية آل إلى الوضع البانورامي ( الاشتمالي) التالي:

أ ـ المجتمع السياسي (الدولة):
بعد فترة الكفاح الوطني التي عرفت إجماعا ضد الاستعمار بلورت ممارسة تستفيد من "روح" العصر عبر المثاقفة والمقاومة، وتفتح أبواب التحديث والأمل بالانخراط في العصر، تعثرت المسيرة وعادت الرؤية الماضوية أو الانقلابات الفوقية لتعزل المجتمع السياسي عن المجتمع المدني، ولتجر المجتمعات العربية إلى الدوران في الحلقة المفرغة وإلى سيرورة التسلط على المواطنين وتدجين القوى السياسية وقمع المعاضة والمثقفين المنتقدين، وتعطيل التعاون الضروري بين الدولة والمجتمع المدني ... بعبارة ثانية، تحولت الدولة العربية من تعبير عن تطلعات التحرر والتقدم والحداثة إلى جهاز إيديولوجي موسوم بالتلفيق بين ماضوية تقاليدية وعصْرنَة مجلوبة ترسخ التبعية والاستهلاك. وهذا الالتباس في موقف الدولة العربية يعتبر في طليعة الأسباب التي شجعت القوى المحافظة والرجعية على الاستمرار والتوسع واحتضان الحركات التمامية الإرهابية. بل أن بعض الدول العربية لم تتورع عن استخدام الحركات الأصولية لضرب قوى الحركات السياسية التقدمية. وهذا التحول في اتجاه الدولة نحو التسلط والعنف المحتمي بالشرعية، يفسر أيضا التخطيط الخاطئ في السياسة المجالية التي أدت إلى تفريخ الأحياء العشوائية ونشوء أحزمة الفقر المحيطة بالمدن الكبرى، وإلى إقصاء ملايين المواطنين عن الشروط الحضرية الضرورية مما سهل مهمة مستخدمي الدين الداعيين إلى إصلاح قوامه الإرهاب والعنف.

إن الصورة التي تأكدت للدولة في المجتمعات العربية، خاصة منذ مطلع هذا القرن، هي صورة " الفزّاعة" التي فقدت مفعولها عند الناس العاديين لأنها لم تحقق الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة، ولم تضمن حقوقهم ولم تشركهم في قرار التدبير، وغدت عاجزة عن أن تحمي الوطن من أطماع المخططين لإمبراطورية العولمة المعتمدة على التفوق العسكري والفكر اليميني المسيحي الأصولي. و ما حدث في العراق هذه السنة يقول الكثير عن الخفة التي لا تحتمل للدولة العربية في عالم اليوم.

ب- "انشقاق" الثقافة العربية عن الخطاب التقليدي وعن جمود السياسة:
طوال القرن الماضي، وعبر جميع محطات "النهضة " العربية المتجددة، كانت الثقافة حاضرة ورائدة في مختلف المجالات، واللافت في ذلك الحضور هو التفاعل المخصب مع سيرورة المثاقفة التي اتسعت وتوطدت من خلال البعثات التعليمية والاستعمار والترجمة والاحتكاك المباشر، بعد الاستقلال، بأوربا وثقافات العالم. و لا يمكن القول بأن تأثير الثقافة العربية على السياسة والمجتمع هو تأثير ضعيف، لأن مواقف وبصمات كثيرة تعلن عن آثار مفكرين ومبدعين وفنانين وسياسيين مثقفين في رسم معالم التنوير والتحديث وتجديد مناهج التفكير والتحليل. لكن انحراف الدولة العربية نحو التسلط والحكم الفردي وعجز الأحزاب عن التجدد والتفتح على تحولات الواقع، جعل الثقافة العربية تسلك طريق الانشقاق لتحافظ على الحد الأدنى من مقاومة الابتذال والطغيان والانحطاط. وعلى رغم شروط الرقابة والتضييق على حرية التعبير، فإن الكتابات الإبداعية والفنون التشكيلية والمسرح والسينما ذات التوجه الطلائعي استمرت حاضرة وفاعلة، لأن الجمهور العربي المتلقي الواعي، والمتوحد بالرغم من الحدود، وجد في ذلك الإنتاج الثقافي ملجأ يسعفه على وعي ذاته وفهم ما يحدث من تدهور وتراجع. إن بالفعل ثقافة مقاومة، لأنها استطاعت أن تتحدى القمع والرقابة والإرهاب الفكري لتنتج إبداعات وأعمالا وفُرجات تتغلغل إلى الأعماق من دون أن تتنازل عن المقتضيات الجمالية أو عن التماسك المنهجي والتحليلي. من هذه الزاوية، تبدو الثقافة العربية الطلائعية هي الوجه المشرق في بلاد تصادر حرية الدولة في الداخل، وتنتهك أرضها وثروتها دول غازية أو محتلة.

لكن انفصام الثقافي عن السياسي على هذا النحو رغم ايجابيته، فإنه يؤشر أيضا على أزمة ثقافية لأن قصر نظر الدولة في فهمها وتعاملها مع الثقافة يؤدي إلى طفوّ الثقافة الماضوية والى انتشار المفاهيم المشوهة للثقافة العربية ـ الإسلامية وللإبداعات الراهنة. فضلا عن ذلك، فان محاصرة الثقافة العربية المتنورة وانغلاق السياسة داخل التصورات السياسوية والدوغمائية، يبطلان التفاعل المخصب بين الثقافي والسياسي، ويفرغان الفعل السياسي من تأثيراته المطلوبة على مجموع الفئات والمؤسسات.

ج- اتساع الحركات التمامية المتطرفة:
لقد تميزت العقود الثلاثة الأخيرة ببروز ظاهرة الحركات التمامية المتطرفة واستيلائها على جزء هام من المواطنين والرأي العام نتيجة الفشل الواضح للنظام العربي ـ على اختلاف أشكاله ـ في تحقيق الصراع الديمقراطي والإدماج الاجتماعي والسياسي الذي يضمن التأييد الضروري للحكم والتعاون مع السلطة والدولة في تشييد المجتمع وتحديثه. وهذا الشرخ الكبير المهدد للحكم وللمجتمع هو صورة أخرى لذلك الصراع الذي عرفته المجتمعات العربية عقب الاستقلالات بين حكم مستبد يفرض وصايته على الجميع وبين أحزاب وقوى معارضة تدعو إلى التعددية السياسية وإلى اتباع منهج ديمقراطي. وبقدر ما مارست الدولة عنفها على أحزاب المعارضة، بقدر ما نجد الحركات التمامية تمارس الأعنف بدورها ضد الدولة والمجتمع وتضع شرعية الحكم موضع تساؤل وتعرض الدولة لخطر الفراغ والحرب الأهلية.

إن هذه الظاهرات التي تكشف ملامح الأزمة العميقة للمجتمعات العربية ـ مع اختلاف في التفاصيل والدرجة ـ تلتقي في كونها شطرت المجتمع الواحد إلى مجتمعات ذات سرعات متفاوتة، وإلى جزر متنافرة يدفعها اليأس إلى الهدم والنهيلية (العدمية) والتشبث باليوتوبيات الماضوية التي تزين استبدال الجنة بالحياة الدنيا، وكأن أصحاب هذه الدعوة يملكون التقرير في ما هو متصل بالمشيئة الإلاهية! والسمة المشتركة لأنظمة الحكم العربية هو أنها لم تعد محمولة على أكتاف المواطنين الذين ناضلوا من أجل الاستقلال وراهنوا على دولة تراعي حقوق المواطنة، وتسلك سبيل الديمقراطية الصعبة المنفتحة على منطق العصر، والمتطلعة إلى تحرير الفرد العربي من التدجين والجهل والوصاية التسخيرية. وانفصام هذه العلاقة بين الدولة وبين المواطنين هو ما يضعنا أمام المجهول المخيف. إذ يفتح الطريق أمام العنف والإرهاب لتحطيم ما هو قائم بدون قدرة على تقديم حلول بديلة.

وهذا الخطر ماثل بالنسبة لجميع الدول بما فيها الأنظمة الديمقراطية، كما لاحظت حنا أراندت بخصوص الولايات المتحدة الامريكية في فترات الماكارثية وحرب الفيتنام وثورة الطلبة في المدن الجامعية. حيث أصبح المواطنون لا يتعرفون على سلطتهم داخل المؤسسات التي أصبحت تعتمد العنف، والتجأوا إلى العصيان المدني ليذكروا الدولة بأسس الحكم التي حددها الآباء المؤسسون للدستور الأمريكي. إلا أن الفارق الجوهري بيننا وبينهم، هو أننا لا نتوفر على الضمانات الديمقراطية التي تسمح للمواطنين بان يصححوا الانحراف ويقوموا شطط الدولة وعنفها داخل إطار سياسي يجعل مصلحة الأمة والمجتمع فوق رغائب الحاكمين المتشبين بأزمة السلطة إلى الرمق الأخير!

3. نحو إصلاح محرر:
لو أردت أن أظل قريبا من مشاعري وهواجسي، أنا الذي عشت انكسارات قومية متتالية منذ هزيمة 1967 ومرورا باحتلال بيروت وطرد الفلسطينيين من لبنان ومحاصرتهم داخل جزء صغير من وطنهم، ووصولا إلى الحروب العربية العربية، واحتلال العراق وفرض الحماية الأمريكية عبر أقنعة مختلفة، لقلت بأن هذه الخرائب قد قتلت كل أمل في التغيير والتفكير بمستقبل أفضل. وما أخالني متفردا يستسلم للتفاؤل الكاذب وهو يعلم أن عناصر واقع الحال تدفع باتجاه التدهور وانهيار الأمة ومقوماتها الأولية. ولعل الذاكرة المحتفظة بصور مشرقات من التاريخ والثقافة العربيين، هي التي تدفعنا إلى أن نكابر ونجدد التفكير في ما عشناه ونحلل تعثراتنا المتراكمة.

وتتمثل صعوبة استئناف التفكير، بعد كل هذه الهزائم والهزات، في استيلاء الأدواء على مجموع الجسد العربي وفي استفحالها نتيجة للفرص الضائعة وزيادة التباعد بيننا وبين مركز الحضارة الكونية المتحكمة في مصير العالم. من ثم فإن الحديث عن الإصلاح قد ينزلق بسهولة إلى قضايا ومعضلات، على أهميتها، تظل فرعية ومحتاجة إلى بوصلة منحدرة من تصور شمولي يحدد طبيعة الإصلاح وإستراتيجيته ووسائله. ولكن لا أحد يستطيع الزعم بأنه يتعرف حقيقة على نقطة البدء الكفيلة بأن تؤطر الإصلاح الملائم. لذلك فإن وجهة نظري في الإصلاح المطلوب راهنا تظل مشدودة إلى المعاينة والحدس أكثر مما تعتمد على التحليل العلمي أو الانتروبولجي لمشكلتي الحياة والثقافة، إلا أن ذلك لا يلغى استحضار الأبعاد التاريخية والتجربة الشخصية التي حصلت لي في مسيرتي الثقافية.

وعلى ضوء السمات البارزة لواقع الحال العربي اليوم عرضت لها في عجالة، فإن مركز الثقل الإصلاح في نظري لا يلغي السياسي هو (le politique) أي الجانب المتصل بغاية الحياة والمبادئ والمفاهيم التي تقنع الجميع بأن غاية السياسة هي الحياة من أجل الحرية وليس الحياة لمجرد الاستمرار في البقاء أو تحقيق الرفاهية. هذا الأساس العميق للسياسي هو الذي يدعم التعاقد داخل المجتمع ويسند الحكم ويبرر ممارسة السلطة لصالح المجموع. و من هذا المنظور، يكون رجل السياسة في الآن نفسه، رجل التاريخ وذلك بقدر ما يكون التاريخ، في التحليل الأخير، شاهداً على تحقيق الحرية داخل فضاء عمومي تفتحه الحرية ويكون في خدمتها. بعبارة ثانية، فإن السياسي هو ما يكوّن أسس "المدينة" بالمعنى اليوناني، بعيدا عن الحقل المباشر للتنافس السياسوي الذي يطبع مزاولة السياسة والعمل الحكومي يوما بيوم.

إن التفكير في الإصلاح السياسي والثقافي من هذا المنظور، هو ما يدفعني إلى استعمال كلمة "إصلاح محرر" لأن تجربة الدول العربية بعد الاستقلالات آلت، كما رأينا، إلى شل المواطن، وتبديد الثروة المادية والبشرية، وإلى فرض التسلط والرقابة وإلى العجز عن التنمية والإنتاج بنسب تساير الحاجيات والمطالب وفق ما يقتضيه العصر من المساهمة في المعرفة والثقافة والعلوم. وهذه الحالة هي حالة حصر (Blocage) بامتياز، وتعود أساسا إلى تجميد الحكم في صيغة حكم فردي أو استبداد أوليغارشي أو عائلات أوتوقراطية ... من ثم اتسعت الهوة والقطيعة بين الحاكمين والمحكومين. وأصبحت العلائق أبعد ما تكون عن التعاون والحوار بين المجتمعين السياسي والمدني. حالة العصر هذه تدوم منذ عقود، هي التي تجعل الجميع ـ مواطنين ومتفقين ودولة وحاكمين ـ يستشعرون استعجالية الإصلاح الذي قد لا يكون له ذات المفهوم عند هذه الفئات الأساسية. في نظري، فك هذا الحصر والحصار، يجب أن يعطي الأولوية لتحرير السياسي عبر الثقافي الذي يهتم بإعادة تحديد أسئلة الثقافة وغاياتها ومسؤوليتها عن بلورة السياسي لتوفير شروط التغيير الضامن لإصلاح محرر يعيد المجتمعات العربية إلى الوضع الطبيعي، أي القدرة على الحوار والانتقاد والتنظيم الديمقراطي بوصفة وسيلة للخروج من تحكم الاستبداد إلى حكم يتشارك مجموع فئات الشعب في تأسيسه وتطويره وصونه من الانحراف ومن هجمات الإرهاب.

لكي نقترب أكثر من جوهر المعضلة، نشير إلى ذلك الجانب الشائك المتصل بعلاقة الممارسة السياسية بالفكر السياسي أو علاقة الخطاب العملي بالخطاب النقدي، وأنا مع الذين يرون أنه ليست علاقة مفاضلة أو تبعية، بل هي علاقة جدلية بالحتم، لأن الأمثلة كثيرة في التاريخ السياسي والثقافي حيث يصحح الفكر الممارسة السياسية أو تصحح الممارسة تصورات الفكر ومعايير التحليلية. هناك، على سبيل المثال، التحليلات والبيانات التي نقدت التجربة الناصرية والبعثية خاصة بعد هزيمة 1967، وهناك النقد الصادر عن ماركسيين قياديين وعن مفكرين، تجاه التجربة السوفياتية مثل ما كتبه تروتسكي أو ما أنجزته المجلة الفرنسية "اشتراكية أو توحش". ويمكن أن نسوق في مجال تصحيح الممارسة للفكر، قرار إنجاز الصورة الروسية العام 1917 على يد لينين ورفاقه، بينما كانت تنبؤات ماركس ترشح للثورة بلدا أوربيا رأسماليا. كذلك، يمكن أن نذكر قيام الثورة الفلسطينية سنة 1965 لتصحيح تقاعس السياسة العربية تجاه إسرائيل وتجاه حقوق عادلة لشعب عربي. من هذا المنظور، تتأكد فعالية الترابط بين الإصلاح الثقافي والإصلاحي السياسي على أساس من تبادل التأثير ومن تلازم الإصلاحيين لأنهما يتعلقان، قبل كل شيء بالإنسان العربي المحتاج إلى تنظيم المجال السياسي تنظيما عقلانيا يضمن العيش سوية لكل المجتمع، ويوفر مجالا ثقافيا يبتدع ويحلل وينقد ويعيد صوغ الأسئلة وفق ما يفرزه المعيش ويراكمه التاريخ. لكن المسألة الأصعب، عند التفكير في الإصلاح، هي المتعلقة بسؤال من ينفذ الإصلاح؟ ما هي نقطة التواصل والربط الجدلي بين الفعل السياسي والخطاب الثقافي النقدي؟ ويزيد من هذه الصعوبة كون الحكم في الأقطار العربية لا يؤمِّن سبلا للتصحيح والمراجعة بل يستند إلى أجهزة القمع ووسائل الترغيب والترهيب لتأمين الاستمرار؛ على رغم دلائل الفشل وانسداد أفق العيش والأمل أمام أغلبية الشعب التي لا تجد مستقبلها عند دعاة الإتيوبيا الدموية. وتعاني في نفس الوقت من الإقصاء والإبعاد على يد الماسكين بالسلطة ومُقدّرات المجتمع.

إنني في الحقيقة لا أملك جوابا على هذا السؤال ـ المأزق لكنني أرى أن الأوضاع المتناهية الخطورة التي توجد عليها الشعوب العربية تلزم المثقفين بالجهر بتحليلاتهم وآرائهم الصريحة لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم وللتأشير على إمكانات النهوض واستئناف الفعل المعطل جراء القمع والاضطهاد واحتقار المواطنين. على رغم كل شيء أرى أن المثقفين العرب، قادرون على "فعل الكلام" (Acte de parole) الذي نحتاجه اليوم لنسخ تبادل الرأي وأسس الحوار المعمم اللازم كشرط جوهري لإرساء الحكم الذي يجسد إرادة الشعب بدلا من الحكم القائم على سيطرة الإنسان على الإنسان. يخيل إلي أن هذه العتبة يستطيع المثقفون أن يسهموا في إسعاف مجتمعاتهم على مجاوزتها لنتمكن من ارتياد بوابة الحداثة السياسية والنظام الديمقراطي الممهد لتجميع كل المواطنين وإدماجهم باختلافهم وتعدد معتقداتهم ضمن مشروع الوطن ـ الأمة الكفيل بأن يضعنا على سكة الفعل المنتج. وما أقوله "مستقى" من مواقف ملموسة وأراء فكرية ـ سياسية عبر عنها المثقفون العرب في الفترة الأخيرة عندما تفاقم تدهور الأوضاع العربية واصطدمت الأنظمة بالجدران والحواجز التي نصبتها لنفسها ولشعوبها منذ عقود طويلة من الزمن. عنيت البيانات التي وقعها المثقفون في سوريا ومصر وفي المهاجر لتنبيه الرأي العام في الداخل والخارج إلى مأزق الحكم العربي، وإلى ضرورة فك الحصار عن الأغلبية الصامتة المكبلة التي تتجرع الهزائم المتتالية على يد سلطة تدعى أنها تعرف طريق الخلاص وتنوب عن كل المواطنين لأنها "تعرف ما فيه خيرهم" !

وثمة فرصة لأن يعمق المثقفون الحوار والتفكير من موقع المسؤولية الجماعية التي يستوجبها إنقاذ مجتمعاتنا المهددة بالاحتلال والوصاية والتفقير والتجهيل. وما هو مطلوب الآن، في نظري، ليس هو تسطير البرامج والمقترحات لإصلاح النظام السياسي وتجديد الخطاب الثقافي، لان ذلك يتم ـ كما أشرت أنفا ـ من خلال التفاعل بين الخطاب النقدي والفعل السياسي، وهو تفاعل يبدو معطلا ومحاصرا نتيجة الطلاق غير المعقول بين الدولة والمجتمع المدني، ونتيجة آليات التسلط المعيقة للدينامية والحراك. ومن تم فإن ما يحظى بالأولوية، هو تعميق تحليل الأزمة وطرح أسئلة تسعف على إعادة الاعتبار لأهمية "السياسي" مفكرا فيه من منظور إعادة التأسيس للحكم ونقله من خلفيات المقدس والأسطرة إلى فساحة الواقع المعيش، ومنطق العصر، وتحديات الحاضر والمستقبل.

وفي هذا الصدد، أجد أن مسألة الدمقرطة والديمقراطية التي تبوأت من فترة، موقع " البوصلة الهادية"، المنقذة، تحتاج إلى المزيد من الاستيعاب والتدقيق والتمثل. نستطيع أن نطرح، إذن، الديمقراطية لا بوصفها حلا سحريا، بل بوصفها مفهوما إشكاليا ينحدر من تاريخ المواجهة مع حالات مجتمعية متعددة، انطلاقا من إرادة البحث عن حل سياسي هنا، على الأرض، أكثر مما هو مثل أعلى يتطلع إليه ويتغنى به. أو كما يقول أحد الباحثين في تاريخ السياسي وتاريخ الديمقراطية:

"ليست حياة الديمقراطية هي المجابهة مع نموذج مثالي، بل هي استكشاف معضلة تتطلب حلا "(1). أي أن الديمقراطية تصور مبدئي يقر بأن قوة الحكم هي في انبثاقه من الشعب، وأن المنهج الديمقراطي لا يتوخى استنساخ النماذج السياسية وإنما يسعى إلى توفير شروط بلورة شكل سياسي يتيح لمجموع فئات الشعب أن "تعيش سوية" على رغم الخلاف والتعدد المشروعين الموجودين في كل المجتمعات بدون استثناء. وهذا المنهج الذي يتوسل بالحوار واحترام حرية الرأي والتعبير، هو في الآن نفسه، صمام أمان ضد منطق العنف والإقصاء والمصادرة، وهو كفيل باستيعاب الحالات غير المسبوقة للصراع السياسي وإعطائها حلولا تراعي جدلية البنية المجتمعية ودينامية التاريخ.

وأظن أن المثقفين العرب والفاعلين في المجتمع المدني الذين يستشعرون أنهم مطالبون بان يرفعوا أصواتهم لينسجوا "فعل كلام" مؤثر، هذه المرة لن يكون كلامهم صيحة في واد، لأن مجموع المواطنين البسطاء يدركون بالمعاينة والمكابدة ومن خلال الصور الفاضحة، إفلاس مسارات الحكم العربي التي آلت إلى الأبواب الموصدة والمخاطر المهددة لوجودنا وثقافتنا. إنه من الضروري، ونحن في قاع المنحدر، أن نطرح الأسئلة والإشكاليات بجذرية تدرأ عنها "التراضيات" التي تؤول إلى حماية المسؤولين عن هذا التدهور. وإشكالية الديمقراطية في العالم العربي، محتاجة إلى التحليل الذي ينزع عنها سمة الوصفة الجاهزة ويطرحها على الرأي العام العربي الواسع بما هي عليه من تعقيدات ومتطلبات. إن الديمقراطية لا تحيل على صيغة مستقرة ذات عناصر قابلة للاستيراد والتصدير، بل هي ملتحمة بالسياسي الذي لا يكف عن مساءلة الدولة وانتقادها والسعي إلى تصحيح أخطائها وانحرافها. هي مقترنة بالحركة والتحول لا بالجمود والاستنساخ؛ أو كما قال أحد الفلاسفة المعاصرين:

" تتوفر الديمقراطية، مثل الفوضى التي هي غير منذورة لأن تكون نظاما آخر، على معنى غير قابل للاختزال، معي يرفض التركيب (بين الأطروحات) ويرفض النظام لأن معنى الديمقراطية هو أن تبتكر، داخل الزمن، العلاقة السياسية التي تتعدى الدولة وتجاوزها؛ ذلك أنه إذا كان باستطاعة الديمقراطية أن تعارض الدولة فلأن " السياسي" لا يتوقف عن مجابهة الدولة..."(2).

من هذا المنظور، نلح على أن الديمقراطية واللائكية/العلمانية وحقوق المواطنة وغيرها من أسس الحداثة السياسية والثقافية، لا تكتسب قيمتها من "النفوذ" الذي تتمتع به في العالم المعاصر المتطور، وإنما من مدلولها التاريخي، الإنساني الذي يعطيها صفة المرونة والفعالية لتنظيم الصراع الاجتماعي والسياسي تنظيما يعترف بالاختلافات ويقودها على طريق الحوار المخصب. إن تحديد الخطاب الثقافي العربي سيرورة وثيقة الصلة بشروط إنتاج ذلك الخطاب وتصريفه وتفعيله. وإذا كانت الخمسون سنة الماضية قد أثبتت ـ في مقابل الإفلاس السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ قدرة الثقافة العربية على الإبداع والتحليل والمقاومة، فإن إشعاعاتها وتأثيراتها تظل محاصرة نتيجة فقدان المثقف والمبدع لوضعهما الاعتباري، نتيجة للشروط القاسية التي تجعل الرقابة على رأس المعوقات داخل كل بلد عربي وعلى الصعيد البيْنعَربيّ، والهموم والمشكلات المتقاربة، لتأسيس تصورات ومساحات تستجيب لمقتضيات التجديد والتفاعل مع أسئلة المرحلة.

لأجل ذلك، على المثقف العربي أن يعطي لنفسه الحق في أن ينتقد الاختلالات والأوضاع على مستوى جميع الأقطار العربية، لأن ذلك شديد الصلة بمهمته الفكرية والإنسانية، وأيضا لأن معاودة النهوض بالمشروع العربي تستدعي جذرية الطرح على ضوء ما أكثر إليه التجربة من انحدار وانكسار وتفجر للتناقضات والمكبوتات. بل أن الإصلاح المطلوب لمعاودة النهوض يلزم المثقف العربي بأن يستحضر دوما الأبعاد الإقليمية والعالمية التي تربطنا حتما بالفكر الكوني وبالصراعات المتلاحقة التي تطبع التاريخ البشري المعاصر. بعبارة ثانية، لم يعد هناك مجال للتخفي والتبرير وراء مقولات الخصوصية والهوية الثابتة، لأن الإرادويّة لا تنفع في الحيلولة دون الصيرورة والتبدل...واستيعاب هذا القانون هو ما يجعل صيرورتنا إيجابية، ملائمة، بدلا من أن تكون مفروضة علينا من الأقوياء المشدودين إلى تصورات ربحية للعولمة والهيمنة. أي أن التفكير في استئناف المسيرة بعد التعثرات والخسائر الفادحة التي أصابت العالم العربي والتي تستشعر خطورة اللحظة التاريخية والمزالق المهلكة المحيطة بالإنسانية الباحثة عن توازن منصف وسط الطموحات الإمبراطورية الأمريكية الشرهة وتجاه الحركات الإرهابية اليائسة وضد الرأسمالية الجديدة المتوحشة السائدة...

إن "الإصلاح المحرر" ـ كما أتصوره نظريا ـ قد توافرت عناصره وشروطه؛ وما هو مطلوب من المثقفين والمفكرين والمبدعين العرب، هو تكثيف " فعل الكلام" باتجاه موقف نقدي جدري يعلن إفلاس التعاقد السياسي بين الدولة والأنظمة من جهة، وبين أغلبية المواطنين من جهة ثانية. وكل تجديد أو إصلاح إنما يبدأ من إعادة صوغ مضمون " السياسي " وجعله أفقا لنضال محتمل تخوضه قوى اجتماعية ترفض منطق الإرهاب والجمود، مثلما ترفض منطق الحكم الاستبدادي في جميع أشكاله وتلويناته.

______________________________________

1- انظر: Pierre Rosanvallon: Pour une histoire conceptuelle du politique, éd seuil,2003,p 31
2- انظر: Miguel Abensour: La démocratie contre l'état ,éd, PUF, 1997, P.115