ألا يستحق الحب أن نجنّد أعمارنا من أجله بدلاً من الكراهية؟
مراد
مضت ثلات وعشرون سنة على اختفاء جثته. حدث ذلك بالضبط في السنة السادسة للحرب، لكنني اعتدت على رؤيته في الحلم مرةً كل عام ليلة استشهاده (الثالث عشر من شباط/ فبراير)، وأتذكّره كلما وقعت عيناي على كتاب لماركيز. كان شغوفاً بهذا الكولومبي على نحو جنوني، يحمل كتبه بلغتها الأصلية حتى في الخط الأمامي للجبهة، ويسميه أحياناً بلقبه الشعبي "غابو"، وكأن أمه ولدته في بوغوتا. وفوق ذلك يأتيني كل مرة حاملاً اسم أحد أبطاله، وفي سن مختلف، تارةً باسم سنتياغو، وتارةً باسم أركاديو، وثالثةً باسم سيمون... لكن الأمر بالنسبة إليّ كان عادياً جداً، وكأن عودة الميت إلى الحياة في اللاشعور، هكذا بصور مختلفة، مسألة بديهية.
حين عرّفني إليه فرهاد، قبل أن تختطفه الحرب ببضعة أشهر، قال لي: "أقدّم لك صديقي سلمان البدر، ولن يغضب إن ناديته باسم ماركيز، فهو مهووس به مثل هوسك بألبرتو مورافيا، يستوحي منه جرعة الخيال، ولا يفارقه حتى في المرحاض".
لم أكن قرأت لماركيز آنذاك إلاّ روايةً واحدةً، هي "مائة عام من العزلة" (دوّخ سلمان رؤوسنا بها من كثرة ما ردد علينا اسمها بالإسبانية)، وكان صيتها منتشراً في وسط القرّاء، الكل يتحدث عن غرائبيتها، وعن شخصياتها الأخّاذة.
سألت سلمان، في اليوم التالي لتعارفنا، كيف حصلت على روايات ماركيز وقصصه بلغتها الأصلية؟ فقال متباهياً إنه سرق بعضها من مكتبة الكلية (كانت سرقة المثقفين المفلسين للكتب، في تلك الأيام، شطارةً يُحمدون عليها)، وحصل على بعضها الآخر من قنصليّات البلدان الناطقة بالإسبانية ببغداد، وتعرّض بسبب ذلك إلى المساءلة من جهات أمنية. من يدري ربما كان يبالغ في الأمر، فما الضير في أن يلتقي طالب جامعي بموظف في قنصلية إسبانيا أو البرازيل أو فنزويلا؟ لو كان ذلك الموظف كوبياً لاختلفت المسألة حتماً، فليس من المعقول ألاّ يكون شيوعياً وهو من بلد كاسترو! فضلاً عن العلاقة الحميمة التي تربط كوبا بإيران ونحن في حالة حرب مع الأخيرة.
كنا وقتها نقضي نهاراتنا وليالينا في ملاجئنا على سفح جبل "رأس العبد" بقليل من الاسترخاء. الجبهة شبه هادئة، بعد مرور مدة على استرجاع الراقم الذي كانت تحتله إيران، لذلك صار آمر سريتنا الملازم غازي مرناً في تعامله معنا، فسمح لنا نحن الثلاثة، فرهاد وسلمان وأنا، وجندي رابع لم أعد أتذكر اسمه، بالنزول إلى بلدة "ديانا"، أكثر من مرة، للاستحمام وإجراء مكالمات هاتفية مع أهلنا في أرابخا(1) (باستثناء فرهاد، الذي كان يقتنص الفرصة للتسلل إلى بيت صديقته الأرملة الشابة كلما جمحت به الشهوة). كان ذلك الضابط من جيلنا تقريباً، وله اهتمام بالأدب أيضاً، إلاّ أنه لم يكن يمتلك وقتاً لقراءة الكتب هناك، مقارنةً بنا نحن الجنود، فيكتفي بالاطلاع على الصحف والمجلات الأسبوعية فقط. وإذا صادف أن قرأ قصةً عن الحرب، من تلك القصص القصيرة التي لم تكن تخلو منها الصحف، آنذاك، فإنه يهبّ لكشف مثالبها، مثل ناقد متمرّس، ويسخر أحياناً من كتّابها لأنهم، حسب رأيه، يجهلون الحياة العسكرية. وكنا نؤيده في موقفه، تملقاً، علّنا نحظى بمودته ورضاه.
كانت بلدة "ديانا" في الأصل قريةً أغلب سكانها من المسيحيين السريان، كما قال هرمز، مراسل آمر الفوج، لكنهم تعرّضوا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر إلى حملات قتل ونهب واغتصاب، على يد حاكم إمارة سوران محمد الراوندوزي (الملقّب بالأمير الأعور (مير كور)، والمعروف بتعصبه القومي والديني واعتياده على قلع عيون معارضيه)، ثم أصبحت بديلاً لقضاء "راوندوز" المجاور لها. وكلمة "ديان" في اللغة الكردية تعني "المسيحي".
في البدء شككنا، أنا وسلمان، في صحة هذه المعلومات، إلاّ أننا تأكدنا منها حين اصطحبنا هرمز مرةً إلى قدّاس الأحد، والتقينا خوري الكنيسة. كان ذلك الخوري، ذو الوجه الشبيه بوجه بولس الرسول كما يبدو في لوحات عصر النهضة، مولعاً بكتب التاريخ مثل ولع سلمان بكتب ماركيز، ولكي يقنعنا بالمجازر التي ارتكبها الأمير الأعور ضد المسيحيين جلب من مكتبته كتاباً مجلداً عنوانه "الآشوريون بعد سقوط نينوى"، وقرأ لنا في إحدى صفحاته قائلاً إن عصر محمد الراوندوزي كان دموياً مرعباً، ويديه ملطختان بدماء المسيحيين، وقد قتل أقرب المقربين إليه، وجهز حملةً على اثنين من أعمامه فقتلهما. ويُقال إنّه في إحدى ليالي الصيف كان نائماً فوق سطح منزله فانزعج من بكاء ابنته الصغيرة فنهض من فراشه وأمسك بها ورماها إلى الأرض. كان ذلك الأعور يطمح إلى توسيع حدود إمارته صوب منطقة الجزيرة التي يقطنها السريان والآشوريون واليزيديون والتركمان والعشائر العربية، لكن العثمانيين بطشوا به في نهاية الأمر. وأضاف الخوري من عنده، بعد أن طوى الكتاب،: "ترك الراوندوزي هذا أبشع الصور في الذاكرة الشعبية السريانية، فكتب الشعراء عن جرائمه الكثير من القصائد الملأى بالمرارة والألم". وحين صافحْنا الخوري مودعين قال لنا: "ثقوا يا أولادي، إن أي قارئ لتاريخ العراق والمنطقة يعلم أن دور الناطقين بالسريانية في هذه البلاد أكبر من دور الآخرين في شتى مجالات الحياة، على امتداد آلاف السنين".
تتناثر بيوت "ديانا" (ما زلت أطرب لإيقاع اسمها)، المشيّدة بالحجر والبلوك والصفيح، على سفح جبل ممرّع بالخضرة، وتحيط بها الغابات وأشجار البلوط والجوز، وتتدفق على مقربة منها ينابيع عذبة تضفي عليها الأغصان التي تظللها لون العقيق المطحلب، وأنهر صغيرة تلتقي في رافد "بالكيان" الذي يصبّ في نهر الزاب. ومثل العديد من البلدات الكردية احتضنت "ديانا" مجمعات سكنيةً تؤوي القرويين المرحّلين قسراً من المناطق الحدودية منعاً للتماس بينهم وبين التنظيمات العسكرية للأحزاب.
كنا نحبها بدرجات متفاوتة، كل واحد منا كان له سببه الخاص، فرهاد كان يهواها كثيراً لأن صديقته أفين (معناها الحب بالكردية) تقيم فيها، ويصفها بـ "المدينة المفعمة بالمحبة"، وبالنسبة إليّ كنت أفضّلها على البلدات المجاورة لأنها على اسم أميرة ويلز الفاتنة الأرستقراطية، أما سلمان فكان لا يجد ما يشدّه إليها سوى أنها تشبه، كما يتخيّل، "أراكاتاكا" مسقط رأس ماركيز.
في إحدى المرات التي ذهبنا فيها إلى "ديانا"، التقينا أمام إحدى المقاهي صديقاً لسلمان من بغداد اسمه باهر الكناني، ذا بشرة سمراء، تشبه ملامحه ملامح الغجر، يرتدي بزّة مغاوير مرقطةً، ويتحدث بلهجة جنوبية، فعرّفنا إليه قائلاً إنه شاعر يكتب قصائد نثر خارقة للمألوف، منتهكة للحياء والوقار، يكتبها بتلقائية قلبه، ويكره الشعر التعبوي. أُجبر خوفاً من السجن على الدخول إلى مركز لمحو الأمية ومُنح شهادة "يقرأ ويكتب"، وله مخطوطة من أربع دواوين، لكن المتسيّدين على الثقافة واجهوه بالسخرية والإهمال، وسدّوا منافذ النشر في وجهه، بذريعة أن قصائده سوريالية تتهكم على الحرب أو تتقاطع معها!
اقترح علينا الكناني أن نجلس في المقهى، وكنا نتجنب ارتياد المقاهي لئلا ترانا مفرزة الانضباط العسكري فتعاقبنا. دلفنا إلى الداخل، واخترنا ركناً دافئاً ومنزوياً بعيداً عن الأنظار. وما إن جلسنا حتى أخذ سلمان يطري صديقه كثيراً، مشبهاً قصائده بقصائد شعراء الحداثة المتمردين في الغرب، فارتسمت على محيّاه إمارات الزهو، وابتسم ابتسامةً عريضةً أفترت عن صفين من الأسنان المصفرّة، ثم فتح سحاب قمصلته التي بدت مثل جلد خروف أغبر، وأدار رأسه إلى صاحب المقهى، طالباً منه أن يقدّم لنا خمس استكانات شاي، إلاّ أن الرجل حدّق إلينا بنظرة جافة شعرت بأنها تنطوي على كراهية دفينة، ونهض من وراء طاولته المعدنية، عابساً متثاقلاً، وكأنه يؤدي عملاً من أعمال السخرة. أومأ لنا فرهاد برأسه أن لا نأبه للأمر ولحق به، راقبته وهو يتحدث معه ويمنحه نقوداً، ظننت أنه سدد له حساب الشاي الذي سنشربه، لكنني رأيته يأخذ منه كيساً ويدسه في الجيب الداخلي لقمصلته، فأدركت أنه اشترى منه زجاجة نبيذ، وكنا نفضله هناك على أنواع الكحول الأخرى لأن رائحته غير فاضحة.
قال سلمان لصديقه الكناني:
- أين هذه المقهى من مقهى "حسن عجمي" في بغداد؟
- لا تذكّرني بها يا صديقي...
قاطعه سلمان موجهاً كلامه لنا:
- أنتم لم ترتادوها، إنها مقهى عتيقة في شارع الرشيد من جهة "الحيدر خانة"، تقع في منتصف الطريق بين ساحة الميدان وساحة الرصافي، وعلى بعد خطوات من شارع المتنبي.. عالم يضج بخليط من البشر: أدباء وصحفيين ورسامين ومخبرين وضحايا وموتورين ومعقّدين.. مرةً حين كنت ممثلاً، وأنا في الخامس الثانوي، قدْتُ إليها في الصباح الباكر سبع فتيات من أرابخا يشاركنني في تمثيل مسرحية طلابية، وأفطرنا فيها القيمر والعسل.. يومها لمحت زهواً بالغاً في وجه نادلها أبي داوود وهو يصبّ لنا الشاي.
قال الكناني:
- حسن عجمي ذاكرتنا ومأوانا الأثير وفضاؤنا الذي يسبح في اللامعقول، أشتاق إليها الآن مثل اشتياقي إلى رشفة عرق، على أرائكها التي أبلت مؤخراتنا قرأت أجمل ما كتبتُ لأصدقائي الشعراء الصعاليك..
- ما أخبارهم؟ هل ما زالوا يلتقون هناك كل يوم جمعة؟
نزع الكناني خوذته ووضعها إلى جانبه، فبان حليق الرأس تماماً علامةً على تلقيه عقوبةً لارتكابه مخالفة ما، وأجاب ضاحكاً:
- ما زالوا أوفياء لأرواحهم المتمردة.
سأله فرهاد:
- وأنت؟
أشار الكناني إلى رأسه قائلاً:
- ألا يعني لك هذا أنني متمرّد؟
أجاب فرهاد:
- لا، التمرّد بالمعنى الفلسفي غير هذا، إنه فعل تحدٍّ تمارسه ضد قوة عاتية لا تستطيع الحاق الهزيمة بها.
- ومن قال لك إنني لم أمارس هذا الفعل؟ لقد تحديت أول أمس عريف فصيلي هندي صيهود...
ضحكنا أنا وسلمان والجندي الذي لم أعد أتذكر اسمه، أما فرهاد فعلّق بنبرة ساخرة:
- أتعدُّ هذا قوةً عاتيةً؟
- تقول ذلك لأنك لا تعرفه.. العريف هندي بقوة آمر لواء، يحمل نوطَي شجاعة، ومستعد أن يبيد الفصيل كله من أجل نوط ثالث.
- بماذا تحديته؟
- قلت أمام بضعة جنود: "سمعت العريف هندي يضرط في المرحاض مثل رشاشة رباعية"، فوشى بي أحدهم..
ضحكنا أنا وسلمان والجندي الرابع، أما فرهاد فقال بثقة واعتداد:
- هذه مزحة وليست تحدياً.
ردّ الكناني وهو يشفط بتلذذ آخر جرعة من الشاي:
- من يسمعك كاكا(2) يقول إنك ألبير كامو!
ضحكنا مرةً أخرى على تعليقه، ثم لذنا بالصمت.
استأذَننا فرهاد للذهاب إلى مكتب البريد وإجراء مكالمة تلفونية، لم يقل مع مَن، لكني خمّنت أنه سيكلم صديقته، وإذا تأخر أكثر من نصف ساعة فمعنى ذلك أنه ظفر بخلوة ساخنة معها. نظر إليّ سلمان نظرةً أوحت لي أنه يشاركني في تخميني، ونادى صاحب المقهى أن يجلب لنا وجبة شاي أخرى.
بعد أن انتهينا من احتساء الشاي أستل الكناني من جيبه ورقةً، وشرع يقرأ لنا آخر قصيدة كتبها:
"قلت لأبي: أعطني نقوداً لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع
قلت لحبيبتي: أعطني قبلةً
فتحت فمها فخرجت منه لبوة
قلت لآمر سريّتي: أعطني إجازةً يا سيدي
فتح فمه فخرجت منه دبابة .
الأسد الجائع واللبوة
اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة
ثم عدت إلى السجن مصدوع الرأ س".
بدا لي الكناني ناقماً أكثر منا على الحياة العسكرية والحرب. ومن يلومه على موقفه؟ لقد سلخت هاتان الآفّتان، حتى ذلك الحين، سبعة أعوام من شبابه. سألته قبل أن نغادر المقهى:
- كيف تقضي إجازتك الدورية؟
قال:
- أزور أصدقائي، وعندما أفرط في السكر أضع جميع المقدّسات في المرحاض.
أذهلتني جرأته، وشعرت أن ردّه أقرب ما يكون إلى مقطع من قصيدة، فابتسمت له دون أن أنبس بكلمة.
تأخر فرهاد ساعةً ونصف الساعة تقريباً، فساورنا القلق من احتمال انكشاف أمره مع صديقته، لكنه حينما أقبل مضاء الوجه، منبسط الأسارير، شعرت بأنه لم يفرغ شهوته بقضيبه فقط، بل بحواسه الخمس أيضاً، ورغم غبطتي له عنّفته على تأخره لأنه تركنا من دون استحمام، وسيجعلنا نهرش جلودنا بضعة أيام.
كانت الشمس تتهيأ للهبوط خلف الجبل، ومن جهة الشرق بدأت غيوم سوداء تزحف ببطء صوبنا، فأسرعنا عائدين إلى جحورنا بين الصخور. في الطريق حكى لنا سلمان أنّ باهر الكناني كان قد هرب من الجيش أكثر من مرة، واختبأ في أمكنة سرية بائسة غارقة في الظلام والرطوبة، لكنه كان يضطر إلى العودة كلما صدر عفو عن الهاربين لئلا يسوقوه إلى مقصلة الإعدام.
حين بلغنا ملاجئنا شرعت زخات مطر قوية تنهمر على رؤوسنا، مصحوبةً بوميض ساطع وأصوات مدوية مجسمة تأتي من أعالي الجبال، فلم نستطع أن نميز ما إذا كانت قادمةً من سماء رحيمة أم خارجةً من فوهات مدافع مجنونة.
* * *
ظهر لي سلمان في المنام، العام الفائت، باسمه الحقيقي، في حين كان سنّه يقارب سنّي، الخامسة والأربعين. كنت اتشمس على سطح داري في حي "بريادي"، ففاجأني بمجيئه حاملاً مغلّفاً كبيراً في يده، وسحب منه حزمة أوراق وقدّمها لي قائلاً:
- أخيراً انتهيت من كتابتها.. استغرقتني معظم المدة التي غبتها. ستعجبك حتماً.
- أهي الرواية التي كنت تحلم بكتابتها؟
- هي بعينها، دبّجتها بالإسبانية أولاً ليقرأها ماركيز، ثم نقلتها إلى العربية.
- وهل قرأها بالفعل؟
- نعم قرأها وأثنى عليها كثيراً.
- أنت عفريت يا سلمان، أين التقيته؟
- التقيته حيث يقيم، في المدينة الهائلة، اللامتناهية، المرعبة، ذات الألف سر والألف فم..
- على مهلك.. كأنك تصف مدينةً خياليةً!
نهض عن مقعده وابتعد قليلاً، ثم رفع يديه وقال كمن يؤدي دوراً في مسرحية:
- هكذا هي بالفعل مكسيكو، مدينة شاسعة تحيطها الجبال من جميع الجوانب، كل شيء فيها كبير، حتى علَم "زوكولا" الذي يرفرف في وسطها يُعدّ من أكبر الأعلام في العالم. إنها كنز تاريخي ثمين يرقد في أحضان الحضارة الأزتيكية.
وصلت إلى "غابو" بأعجوبة، إنه يعيش في عزلة كاملة عن الناس، أوقف خط هاتفه، وأقفل بابه أمام كل الزيارات، إدراكاً منه، كما أخبرني، بأنه في سباق مع الزمن، ليقول كل ما يريد، وكل ما عنده قبل أن يجمد القلم في يده إلى الأبد.
- كيف سمح لك أنت بالذات؟
تطلّع إلى الهضاب التي تحف المدينة وقال:
- حين وصلت إلى مكسيكو علمت أن الممثلة سلمى حايك ستزوره لتتباحث معه حول تحويل روايته "الحب في زمن الكوليرا" إلى فيلم سينمائي من بطولتها، فاتصلت بها بحجة أنني صحفي أنوي إجراء لقاء معها، وما إن التقيتها حتى كشفت لها عن حقيقتي، قلت لها إنني قضيت عشرين عاماً في كتابة رواية أحلم بأن يقرأها ماركيز، وسأموت إن لم يحقق لي حلمي.
- فليذهب "غابو" إلى الجحيم، هل التقيت سلمى حايك حقاً؟
- بلحمها وشحمها كما يقولون..
- طوبى لك.. قبل أيام شاهدتها بدور نادلة اسمها كاميلا في فيلم "اسأل الغبار"، فسال لعابي لرؤية جسدها المصنوع من ألسنة اللهب.. يا إلهي، ذكّرني المشهد الذي تمارس فيه الجنس مع صديقها الكاتب بمشهد في إحدى روايات مورافيا. ماذا كان ردّها؟
- قالت لي أنت مجنون، أية رواية هذه التي تستحق أن تضيّع من أجلها عشرين عاماً، فقلت لها إنها رواية عن العشق.. ألا يستحق الحب يا سلمى أن نجنّد أعمارنا من أجله بدلاً من الكراهية...؟
- أفحمتها بردّك هذا طبعاً؟
- خجلتْ مني واصطحبتني إلى بيت "غابو"، كان يقيم في بيت ذي طابقين يغلب عليه اللون الأبيض، وتزيّنه بعض التماثيل، حيث يحظى هناك بمشهد بانورامي رائع على الساحل الكاريبي. صعقت حينما رأيته أمامي وجهاً لوجه، هل تصدّق أنني وجدت شبهاً بينه وبين خالي؟ حدثني أنه يحافظ، رغم مرضه، على نشاطه اليومي بشكل منتظم، فيصحو في الخامسة صباحاً، ويبدأ يومه بقراءة كتاب حتى الساعة السابعة، ثم يقرأ الصحيفة، وفي العاشرة تماماً يجلس على مكتبه ليبدأ الكتابة حتى الثانية والنصف ظهراً حين يتناول الغداء مع أسرته محاطاً بعناية المرأة الوحيدة التي عشقها"مرسيدس برشا"، حفيدة أحد المهاجرين المصريين. وإن أردتَ الحق هي التي أقنعته بقراءة روايتي، لأنها تحمل قلباً عربياً كريماً مثل "بيترا كوتيس" عشيقة "أورليانو" الثاني في "مائة عام من العزلة".
- تشبّه زوجة صاحبك ببائعة ورق اليانصيب؟ يا لك من أحمق.
- صاحبي نفسه أنصفها.. قال إنها شابة خلاسية نظيفة ذات قلب كريم، وفاتنة، ورائعة في حياة الحب.
- دعنا منها، كم مكثت هناك؟
- انتظرت ثلاثة أسابيع حتى يتمكن "غابو" من قراءة الرواية، فصحبت خلال هذه المدة ابنه "غونزالو"، شاب ظريف ومهذّب أخذني في زيارات حميمة إلى متحف الانثربولوجيا وبقايا كاتدرائية "ميتروبوليتانا" والقصر الوطني ومركز المدينة التاريخي وأهرامات "تيوتيهيو"، واستمتعتنا بألذ الوجبات في مطاعم المدينة.
في القاعة الرئيسة للمتحف وجدت نفسي أمام إله المطر "تلالكو" ومعالم حضارتي "المايا" و"الأزتيك"، من خلال الرؤوس الصخرية المخيفة المزيّنة بأسنان العاج، والشلالات المتلألئة المصنوعة من الريش النادر، والحجر الشمسي الدائري الذي يعكس تمثالاً يمثّل أصل الإمبراطورية ونهايتها الغامضة.
قمنا أنا وغونزالو أيضاً برحلة مذهلة إلى "أراكاتاكا" لزيارة مسقط رأس ماركيز، الذي حولته كولومبيا إلى متحف صغير يؤمّه آلاف السياح.
سألت سلمان:
- كيف قرأ ماركيز روايةً بهذا الحجم في ثلاثة أسابيع وهو مريض؟
أجاب:
- هكذا قال.. يبدو أنها شدّته مثلما كانت تشدّه حكايات جدّته التي شحذت مخيّلته بالخوارق والماورائيات.
- هل رشّحك خليفةً له؟
- لِمَ لا؟
- قل الحقيقة، رشّحك أم أنك تفترض ذلك؟
- والله رشّحني، وقال لي أنا لا أستغرب أن تكتب هذه الرواية العظيمة وأنت من بلاد ألف ليلة وليلة..
- معنى ذلك أنك ستنال جائزة نوبل يا صديقي؟
- لا أفكّر فيها، إن رضا "غابو" عني أهم بكثير منها.
غضبت من رده، فتجاسرت قائلاً:
- أنت بالفعل أحمق!
إلاّ أنه لم ينزعج مني، وظل طوال الحلم يذهب ويجيء على سطح الدار وهو يروي لي أحداث روايته ببطء، متذوقاً بهجة كلماته، ويُطلق بين حين وآخر زمجرةً كأنه يخاصم شخصياتها.
* * *
مرت ليلة أمس ذكرى استشهاد سلمان الثانية والعشرين، فظهر لي في الحلم هذه المرة بسنّه الطري الذي كان فيه قبيل موته بأيام قليلة. قادني على عجل إلى القلعة، لم يتكلم ألبتّة ونحن نذرع، طوال ساعتين، شوارعها الملتوية وأزقتها الضيقة، التي بدت لي أشبه بشوارع وأزقة بلدة متاهة. كان متعطشاً فقط لرؤية أبنيتها القديمة وبيوتها المتلاصقة، كأنه سائح يطأها أول مرة. عندما اجتزنا من تحت قوس مدخلها الغربي "توب قابسي"(3) لنهبط درجاتها الحجرية صوب نهر "الشتاء"، طلب مني أن أساعده في تذكّر ما حدث بعد وصولنا إلى البصرة، فقلت له مستغرباً:
- تتذكر أدق التفاصيل عن لقائك بماركيز وتنسى ما جرى لك في الحرب؟
قال بصوت متكدّر:
- كان لقائي بماركيز حدثاً إنسانياً سعيت إليه بنفسي، أما الحرب فقد دهمتني ببشاعتها وخطفتني من الحياة، وها هي تشوّش ذهني، ولا أستطيع أن أرتّب وقائعها في رأسي.
- ماذا تتذكر منها؟
- أتذكّر أننا تركنا مواضعنا المحاطة ببقايا الثلج في جبل "رأس العبد" ساعة الغبش، وهبطنا راجلين إلى السفح، حيث كانت بانتظارنا عجلات الـ "إيفا". وبعد أن اكتملت السرايا تحركت في رتل عسكري طويل. في الطريق ألقينا نظرةً أخيرةً على بساتين الجوز والبلوط والتين في ناحية "سيدكان" الجميلة، وتنهدنا متحسرين لأننا فارقنا جداولها المتلألئة، كشرائط الضوء، وطراوة أشجارها المغتسلة بندى الليل. وأتذكّر قبل ذلك أنني نُقلت إلى سريّتكم حديثاً، لكن لا أدري من أين، ربما من مركز التدريب أو من فوج آخر في اللواء، كل ما أعرفه أن ذلك حدث قبيل أشهر قليلة من حركتنا إلى الجنوب.
مرةً سألتني كيف حصلتَ على روايات ماركيز بلغتها الأصلية، قلت لك أهداني بعضها صديق يعمل في سفارة البرازيل، واقتنيت بعضها الآخر من مدريد خلال سفرة نظمتها الكلية للمتفوقين إلى إسبانيا، وقد نصحتني أن أخفيها عن آمر السريّة لأنه يكره الأدب ويعدّه مضيعةً للوقت.
كنا وقتها في المقر الخلفي للفوج قرب بلدة "ديانا" نقضي نهاراتنا في التدريب، بعد مرور عدة أيام على انسحابنا من جبل "زرار"، لإعادة التنظيم..
قاطعت سلمان:
- هل أنت متأكد أن اسمه كان جبل زرار؟
قال:
- ليس مهماً.. المهم كنا نقتنص، أنت وفرهاد وأنا وجنديان آخران من بعقوبة، الفرصة بين حين وآخر للذهاب إلى البلدة، لكنك كنت تسلل إلى بيت إحدى المومسات التي ادعيت أنها عشيقتك كلما جمحت بك الشهوة. وأتذكر أننا في المرة الأخيرة التقينا أمام أحد المطاعم صديقاً لي من بغداد اسمه شاهر النصّار..
- لم يكن هذا اسمه..
- بلى.. وقد عرّفته إليكم بأنه نائب عميد الشعراء الصعاليك، يكتب قصائد نثر خارقة للمألوف، منتهكة للحياء والوقار، ومنغرسة في أوجاع الحرب، لكنه شاب متمدن، رقيق ودمث الأخلاق، ومشغول دائماً بتأثيث خراب العالم، وتشكيل الحياة بمزاجه الشعري الخاص، ولا يتذكر شيئاً من صحيفته العسكرية سوى أيام الغياب والهروبات والعقوبات.
لحظتها شعر النصّار بالزهو فاقترح علينا أن نأكل الكباب في ذلك المطعم شريطة أن نسدد نحن الخمسة ثمن وجبته، فتبرعت أنا بتسديدها. اتفقنا أن نجلس في ركن منزوٍ بعيد عن الأنظار، إلاّ أن صاحب المطعم لم يسمح لنا بالدخول بحجة أن لديه أمراً بذلك من الاستخبارات العسكرية، فطلب منا فرهاد أن لا نأبه للأمر، ثم قادنا إلى بيت أحد أقربائه هناك..
- لا أتذكّر أننا دخلنا يومها أي بيت..
- دخلنا وكان خالياً إلاّ من امرأة عجوز وصبي، فجمع فرهاد منا ثمن الكباب وأرسل الصبي إلى المطعم لشرائه. وأتذكر أنك تركتنا بعد الغداء وذهبتَ إلى مكتب البريد لإجراء مكالمة تلفونية، لم تقل لنا مع مَن، إلاّ أنني كنت متأكداً من أنك ستكلم عشيقتك، فقلتُ في دخيلتي إنْ تأخّر أكثر من نصف ساعة فمعنى ذلك أنه ظفر بخلوة ساخنة معها. لكنك تأخرتَ نحو ساعتين، فساورنا القلق من احتمال انكشاف أمرك مع المرأة، وحينما عدتَ متهلل الوجه، مبتسماً، شعرت بأنك لم تفرغ شهوتك بقضيبك فقط، بل بحواسك الخمس أيضاً. وفي أثناء غيابك حدث أمر أخفيناه عنك..
قاطعته مرةً أخرى متسائلاً:
- أي أمر؟
قال:
- بعد خروجك جاء ابن العجوز، وكان على علم بعلاقتك بفرهاد، فأخبره بأنه رآك تدخل إلى بيت تلك المومس، وطلب منه أن يبلغك بالكف عن التردد إليها لأنها طليقة أحد أصدقائه. يومها لم يرد فرهاد أن ينغص عليك متعتك، فأجّل الموضوع إلى وقت آخر، لكن عودة الفوج مرة أخرى إلى جبل "رأس العبد" في اليوم التالي جعله يغض النظر عنه.
كان ذلك اليوم آخر عهدنا بـ "ديانا"، غادرناها، متأبطين زجاجات النبيذ المحلي، بينما كانت الشمس تتهيأ للهبوط خلف الجبل، ومن جهة الشمال بدأت غيوم سوداء تزحف ببطء صوبنا، فغذذنا السير إلى مقر السريّة، وحين بلغنا أطرافها شرعت زخات مطر قوية تنهمر على رؤوسنا، مصحوبةً بوميض ساطع وأصوات مدوية مجسمة تأتي من أعالي الجبال، فلم نستطع أن نميز ما إذا كانت قادمةً من سماء رحيمة أم خارجةً من فوهات مدافع مجنونة..
صمت سلمان، فقلت:
- أهذا كل ما تتذكره؟
- لا.. لا.. أتذكر أيضاً حين تحركنا إلى الجنوب.. في طريقنا إلى أربيل كنا بضعة جنود من أهل أرابخا نستلقي كالهشيم على تل من "اليطغات"(4) في العجلة، فحدثتكم عن الكولونيل المفلس، وكنتم تقهقهون بعبثية، وكأننا ذاهبون إلى نزهة في أبي الخصيب، وليس إلى حرب...
- أي كولونيل؟
- الكولونيل الذي سألته زوجته، في نهاية رواية ماركيز، ماذا سنأكل إذا خسر ديكك في الرهان، فأجابها قائلاً "خراء"..
حين انزلقنا إلى الشارع الرئيسي، الممتد بين أقدم جسرين في أرابخا، أمسكت سلمان من ذراعه، فتوقف عن الكلام. قطعنا الشارع المزدحم بالسيارات والدراجات النارية إلى الرصيف الثاني بصعوبة شديدة، واتجهنا شمالاً. مررنا من أمام أكشاك تبيع الدجاج الحي، وأنواعاً مختلفة من الطيور والحيوانات الأليفة، في أقفاص معدنية وخشبية، ثم ولِجنا حديقةً واسعةً أقيمت على أنقاض سينما قديمة اسمها "الخيام"، تقع في محاذاة الضفة الشرقية للنهر. كانت أشجارها مشذّبةً ومنسّقةً بمهارة، وممراتها مرصوفةً بالطوب الرملي الملون، وفي وسطها تنتصب نافورة دائرية مزينة بالفسيفساء، وعلى جنباتها ملاعب بلاستيكية للأطفال. بدت لي الحديقة في الحلم كأنها شريحة من مدينة عصرية مترفة، بينما هي في الواقع فضاء مهمل تعشعش فيه القاذورات.
جلسنا على مصطبة خشبية، فشعرت بلذة الدفء تسري في أوصالي، ووجدت نفسي مجذوباً، بصورة لا تُقاوَم، إلى ألسنة النار الأزلية المستعرة في حقول "بابا كركر"، هناك شمال المدينة. يحدث لي هذا عادةً في فصل الشتاء، إحساساً مني بأنها سليلة إلهةٍ آشورية حسناء تمنح الدفء للمدينة، وفي الصيف لا أطيق النظر إليها، أشعر بنفور شديد تجاهها لأنها تذكرني بالجحيم. أما سلمان فقد بدا تائهاً وهو يرنو إلى سور القلعة، وشرفات بيوتها العالية، وأعمدة الرخام التي تنوء بحملها.
بعد دقائق أدرت وجهي إليه، وشرعت أروي له:
- يوم عرّفني فرهاد إليك أخبرني أن أسرتك نزحت من بلدة حدودية إلى حي "تسعين"، وأنك درست اللغة الإسبانية في جامعة بغداد، وكنت تحلم بإكمال دراستك العليا في مدريد أو بوغوتو، متخصصاً في عالم ماركيز الروائي، لكن الحرب حتّمت عليك الالتحاق إلى الجيش، فساقوك إلى جحيمه قبل ثلاثة أشهر. ولم تُتح لي بعد انتقال فوجنا إلى الجنوب فرصة الحديث معك، إلاّ مرات قليلة، حتى يوم استشهادك في الفاو، أما فرهاد فقد كان، حسب ظني، على مسافة قريبة منك لحظة إصابتك.. قال لي أنكما أكلتما علبة جبن، وقطعاً من البسكويت المملّح مع جرعات قليلة من عصير التفاح قبل بدء الهجوم بساعتين، وقد أطلعته أنت على فكرة زواجك بعد انتهاء المعركة. وكان بمقدورك أن تتزوج بالفعل لو لم ترتكب حماقةً بصعودك إلى الساتر. وأي حماقة! كان ينبغي على فرهاد أن لا يدعك تفعلها، فهو يعرف أن خبرتك الميدانية معدومة، وعالمك محصور بين فتاتك الجميلة وغرائب ماركيز وطلاسمه. هل نسي ما حدث له، هو أيضاً، في جبل "رأس العبد" حين جاء إلى الجبهة أول مرة؟ لكن فرهاد أكد لي فيما بعد، ونحن نستذكر تلك الأيام العصيبة من معارك الفاو، أنه كان منهمكاً طوال الوقت بتسديد قاذفته، فلم يشعر بوجودك على مقربة منه، وحين اشتدّ الهجوم على السريّة اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد بمقدور أحد أن يعرف من قُتل ومن جُرح ومن وقع في الأسر.
خلال الانسحاب أصبتُ بانهيار عصبي، فنقلوني إلى وحدة الميدان الطبية. مكثتُ هناك بعض الوقت، ثم أمروني بالعودة إلى وحدتي، رغم أني كنت بحاجة إلى أسبوع كامل لأستعيد توازني. لم أعرف بالطبع أين تقع الوحدة، لكني كنت متأكداً من أنها دُمّرت، ولابد أنهم يعيدون تنظيمها في القاطع الخلفي. أرشدني إلى موقعها عريف في الانضباط العسكري، بأسلوب فظ، وكان الوصول إليها سيراً يتطلب نحو ساعة ونصف الساعة.
في الطريق لم أكن أفكّر إلاّ فيكما أنت وفرهاد، كنت مرعوباً من فكرة ألاّ أجدكما بين الناجين في الفوج، وأخذت أستذكر أيامنا، نهاراتنا وليالينا في سفح الجبل، مكابداتنا وأحلامنا ومخاوفنا، أماسينا المعتمة والموحشة، ومحاولاتنا التغلب عليها بالحديث عن النساء، ومغامراتنا الجنسية، وعن الكتب التي قرأناها لمورافيا وماركيز ومحفوظ وكامو وسارتر وايتماتوف وهيجل وتشيخوف والوردي وبراتوليني وكاواباتا... وعن ساعات الحراسة المهلكة في البرد القارص.
بلغت مقر الفوج وقت الظهيرة، فوجدتهم منهمكين في توزيع الجنود الجدد على السرايا، تعويضاً عن الذين خسرناهم في الهجوم. قصدت على الفور جماعة "القلم"(5) ، فلم أجد سوى هرمز، هل تتذكره؟ ذلك الشاب الكلداني مراسل آمر الفوج.
- لم يكن اسمه هرمز.. بل بنيامين، حتى أنني قلت له مرةً: يذكّرني اسمك ببنيامين صاحب الحانوت في رواية ماركيز "في ساعة نحس"..
- أنت كل شيء يذكرك بماركيز.. المهم أنني سألته بلهفة عنك وعن فرهاد، فأخبرني بأنك استشهدت، وأن فرهاد نجا مع اثني عشر جندياً فقط من جنود سريتنا.
- هل استشهد الباقون كلهم؟
- استشهد مَن استشهد، وأُسِر من أُسِر، وفُقد مَن فُقد..
- الله يلعن الحرب، ألم يعد أحد من الأسر؟
- بلى.. ثلاثة فقط.
- كيف تأكدتَ أنني كنت شهيداً وليس أسيراً أو مفقوداً؟
- في اليوم التالي أمرني الضابط الإداري للفوج قائلاً: "مراد، أنت من مدينة سلمان.. خذ جثته من مستشفى البصرة العسكري، وسلّمها لأهله، ولك خمسة أيام غير محتسبة من إجازتك الدورية". ولا أدري لماذا وقع الاختيار عليّ وليس على فرهاد، رغم أن صلته بك كانت أوثق وأقدم من صلتي بك.
وصلت إلى البصرة قبل غروب الشمس، فوجدتها تنبسط إلى أقصى امتداد البصر مع انتشار رغوة مياه الأمطار في الشوارع، وحين خيّم الليل صار من الصعب تحديد أبعادها.. تتلوى كالقطيفة الناعمة على جنب الشط. تلك كانت المرة الأولى التي أجوس فيها مواضعها، فانتابتني رغبة عارمة في أن أغوص في خلاياها: بيوتها المخفية تحت ظلال غابات النخيل، مركزها "العشار" ذائع الصيت، ملاهيها، شوارعها التي يتغزل بها أهلها: "الوطن"، "الاستقلال"، "الطيران"، "الجزائر"، "الخليج العربي"، و"ساحة سعد"، التي تستثير في ذاكرة الناس دائماً أيام "أرماث" و"أغواث" و"عمواس" وا"لهرير"..
- هل هذه أسماء نساء؟
- لا، إنها أسماء أيام حرب قديمة.. المهم أنني أتفقتُ في الكراج الموحد مع أول سائق أجرة وافق على إيصال التابوت إلى أرابخا. طلب الكلب مائة وخمسين ديناراً، فقلت له: "المبلغ كبير، أية وطنية هذه؟"، أجابني: "المسافة بعيدة.. أبعد من الكويت خمس مرات، وليل الشتاء محفوف بالمخاطر".
بعدما خرجنا من قلب البصرة أخذت عجلات السيارة تلتهم الطريق، غير مكترثة برشقات الماء التي تسكبها السماء، ولا بصفعات الريح القوية على هيكل السيارة، وهذا ما جعلني قلقاً على وضع التابوت، فالحبل الرفيع الذي ربطه به السائق أعجز من أن يثبت أمام شراسة الريح، وأخذت أفكّر في عاقبة ما سيؤول إليه ذلك. لكن السائق، الذي بدا لي وجهه الخمسيني أشبه بقناع مشقّق، حاول أن يفرغني من هاجسي أكثر من مرة، كان يسألني عن اسمك، وعن صلتي بك، وعن المكان الذي استشهدتَ فيه، ونوع السلاح الذي فتكَ بكَ، فأقول له: "اسمه سلمان البدر، وأنا مأمور بإيصال جثته إلى أهله في أرابخا"، لكنه كان يمضي من جديد في إشعال فتيل الأسئلة: هل أرابخا أكبر أم البصرة؟ أيهما أكثر نفطاً؟ وهل صحيح أن الناس في أرابخا يجيدون ثلاث لغات؟"، ولا يصمت إلاّ حينما أفضح غباءه وجهله.
عند مشارف بلدة "العُزير" استأنفَ ثرثرته:
- والدي ينحدر منها، وقد سُمّيت بهذا الاسم لأن قبر النبي عزير فيها. هل تعرف قصته؟
لم أجبه، شغلت نفسي بمسح زجاج النافذة، وأخذت أحدّق إلى المرآة الجانبية، فقال:
- قصة عجيبة، لقد أرسل الله إليه عزرائيل فقبض روحه وروح حماره، وأماتهما مائة عام ثم أحياهما من جديد... لو حدثت هذه المعجزة اليوم لما صدّقها الناس، أليس كذلك؟
توقّع أن أثني على كلامه عن طيب خاطر، وأُسرَّه برغبتي في سماع القصة بالتفصيل، لكني تعمدت إهماله، وواصلت تحديقي إلى المرآة، فغيّر الموضوع بعد برهة، وطفق يحدثني عن مغامراته مع صبايا البلدة أيام شبابه، ثم عن صولاته الجنسية مع غجرياتٍ في حي الطرب، واحدة اسمها "ملايين"، وأخرى "لميعة"، وثالثة "تسواهن"، ورابعة "غزلان"... وبين حين وآخر كان يضحك بشدة، ويتمايل كما لو أنه يشاهد فيلماً هزلياً. إلاّ أنني كنت أصغي إلى الخارج حيث لا شيء سوى عويل الريح، وفرقعة سياط المطر، وصرير ماسحات الزجاج.
كنت أتساءل مع نفسي: "هل يدرك هذا الثرثار أن بين التابوت والسقوط شعرة واهية؟"، وتنثال في رأسي هواجس شتى: "السقوط في الماء.. الإفلات من قبضة الحبل.. التشظي.. اللوح تلو اللوح.. شظايا بحجم الكف.. كل شظية تستقر في موضع، فترتوي مساماتها من وحل الأرض.. كيف يحدث هذا؟".
فجأةً هوى التابوت، فأخذتُ أصبّ على السائق نار غضبي:
"ألم أنبّهكَ إلى أن الحبل ضعيف، والريح لعوب تنصب لنا شباكها؟ قلتُ لك مراراً إن قلبي يرفّ عليه، لكن ثقتك البلهاء بنفسك أعمت بصيرتك، وجعلتك لا تأبه لمخاوفي. أتذْكرُ حين قلتَ لي ونحن في أول الطريق: دع عنك هذه المخاوف فقد ربطتُ بهذا الحبل توابيت كثيرةً؟ بماذا تسوّغ الآن ما حدث؟".
في البدء نظر السائق إليّ بوجه تبخّر دمه، ومثل من قفز لسانه من فمه لم ينطق ببنت شفة، ماذا يقول؟ عيناه أصيبتا بالهلع وهو يستقبل نظراتي الغاضبة الحادة، وبعد أن خرج من السيارة، وتجلل بالماء أخذ يلقي اللوم على الطبيعة.
أجلسناك في المقعد الخلفي، وكان الوحل يغطي كفنك. أنا كنت كتلةً ملتهبةً من الغضب، وذاك الجالس خلف المقود، كجذع شجرة متآكلة، مسكوناً بالإثم، كل نأمة تصدر عنه تفضح إحساسه بالخوف. لكنه ادّعى بعد سنتين، حين التقيته صدفةً، أنك أنت الذي جلست، قال لسائق آخر يعمل معه في خط البصرة- بغداد: "كانت الجثة راقدةً في كفنها، ثم استقامت جالسةً مثل جنيّ، دون أن تندّ عنها أية حركة، ولم أجرؤ على إعادة النظر إليها في المرآة، كما أنني لم أستطع أن ألفت نظر المأمور إليها لأني خشيت ألاّ أكون دقيقاً في ما لمحت، أو أن يكون خيالي قد اشتطّ فصوّر لي الأمر على ذلك النحو، ولكي أبدد هلعي أخذت أستفز المأمور بأسئلة كثيرة.. عشرات الأسئلة. وكان يعنّفني أحياناً، ويجردني من أي إحساس.. يقول لي: "هاجسك الوحيد في الحياة هو المال.. حلّت لعنة العصر في نفسك فأصبحت تلهث، مثل كلب مسعور، كأن بينك وبين الموت بحراً من الجليد لن يذوب إلى الأبد..".
لقد كذب السائق الحيوان.. كان يزدرد توبيخي له بصمت كأنه جدار أصم، ثم يستأنف أسئلته المملة، وكنت أظنه يفعل ذلك لامتصاص نقمتي عليه، ولم أدرك حقيقة الأمر إلاّ حينما فوجئت بصوت أجش مفعم بالحرارة، كجسد فتاة نائمة، ينساب خلف ظهري. كان ذلك صوتك، وقد تغير كثيراً، بل لم يكن يشبه صوتك وأنت حي على الإطلاق، حتى أنني شككت في أنك سلمان..
- أحقاً كنت أتكلم وأنا ميت؟
- نعم.. قلتَ إنك كنت تفعل مثلنا تماماً، تضغط على الزناد، وتُلقم بندقيتك بالرصاص، وترفع رأسك وتخفضه بين حين وآخر، وتدعو الله في دخيلتك أن تكون القذائف، التي تلتقط أزيزها المقبل إلينا، متجهةً إلى ناحية بعيدة كي لا تصيبنا..".
ربت سلمان على يدي وقاطعني قائلاً:
- أعتقد بأنني بدأت أتذكر الآن.. ألم يكن إلى يميني صبّار؟
- أي صبّار؟
- العريف صبّار..
- لا أتذكّر أحداً بهذا الاسم.
- كان ضخم الجسم، يكبرني بعشرين عاماً، وله يدان كالعصفور الدوري، ووجهه يشبه وجه الغجري "ملكيادس" في "مائة عام من العزلة"، لكن من دون لحية، وإلى شمالي كامران..
- من أين تأتي بهذه الأسماء؟
- كامران الفتى الكردي الرقيق..
- حسناً؟
- كان يصغرني بأربعة أعوام، ويجيد إطلاق النار أفضل من "كريستو بيدويا" في "قصة موت معلن". كان صبّار يحلم، مثل الجميع، بانطفاء نار الحرب ليبني بيتاً صغيراً لأطفاله الستة على ضفاف نهر "الغرّاف"، وكامران يحلم بانطفائها ليغادر بيت أخيه في حي "رحيم آوا"، آخر ما تبقى له من أسرته، إلى مكان فيه بحر شاسع، وطيور ملونة لا تفزعها لعلعة رصاص، ولا نباح كلاب شرسة، وبينهما كنت أنا لا أحلم بشيء سوى الخروج من تلك المعركة سالماً ليتسنى لي تحقيق أمنيتي في كتابة رواية بمستوى "خريف البطريرك"، والزواج من نورهان، فتاتي التي منحتني سنتين من المحبة الرائعة ولم أمنحها غير لوعة الانتظار.
- هل تذكر ما قلتَه لي عنها؟
- لا، ماذا قلت؟
- قلتَ: "إنها غادة يسكر الكون من رائحة جسدها المتورّد، وضوء الشمس يزيّت أنفاس رعشتها بكل آماني البشر. ضوءها يتناسخ دوائرَ لذةٍ غريبة، عصيرها من السماء، وكأسها من الأرض، عيناها نافورتان من الفيروز، وحاجباها مرسومان بأنامل الملائكة".
- كيف حفظتَ هذا الكلام؟
- ليس هذا فقط، بل قلتَ أيضاً "يا إلهي! لابدّ أن تكون الآن راقدةً في فراشها.. عيناها تلمعان ببريق أشبه بالتماع الحمّى، وهي تصغي إلى مذياعها الصغير لتتابع أنباء الهجوم أولاً بأول، متضرعةً إلى الله أن يجعل النار من حولي برداً وسلاماً.. فهل كنت أنانياً لأنني لم أكتب لها شيئاً قبل موتي؟ قل عني يا صاحبي ما تشاء، لكني أريد الآن أن أكفّر عن ذنبي، فابحث عنها، ستجدها في بيت عتيق من بيوت القلعة، خلف كاتدرائية "أم الأحزان"، كُتبت على جداره بالطباشير كلمات أغنية تركمانية تقول:
"ثلاث شجيرات في أسفل القلعة
تتمايل مع النسيم
في معصميّ قيود وفي رقبتي أغلال
لا تشدّ سلاسلي فذراعاي تؤلماني".
وانقل لها عن لساني أني كنت أحبها، وقد ازداد حبي أكثر حينما قربت إلى الموت، وأني حفرت صورتها في قلبي، وكنت عازماً على تنفيذ وعدي الذي قطعته لها في أول إجازة أنالها.. لكنها الحرب، ماذا أفعل؟ واوصها على لساني أن تخفّف من حزنها، وتفتح قلبها لحبيب آخر، فالحياة مستمرة في تدفقها مثل تدفق ماركيز في رواياته، ولا يضيرها إن ذبلت نبتة أو جفّ جدول صغير فيها.. وقل لها إن لي أمانةً واحدةً في رقبتها: حينما تتزوج وتنجب بنتاً فلتسمّها "صوفيا"، وإذا كان ولداً فلتسمه "نصّار"، لأننا اتفقنا يوم ودعتها على اختيار أحد هذين الاسمين لبكرنا.
- لا أتذكر أني قلت ذلك.
- نعم قلتَ، وطلبتَ مني أن أخبرها بأنك متُّ دون ألم، سوى ألم فراقها، شيء ما ثقب رأسك، ربما كانت رصاصة، أو شظية، لم تكن تعرف.. كل ما كنتَ تعرفه أنك كنت منبطحاً مثل الجميع، وقد جفّ لسانك من الغبار والعطش، وفجأةً وجدتَ نفسك منتصباً على ساقيك، مشاعاً كشجرة في رصيف مزدحم، فشعرتَ بدوار يطحن رأسك، وصار الفضاء منفياً من حولك كأنه غير موجود. سحبك أحدهم من ساقك اليمنى، فانزلقت قدمك على سفح الساتر الترابي، وظلت الأخرى ثابتةً كموجة عالية. امتدت يدٌ أخرى لتسحبها فهوى جسدك كله مترنّحاً، وارتطم رأسك بالأرض، وقذفتَ من فمك كتلة دم دافئةً.. وتكاثف ضباب أحمر في عينيك، وأخذ يفقد لونه شيئاً فشيئاً حتى صار مظلماً.. عندها أدركتَ أنك مقتول مثل "سنتياغو نصّار"، واستسلمت لموتك. ذلك ما قلته لي، ولم أسألك من يكون هذا المجنون "نصّار"، إلاّ أني حدست أنه إحدى شخصيات ماركيز. كنا لا نزال في النصف الأول من الطريق، ولا شيء يوحي إلى أن السماء ستكفّ عن شراستها، ولا الريح عن هيجانها، الفضاء كله صار مكفهرّاً، خيمةً واسعةً من السواد، تخترقها بين حين وآخر مصابيح برّاقة، كعيون القطط، لسيارات عسكرية ومدنية. أنت لم تتكلم بعدئذ، أحنيتَ رأسك داخل الكفن كما لو أنك غفوت.
طالت بنا الطريق فحسبتُ أن الوقت دهر لا ينتهي. كانت تجتاحني لحظات من الذهول، ويتضاعف ارتباكي، وأتمتم بألفاظ غريبة، فتتكسّر أنفاسي مثل زجاج هش، وتغيم نظراتي وأنا ألتفت إليك بين حين وآخر، متسائلاً: "أكان الصوت صوته أم وهماً تلبّسنا أنا والسائق دفعةً واحدةً؟". أردت أن أمدّ يدي لألمسك فلم أستطع، وتساءلت في سريرتي، وأنا أنظر بطرف عيني إلى السائق القابع كالقنفذ إلى يساري، "كيف تطاوعه نفسه على قيادة السيارة باتزان بعد الذي رآه وسمعه..؟". وخيّل لي أنه يكتم في داخله ذعراً لا تفوقه إلاّ رهبة الموت..
أخيراً وصلنا إلى مدينة كبيرة، فاقترحتُ على السائق أن نبحث عن مستشفى عسكري نتزود منه بتابوت وعلَم نلف به جثتك. رفض، أول وهلة، خائفاً، لكني أسرعت إلى تهديده بعاقبة تسليمها إلى أهلك من دون تابوت، فأذعن. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلاً، والسماء ما انفكت تجلد الأرض بسياطها، والريح تصفع الوجوه بقوة. ولِجنا شوارع مغمورةً بالمياه، استوقفْنا أحد المارة، دلّنا على المكان، اجتزنا جسراً مضعضع السياج، واجهَنا مبنى كثير الأشجار ذو بوابة كبيرة، تدلف إليه حافلات عسكرية مغلقة النوافذ، ربما تكون مملوءة بالجثث، ولا يخرج منه أحد. أوقف السائق السيارة في ركن مظلم، ترجّلنا كلانا، سلّمت على حارس البوابة الواقف تحت المظلة كتمثال شمعي، كان يداري وحدته بغناء الأبوذية(6)، فقطع غناءه على مضض وأفسح لنا الطريق، قطعنا شارعاً طويلاً، التصقت ثيابنا على جسدينا من شدة البلل، فاحتوتنا رعشة برد. وصلنا إلى قلب المبنى، قابَلنا حارسٌ عسكريُ آخر، دقّق في الأوراق التي أحملها، حجز السائق، كونه مدنياً، في غرفة رطبة تنبعث منها رائحة بول، وأرشدني إلى الداخل. عدت بعد نصف ساعة وبيدي ورقة تأذن بإدخال السيارة. قطعنا الشارع الطويل ثانيةً، امتلأت أحذيتنا بالماء، فتناغم زعيقها مع صفير الريح وحفيف الأشجار وطقطقة أسناننا. بلغنا البوابة الخارجية، سلّمت الورقة للحارس، فقرأها وهزّ رأسه. أسرعنا إلى السيارة، الضوء الضعيف الذي كان يتسلل إليها من عمود الكهرباء انطفأ، فتح السائق بابه أولاً ورمى نفسه على مقعده، ثم دخلت أنا، فغمر نور المصباح الصغير في سقف السيارة وجهينا، استرقنا في آنٍ واحدٍ نظرةً خاطفةً إلى جثتك، فشهق أحدنا، وندّت عن الآخر صيحة قوية بلغت أسماع الحارس الواقف تحت المظلة، هرع إلينا شاهراً سلاحه:
- ماذا حدث؟
قلتُ:
- كان هنا واختفى.. أقصد صديقي الـ...
قال:
- أليس له اسم؟
قلتُ:
- بلى.. اسمه سلمان.
هزّ يده وقال ساخراً:
- ظننت أن عقرباً لدغتكما.. لا تقلقا، ربما ذهب ليقضي حاجته في إحدى الزوايا...
قاطعني سلمان مذهولاً:
- اختفت جثتي؟ لمن العظام إذاً في القبر الذي يحمل اسمي الآن؟
- ستأتيك القصة.. قبل أن يكمل الحارس كلامه، نادى عليه حارس آخر جاء إلى المظلة، تواً، بدراجة هوائية، فتركنا وذهب إليه، سلّمه سلاحه على عجل وأخذ منه الدراجة، وانطلق صوب المستشفى، تاركاً إيانا غارقين في صدمة وحيرة لا قرار لهما. لم يأبه لنا الحارس الجديد، بل انشغل في خلع معطفه المطري الأسود، ونفض الماء الذي تسرب إلى بزته العسكرية.
عقب ربع ساعة من الصمت المطبق، المغلّف بالذهول، سألت السائق، الذي ظلّ مسنداً رأسه إلى مقود سيارته:
- ماذا نفعل الآن؟
رفع رأسه بتثاقل وحدّق إليّ بعينين يملؤهما الشرود، وبعد لحظات انفرجت أساريره، وقال:
- جاءتني فكرة.. إنها الحل الوحيد لمأزقك..
- مأزقي وحدي؟
- أنت المأمور وأنا سائق فقط.
- حسناً!
- نأخذ التابوت من المستشفى، ونبقى في المدينة حتى نهار غد..
- بماذا سيفيدنا ذلك؟
- نذهب إلى المقبرة، وننتظر حتى يأتوا بجثة لدفنها.. لا بد أن تكون للمدينة حصة من المعركة الحالية.
- ثم ماذا؟
- في الليل نستخرج الجثة ونضعها في التابوت بدلاً من جثة صاحبك..
تملكني الغضب فقلت له:
- هل تعرف لو كان بإمكاني قتلك لوضعت جثتك أنت في التابوت؟
- لن تفعلها.. أنت شاب مثقف لا ترتكب جريمةً..
- أليست سرقة جثة من قبرها جريمةً؟
- بلى، لكنها أخف.. ثم أنها ستُدفن مرةً ثانيةً، فلا يحاسبك الله في الآخرة..
أشعرني كلام السائق بأن جثة سلمان قد تكون سُرقت من السيارة، أيضاً، للسبب لنفسه الذي يدعونا إلى سرقة جثة من المقبرة، لكن خاطراً آخر دهمني فسألته:
- كيف سيكون موقفي إنْ أراد أهل سلمان رؤية الجثة؟
أجاب من دون تردد، وكأنه هيأ نفسه لاستقبال السؤال:
- قل لهم إنها مشوهة.. ممزقة.. ولا يصح أن تفتحوا الكفن.
خرس برهةً، ثم قال:
- هل تسمع نصيحتي؟
- ماذا لديك بعد من أفكار شيطانية؟
- أنا نقلت أكثر من مائة شهيد بسيارتي هذه، وفي أغلب الأحيان كان المأمور بإيصال الجثة لا يسلمها لأهلها..
أرعبني كلامه، فقلت:
- ماذا يفعل بها إذاً؟
- يسلمها لأقرب منظمة حزبية أو مركز شرطة، وبذلك يتخلص أيضاً من لعنات أهلها وشتائمهم.
- إن فعلتُ ذلك يا أغبر فمَن الذي يوصيهم بألاّ يفتحوا الكفن؟
نكّس السائق رأسه وقال:
- معك حق.
ترددت في قبول الفكرة اللعينة، وأخذت أفكر في خيارات أخرى، فلم أعثر إلاّ على خيارين، أحلاهما مرّ، إما أن أعود إلى وحدتي العسكرية وأعترف لهم بما حدث، أو أفرّ من الجيش نهائياً، وأترك خلفي لغزاً محيراً..
دوى انفجار قوي على مبعدة من الحديقة التي نجلس فيها، فاهتزت المصطبة تحتنا، وفرّت العصافير من بين الأشجار. توقفتُ عن الحكي، وأدرت جسدي إلى الخلف، وأرسلت بصري إلى الجهة التي بلغنا منها صوت الانفجار، رأيت سحابة دخان كثيفةً ترتفع في الضفة الثانية للنهر، فافترضت أن تفجيراً ما ربما استهدف أحد مقرات الأحزاب التي انتشرت في المدينة كالسرطان، أو طال شركةً وهميةً يتخذ منها الموساد الإسرائيلي مكتباً له. التفتُ لا شعورياً إلى سلمان فوجدته هادئاً لا يتزحزح، مستغرقاً في التحديق إلى القلعة بعينين هائمتين، لكزته في خاصرته فلم يبدِ أي ردة فعل، أمسكت بذراعه وهززتها، على مهل أولاً ثم بعنف، لكنه بدلاً من أن يلتفت إليّ هوى على وجهه إلى الأرض، مثل دمية خفيفة دفعتها الريح، ثم اختفى فجأةً، مخلفاً وراءه على العشب ورقةً صغيرةً يخاطبني فيها:
"صديقي مراد،
ظننت أن الحرب انتهت، لكنّ ظني خاب.
أنا ذاهب إلى مكاني، ولن أعود مرةً أخرى.. قل لنورهان أن تخفّف من حزنها، وتُسعِد الرجل الذي في بيتها إن كانت متزوجةً.. لقد كانت حماقةً أخرى مني لأنني آثرت أن آتي معك إلى هذا المكان، وأطلبَ منك أن تذكّرني بما حدث لي في الحرب بدلاً من أذهب إليها".
أفقت من النوم فجراً وأنا لا أزال تحت تأثير الحلم. شعرت بصداع يضرب أسفل رأسي، مصحوباً بانقباض في القلب. سكبت قليلاً من الماء في قدح وابتلعت حبة مسكّن، ورحت أفكر في محتوى الحلم، محاولاً تفكيك رموزه، لكني لم أفلح.
لا أدري كيف حكيت لسلمان أنه تكلم وهو ميت ثم اختفت جثته، ولماذا لم يقدني إلى الحي الذي تسكن فيه نورهان ونحن نذرع القلعة؟ يا له من حلم عجيب!
نورهان
اضطربت بشدة حين سمعت الصوت. كان يمكن أن يتبادر لي أنني لست في حالة يقظة، لكن رنين الهاتف جاء في لحظة يستحيل أن تكون غير واقعية، تلك هي لحظة انشدادي إلى التلفزيون، الذي كان يعرض تقريراً مصوراً عن تفجيرٍ حدث في أرابخا قبل يومين، وجُرحت فيه صديقتي بولينا.
في البدء سألني الصوت:
- هل أكلّم السيدة نورهان؟
أحدثت نبرته هزةً في داخلي فقلت متلعثمةً:
- نعم.. نعم.. أنا هي.. من معي؟
- تغير صوتكِ كثيراً.. لم يعد مثلما كان قبل سنوات بعيدة.
تسارعت نبضات قلبي:
- من أنت؟ صوتك ليس غريباً عني.
- ستعرفينني إن وضعتِ الهاتف على قلبك.
شعرتُ برعشة تسري في جسدي:
- مستحيل! أنت تتكلم بصوت ليس صوتك.
انتبهت ابنتي إلى الذهول الذي اعتراني، فأخفضت على الفور صوت التلفزيون.
- هل أنتِ وحدك في البيت؟
- لا.. لا.. معي ابنتي.
- صوفيا؟
- تعرف اسمها أيضاً؟
- كيف لا أعرف، ألم يكن هذا اتفاقاً بيننا؟
- مستحيل! أنت لست هو.
- حاولي أن تحدثيني على انفراد.
هرعت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب. وضعت الهاتف على قلبي، ثم أعدته إلى أذني بعد برهة، وقلت:
- لا تخدعني، الصوت صوته.. نعم.. لكنك لست هو بالتأكيد.
- صدقيني أنا هو..
- يا إلهي، كيف يمكن أن تكون هو وقد...؟
- ستعرفين حينما نلتقي.
- من أين حصلت على رقمي؟
- من أحدهم.
- لا، لا، أنت لست سلمان، ربما تكون جنياً تلبستَ شخصيته.
- هل تؤمنين بهذه الخزعبلات؟
- يا إلهي.. أكاد أجن.. لو أعطيتني تفسيراً صغيراً فقط.
- أنتظرك بعد ساعة عند مرقد "بغدة خاتون".
لم تستغرق المكالمة بيني وبينه سوى بضع دقائق، أغلق هاتفه وتركني غارقةً في ذهول شديد. تهاويت على سريري وغطيت وجهي بكفيّ، فاشتعلت نار ذكراه في أعماقي، وأخذت أستعيد لهيبها مذ رأيته، أول مرة، في يوم ربيعي من شهر اللوز قبل خمس وعشرين سنة، وكانت خامدةً طوال العقدين الماضيين اللذين عشتهما زوجةً لرجل حاول أن يسعدني ويعوضني عما فقدته.
كنت في ذلك اليوم البعيد خارجةً، برفقة خالتي ألماس، من بوابة جامع "النبي دانيال" في القلعة، حيث اعتادت النساء، أيام العيد، على التجمع في باحته للتبرّك بضريح ذلك النبي وطلب المراد منه، رغم علمهن أنه ضريح وهمي لا عظام فيه. كانت خالتي آنذاك تقترب إلى العنوسة، فأقنعتها بأن تعقد قطعة قماش، دونما إحكام، وترميها من أعلى منارة في الجامع الذي يقع فيه الضريح، مثلما تفعل الأخريات، لعل العقدة تنحل عندما تلامس الأرض، فتنال مرادها (في الحقيقة، أنا التي كنت أرغب، منذ بداية مراهقتي، في ممارسة ذلك الطقس، فشاركت خالتي في رمي كيس مملوء بالحلوى).
كان سلمان يقف في الممشى الخارجي المؤدي إلى بوابة الضريح، في صف طويل من الشبان، الآتين من مختلف أنحاء المدينة ليستعرضوا أنفسهم أمام الفتيات الزائرات، أملاً في أن يجدن مرادهنّ فيهم. وحين أقبلتُ صوبه، مختالةً بنفسي أمشي أمام خالتي، رمقني بنظرة عميقة متلهفة، كأنه يعرفني منذ زمن طويل، وأردفها بابتسامة فائضة أشعرتني بأنه يتشهى معانقتي، فرفعت يدي، لا إرادياً، ومررت بأصابعي على خصلات من شعري حركتها الريح، وبادلته ابتسامةً خاطفةً أشاعت في نفسه ارتياحاً. واعترف لي في أول لقاء جمعنا على انفراد في منزل جدتي، أن تلك الابتسامة هي التي شجعته على مغازلتي حينما مررت من أمامه.
كانت كلماته جميلةً وغريبةً، لم أعهدها من قبل وأنا في الثامنة عشرة من عمري (بدت لي مختلفةً عن كل ما سمعته من أقرانه في صف العشاق ذاك). ورغم الأثر الذي تركته في نفسي، لم يخطر لي أنني سألتقي سلمان مرةً أخرى.
طلبت من خالتي أن نذهب إلى متنزه المدينة لنكمل طقس العيد، لكنها اعترضت أول الأمر، بحجة أن جدتي وحدها في البيت، وقد يزورها بعض أقاربنا ومعارفنا، ثم وافقت على مضض بعد إلحاحي عليها. سلكنا الأزقة المؤدية إلى بوابة "البنات السبع" في الجانب الشرقي للقلعة، وقطعنا المسافة إلى المتنزه في نصف ساعة. اخترنا مصطبةً منزويةً تحت شجرة وارفة، وجلسنا نتطلّع إلى الأطفال والصبيان، الذين ملأوا المكان بصياحهم، وهم يتنافسون على احتلال مقاعد في الأراجيح ودواليب الهواء. كنت أنظر إليهم وبالي مشدود إلى سلمان، صورته أمامي، نظرته العميقة تربكني، وابتسامته تأخذني إلى عالم أثيري..
لم تكد تمضي خمس دقائق على وصولنا حتى باغتنا سلمان مقبلاً إلينا. من الواضح أنه كان يتعقبنا في غفلة منا، ولم أتوقع أن تبلغ جرأته إلى تلك الدرجة. سلّم علينا بأدب أولاً، ثم خاطب خالتي طالباً منها، دون أن يعرف صلتها بي، السماح له بأن يكلمني على انفراد. ورغم الارتباك الذي شعرت به اعتقدت لحظتها، وأنا أنظر إلى عينيه المشعتين، اللتين تنطقان حباً، بأن الله ربما وضعه في طريقي ليكون مرادي.
قالت له خالتي، معربةً عن حرص مفتعل:
- ولِمَ على انفراد؟ ابنة أختي لا تزال صغيرةً، فإن كانت نيّتك سليمةً كلّمها أمامي.
قال:
- لكنني أشعر بالحرج إنْ تكلمت معها أمامك.
ردت عليه خالتي:
- بعد كل الذي فعلتَه تشعر بالحرج؟ تكلم، أعرف ما تريد قوله..
تردد سلمان برهةً، ثم قال:
- بصراحة، أنا مغرم بنورهان..
التفتت خالتي إليّ مستغربةً، ثم سألته:
- وتعرف اسمها أيضاً؟
- قلبي تعلق بها مذ رأيتها ترقص في نادي "عرفة" قبل أشهر، أقصد في حفلة رأس السنة الأخيرة. كنتِ أنتِ وبقية أفراد الأسرة برفقتها، فظننتك أمها، بينما كنتُ أجلس إلى طاولة على مقربة من طاولتكم. ومن حسن حظي كانت نورهان تجلس قبالتي، فأخذت أسترق النظر إليها طوال السهرة، مدفوعاً بجذوة هيامي بها، لكن عيوننا لم تلتقِ أبداً. وقد عرفتُ ليلتها مِن الطفل الذي كان معكم أنّ اسمها نورهان، وأنكم من حي "ميدان" بالقلعة. ومنذ ذلك اليوم وأنا أفكر في المجيء إلى هنا خلال العيد، قلت لنفسي لعلني أحظى برؤيتها وأكلّمها، وها هي أمنيتي تتحقق.. صدقيني، لقد خيّل لي حين بادلتني الابتسامة قبل قليل أنها ألقت حبالها عليّ من علٍّ، كأنها ملاك أعارته السماء للأرض..
- أهذا فقط ما أردتَ أن تقوله لها؟
- أردت أيضاً سماع ردها..
- تعجبني جرأتك.. ما اسمك؟
- سلمان البدر.
- هل أنت من القلعة؟
- لا، لا، أنا من حي تسعين.
- ومن يضمن أنك لست مخادعاً مثل الآخرين؟
- لكِ الحق.. لكن صدقيني أنا أختلف عنهم.
- لا أريد لنورهان أن تكرر تجربتي المرة..
أقسم سلمان أنه يريد إقامة علاقة صادقة معي إنْ بادلتُه الحب، وسيتزوجني بعد تخرجه من الجامعة، ثم شرع يتحدث عن نفسه وعن أسرته قائلاً إنه في المرحلة الثانية بكلية اللغات، ووالده يمتلك مكتبةً. لم ترد عليه خالتي، بل نظرت إليّ نظرات متسائلةً. كنت لحظتها أشعر بشيء ما يجذبني إليه، لكني تظاهرت، من باب الحياء والخجل، بأنه لا يصح البتَّ في أمر كهذا خلال لقاء عابر، وفي مكان عام. عندئذ طلبت خالتي من سلمان رقم هاتفه، ووعدته بأنها ستتصل به حينما تتأكد من رغبتي في وصاله.
بدت لي خالتي ألماس أنها تضمر شيئاً ما في داخلها، شعوراً أو أمنيةً، تجاه العلاقة العاطفية المحتملة بيني وبين سلمان. لا أعرف بالضبط، لكن يغلب الظن عليّ أنها تنظر إليها كأنها واقعة مشتركة، أعني أن حب سلمان لي يشكّل لها تعويضاً عن فشلها في علاقاتها السابقة، أو انتصاراً من نوع ما على خساراتها. كانت أول تجربة حب فاشلة في حياتها أيام دراستها في دار المعلمات، أحبت طالباً في دار المعلمين وهي في المرحلة الثالثة، كانت في مثل سني تقريباً، لكن علاقتهما لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر، تعكّرت بسبب غيرته من تفوقها في الدراسة، وأخذت تبرد شيئاً فشيئاً حتى تخلى عنها وأحبّ إحدى صديقاتها.
حزنت خالتي، طبعاً، لموت تلك العلاقة أول الأمر، إلاّ أنها لم تأسف عليها حينما اكتشفت أن والد ذلك الطالب كان عضواً في الحرس القومي، ومن ألد أعداء الحزب الشيوعي الذي تنتمي إليه سراً، (أرغمها خالي، فيما بعد، على تركه على إثر انكشاف أمرها واعتقالها، ليس خوفاً عليها من بطش السلطة، بل كرهاً بالشيوعيين، وخاصةً الأكراد، الذين شنقوا عمّه في مذبحة أرابخا عقب انقلاب عبد الكريم قاسم، وهم يهتفون إمعاناً في الترهيب: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة").
بعد تخرجها وقع في غرامها مدير مدرستها، وهو من أبناء القرية التي تقع فيها تلك المدرسة، كان أكبر منها بعشرين عاماً، ثريّاً، متزوجاً من ابنة عمه في سن مبكرة كعادة أهل الريف، وله منها ثلاث بنات وولدان، أكبرهما في عمر خالتي. أغراها بشراء سيارة لها، وتسجيل ملكية بيت في المدينة باسمها. رفضت في البداية، متعللةً بأنها لن تتزوج إلاّ رجلاً تحبه أولاً، وغير متزوج ثانياً. لكن المدير لم يقطع أمله، وراح يوسّط المعلمات لإقناعها، وحين فشلن في المهمة خدعها بتنفيذ شرطها الثاني: جلب لها ورقة طلاق (مزورة) من زوجته، وكانت هذه متواطئةً معه، تحت التهديد والإغراء بالمال.
انطلت الخدعة على خالتي لكنها لم تستسلم، ظلت متمسكةً بشرطها الأول، فأخذ المدير يمثّل دور العاشق المتيّم بشتى السبل، يعاملها بمنتهى اللطف والنعومة، ويشتري لها الثياب الفاخرة والهدايا الثمينة، ويدسّ في حقيبتها رسائل غرامية تصهر الحجر وتُحيل الشوك ريحاناً... حتى لانت وصارت تبادله مشاعر الحب (لم تقل لي إن كانت صادقةً أم مفتعلةً). إلاّ أنها لم تكن مطمئنةً إليه كلّ الاطمئنان، ولذلك ظلت تؤجل مشروع الزواج مدةً طويلةً إلى أن اكتشفت كذبة طلاقه من زوجته، فأدارت له ظهرها وانتقلت إلى مدرسة في المدينة.
أعقبت تلك التجربة تجارب فاشلة أخرى كانت أقساها تلك التي انتهت بتصفية حبيبها الشيوعي أواخر عام 1978. ومنذ ذلك التاريخ وهي تنتظر الحبيب الذي يعوضها عما فاتها، رغم أنها عبرت سن الأربعين.
حاولت في الأيام الثلاثة التي تلت لقائي بسلمان أن أتغلب على نفسي، وأردع فكرة الارتباط العاطفي به، متذرعةً بأنني يجب ألاّ أستجيب لأول من يتعلق بي، خاصةً أنني لا أزال صبيةً، وجميلةً يتمناني ألف شاب، حسب تعبير أمي، ثم أنني مقبلةٌ بعد أسابيع قليلة على عالم جديد، عالم الدراسة في المعهد الفني، حيث سأتعرّف إلى العشرات، وسيكون بإمكاني أن أحبّ من أشاء من الطلاب. لكن محاولتي باءت بالفشل في نهاية الأمر، فقد وجدت نفسي متعلقةً بسلمان، تشدّني إليه بقوة أشياء كثيرة: إحساسي بصدق مشاعره، شخصيته المختلفة عن الآخرين، عيناه الحميمتان، ابتسامته العذبة، جرأته، وأسلوبه اللطيف.
قبل أن تسألني خالتي عما انتهى إليه قراري، صارحتها برغبتي في أن ألتقيه، فاتصلتْ به على الفور، ووصفت له عنوان المنزل: "زقاق زندان، الباب الخامس بعد حمام النساء، باب خشبي قديم ذو دلفتان، في كل واحدة منها مقبض برونزي وإطاران مستطيلان نُقشت عليهما زخارف صغيرة".
جاء سلمان في اليوم التالي، فرحاً مثل طفل، حاملاً علبة حلويات معبأة بالبقلاوة والبورما والأصابع. استغربت من الصورة الرهيبة المطبوعة على العلبة، كانت لامرأة شعرها من ثعابين، تحيط بها قلادة من الحلويات التي تبدو كصدفات المحار لفرط صغرها، سألته عنها فقال:
- إنها "رأس الميدوزا"..
- لم أسمع بها.
- وردت قصتها في أساطير اليونان القديمة، ورسمها فنان إيطالي اسمه "كارافاجو" من القرن السادس عشر، يُقال إن نظرةً منها إلى أي مخلوق كانت كافيةً لتحويله إلى حجر، إلاّ أنها في الأصل كانت إلهةً وعشيقةً لإله البحر "بوسيدون"، فغضب عليها كبير الآلهة "زيوس"، ومسخها هي وأختيها إلى كائنات بشعة سميت بـ "الجرجونات الثلاث"، وجوههن تغمرها لحى، وأنوفهن فطساء، وألسنتهن مندلقة، ولهن أنياب خنزير، وأيدٍ من البرونز، ثم نفاهن إلى جزيرة في البحر المتوسط ليعشن في الكهوف
، وسط عشرات التماثيل الحجرية لأولئك البحارة التعساء، الذين ألقى
بهم قدرهم إلى شاطئ هذه الجزيرة.
وبقين هكذا حتى جاء "برسيوس"، ابن "زيوس" من امرأة بشرية، واستطاع أن يقتل "الميدوزا"، بينما كانت أختاها نائمتين، باستخدام درعه البرونزي المصقول كمرآة، ثم قطع رأسها بضربة واحدة، وأخذه في كيس وأظهره أمام التنين قبل أن
يبتلع حبيبته
"اندروميدا
"، التي اضطرّت أمها، الملكة
"كاسيوبيا"، إلى تقديمها قرباناً له وإلاّ أغرق جزيرتها بأمر من الآلهة الكبار، فحولت نظرة رأس
"الميدوزا
" ذلك الوحش إلى تمثال حجري.
- من أين لك كل هذه المعلومات؟
- قرأتها.
- هل تهوى القراءة؟
- كثيراً.. وأنتِ ألا تهوينها؟
- بلى، لكني لا أعرف ماذا أقرأ؟
- هناك كتب كثيرة يمكن أن تقرأيها.. روايات، شعر، أساطير، فلسفة.. هذا إذا كانت ميولك أدبيةً.
- قرأت بعض الروايات عن الحب لإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي.
- سأعطيك رواياتٍ مترجمةً لكاتب شهير من أميركا اللاتينية اسمه ماركيز.. فيها حب ورومانسية أيضاً، لكنها تتحدث عن أغرب الأحداث. إنه ملهمي الأول في الكتابة.
- أنت تكتب أيضاً؟
- بدأت بكتابة الشعر، لكني بعد أن قرأت ماركيز قررت أن أكون روائياً.
- أريد أن أسمع من شعرك.
- اسمعي هذا المقطع الذي كتبته عنكِ:
"سابغةٌ كعطورِ صبايا القلعةِ
ينبثُّ غناؤكِ في الضوضاءِ
وفي ضفةِ النهرِ الأدردْ".
- ما معنى الأدرد؟
- إنه الكائن الذي سقطت أسنان فكه العلوي.
- وكيف يكون النهر أدردَ؟ أي نهر هذا؟
- إنه نهر "الشتاء"، وقد تخيّلته هكذا لأنه بسبب جفافه بانَ قاعه أملسَ مثلَ فكٍّ فقد أسنانه.
- ياه! أنت تملك مخيّلةً فظيعةً.
- أعجبتك؟ كم أتمنى أن أوظفها في رواية أحلم بكتابتها، يشتبك فيها الحدث الواقعي بالحدث الفانتازي والغرائبي، والوعي باللاوعي، والعقلي بالسحري..
- مثل قصة "الميدوزا"؟
- ولِمَ لا؟ بل يمكن أن تحمل أسمها أيضاً..
فكّر سليمان قليلاً، ثم قال:
- يمكن أن أسميها "أحبك يا ميدوزا".
- أتحب هذه المخلوقة البشعة؟
- لم تكن بشعةً في الأصل، بل
امرأةً جميلةً، وأنا
أرى أنها تمثّل سلطان الأنثى بدلاً من الشر، وقد غدر بها إله مستبد يجسّد الذكورة في أبشع صورها.
ما أكثر الأحاسيس التي انتابتني ذلك اليوم وأنا أتهيأ لتزيين نفسي. طليت أظافري بلون زهري، وسرّحت شعري بعناية، وجعلته ينسدل على كتفيّ، ثم وقفت أمام خزانة ملابسي طويلاً، أستعرض محتوياتها في حيرة، وتمنيت خلال لحظات لو أستطيع الاتصال بسلمان لأسأله ماذا يحب أن ألبس، لكني وجدت أن ذلك سيضعف من شخصيتي، ويجعلني أبدو مقادةً إليه من البداية، فعزمت على مفاجأته بارتداء ما أراه جميلاً ومناسباً. ومن حسن حظي أن أمي، المتشدّدة قليلاً، كانت غائبة عن البيت، فقد استجابت لنصيحة خالتي، ورافقت جدتي في زيارتها إلى أختها التي جاءت من الحج.
وقع اختياري أخيراً على فستان أبيض موشى بدانتيلا مذهبة، وأخذته معي إلى منزل جدي وارتديته هناك، ورششت رقبتي وأسفل أذنيّ بالعطر. قالت لي خالتي، التي ارتدت ثوباً أحمر وأحاطت خصرها بحزام أسود، إن شكلي يبدو أقرب إلى شكل عروس مني إلى فتاة تستقبل شاباً سترتبط به بعلاقة غرامية، فملأني كلامها غبطةً. ثم نصحتني أن أودع الفستان عندها حينما أعود إلى منزلنا.
في البدء مكثتْ معنا، بخّرت الصالة جيداً ببخور هندي، تفوح منه رائحة النرجس، وجلست تصغي، مثل مراقب محايد، إلى ما يدور بيننا، ثم نهضت وفتحت التلفزيون، ومضت إلى المطبخ لتشغل نفسها بطهي طعام الغداء. كان سلمان يجلس على مبعدة عني، تفصلنا مسافة تكفي لشخصين على الأريكة، وحين غادرت خالتي اقترب إليّ، وأخرج من جيبه علبةً صغيرةً مغلفةً بورق هدايا، فتحها والتقط منها ساعةً نسائيةً، وسحب يدي برقة، مثل مَن يسحب يد سيدة لتقبيلها، وثبتها ببطء على معصمي، فيما كانت عيناه النابضتان بالحيوية توجهان سهامهما إلى عينيّ، فاستشعرت بازدياد نبضات قلبي، وتسلل دفء راحة يده إلى ذراعي كلها. شكرته على الهدية وأخذت أتأملها، كان لون قرصها بلون فستاني وعقاربها بلون شعري. بعد هنيهة أمال رأسه إليّ وسألني عن العطر الذي استخدمه، قلت له اسمه
"جيفنشي
"، فأثنى على رائحته، وشرع يغازلني بأسلوبه الشاعري، ويكشف لي عن هيامه بي، ويدلّعني باسم "نورا"، فبعث كلامه في نفسي إحساساً بالاسترخاء والخدر، كأنني خرجت من مغطس، وراح خيالي يسرح بعيداً.
تحدثنا ساعتين تقريباً على انفراد، تارةً بالعربية وأخرى بالتركمانية، التي يجيدها سلمان بقليل من الإتقان، تخللتهما ملامسات بالأصابع على استحياء، وقبلة خاطفة جعلت كياني كله يضطرب، وكدت أفلت كأس العصير من يدي. كانت تلك أول قبلة في حياتي يطبعها رجل على ثغري.
قطع التلفزيون خلوتنا الغرامية، فجأةً، بظهور مذيع عابس صارم الوجه،
مقطّب الجبين، ظلّ صامتاً بضع لحظات يقلّب عينيه يميناً وشمالاً، ثم أخذ يذيع خبراً طويلاً عن شن القوات الإيرانية
هجوماً بريّاً على منطقة الخفاجية، وردّ قواتنا عليها بهجوم مقابل أعنف منه. وما إن انتهى الخبر حتى ظهر فيلم تسجيلي عن معارك سابقة، يصور جثثاً منكفئةً على الأرض لجنود إيرانيين، تصحبه مارشات عسكرية، وتعليقات غرائزية، وقصائد حماسية تثير نزعة الانتقام. شعر سلمان بالانقباض، ودهمني أنا قلق شديد، خشيةً على أخي الكبير هجران، فقد كانت وحدته في قلب المنطقة التي حدثت فيها المعارك، وكان ذلك سبباً كافياً لأن ينتهي لقاؤنا الأول.
يا إلهي.. كان ذلك اليوم استثنائياً في حياتي، عشت مشاعر متناقضةً جداً، سعادتي بلقاء سلمان وخوفي على أخي، ورحت أتساءل مع نفسي: لماذا نفقد إحساسنا بالزمن حين يطغى علينا الفرح، بينما يغدو ثقيلاً، كئيباً، يحيك خيوط الحزن في زوايا قلوبنا، حين يغشانا القلق؟
نظرت إلى "رأس الميدوزا" المطبوعة على علبة الحلويات فانتابتني مشاعر سوداوية. تخيّلت الحرب أفعى مجلجلةً عملاقةً تلتف على جسد كل مَن تبصره، فتقطع جريان الدماء في شرايينه ودماغه، ولذا فإن الجنود المساكين هم فرائسها فقط، أما القادة الذين يقبعون في مواضعهم المحصنة فإنهم في منجى من شرورها. أردت أن استحضر للـ "ميدوزا" صورة الأنثى الجميلة المغدورة، بدلاً من صورتها البشعة، فلم أستطع. أفرغت الحلويات في صحن ورميت العلبة في برميل القمامة، معتذرةً في داخلي لحبيبي سلمان.
شاركتني خالتي قلقي على أخي هجران، وأخذت تستنشق دخان سيجارتها بعمق وتنفض رمادها بسرعة، لكن عينيها كانتا تقدحان بالأسف، لا أدري إن كانت متضايقةً أم مستاءةً من مغادرة سلمان دون أن يتغدّى معنا، وكانت قد أعدّت وجبة من الدولمة (الملفوف الشهي). ملأني شعور بالذنب لأنني لم أكبت مخاوفي وتسببت في خروجه، فنفرت نفسي من الأكل، وقضيت يومي متكدّرةً، رغم أني اتصلت بسلمان واعتذرت له، فأقسم لي أنه يقدّر مشاعري ويشاطرني القلق على أخي.
مساء ذلك اليوم كلمتني بولينا بصوت متألم، وكأن أحدهم قذف رأسها بحجر، فاكتشفت، بعد أن بحتُ لها بسر مجيء سلمان إلى بيت جدي، أنها متألمة مثلي لأن أخاها جورج أيضاً في القاطع ذاته الذي هجم عليه الإيرانيون، وودعتني قائلةً إنها ستذهب صباح غد الأحد إلى الكنيسة لتصلي من أجل أن يوقف الرّب هذه الحرب.
صرنا نلتقي أنا وسلمان كلما جاء من بغداد في نهاية الأسبوع، ونتهاتف يومياً أو مرةً كل يومين. في البدء كنت أخرج، مضطرّةً، مع خالتي لأجتمع به في مكان عام، سوق أو مستشفى أو دائرة حكومية، فنكتفي بالكلام مثل ناسكَين، وفي داخل كل منا رغبة جامحة في معانقة الآخر، ثم أدركنا، بعد عدة أسابيع، أنه ليس من المعقول أن نظل هكذا، نلتقي وسط حشد من المتبضعين والمرضى والمراجعين، ولا نفعل شيئاً سوى أن نتحدث كغريبين. كان علينا البحث عن مكان يؤوينا بعيداً عن أعين الناس، ومنهم خالتي التي رأينا أن دورها قد انتهى، وآن الأوان أن تتركنا لحالنا. قضينا أياماً عديدةً نفكّر في إيجاد ذلك المكان، وذات مساء اتصل بي سلمان من بغداد قائلاً:
- حبيبتي نورا، لقد كنت أحمق بالفعل...
- ماذا حدث؟
- وجدت المكان الذي يؤوينا. يا إلهي كيف نسيته وهو في متناول يدي؟
- أي مكان تقصد؟
- مكتبتنا.. فيها مخزن صغير، وله باب يفضي إلى شارع فرعي، إنه أفضل مكان في الدنيا.
- ووالدك؟
- يعود كل يوم إلى البيت بعد الظهر، ويحل محله أخي هاشم.
كانت المكتبة في الأصل محلاً لبيع السجائر، كما أخبرني سلمان، ولما شحّت هذه البضاعة من السوق في زمن الحرب فكّر والده في تحويله إلى مكتبة، وسرعان ما حصل على ترخيص رسمي بذلك، وأخذت الدار الوطنية للتوزيع تزوده بالكتب والمجلات والصحف، وبذل سلمان جهده في شراء الكتب المطلوبة من مكتبات بغداد. وهكذا أصبح مخزن الكتب الصغير، القابع في نهاية المكتبة، فردوسنا الآمن الذي نتطارح فيه الغرام.
في المرة الأولى التي دخلت إلى ذلك المكان شعرت بالقلق، تهيأ لي أن أخي، الذي عاد من الجبهة في إجازة قصيرة، يتتبعني عن بعد مذ خرجت من المنزل، وسيهجم عليّ، ويمسكني من شعري، ويجرجرني إلى الشارع ليقتلني أمام الناس، لكن سلمان أزال الخوف من صدري، وسكب على قلبي كلماتٍ مُطَمئِنةً من ذهبِ لسانه.
كان سلمان في كل مرة يوصد الباب ويغلقه بالمزلاج، ويحيط كتفيّ بذراعيه ويضمني إلى صدره، هامساً في أذني أن رائحة الأناناس المنبعثة من جسدي تسكِره، ويلثم شفتيّ ووجنتيّ، فأغمض عينيّ من فرط السعادة، ثم نفرش الأرض بأوراق الجرائد القديمة، ونستلقي عليها مثل زوجين مشرّدَين، لكن اللذة كانت تغمرنا، فنشعر بأننا أسعد مخلوقين في الكون.
بقينا نمارس حياتنا السريّة هذه (يجب أن أقول "المتخفية" لأن ثلاثة أشخاص فقط كانوا على علم بها هما أنا وسلمان وأخيه) سنةً وبضعة أشهر، ثم اهتدينا إلى مكان آخر أكثر أماناً وراحةً: منزل أخته نادية، التي استشهد زوجها في الحرب، فعادت أدراجها إلى أهلها، ولم يمضِ على زواجها سوى شهرين.
طرقت صوفيا باب غرفتي فأيقظتني من شرودي. نظرتُ إلى الساعة فإذا بها الواحدة والنصف، لم يبق إذاً سوى نصف ساعة على موعدي مع الرجل الذي يُفترض أن يكون في الأصل سلمان.
قررت ارتداء ملابس ملونةً، واخترت الألوان التي يحبها: الأزرق والأبيض والفيروزي، فبهتت صوفيا لأنني تخليت عن ملابس الحداد. قلت لها إنني ذاهبة لمقابلة شخص عزيز، ولا أدري إن كان بسبب ارتباكي أو فرحي استجبت لإلحاحها على معرفة اسمه بأنه سلمان البدر، فابتسمت وأشارت لي إشارةً غامضةً لم استطع تفسيرها، لكني لم أشغل نفسي بها.
في برهة الخروج سألتني:
- ماذا أقول للخالة ألماس إذا اتصلت؟
- لا تقولي لها شيئاً.. ربما سأخبرها بنفسي.
كانت خالتي تقيم معنا منذ مدة، ولا تنقطع مكالماتها الهاتفية مع صوفيا حينما تسافر إلى مكان ما، تحثها على متابعة دروسها وألاّ تنسى سقي نباتات الزينة التي ملأت بها البيت.
مراد
في الصباح ترددت عن الذهاب إلى بيت نورهان لأنقل لها رسالة سلمان، لم أرد أن أنكأ جرحها في الوقت الذي بدأتُ أميل إلى وصالها من جديد، لكن هاجساً دار في ذهني جعلني أحسم الأمر مع نفسي بعد ساعات وأمضي إليها، "لِمَ لا أغير في محتوى رسالة سلمان؟ فبدلاً من أنقلها حرفياً أقول لها إنه يوصيك بأن تعتني بنفسك، وتفتحي قلبك للحياة، ويُستحسن أن أضيف إليها جزءاً من رسالته القديمة، التي تلاها عليّ في الحلم نفسه، فقد طلب مني أن أوصيها على لسانه بأن تفتح قلبها لحبيب آخر، فالحياة مستمرة في تدفقها مثل تدفق ماركيز في رواياته، ولا يضيرها إن ذبلت نبتة أو جفّ جدول صغير فيها..". إنها كذبة بيضاء قد تُقدّم لكنها لا تؤخر، وستكون أيضاً فرصةً لأعتذر منها على ما تفوهت به حين صادفتها قبل أسبوع في "سوق العجائز"، كنت أود أن أقول لها "أما آن لقلبك أن يلين بعد كل ما جرى.."، لكن ظرف اللقاء لم يكن مناسباً، فتبجحتُ بكلام غير لائق. يومها كانت تبدو متعبةً وقد أهملت نفسها، رغم أن أنوثتها ما برحت راسخةً، تتسوّق برفقة ابنتها الوحيدة صوفيا، وهي تغطي رأسها بحجاب كحلي، ولا تزال في حداد على زوجها المقتول شاهين. كان زميلي في مدرسة المصلى الثانوية، أنا درست التاريخ في الجامعة وأصبحت مدرساً، في حين دخل هو كلية الشرطة، وتدرّج إلى رتبة عقيد، لكنه أصبح خارج الخدمة بعد الاحتلال، ثم تدبّر له عملاً مع شقيقه صائغ الذهب في سوق القيصرية، وانتمى إلى الحزب الوطني التركماني. تزوج نورهان بعد انتهاء الحرب الأولى مباشرةً، فأصبح محطّ حسد كل من تقع عيناه على جمالها الباهر، وأنا أولهم، وظل يغرف من عسلها إلى أن قُتل في تفجير انتحاري.
عرّفتني نورهان في ذلك اللقاء إلى ابنتها، التي بدت لي أقل جمالاً منها، قائلةً إنها طالبة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية، وقبل أن نفترق أخبرتني بأنها لم تفارق القلعة، ولن تفارقها حتى الموت، فأجبتها: "أنت مثل أمي، تقول لو أعطوني قصراً في المنطقة الخضراء لما تركت حي بريادي".
كنت أعرف عنوانها جيداً، فقد حضرتُ عزاء زوجها، إنها تسكن في بيت قريب من بيت أهلها، خلف كاتدرائية "أم الأحزان". فتحت لي صوفيا الباب ودعتني إلى الدخول، مرحبةً بي بالعبارة التركمانية التقليدية "خوش جالدو". جلستُ في الصالة الفسيحة نفسها التي أقيمت بداخلها الفاتحة، لكني لاحظت هذه المرة حدوث بعض التغيرات فيها، مثل تعليق الصور على جدرانها، وزوال الستارة السوداء التي كانت تغطي المكتبة. شدتني صور نورهان في شبابها أكثر من الصور الأخرى لصوفيا وأبيها، حسنها يانع قاهر، ينافس الحسن الذي أضفاه نجيب محفوظ على "رادوبيس" في روايته التاريخية، ويبعث اللذة في نفس الناظر إليها، ويحرك فيه ضرباً غير إرادي من التأمل الحسي الشبيه بالتأمل في زنابق الحقل. قلت في دخيلتي "كان مع سلمان كل الحق في هيامه بها.. كيف استطاع الوصول إلى قلبها؟". ثم رحت أتطلع إلى المكتبة المصنوعة من الخشب المعاكس الأبيض، فاسترعت انتباهي مجموعة من روايات ماركيز، التي تعمدت نورهان وضعها في الرف الأوسط بشكل عرضي لتكون أغلفتها ظاهرة للعيان. بدا لي الأمر طبيعياً، وخمّنت أن عدوى الولع بتلك الروايات انتقل إليها من سلمان، مذ ربطتها به علاقة غرامية عميقة.
سألتُ صوفيا عما إذا كانت مولعةً بماركيز أيضاً، قالت:
- أنا مغرمة به جداً، قرأته بتشجيع من أمي، وأنت؟
- أنا أفضّل عليه كاتباً ايطالياً.. لا أعتقد بأنك قرأتِه.
- لماذا تفضله على ماركيز؟
- لأن رواياته تتعدد دلالاتها مثل دوائر يصنعها إلقاء حجر في الماء.
- ما اسمه؟
- اسمه... البرتو مورافيا.
ابتسمت صوفيا وذهبت إلى المطبخ لتعدّ لي الشاي، وحين عادت سألتها:
- هل قرأتِ كل روايات ماركيز؟
- تقريباً، وقد زاد من شغفي به رقة قلبه، فهو يرفض الموت لأبطاله، وإن اضطرّ لقتل أحدهم فإنه يبكيهم كما لو كانوا أصدقاءً.
قلت:
- هل يكره القتل إلى هذه الدرجة؟ تُرى ماذا كان سيفعل لو أنه عراقي؟
- ربما كان سينتحر.
أشعرتني حكمة ردها بأن سؤالي كان افتراضياً سخيفاً، فظاهرة القتل المهولة عندنا ليس لها مثيل إلاّ في عصور التوحش. أجبتها، وفي داخلي إحساس بأن مقتل والدها ترك أثراً بالغاً في نفسها:
- يُقال إن القط هو الحيوان الوحيد الذي يقتل من أجل القتل لذاته، وليس من أجل إشباع غريزة الجوع، لكن بعض الناس في بلدنا صار، منذ الاحتلال، ينافس هذا الحيوان في القتل من أجل القتل!
تنهدت صوفيا وقالت:
- قرأت أمس في موقع الكتروني اعترافاً لشاب يقول فيه: "قتلتُ أكثر من ألف شخص، ولم أحزن على أي واحد منهم، ولم أفكّر ولو مرةً واحدةً في أنّ عملي يضر أحداً!... ولم أستغفر ربي على أية قطرة دم أسالتها بندقيتي ومسدسي."
- هل سألتِ نفسكِ كيف تحوّل هذا الشاب إلى سفاح يقتل ألف إنسان دون أي تأنيب للضمير؟
قالت صوفيا وهي تعود إلى المطبخ:
- ما جدوى أن أسأل في زمن الخراب؟
بعد مرور بضع دقائق تأكدت من عدم وجود نورهان في البيت، لكني ظننت بأنها ربما تكون عند إحدى جاراتها لأمر ما، فهي، كما أعرف، امرأة اجتماعية كثيرة الاختلاط بالنسوة المحيطات بها. وحين استبطأتها سألت عنها صوفيا، فردت عليّ من داخل المطبخ:
- خرجت منذ نصف ساعة وستعود بعد قليل، اتصل بها شخص يُدعى سلمان، وطلب مقابلتها عند مرقد "بغدة خاتون(7).
انتفض في داخلي هاجس ما:
- ألم تقل لك أي سلمان؟
لم ترد عليّ وكأنها لم تسمعني، فكررت عليها السؤال، فأجابت بنبرة غير واثقة:
- لا، ولكن ربما يكون سلمان البدر.
صعقتني إجابتها:
- سلمان البدر؟ مستحيل..
- أعرف.. لكنه ربما فكّر في إعادة علاقته بها بعد وفاة والدي..
- كيف؟
- لماذا كيف؟ ألا يقولون لا شيء في الحياة يبقى على حاله؟
- لكن سلمان يا صوفيا..
- اطمئن عمي، لو لم تتأكد أمي من صدق عواطفه لما ذهبت إليه.. وبالنسبة لي أتمنى أن يتزوجا.
تسمّرتُ في مكاني، وقبل أن تأتني بالشاي عجّلت في مغادرة البيت لأهيم على وجهي، شاعراً برأسي يدور مثل لولب في الفضاء، كما لو أنه مفصول عن جسدي.
نورهان
بلغتُ مرقد "بغدة خاتون" في أقل من ثلث ساعة. سرت على عجل، لاهثةً كمن يصعد جبلاً، وقلبي يمور بضربات سريعة تحت وطأة القلق والترقّب. كنت بحاجة إلى مَن يسندني في تحمل الصدمة، فلم أجد أحداً أفضل من خالتي ألماس، رغم أنني لم أكن راغبةً في إطلاعها على الأمر. اتصلت بها لحظة مبارحتي البيت وأسررتها، لكنها سخرت مني، على العكس مما توقعته، وقالت إنني مجنونة ليس لديّ ذرة عقل، وحذرتني من أن يكون الموضوع فخاً وضعته إحدى العصابات لاختطافي، وألحّت عليّ بأن أعود إلى البيت وانتظرها حتى تأتي من أربيل، حيث ذهبت قبل يومين لزيارة خالتي الثانية المتزوجة هناك. غير أنني تجاهلت تحذيرها ومضيت في طريقي. مررت من أمام دكان بهيجة دون أن أسلّم عليها، ويبدو أنها لم تلمحني وإلاّ ما كنت سأخلص من لسانها. كان في داخلي سؤال يتضخم كلما قطعت زقاقاً لأدلف إلى آخر: "هل أنا امرأة في كامل وعيها، أم مجنونة كما قالت خالتي؟".
على مدى سنين طويلة حاولت أن أبقي صورة سلمان طي النسيان، لكنها كانت تبزغ رغماً عني، مثل نجمة شاردة، وتؤرقني كلما قرأت كتاباً لماركيز، أو مقالةً عنه في صحيفة أو مجلة. وحين أصبحت عندي، بعد الزواج، مكتبة تضم كل ما تُرجم له، لم يعد بوسعي أن أفصل بين صورتيهما، أقف أمامها بخشوع مثلما تقف صديقتي بولينا أمام إيقونة يسوع. في مرات كثيرة كنت أضع إحدى رواياته تحت وسادتي، وأنتظر حتى ينام زوجي لأقرأ فصلاً منها. وكان اندماجي بها، خلال السنوات الأولى من زواجي، يبلغ درجةً يتهيأ لي فيها أن سلمان مضطجع إلى جانبي في السرير، تضوع منه رائحة البحر، كما الميت في "أجمل غريق في العالم"، فتتسلّل يدي إلى رأسه لتعبث بشعره، ثم تهبط إلى صدره وتتحسس زغبه (كنت ولم أبرح أحب شعر الرجل)، فيفتح زوجي عينيه، ظناً منه أنني أدعوه إلى ممارسة الحب، ويمسك بيدي ويدسها بين فخذيه، ويطلق زفرةً ساخنةً مرتعشةً، وسرعان ما تتقد نار شهوته، فيخلع بيجامته ويرتمي على جسدي ويتمرغ فوقه، في حين لا تزال يدي الأخرى متشبثةً بماركيز.
"تُرى هل يحمل سلمان هذا الاسم الآن؟ قلبي يقول إنه يحمله".
يصعب أن أنسى تلك اللحظة المرعبة التي وصلني فيها نبأ استشهاده، كانت قاسيةً ومؤلمةً جداً أصابتني بصدمة شديدة، وكاد يُغمى عليّ، كنت يومها في بيت خالتي ألماس عندما اتصل أخوه هاشم ليبلغني بالفاجعة، وكان قد مضى على دفن سلمان ثلاثة أسابيع. أردت أن أصرخ فلم أستطع، بقي فمي مفتوحاً، وشعرت بأن عضلات وجهي وأطرافي قد تجمدت، فضمتني خالتي إلى صدرها وأخذت تهدهدني وتواسيني، وحين خفّ أثر الصدمة في جسدي، بعد ساعتين، بكيت بكاءً مراً.
لم أجد عند المرقد أحداً غير بضعة عمال منشغلين بتثبيت زخارف قبتها، وترميم أعمدة نصبها التذكاري. شكلها مثمّن ذو طراز معماري جميل، تزيّنه الزخارف الآجرية النباتية المطعمة بالقاشاني الملون، وشريط الكتابة في أعلى القبة من الخارج. كان العمال يعملون بصمت كأنهم رجال آليّون. درتُ حول سور المرقد العالي وكادت تصدمني دراجة هوائية يمتطيها صبي ممتلئ الجسم، لولا أنني أمسكت بمقودها، فصاح به أحد العمال من فوق السقالة "يا أرعن! افتح عينك وأنت تسوق.. كدتَ تدهس المرأة". احمرّ وجه الصبي، واعتذر مني متلعثماً وابتعد عن المكان ساحباً دراجته. تنفست الصعداء وتلفت إلى كل الاتجاهات، متوقعةً أن أرى سلمان في إحدى الزوايا، لكن الفضاء المحيط بالمرقد كان خالياً إلاّ من بعض الأطفال والنسوة. قلت لنفسي: "ربما لم يصل بعد.. عليّ أن أنتظر"، واتجهت إلى دكان بهيجة لأقضي معها بعض الوقت حتى يجيء.
تربطني ببهيجة صلة قرابة بعيدة من طرف الأم، وكانت زميلتي في المدرسة الابتدائية، لكنها لم تواصل تعليمها، رسبت في الصف السادس مرتين، فأمرها أبوها أن تلزم البيت، وتساعد أمها المريضة في إدارة الدكان إلى أن تأتي قسمتها في الزواج. مرت سنوات ولم تأتِ القسمة، وماتت الأم، وأصبح الوالد كهلاً وهي رهينة الانتظار. كان شكلها مقبولاً وهي شابة، ثم بدأت تفقد وزنها، وأصبح جسدها هزيلاً، كأنها لا تأكل شيئاً، فانطفأت أنوثتها، ولم تعد محط اهتمام أي رجل.
كانت آخر مرة ألتقي فيها بهيجة يوم جاءتني لتعزيني بمقتل مراد، بدت لي حينها متألمة بالفعل من أجلي، لكنها همست في أذني وهي تخرج قائلةً: "نورهان، لا تبتئسي.. حظك أفضل من حظي.. أنت مازلتِ جذابةً يتمناك ألف رجل". عندئذ أدركت أنها ترثي نفسها أكثر مما تواسيني، فشعرت بألم مضاعف من أجلها.
فوجئت بثلة من النساء داخل الدكان، يزيد عددهن على العشر، تجلل أغلبهن العباءات، وكانت بهيجة منشغلةً في تزويدهن بحصصهن التموينية، فلم أستطع رؤيتها، ولا هي رأتني، فلبثت واقفةً أمام الباب، وأخذت أصيخ السمع إلى ما يدور بين النسوة.. قالت إحداهن:
- يُشاع أن الحكومة ستقطع الحصة عن كل موظف يزيد مرتبه عن مليون دينار شهرياً.
ردّت عليها أخرى متحمّسةً:
- عاشت يدها.. ستخفّف من عبئها، وترفع حصتنا نحن المفجوعين.
لكن ثالثةً اعترضت بنبرة ساخرة:
- لا حبيبتي، قولي ستفتح نافذةً جديدةً للصوص والحيتان..
فأيدتها رابعة قائلةً:
- والله صدقتِ.. ستكون فرصة أخرى لزيادة الفساد..
لكن صوتاً ناعماً لفتاة، لم أتبين وجهها، أنهى تعليقات النسوة بقوله:
- لو أن الحكومة نزيهة، وتريد قطع دابر الفساد لأعطتنا بدلاً من هذه المواد التي لا تصلح للحيوان حصةً نقديةً.. الشهر الماضي ألقيت حصتي من الشاي في القمامة، وقد رأيت بأم عيني قبل أشهر شاحنةً ترمي حمولتها من أكياس الشاي الكبيرة في العراء، وسمعت أن عدداً من الفلاحين استخدمه علفاً للحمير والأبقار فمات بعضها متأثراً بالكافايين.. كما استعمله آخرون سماداً، فأدّى إلى تلف محاصيلهم الزراعية..
مرت خمس دقائق أخرى ولم يظهر سلمان، فأخرجت هاتفي من حقيبتي لأتصل به، إلاّ أنني تذكرت أن رقمه كان محجوباً حينما كلمني، ورحت ألوم نفسي "يا لي من غبية، لِمَ لم أنتبه إلى ذلك؟ كان ينبغي أن أكون على قدر من الفطنة والذكاء فأطلب منه الرقم... لكن هل كان بوسعي التفكير في أمر كهذا وأنا تحت الصدمة...؟". بعث ذلك في نفسي قلقاً مضاعفاً امتزج بالشك، ولم أعد أعرف ماذا أفعل. انتظرتُ بضع دقائق أخرى دون جدوى، ثم غادرت المكان تاركةً بهيجةً منهمكةً في عملها.
سرت عبر الأزقة المؤدية إلى البوابة الشمالية، متجنبةً العودة إلى البيت خائبةً، عاجزةً عن التفكير في أي شيء عدا في أنني مطعونة بلغز سلمان. اجتزت الممر الضيق وهبطت الدرج المطل على حي "زيوَه"، وقادتني قدماي إلى حديقة القلعة المتموجة على سفح التل، الشبيهة بجنائن بابل المعلقة، كانت مقفرةً إلاّ من أسرتين: إحداهما مكونة من أب ستيني وأم خمسينية وابنة شابة عرجاء تقضم أظافرها بأسنانها، غير أن محياها كان بديعاً كنداوة الفجر، والثانية مكونة من زوجين بدا سناهما متقاربين، لا يزيدان في تقديري عن ثلاثين عاماً، وبرفقتهما أربعة أطفال صاخبين يتدفقون حيويةً. كان الزوج يعطي ظهره لي فلم أتبين ملامحه، في حين كانت الزوجة البدينة المنتفخة الأوداج في مواجهتي تماماً. جلستُ على مقعد منحوت من ساق شجرة معمرة وفي داخلي بصيص أمل أن يتصل هذا الذي زعم أنه سلمان، ليقل ما يشاء، أريد فقط أن أسمع صوته مرةً أخرى لأعرف حقيقته، لن يأخذني بسحر كلامه كما فعل في المرة الأولى، "يا إلهي لماذا لا يرنّ هذا الهاتف الملعون؟ أريد أن أنتهي من هذه الحيرة الجهنمية، أن أزيح هذا الشيء الذي يضطرم في رأسي. كنت قبل ساعتين فقط مستكينةً، مطوية الشراع، شاحبة الروح كرماد سيجارة، فأي عاصفة هبت على روحي وزلزلت كياني، ثم مضت وتركتني على شفير هوة سوداء غامضة؟...".
قطع عليّ شرودي صوت مجلجل أطلقه الزوج الشاب، وهو يستدير صوبي، ناهراً ابنه الكبير الذي أخذ يتسلق شجرة صنوبر على مقربة مني، فتطلعتُ إليه مشدوهةً، وغمرني شعور غريب تجاهه، افتتان فوري من ذلك النوع الذي يصيب المرأة بدوار وهي إزاء رجل جذاب (يقيناً كان شعوراً يماثل الشعور الذي خالجني حين رأيت سلمان أول مرة). لقد بدت لي ملامحه شبيهةً بملامح سلمان، لكنه لم يكن هو بالتأكيد، وربما لم يكن ثمة شبه بينهما بل أنا الذي توهمت ذلك!
لاحظتْ الزوجة نظراتي غير الطبيعية إلى زوجها فرمقتني بعينيها الحادتين كعيني بومة، وراحت تبربر له بكلمات خمّنت أنها تنطوي على شتائم، فاكتفى بأن هزّ رأسه لها، ثم نهضت محتدمةً وجمعت شعرها خلف عنقها وأحكمت ربط حجابها، وسارت ناحيتي، وزعقت في وجهي شاهرةً سبابتها "إذا كنتِ عاهرةً فليس من اللائق أن تحاولي إغواء رجل برفقة زوجته، وإذا كنتِ محترمةً فلا تتطفلي على أحد بنظراتك الشيطانية.. هل فهمتِ؟". أذهلتني وقاحة المرأة، فبقيت واجمةً لا أعرف بماذا أردّ عليها، وفي صدري يضطرم سخط على اليوم الأغبر الذي رماني هذه الرمية السوداء. أما هي فقد ختمت هجومها عليّ مغمغمةً "قحبة منحطة بلا حياء"، وقفلت راجعةً إلى زوجها تهزّ مؤخرتها المتوحشة بتصنّع، ورفعته من كتفه كما ترفع خرقةً، فاستقام واقفاً طوع بنانها، دون أن يبدر منه أي اعتراض. عندئذ فقط أدركت أنني كنت عديمة البصيرة لأنني توهمت بوجود شبه بينه وبين سلمان. مرت لحظات لملم خلالها الزوجان أغراضهما، وأمسكا بالأطفال من أيديهم وغادرا الحديقة، مخلّفين إياي فريسةً لانفعالات وأحاسيس شتى.
فتحت حقيبتي وأخرجت منها علبة سجائري، وأشعلت سيجارةً وشرعت أمتصها بقوة، وأنفث دخانها بعصبية كأنما أنفث كلّ غيظي، ضاربةً عرض الحائط بالعرف الذي يحرم عليّ التدخين في الأماكن العامة.
حينما قاربت الساعة الثانية ظهراً استعدت بعضاً من هدوء نفسي، لكني قطعت أملي نهائياً في اتصال سلمان بي مرةً أخرى، فقررت أن أزور صديقتي بولينا في المستشفى لأطمئن عليها، وأبوح لها بما يعتمل في صدري..
مراد
"
يلزم القليل لتحويل الواقع إلى حلم، لكن يلزم الكثير لتحويل الحلم إلى واقع".
تذكرت هذه العبارة، التي ينهي بها مورافيا قصته "الجنون"، وأنا أغادر بيت نورهان مصدوماً، لكني استدركت بعد لحظات وقلت لنفسي: "إنه كلام
امرأة عاشت حياةً مزدوجةً، أو بالأحرى حياةً منقسمةً إلى قسمين، الأول حقيقي لكنه منفي كما هو، والآخر غير واقعي لكنه مُعلَن ثابت على أنه الوحيد الواقعي. أما نورهان فهي ليست كذلك، رغم الجرح العميق الذي خلفه في داخلها فقدان سلمان البدر".
سحبت خطواتي المتعثرة صوب قبة
"بغدة خاتون" الخضراء، قاطعاً
شوارع ملتويةً موحلةً بمياه آسنة، فيما رأسي يغلي بتساؤلات وخواطر حارقة: "هل يُعقل أن سلمان بُعث حياً؟ كيف أصدّق ذلك؟ يستشهد في الحرب، وتختفي جثته على نحو غامض منذ سنوات بعيدة ثم يعود إلى الحياة ثانيةً؟ إنه أمر يوقف العقل! في العصور الخوالي جرى إحياء بعض الموتى بقدرة إلهية، وفي الأساطير يحدث ذلك بكثرة، وفي الأدب أيضاً.. ألم يعد الغجري "ملكيادس" إلى قرية "ماكوندو" بعد أن أماته ماركيز؟.. لكن في الواقع لا يمكن أن يحدث ذلك الآن.. كيف أصدّق أن مَن اتصل بنورهان هو سلمان البدر نفسه؟.. لا أصدق.. لابد من وجود التباس في الأمر، أو أن أحدهم انتحل شخصيته.. سأتحقق من ذلك وإلاّ سأفقد صوابي...".
حين أوصلت التابوت إلى أهل سلمان، في ضحى ذلك اليوم المشؤوم، كنت مرعوباً من احتمال انكشاف الأمر، لكني تظاهرت بالحزن على صديقي. أوصيتهم بألاّ يفتحوا الكفن لأن الجثة مشوهة ولن يستطيعوا التعرّف إليها، فدفنوها إلى جانب قبر الأب، وأقاموا له العزاء مساءً. كان والد سلمان قد فارق الحياة قبل أسبوع، على إثر إصابته بأزمة قلبية حادة، ولم يتمكنوا من نقله إلى المستشفى. لكن ابنه الأكبر، وهو جريح حرب بُترت ساقه في إحدى المعارك، آثر أن لا يبلغ أحد سلمان بالأمر. وهذا يعني أننا يوم تحركنا إلى الفاو، ومررنا بأرابخا، كانت خيمة العزاء منتصبةً أمام بيت أهله. تُرى ماذا كان سيحدث لو أنه قفز من "الإيفا" وذهب إليهم؟ هل كان سينجو من الموت؟ وحين التحقت إلى وحدتي بعد انتهاء الإجازة لم أخبر أحداً بما جرى، حتى فرهاد.
توقفتُ عند دكان صغير يبعد عن المرقد نحو مائتي خطوة، تديره امرأة أربعينية هزيلة الجسد، ذات عينين زائغتين وذقن مدبب كذقن عنزة، تُعلّق في رقبتها سلسلةً فضيةً طويلةً تنتهي بخرزة زرقاء تستقر فوق سرتها، وتغطي نصف شعرها المنفوش بخرقة سوداء. دلفتُ إلى داخل الدكان وطلبت منها زجاجة ميرندا، كان البراد يقع خلفها مباشرةً، فاستدارت إليه وأخرجت منه واحدةً مغبشةً، وأمسكت قاعدتها بباطن يدها اليسرى، وأطبقت على عنقها بإبهام وسبابة يدها الثانية، وأخذت تمسح عنها الندى ببطء، تارةً من الأعلى إلى الأسفل وتارةً من الأسفل إلى الأعلى. كررت الحركة أكثر من ثلاث مرات، كأنها تداعب قضيب رجل بخفة ونعومة، وهي تبحلق في وجهي وتبتسم، فشعرت بالفزع من الهاجس الذي يدور في رأسها، وتناولت الزجاجة من يدها ببرود ووضعتها في فمي. في الحقيقة لم يكن المشروب يشدني كثيراً، لكني أردت أن أراقب المكان عن بعد. كان النصب التذكاري الذي تعلوه القبة الخضراء للمرقد محاطاً بسقالات خشبية يتحرك عليها عدد من عمال البناء، بعضهم يقوم بترميم أعمدته، وبعضهم الآخر يثبّت الزخارف على القبة. نظرت إلى الباحة التي تنتصب فيها الأعمدة فلم ألحظ أي أثر لنورهان أو للرجل الذي انتحل شخصية سلمان، بل لأي مخلوق غير العمال المنهمكين في إعداد الجبصين والآجُر، فخطر لي أن نورهان ربما كذبت على ابنتها لسبب ما، أو أنها التقت الشخص المنتحل هنا ثم غادرت معه إلى مكان آخر. نقدت المرأة ثمن الميرندا وخرجت، إلاّ أنها لحقت بي واستوقفتني:
- هل أنت من القلعة؟
التفت إليها:
- لماذا؟
قالت:
- لا شيء، أحببت أن أعرف فقط، لا يبدو عليك أنك غريب.
- لست من القلعة، لكني جئت لرؤية مرقد
بغدة خاتون.
- ألم تره من قبل؟
- منذ زمان..
- أميرة مسكينة.. ماتت يا حرام وهي لا تزال بنتاً مثلي.
أفلتُّ رغماً عني ضحكةً ساخرةً، وقلت:
- مثلك أنت؟ يا لك من مسكينة..
قطبت المرأة جبينها، وعادت إلى دكانها ممتلئةً بالحنق، وهي تغمغم بكلمات لم أفهم منها شيئاً. بدت لي ردة فعلها محزنةً ومضحكةً في آن واحد، فشعرت بالشفقة عليها، وابتعدت عن المكان.
سلكت من دون قصد أزقةً غير التي سلكتها في إيابي، بعضها كان من الضيق ما يستعصى على مركبة صغيرة أن تقطعها، وحين يقطعه رجل غريب عن الحي يكون نهباً لنظرات نسوة من مختلف الأعمار يجلسن على عتبات بيوتهن، يرمقنه وكأنه كائن قادم من كوكب آخر، وبالطبع لا يتورعن عن قصفه بتعليقات شتى، وهو يجتازهن بخطوات قليلة، فيسمعها ملء أذنيه، صاغراً، حتى وإنْ كنّ يلفظنها بصوت خفيض.
عند نهاية آخر زقاق فوجئت بخروج فرهاد أمين من احدى البيوت. قلت لنفسي: "ما هذه المصادفات الغريبة اليوم!.. أجده أمامي وأنا حائر بقضية سلمان؟". ملامحه لم تتغير كثيراً مذ فارقني قبل ثمانية عشر عاماً، لكن وزنه ازداد قليلاً، وابيّض شعر عارضيه. كان بصحبة امرأة حسناء تخطت الثلاثين، يتدلى شعرها الأشقر في خُصل على كتفيها، وترتدي زياً كردياً مؤلفاً من ثوباً حريرياً شفافاً ذا كمين طويلين، شبيهة بالقفطان المغربي، وتحته قميص داخلي داكن وسروال ملون فضفاض، وفوقه صدرية قصيرة بلا أكمام مطرزة بالحراشف المعدنية. حسبت أن المرأة زوجته، لكنّي كنت واهماً، فقد تبين لي حين عرّفني إليها أنها أخته شادان، فتذكرت أنني رأيتها مرةً واحدةً وهي صبية.
سألته:
- أين كنت كل هذه المدة الطويلة؟
قال:
- بين السليمانية ومالمو..
- كنت لاجئاً إذاً؟
- قصة طويلة سأرويها لك فيما بعد.. وأنت، ألم تغادر؟
- بلى.. إلى ليبيا. مكثت في بنغازي سنةً واحدةً فقط ثم رجعت، كانت الحياة فيها لا تُطاق، فآثرت الحصار على جحيمها.
تمتد علاقتي بفرهاد إلى أكثر من أربع وعشرين سنة. تعرّفت إليه عام 1985 في معسكر تدريب الطلبة على السلاح وقت العطلة الصيفية، بينما كانت الحرب في جبهات القتال على أوّجها (كان عاماً مفصلياً في الحرب شهد أقسى المعارك، نفذت إيران خلاله تسع عمليات برية ذات أهداف محدودة، وهددت بأنها ستشن هجوماً مليونياً يحسم الحرب لصالحها، في حين شن العراق ثلاث هجمات مضادة). كان فرهاد يومها راسباً في السنة الثالثة من الدراسة الجامعية، متخصصاً في الفلسفة، ومثله الأعلى في الحياة البير كامو، خاصةً في كتابه "الإنسان المتمرد"، لكنه للأسف لم يتمرّد وقتها إلاّ على الدراسة، فلم يذهب لأداء الامتحان في الحصص التي كان محمّلاً بها، وهكذا رسب سنتين متتاليتين فساقوه إلى الجيش، إلاّ أنه عاد إلى الجامعة على إثر توقف الحرب ونال الشهادة.
كان آخر لقاء جمعني به قبل يومين من بدء هجوم الجيش على أرابخا، أواخر آذار عام 1991، لانتزاعها من قوات البيشمركة. يومها جاءني إلى البيت منقبض الوجه، يغمره إحساس عميق من الخيبة، كأنه خرج توّاً من معركة خاسرة، وكنت مندمجاً في قراءة رواية "امرأة من روما" لمورافيا. قال لي وهو يسحب الكتاب من يدي ويرميه على الأريكة:
- هل هذا وقت مورافيا؟ ألم تشبع منه حتى الآن؟
أجبته بهدوء:
- هذه آخر رواية مترجمة له، وقد حصلت عليها بصعوبة، فكيف لا أقرأها؟
- عجيب أمرك! المدينة على كف عفريت.. هيا، يجب أن تفروا خلال ساعات، الجيش يتقدم من عدة اتجاهات، وسيضربنا بالسلاح الكيماوي.
ورغم أنني كنت أسمع أصوات قذائف تنفجر في أنحاء مختلفة من المدينة سألته:
- إلى أين نفرّ؟
قال:
- تعالوا معنا إلى السليمانية.
قلت رافضاً:
- سنمكث في البيت، لو كانت عنده نية استخدام الكيماوي لما حرك قواتٍ بريةً من اتجاهات عديدة كما تقول.
- مراد، اسمع نصيحتي.. أنت هارب من الجيش، فإن لم تمت بالكيماوي سيقبضون عليك ويعدمونك.
- هناك عشرات الجنود من أهل المدينة مثلي لجأوا إلى بيوتهم بعد سقوط الفيلق.
- سيتهمونكم بالتخاذل..
- لا أظن، الكل يعرف أن أمراً عسكرياً صدر بالانسحاب من الفيلق.. ثم مَنْ أكون حتى يتهمونني بالتخاذل يا فيلسوف؟ أنا مجرد جندي احتياط كنت كاتباً في الإعاشة..
- أنت عنيد جداً، ابقَ مع صاحبك مورافيا ودع أهلك يأتون معنا، هناك سيكونون في مأمن من القصف..
- ومن قال لك إن الجيش سيكتفي بالسيطرة على أرابخا؟
- ماذا تقصد؟
- الجيش سيواصل هجومه على كردستان أيضاً، وستضطرون حينئذ إلى الفرار صوب الحدود، وسيكون هذا من أسوأ الخيارات.
ردّ فرهاد وهو يهم بالمغادرة:
- أنت واهم يا صديقي، أميركا لن تسمح بذلك؟
- هذه فلسفتك؟ سنرى..
سألت فرهاد عن البيت الذي خرج منه، فقال إنه بيت أهل زوجته. وخطر في بالي أن استفسر منه إنْ كانت تمتّ له بصلة قرابة أم لا، لأن أغلب سكان القلعة تركمان، وهو لم يكن متزوجاً حينما غادر أرابخا، إلاّ أنه سبقني قائلاً إنها تركمانية، وقد أحبها في مدينة "بنجوين" الحدودية يوم كانت برفقة أهلها الفارين من القصف، ثم مسح نظارته وثبتها على أنفه، وقال إنها افتعلت منذ سنتين خصومةً تافهةً بينهما، والآن تطلب الطلاق منه، لكنه متشبث بها من أجل الأطفال، وجاء بصحبة أخته لإقناعها بالعدول عن فكرة الطلاق، والعودة إلى بيتها في السليمانية، إلاّ أنها مصرّة على موقفها.
قدتُ فرهاد وشادان، متعمداً، عبر أزقة تنحدر إلى بوابة "البنات السبع"، فهي أقرب بوابات القلعة إلى بيتنا، حيث لا تستغرق المسافة من هناك أكثر من ربع ساعة مشياً، لكن فرهاد لم يدر في خلده أنني أريد أخذهما إلى البيت، فاستأنف كلامه عن مشكلته مع زوجته:
- أنا على قناعة بأن أسرتها هي التي تضغط عليها لتنفصل عني، وأجزم أن وراء ذلك سبب سياسي.
سألته بنبرة استنكار:
- ما دخل السياسة في العلاقة الزوجية؟
قال:
- أنا وأخوتها لسنا على وفاق حول مشكلة أرابخا.
- وماذا يعني ذلك؟
- إنهم قوميون متعصّبون..
- وأنت؟
أجاب في شيء من التردد:
- أنا لست متعصّباً.
- لستَ متعصّباً وتريد أن تعزف على وتر واحد فيها؟
- كيف؟
- تزعم أنها كردية الأصل، في حين هي مثل آلة كمان، الغريب عنها يعزف على وتر واحد فيها فقط، أما أهلها فيعزفون بتلقائية على أوتارها كلها، ويخرجون لحناً هارمونياً جميلاً..
- هذا كلام رومانسي، أما أنا فأدافع عن حق تاريخي..
- التاريخ نصنعه بأيدينا.. ويمكن حل المشكلة لو نحيناه جانباً.
- أنت مثل سلمان البدر..
- سلمان البدر؟ ما به؟
- ما لك فزعت؟ كان يقول إن التاريخ صناعة سردية متخيّلة.
- وما الذي ذكّرك به؟
- كلامك..
صمتُّ قليلاً، ثم قلت:
- هل تعرف أنني حلمت به أمس، واليوم...
قاطعني فرهاد:
- أعرف، اليوم تريد قراءة الفاتحة على روحه.. سأرافقك إلى قبره. الناس يقولون إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور، وأنا متضايق جداً اليوم.
- ليس هذا ما أردت قوله، بل شيئاً آخر.. لن تصدقه طبعاً، لكن دعنا نوصل شادان إلى بيتنا أولاً، ثم أطلعك عليه لنتحرى عنه.
- نتحرى عن ماذا؟ لن أدخل بيتكم قبل أن أعرف ما يدور في رأسك.
لم أكن أرغب، حقيقةً، في إطلاع فرهاد على موضوع سلمان بوجود أخته معنا، لكني اضطررت أمام إصراره أن أستجيب له، فحملق إلى وجهي ضاحكاً وساد بيننا صمت مطبق. لكننا ما إن بلغنا عتبة باب البيت حتى كسر الصمت دوّي انفجار هائل شبيه بالانفجار الذي وقع في الحلم، فقلت لنفسي "ها هو حدث ثانٍ أراه في حلم الأمس فأواجهه اليوم في الواقع، تُرى ماذا سيكون الثالث؟".
فرهاد
سخرت من حكاية عودة سلمان إلى الحياة. قلت لمراد، ونحن ندلف إلى بيتهم، "لو أنني سمعتها قبل أن أعيش في الغرب لربما صدّقتها". ثم شعرت بإشفاق شديد تجاه المسكينة نورهان، أي وهم تلبّسها بعد كل هذه السنين التي مرّت على موت سلمان، لا شك في أنها بحاجة إلى أن تعرض نفسها على طبيب نفسي. كيف يعود إلى الحياة من انتهى جسده إلى كومة عظام في قبر منسي؟ بل أن ثلاث وعشرين سنةً ربما فتّتت حتى عظامه.
لولا لقائي بمراد لما تذكّرت نورهان بعد كل هذه السنين الطويلة، تُرى كيف أصبح شكلها الآن؟ هل ما برحت تحتفظ بشيء من أنوثتها وعنفوانها؟ قال لي مراد إنها ترمّلت، ولم تنجب سوى بنتٍ وحيدة. كانت أيام شبابها متفجرة الأنوثة، تحمل جمالاً مبهجاً جنّن سلمان وأسرَ قلبه، فصار يكتب لها قصائد تقطر عشقاً، وحينما يستعصى عليه الإلهام كان ينسخ لها قصائد أراغون إلى حبيبته إلزا.
لم يكشف لي سلمان عن علاقته بنورهان إلاّ بعد مضي ثلاثة أشهر على بدايتها. جاءني ذات يوم إلى الكلية ليسألني سؤلاً محدداً:
- ما رأي الفلسفة بالحب؟
- هل وقعتَ في شباكه؟
- ما كنت لأسألك لو لم أقع.
- لكل فيلسوف رأي خاص به، لكني أتفق مع الرأي القائل إن الرجل يستطيع الجمع بين حب ثلاث نساء: امرأة يحبها، وامرأة يعبث بها، وامرأة يشكو إليها، لكن المرأة لا تؤمن إلاّ برجل واحد تحبه وتعبث به وتشكو إليه.
- أنا لن أكون مثل هذا الرجل، ولا التي أحبها ستكون مثل هذه المرأة.
- أنتما من أتباع المثالية الأفلاطونية إذاً، ولستما من هذا العالم.
- أبداً، علاقتنا مرتبطة بالعاطفة والشغف الجنسي معاً، إنها تسكنني ليل نهار كحنين صامت، وأشتهيها كما يشتهي المرء أشياء فقدها إلى الأبد.
- هل هي من بغداد؟
- لا، من أرابخا.
- أهي جميلة؟
- غادة يسكر الكون برائحة جسدها المتورّد، وضوء الشمس يزيّت أنفاس رعشتها بكل أماني البشر. ضوءها يتناسخ دوائرَ لذةٍ غريبة، عصيرها من السماء، وكأسها من الأرض، عيناها نافورتان من الفيروز، وحاجباها مرسومان بأنامل الملائكة.
- لا تبالغ كثيراً يا سلمان، هذه الأوصاف لا تنطبق إلاّ على حسناوات الملاحم والأساطير: "عشتار" أو "أفروديت" أو "فينوس" أو "زين"...
- بل هي رحيق كل هؤلاء النسوة السماويات، رغم أنني لم أسمع بهذه الأخيرة.
- إنها محبوبة "مَمْ" في ملحمة "مَمْ وزين"(8)
- لو أنني قرأتها لأنبأتك من هي الأجمل.
- احذر إذاً، إن تكنْ محبوبتك مثلما وصفتها فإنك ستهلك.
- ها قد تحولتَ من الفلسفة إلى العرافة، هل تستقبلنا في بيتكم؟
- متى؟
- يوم الجمعة المقبل.
- بكل سرور.. أتريد أن تنفرد بها؟
- ستكون أيضاً فرصةً كي تراها بنفسك وتتأكد..
حين عدنا من بغداد، في عطلة نهاية الأسبوع، أقنعت أهلي بزيارة خالي في بلدة "جمجمال"، بحجة أننا لم نره منذ زمن طويل. البلدة لا تبعد سوى أربعين دقيقة عن أرابخا، على الطريق المؤدي إلى السليمانية. مكثتُ معهم بعض الوقت ثم قفلت راجعاً لاستقبال العاشقين. وصلا إلى بيتنا في حي "الشورجة" قبيل انتصاف النهار، فغبطت سلمان على جمال الفتاة، لكني لم أجده يرتقي إلى الجمال الأسطوري لـ "عشتار" أو "افروديت" أو "زين" المرسوم في ذهني. صحيح أنه فاتن، متوهّج، يسيل له لعاب الرجل، لكنه ليس خارقاً مثلما وصفه سلمان. لقد بدت لي نورهان يومها أشبه بالمغنية الإيرانية "كوكوش" رغم صغر سنها.
سألني سلمان:
- ها قد رأيت محبوبتي، هل ما زلت تعتقد بأنني سأهلك؟
قلت:
- نعم.. إذا لم تكن يقظاًً.
تكررت زيارة سلمان ونورهان إلى بيتنا عدة مرات قبل أن يهتدي إلى مكتبة أبيه، وكنت أحذّره دائماً من المساس بعذريتها (أعانه ألله!.. لو كنت محله لما استطعت أن أسيطر على نفسي)، فيقول لي: "لا تخف.. حبي العميق لها بوصلتي في تحديد الاتجاه الذي أسلكه".
حين عرّفت سلمان إلى مراد قلت له إنه يتمنى أن يكتب روايةً غرائبيةً عن حياة الكولونيل الإنجليزي "لجمن" ومقتله في ثورة العشرين، فقال مراد لسلمان مستغرباً:
- ما الذي يشدّك إلى هذا الضابط الأرعن؟
أجاب سلمان:
- ماركيز كتب عن كولونيلات أكثر رعونةً من لجمن في رواياته.
- يبدو أنك مغرم بالشخصيات الغريبة الأطوار؟
- أنا لا أميل إلى الرواية التي تُكتب عن شخصيات عادية، والكولونيل "لجمن" كان ذا مزاج شاذ يقوده في أغلب الأحيان إلى التهوّر دون أن يميّز بين خطأ وصواب.
- يُقال إنه كان شرس الطباع غير هيّاب ولا وجل.
- وهذه صفة أخرى تجعل منه شخصيةً غير عادية.
- عندنا ضباط كثيرون يشبهونه.. والأولى بك أن تكتب عنهم.
- تطلب مني أن أكتب عن تهوّر ضابط عراقي؟ الآن؟ من يجرؤ على ذلك؟
لم أكن أمتلك يومها إلاّ معلومات قليلةً عن "لجمن"، في الحقيقة كان مصدرها فيلم روائي عراقي اسمه "المسألة الكبرى" شاهدته قبل التحاقي إلى الجيش، وقد حزّ في نفسي حينها تغييب ذلك الفيلم دور الكرد في أحداث ثورة العشرين.
كنا وقتها في المقر الخلفي قرب قضاء "راوندوز" نقضي نهاراتنا في التدريب، عقب مرور عدة أيام على انسحابنا، أعني ما تبقّى منا على قيد الحياة، من مواضعنا في الجبل لإعادة التنظيم، بسبب تعرّض فوجنا إلى هجوم شديد أبيد فيه ثلاثة أرباع منتسبيه. وكنا نحن الثلاثة، سلمان ومراد وأنا، وصديق رابع من ضواحي أرابخا اسمه هوشيار، نذهب كل يوم جمعة إلى "راوندوز" (في الحقيقة كان هوشيار صديقي وحدي، وكان يقتنص الفرصة للتسلل إلى بيت إحدى المومسات التي يدّعي أنها عشيقته كلما جمحت به الشهوة).
أتذكّر أننا في إحدى المرات التي ذهبنا فيها إلى البلدة التقينا في الحمام العمومي صديقاً لسلمان من بغداد اسمه باهر الكناني، كان ذا بشرة سمراء وحاجبين كثين وعينين عسليتين تستقر أسفل جفنيهما شامة، وكنت قد سمعت باسمه أيام الدراسة ولم ألتقه، فعرّفه إلينا بأنه شاعر مهم وصعلوك، يكتب قصائد نثر عجيبة، ويبحث عن الخارق والمطلق في الشعر، ويمقت الحياة العسكرية إلى أبعد حدود، وبسبب موقفه هذا أصبح كثير الغياب والهروب والتسرب من المعارك، وسُجن مرات عديدةً وتعرّض إلى عقوبات مختلفة.
عدّ الكناني كلام سلمان عنه إطراءً، فابتسم ابتسامةً عريضةً، ومدّ ساقيه على طولهما وأسند ظهره إلى الجدار، ثم ملأ طاسةً بالماء الفاتر وسكبها على رأسه بتلذذ، وقال:
- سأدعوكم إلى شراب ليمون مغلي أو دارسين (قرفة) حين نخرج إلى المنزع، لكن شرط أن يسدد أحدكم الحساب.
قلت ضاحكاً:
- اتفقنا، عليّ حساب المشروب وعليك حساب الحمّام.
ردّ جافلاً:
- شاطر! مثل اتفاق الثعلب واللقلق!
بعد خروجنا من الحمّام ذهبنا إلى مكتب البريد، وجدنا الازدحام على أشدّه، جنود من مختلف الوحدات جاؤوا لإجراء مكالمات تلفونية مع أهلهم، فكان علينا أن ننتظر ساعةً أو أكثر حتى يحين دورنا. جلسنا متقابلين في الباحة الخارجية للمكتب على مصطبات خشبية متهرّئة، عدا هوشيار الذي ظلّ واقفاً يتطلّع إلى كابينات التلفون بعينين متذمرتين. كان في كل صف من صفوف المصاطب الأربع نحو عشرة جنود، واثنين أو ثلاثة مدنيين من أهل المدينة يشغلون أنفسهم بأحاديث جانبية لتبديد الوقت.
كان يجلس على مقربة مني شيخ ذو لحية مصبوغة بالحناء، برفقته صبية صغيرة لا تكل عن اللعب بضفيرتيها، فقال سلمان بصوت خافت إنه يذكّره بأحد أقرباء نورهان اسمه رشيد القصير..
- سمعت بهذا الاسم، ألم يكن مغنياً؟
- كان فناناً وشاعراً برع في غناء المقام العراقي والخوريات(9( التركمانية بصوته العميق، وفضلاً عن ذلك كان نموذجاً فريداً في طرائفه، يشبه همنغواي بلحيته المشذّبة التي تزيّن وجهه، سريع الخطى، يرمي جسمه إلى الأمام كأن رأسه يسبق رجليه، ويشبك يديه خلف ظهره عندما يمشي. من طرائفه أنه ذات يوم كان ثملاً، فمرّ من جنب جماعة تحمل نعشاً لدفنه، فانخدعت بوقاره وجمال لحيته، وظنّته ولياً من أولياء الله، ورجته أن يصلي على الميت، فوافق وصلى عليه، لكنه بدلاً من أن يكبّر أربع مرات كبّر أربع عشرة مرة، وكانت الجماعة تردد وراءه، وحين انتهت الصلاة توسلت إليه أن يلقّن الميت بعد الدفن، فبدأ التلقين قائلاً: "سيأتيك الآن ملكان كريمان يلعنان سنسفيل أهلك، ويخرجان كل قطرة حليب رضعتها من صدر أمك...". والغريب أن أهل الميت لم يمتعضوا منه، بل شكروه على إحسانه! وعندما سأله أصدقاؤه "لماذا فعلت ذلك وأنت ثمل؟" أجابهم "لو كان الميت آدمياً صالحاً لما دفع الله ثملاً مثلي ليصلي عليه ويلقّنه".
رفع هوشيار معصمه ونظر إلى ساعته وهزّ رأسه، فأدركت أنه فقد صبره، ثم اتجه إليّ وهمس في أذني قائلاً إنه سيغادر المكان ويعود بعد نصف ساعة. قلت في دخيلتي إذا تأخر أكثر من نصف ساعة فمعنى ذلك أنه ظفر بخلوة جنسية مع صديقته. لحظتها نظر إليّ سلمان ومراد نظرةً أوحت لي أنهما يشاركانني في ما فكّرت فيه. لكن هوشيار تأخر أكثر من ساعة، فساورنا القلق من احتمال انكشاف أمره مع المرأة، وحينما عاد متهلل الوجه، مبتسماً، عرفنا أنه نال متعته.
لم نكن نعلم أن تلك الجمعة ستكون آخر عهدنا بـ "راوندوز"، غادرناها بينما كانت الشمس تتهيأ للهبوط خلف الجبل، ومن جهة الجنوب بدأت غيوم سوداء تزحف بسرعة صوبنا، فغذذنا السير إلى مقر السريّة.
في طريقنا صادفنا قطيعاً كبيراً من البغال، يفوق عدده الخمسمائة، يسدّ الجسر الحجري، متجهاً عكس الاتجاه الذي نسلكه، فلم تكن أمامنا حيلة سوى انتظار عبوره. قال سلمان وهو يضع يده على ظهر بغل صغير:
- أراهن أن هذا أمه أتان وأباه حصان.
سأله الناصري ساخراً:
- كيف عرفت؟ هل علّمك ماركيز التمييز بين أنواع البغال أيضاً؟
أجاب سلمان بقليل من الحدة:
- لا يا صعلوك، البغل الناتج عن أنثى الحمار يكون أصغر حجماً من ذلك الناتج عن الفرس الأنثى، ويُسمى النغل.
قهقه الناصري وقال:
- هذه معلومة رائعة، الآن فقط أدركت أن البغلة التي ضاجعها أصدقائي كانت إبنة أتان؟
قلت مستغرباً:
- أي بغلة؟
تنحى الناصري قليلاً عن بغل ضخم كاد يدوس على بسطاره وقال:
- بغلة آمر سريتي.. في إحدى إجازاتي الدورية تأخرتُ عن الالتحاق ثلاثة أيام، فقدمني رأس عرفاء سريتي مذنباً إلى آمر السريّة الملازم أول جاسم، فأمر بسجني أربعة أيام وتأجيل إجازتي المقبلة أسبوعاً واحداً. مكثت في السجن مدة العقوبة من دون أن يطلب مني الخروج إلى التدريب وتنظيف مراحيض سرايا الفوج كما في المرة السابقة. في اليوم الثاني زارني أربعة من أصدقائي وراحوا يواسوني كما واسيتهم من قبل، وأخبروني بأنهم ما زالوا يفكرون في عقوبة مناسبة لآمر السريّة الذي راح يتمادى في طغيانه. اعتقدت بدايةً بأنهم سيقتلونه أثناء هجوم إيراني قادم، أو سينصبون له كميناً عندما يذهب في إجازة ويطلقون عليه النار، لكن اعتقادي كان خاطئاً، فقد قرروا حين خرجت من السجن أن ينتقموا منه بطريقة لا يعرف بها أحد، ولا تلحق بهم أي ضرر، ووجدوا أن أنسب عقوبة هي أن يضاجعوا بغلته المخصصة لمهمات الاستطلاع الليلي عندما يذهب في إجازته الدورية، لأن البغلة عندما تُضاجع أربع مرات أو أكثر تُصاب بالشبق، وإذا لم تُضاجع باستمرار ينتابها هيجان جنسي، ومن الممكن أن تقتل أي شخص يقترب إليها برفسات قوية جداً إنْ هو لم يطفئ نارها.
شرب أصدقائي بضع قناني نبيذ ونفّذوا مهمتهم بعد ذهاب آمر السريّة إلى بغداد، وبعد عودته بأيام أراد أن يركب بغلته ليقوم بمهمة استطلاعية، فرفسته بقوة وحطّمت فكه الأيمن، مما استدعى نقله فوراً إلى وحدة الميدان الطبية المتقدمة، ومن ثم إلى المستشفى العسكري. بعد الحادث حامت شكوك كثيرة حول أصدقائي الجنود الأربعة، لكن نتيجة تحقيق استخبارات الفوج لم تظهِر دليلاً واحداً يدينهم. وهكذا أُغلق ملف التحقيق.
لم يندهش من حكاية الناصري سوى سلمان بسبب حداثة عهده بالحياة العسكرية، وخاصةً في جبال كردستان، أما نحن الجنود المعتّقين مثل عرق عينكاوة(10) فقد سمعنا عشرات الحكايات من هذا النوع، بل أكثر غرابةً منها. وكان بعض الذين يجامعون هذه الدابّة يسميها "عاهرة الجبل"! ومن أغرب ما سمعت أن جندياً يحمل شهادةً في الفلسفة (من يدري ربما كان ذلك من أجل إغاظتي) جامع مرةً بغلةً مخصصةً لنقل الماء من السفح إلى الجبل، وصادف ذلك في فترة سفادها، فتعلّقت به، وحين افتُضح أمره تحجج بأن سقراط العظيم تزوج من بغلة حقيقية دون أن يخسر مكانته كأب للفلسفة!
استهوت هوشيار دهشة سلمان من حكاية الناصري فاقترب إليه وقال: اسمع هذه الحكاية التي كنتُ بطلها وأنا في السابعة عشرة من عمري، كانت عندنا بغلة لم تكن مروّضةً كما يجب لصغر سنّها، فما إنْ أقترِبَ إليها حتى تضمّ أذنيها إلى رأسها وتكشّر عن أسنانها وتهجم عليّ لتعضّني، أما حين كان يقترب إليها أخي الأكبر فقد كانت تحك رأسها بكتفيه! ولم أكن قادراً على اكتشاف هذا السر إلى أن كان ذات غروب وطلب مني أبي أن أصطحب البغلة إلى البئر لأسقيها، لأنها لم تشرب طول النهار. كانت البغلة تمر في فترة سفاد، فلم تفعل ما كانت تفعله معي سابقاً، فأضمرت في نفسي أن أنيكها على البئر.
أبطأت في الطريق إلى البئر كي يحل الغسق ولا يراني أحد. وما إنْ وصلتُ إلى البئر وأسقيت البغلة حتى حلّ الغسق وخفّت الرؤية. رحت أداعب البغلة بتمرير يدي على رأسها ثم عنقها، فصدرها فظهرها فبطنها وهي تستجيب، إلى أن بلغتُ قائمتيها الخلفيتين فأشبعهتما لمساً قبل أن أنتقل إلى فرجها وأدعكه لتستجيب وترتخي وتستسلم كلّيةً وتشرع في ثني قوائمها، فوتدّت قضيبي وأولجته فيها! وبعد ذلك الغسق راحت البغلة تحتك بي كلما اقتربت إليها.
هتف الناصري ساخراً، وهو يدعك مؤخرة بغلة صغيرة:
- حيّاك كاكا هوشيار! ولكن هل تغطيتما وأنت تولجه فيها؟
- لماذا؟
- يُقال إن المواقعة بين الزوجين غير جائزة إذا مورست دون غطاء؛ لأن الملائكة يشعرون بالخجل والإهانة..
ردّ هوشيار ممتعضاً:
- جعلتني أنا والبغلة زوجين؟ أشكرك..
وسأل سلمان بخبث ممزوج بالتهكم:
- هوشيار لا تزعل وأجبني بجد: هل شممت في مؤخرة البغلة رائحةً ما؟
ضحكنا، أنا ومراد والناصري، أما هوشيار فلم يفهم قصد سلمان، واكتفى برسم ابتسامة خجولة على وجهه، وهز كتفيه نافياً.
بقينا طول الطريق نفبرك تأويلات مضحكةً لرؤية البغال في الأحلام، وحين كدنا نبلغ مواضعنا شرعت زخات برد قوية تنهمر على رؤوسنا كالحصى، مصحوبةً بأصوات مدوية تأتي من أعالي الجبال، فلم نستطع أن نميز ما إذا كانت رعداً، أم انفجارات هاونات البيشمركة، أم هدير مدافع ينبئ بحدوث هجوم إيراني..
نورهان
بحثت عن باقة زهور طبيعية في الشارع التجاري المؤدي إلى المستشفى، الذي ترقد فيه بولينا، فلم أعثر على واحدة، أغلب أصحاب الدكاكين والمتاجر الصغيرة هناك من أصول قروية، وليس في ثقافتهم ما يحفل بهذه المسألة، وبدلاً منها يبيع بعضهم زهوراً اصطناعية تعمّر طويلاً في المنازل، لكن هل يُعقل أن أبتاع زهوراً اصطناعية لمريضة؟ لذا اضطررت إلى مجاراة الناس الذين يعودون المرضى في شراء الفواكه لصديقتي.
زيارتي الأخيرة لهذه المستشفى كانت قبل الاحتلال بسنتين، وها أنا ذا أفاجأ بتغيير اسمها من مستشفى "صدام" إلى مستشفى "آزادي" (تعني "الحرية" باللغة الكردية). على التل الذي يشرف عليه من جهة الشرق تشمخ "الكنيسة الحمراء"، ماذا يعني ذلك؟ هذا السؤال ما كان ليتبادر إلى ذهني لولا تغيير اسم المستشفى.
أخفيت عن بولينا ما جرى لي قبل أن آتي إليها كي لا تبدو زيارتي غير مخطط لها. كانت إصابتها خفيفةً، بضعة جروح في رقبتها وذراعيها وساقها اليسرى، وقد وعدها الطبيب المعالج بأنها لن تمكث أكثر من أسبوع. بدت لي متماسكةً، غير قلقة مما يمكن أن تخلفه جروحها من آثار على جسدها، ابتسامتها الهادئة البديعة ما برحت تضفي على وجهها جاذبيةً رغم الاصفرار البسيط الذي كساه.
بولينا صديقتي منذ أيام الدراسة في المعهد الفني، كنا في مرحلة واحدة بقسم الإدارة القانونية، وحين تخرجنا حصلت هي على وظيفة في شركة نفط الشمال، وظلت فيها حتى نالت تقاعداً مبكراً، أما أنا فتوظفت في محطة التلفزيون، وليتني لم أفعلها، فقد وجدت نفسي عقب الاحتلال دون عمل حين ألغى الحاكم المدني الأميركي بريمر وزارة الإعلام، وانتظرت سنتين لأجد وظيفةً أخرى، إلاّ أني سرعان ما تقاعدت منها بعد إضافة خدمتي السابقة بشق الأنفس.
لم أكن أخفي عن بولينا، ونحن في المعهد، تفاصيل علاقتي بسلمان، فكانت تحافظ على أسراري بحرص يفوق حرص أختي الكبيرة برتان، لكنها كانت أقل مني اندفاعاً إلى الحب، متدينة لا تنقطع عن الكنيسة بتأثير من والدها الشمّاس، مشاعرها شفافة ومتزنة، صاحبة قلب كبير ونفس كريمة، تريد الخير للناس ويفيض قلبها بالتسامح والمودة. تزوجتْ في سن الثلاثين من ضابط عسكري برتبة نقيب، وأنجبت منه ولدين وبنت، وأصبح خارج الخدمة مثلي بعد الاحتلال، إثر حل الجيش. وكان ينوي أخذ بولينا وأطفاله إلى سوريا ليطلب اللجوء، لكنه اختُطف قبل موعد خروجه بيوم واحد، وعُثر على جثته مقتولاً. وهكذا ترملت بولينا أولاً ثم لحقت بها أنا لننضمّ إلى الجيش المليوني من النساء الأرامل.
روت لي بولينا حادثة الانفجار التي جُرحت فيها قائلةً إنها كانت في سوق "دوميز" الشعبي، الذي تتسوق منه عادةً، فانفجرت سيارة مفخخةً كانت مركونةً هناك حين مرّ موكب مدير شرطة بلدة أرابخا. ونتج عن الانفجار مقتل شرطي شاب يعمل في حمايته، وجرح أحد عشر شخصاً، بينهم المدير وعدد من الأطفال والنساء... وقبل أن تنهي كلامها قطع جهاز التلفزيون، المثبّت على الجدار في غرفتها، بث أغنية راقصة لهيفاء وهبي، وظهر مذيع القناة المحلية بوجه بشوش ليقول: "... صرّح مصدر مسؤول في شرطة أرابخا، اليوم الأربعاء، أن قوةً من الشرطة قامت بتفكيك واعتقال خلية مسلحة تابعة لـ "دولة العراق الإسلامية" مختصةً بتفخيخ السيارات وتصنيع العبوات الناسفة، فيما تمّت مصادرة كميات من المواد التي تُستخدم في تصنيعها. وقال العقيد في الشرطة أنور محمد، في حديث لقناتنا، إن قوةً من شرطة أرابخا شنّت، مساء أمس الثلاثاء، عملية دهم وتفتيش بمنطقة حي دوميز جنوب أرابخا، وتمكنت من اعتقال ثمانية أشخاص بينهم قياديان في ما يسمى بـ "دولة العراق الإسلامية". وتابع محمد أن امرأةً كانت من ضمن الخلية المعتقلة، مؤكداً أن العملية انتهت من دون وقوع أية خسائر. ولفت العقيد إلى أن التحقيقات مع المعتقلين أوصلت القوات الأمنية إلى معلومات عن دور سكنية احتوت على مواد كيماوية وصواعق وبطاريات تدخل في عملية صنع العبوات وتفخيخ السيارات، وتمت مصادرتها من قبل تلك القوات، كما جرى اعتقال الممول الرئيس للشبكة بحسب قوله.. انتهى التصريح، والآن عودة إلى الفنانة هيفاء وهبي".
تطلعت من الشباك المطل على الكنيسة، وسألت نادية:
- لكم تمنيت أن أتسلق ذلك التل وأدخل إلى الكنيسة.
- لو كنت أعرف لأخذتك معي إلى قدّاس الأحد.
- هل ما زلتِ تواظبين على الذهاب إليها؟
- حدث الانفجار بعد عودتي منها، وقبل ذلك بأسبوعين كان عندنا يوم الصوم الكبير، فحضرت رتبة درب الصليب التي أقامتها أبرشية أرابخا في مزار الكنيسة. تميزت الرتبة بروح الخشوع، والسير خلف الصليب الذي كان يحمله السائرون على خطى يسوع والأجداد ممّن سُفكت دماؤهم على سفح التل. وقد أكد مطراننا أنه سيسعى إلى إقناع الفاتيكان بأن يجعل الكنيسة واحدةً من المعالم الأثرية.
- هل حدثت حرب هنا؟
- ألم تسألي نفسك لماذا يبدو تراب التل أحمر في حين أن لون تراب المنطقة القريبة منها مختلف؟
- صحيح، لماذا؟
- لقد اصطبغتْ بدماء آلاف الضحايا المسيحيين..
- متى حدث ذلك؟
- في منتصف القرن الخامس الميلادي كانت المسيحية مزدهرةً في مدينتنا، وعندما علم الملك الفارسي المجوسي "يزدجرد الثاني" بذلك، جهّز حملةً عسكريةً بقيادة "طهمزكرد" لإجبار أهلها على الإرتداد عن إيمانهم المسيحي والعودة إلى الديانة المجوسية. لكن "طهمزكرد" فشل في تحقيق مهمته فقتل جنده بعضاً منهم بحد السيف، وبعضاً منهم حرقاً بالنار، وآخرين نُشروا، وغيرهم رُجموا، ودسّوا في أعين آخرين وأنوفهم خلاً وخردلاً إلى أن فاضت روحهم. وبلغ عدد الشهداء نحو اثني عشر ألفاً.
بعد هذه المجزرة الرهيبة فتح الرب عيني "طهمزكرد"، فرأى سلالم تتدلى من السماء إلى الأرض يرتقيها جميع الذين قتلهم، والملائكة تأخذ بأيديهم وتصعدهم إلى السماء، وكان الرب واقفاً في أعلاها، وهو يضع الأكاليل المجيدة فوق هاماتهم. وفي الحال طرأ تغيير مفاجئ على عقل "طهمزكرد"، واختلجت في داخله مشاعر الندم، ونبت الإيمان في قلبه، فأوعز إلى منادٍ أن ينادي بأعلى صوته أن قد بُطل الاضطهاد، وأطلقت الحرية للمسيحيين، وتنصّرَ جميع أفراد حملته العسكرية، ثم انطلق إلى الكنيسة ولبس حلة العماد.
عَلِم ملك الفرس بهذه الأحداث بعد بضعة أشهر، فأرسل حملةً عسكريةً أخرى لإعادة القائد المتنصّر وجنوده إلى الديانة المجوسية، إلاّ أن "طهمزكرد" ثبت على إيمانه واستشهد ومعه جميع جنوده على التل، فتحوّل ترابه كما ترين إلى لون أحمر، وبُنيتْ عليه فيما بعد هذه الكنيسة التي سُميتْ بـ "الكنيسة الحمراء".
لم أناقش بولينا حول الواقعة التي روتها والعبارات التي استخدمتها، احتراماً لعقيدتها وإيمانها، رغم قناعتي بأنها ليست أكثر من أسطورة. تمنيت لها الشفاء وغادرت المستشفى قبل حلول المساء.
حين جزتُ البوابة الرئيسة إلى الشارع العام عاد صوت الرجل الذي كلّمني في الهاتف يرنّ في رأسي، وأخذت أتلفت يمنةً ويسرةً لعله يكون موجوداً في مكان ما هناك، "ألا يحتمل أنه أراد اختباري ليتأكد من أنني... لا أدري ماذا أقول، هل هو سلمان حقاً كي يفعل ذلك.. أعني ليتأكد من أنني ما زلت أحبه؟ لا، لا، مستحيل، لو كان سلمان لما تخلّف لحظةً عن المجيء. يا إلهي! حتى لو أن أمراً طارئاً منعه فليس من المعقول أن لا يتصل بي مرةً ثانيةً.. لكن يا لغبائي! كيف أفكر في معقولية أمر هو غير معقول أصلاً؟ أخشى أن يكون أحدهم أراد أن يلعب بأعصابي. لكن الصوت كان صوت سلمان فمن يستطيع تقليده؟
قطع رنين الهاتف حواري مع نفسي وأجفلني، أخرجته من الحقيبة على عجل ورددت دون أن أفكّر في مَن يكون المتصل، فجاءني صوته مشوباً بحشرجة خفيفة:
- حبيبتي أنا آسف جداً..
- حبيبتي!
- تعرضت إلى مشكلة لم أخرج منها إلاّ قبل لحظات..
- هل ما زلتَ مصرّاً على أنك سلمان؟
- ستتأكدين حين نلتقي..
انقطع الاتصال فجأةً بيني وبينه، فعرفت أن رتلاً عسكرياً أميركياً قادماً قد شوّش على الشبكة. أبعدت الهاتف النقال عن أذني وأخذت أصبّ لعناتي على المحتلين الأوغاد. بعد دقيقتين أقبل الرتل، المكوّن من مجموعة عربات همر وكوغر تتقدمها كاسحة ألغام، من الشارع الرئيسي المؤدي إلى السليمانية، متجهاً إلى جسر "النصر". أخفيت الهاتف عن أعين المارينز، الذين كانوا يحدّقون إلى المارة بهلع من خلف نظاراتهم السوداء، وبقيت أنتظر حتى يمرّوا.
عندما اخترق الرتل حي "الشورجة" انتهى التشويش على الشبكة، فجاءني صوت سلمان مرة أخرى:
- حبيبتي، انقطع الاتصال من عندك..
- أعرف.. الأميركان مرّوا من هنا..
- لعنهم الله..
- لماذا تركتني أنتظر؟ كان عليك أن تتصل..
- نورا، كان الأمر خارجاً عن إرادتي.. في طريقي إليك انفجرت عبوة ناسفة في الشارع الذي سلكته سيارة الأجرة، فأوقفتني الشرطة وسألتني عن هويتي، لكني لم أكن أحمل أي أوراق ثبوتية، نسيتها في الدار وأنا في عجلة من أمري. اقتادتني إلى المركز، واستولى الضابط الذي حقق معي على هاتفي، واتهمني بأنني قد أكون إرهابياً، ولم أتخلص من المأزق إلاّ بعد أن حضر أخي هاشم قبل قليل حاملاً هويتي وأوراقاً تثبت عودتي...
- من الموت!
- لا يا نورا..
- من أين إذاً؟
- سأوضح لك الأمر حين نلتقي.
- يا لتعاستي.. في داخلي مرجل يغلي.. لا أدري إن كان من الفرح أم من الصدمة.
- أين انتِ الآن؟
- يئست من حضورك فزرت صديقتي بولينا في المستشفى..
- بولينا؟ أتذكر هذا الاسم، ألم تكن صديقتك في المعهد؟
فاجأني سؤاله فقلت لنفسي "يا إلهي، ما دام يعرف بولينا فهو سلمان بالفعل"، ثم أجبته:
- نعم هي.. يبدو أن ذاكرتك ما زالت حيةً حبيبي!
لا أدري كيف فلتت كلمة "حبيبي" من لساني، منذ سنوات طويلة وأنا أتمنى أن ألفظها، كنت قد قطعت عهداً على نفسي ألاّ أقولها لرجل آخر غير سلمان، وكثيراً ما عاتبني زوجي لأنني لم أقلها له.
قال سلمان بنبرة شابها الحبور:
- كنت أمرّنها هناك على عدم النسيان..
- أين هناك؟
- لا تتعجلي، ستعرفين كلّ شيء.. في أي مستشفى أنتِ؟
- مستشفى صدام سابقاً. أنا أمام البوابة الخارجية.. لكن انتظر، هل ستعرفني إن رأيتني؟
- فلورنتينو أريثا لم ينس شكل فيرمينا أديثا بعد خمسين عاماً!
- يا إلهي! ما زلتَ مأخوذاً بماركيز؟
- لولاه لما عرفت الشيء الأجمل في الحياة، الحب.
- حبيبي.. هل ستأتي بمفردك؟
- لا، سيوصلني أخي هاشم بسيارته.
- يا إلهي! هل حدثك عما جرى لي في غيابك؟
- كان قلبي يحدثني عن كل شيء.
- ما لون سيارة هاشم؟
- خمري يشبه الروج الذي كنت تفضلينه.
- ياه! حتى هذا تتذكره؟
- كيف أنساه وطعمه لا يزال في فمي؟
- حبيبي ابقَ معي على الخط إذاً.. صوتك يجدد الأمل في نفسي، يعيدني إلى البداية..
- حقاً؟
- هل تشكّ يا حبة قلبي؟
- قوليها مرةً أخرى.
- يا حبة قلبي، يا حبة قلبي، يا حبة قلبي...
- يا الله، كم افتقدت هذه العبارة الشعرية في العالم الوضيع الذي عشته..
- هل عالم الموت وضيع إلى هذه الدرجة؟
- لولا حبك لما استطعت تحمّل الأمكنة الرهيبة التي ساقوني إليها. كنتِ وحدك البلسم الذي يمنحني قوةً غامرةً، تحملين لي السكينة فتزداد مقاومتي لهم. إني أدين لك بالبقاء يا نورا، وأشعر الآن بأنني انبعثت من جديد خصيصاً من أجلك.
- كنتَ تقاوم منْ؟
- كلاب وذئاب وضباع وسفلة..
صوفيا
لم أفطن إلى علاقة أمي السابقة بسلمان البدر إلاّ بعد وفاة أبي. قبل ذلك كانت تحدث نزاعات عاصفة بين والديّ من حين إلى آخر، مرةً أو مرتين في الشهر، لكني كنت أتجنب معرفة أسبابها الحقيقية خجلاً من أن تكون لها صلة بحياتهما الزوجية. في المرة الأخيرة، وكانت قبل رحيله بثلاثة أسابيع تقريباً، احتدّ أبي كثيراً وهدّد بأنه سيحطّم الصندوق الذي تخفي فيه أشياء خاصةً. حينئذ اعتقدت بأن خلافاتهما ليس سببها نوع من الفتور في علاقتهما، بل فضول أبي لمعرفة أسرار أمي المدفونة في ذلك الصندوق (كانت قد أودعته قبل زفافها عند خالتها ألماس، ثم استعادته منها بعد خمسة عشر عاماً). فيما بعد انتقل هذا الفضول إليّ أيضاً، فشرعت أتحيّن الفرص لمعرفة المكان الذي تخبئ فيه مفتاح الصندوق. أنا طبعاً لم أُظهِر أمامها أي اهتمام به- أقصد الصندوق- لأنها كانت ستشكّ، وتحرص أكثر على إخفاء مفتاحه في مكان يصعب عليّ إيجاده.
في البداية ظننت أنها تخزّن فيه بعض المصوغات الذهبية، كما تفعل نساء كثيرات، لكن رغم ذلك صارت تنمو في داخلي رغبة ملحة في أن أعرف ما بداخله، وأخذت أراقب كل حركات أمي في البيت إلى أن وقعت ذات يوم على المكان الذي تخبئ فيه المفتاح، فانتهزت فرصة خروجها إلى السوق والتقطته، فماذا وجدت في الصندوق الذي أرّق أبي طوال ست سنين؟ وجدت خمسة صور لشاب وسيم يشبه أبطال بعض المسلسلات التركية، دوّن على ظهورها إهداءات شاعريةً موقعةً باسم سلمان البدر، وعشر رسائل غرامية كتبها لها في أوقات مختلفة. قرأتها على عجل فإذا بها تقطر عشقاً ولوعةً يمتزج فيهما الوله الرومانسي والحسي، وتنطوي على إشارات غامضة إلى لقاءات سرية جرت بينهما، وهيامه بعبق الأناناس الذي يتضوّع به جسدها، وينتهي أغلبها بوعود صارمة وقاطعة بالزواج. لم أفهم أول الأمر معنى "عبق الأناناس"، تصورته رائحة نوع من أنواع العطور المستخلص من هذه الفاكهة، لكني صُدمت حين قرأت عنه في الانترنت... فقلت لنفسي "أمي كانت تفعل ذلك في شبابها؟ لماذا إذاً تحشو رأسي دائماً بالممنوعات، وتحذرني من الاختلاء بأي شاب مهما كان شكل العلاقة التي تربطني به؟".
وهكذا صار اطلاعي على سر أمي يشغلني، وغدوت فريسةً لأسئلة لا تنتهي، ولا أجرؤ على توجيهها لها: "كيف انتهت علاقتها المجنونة بسلمان البدر؟ ما الذي حال دون زواجهما؟ هل كان جدي أم جدتي أم أخوالي هم السبب؟ أيعقل أنه تخلى عنها وأحب فتاةً أخرى؟ مستحيل! لو حدث ذلك لما احتفظت بصوره ورسائله طوال أكثر من عشرين سنة. هل مات؟ استشهد في الحرب أو قُتل في حادث ما؟". ثم بات يؤرقني أمر آخر: أبي المسكين، لماذا قبلته أمي زوجاً بينما قلبها متعلق بشخص آخر؟ مذ وعيت على نفسي وأنا أشعر بأنها لا تحس معه بسعادة. لم أسمعها تخاطبه بكلمة حلوة ذات مغزى عاطفي، أو لها وقع حسن في نفسه، أو تسأله عن أكلة محببة، أو تشعره بأنه مهم لديها، أو تستقبله بالترحاب والبشاشة وهو عائد من العمل، أو تهتم بهندامه ومظهره إذا خرج من البيت لمقابلة أصدقائه. ولم أرها في يوم من الأيام تتزيّن له، أو تطلب منه أن يصطحبها إلى مطعم لتناول العشاء. كانت تقضي أغلب وقتها في إنجاز أعمال البيت والقراءة، خاصةً كتب ماركيز، المأخوذة بها إلى درجة أنها كانت تعيد قراءة الكتاب الواحد ثلاث أو أربع مرات، وكثيراً ما كنت أجدها، حين أعود من المدرسة، غافيةً على سريرها وقد غطت وجهها بكتاب مفتوح من تلك الكتب. وبتأثير منها صرت مولعةً بها أيضاً. سألتها أول مرة وأنا في الصف الرابع الثانوي عمن أرشدها إلى ماركيز، فترددت برهةً وألقت نظرةً على غلاف الرواية التي كانت تمسك بها، وقالت:
- أحد معارفي.. كان شغوفاً به على نحو جنوني، ويحلم بأن يكتب روايةً على غرار رواياته..
- كان هذا منذ زمن طويل، ولابد أنه كتبها فيما بعد.
قالت بنبرة تخفي حسرةً دفينةً:
- ليته كتبها.
تظاهرت بأنني أسمع به أول مرة وسألتها:
- هل أستطيع أن أعرف اسمه؟
قالت بعد تردد:
- سلمان البدر.
ثم أطرقت رأسها وأسبلت عينيها للحظات، وحين فتحتهما كانتا مخضلتين بالدموع، أو هكذا بدتا لي عندما أبصرت لمعاناً مفاجئاً يغشاهما. قلت:
- آسفة ماما.
حدّقت إلى وجهي وقالت:
- لا أدري.. لم ألتقه بعد التخرج.
- ربما كتبها باللغة الإسبانية أيضاً، ورحل إلى مدريد لينشرها هناك ولم يعد..
أشاحت بوجهها، الذي اكتسى فجأةً بغلالة حزن، إلى جهة المكتبة ولم تنبس بكلمة. أردت أن أسألها إن كانت على علاقة قديمة به، لكنني خفت.
غدوت بعد ذلك الحديث مع أمي أنافسها في حب ماركيز، ولا أفوّت كتاباً من كتبه، واكتشفت أن اسمي مأخوذ من اسم "سانتا صوفيا بيدال" إحدى شخصياته التي تزوجها "أركاديو بوينديا"، وأنجب منها "ريميديوس" الجميلة في رواية "مائة عام من العزلة". وكان ذلك حافزاً آخر لي كي أبحث عن كل ما يتعلق به، بالعربية أو بالإنجليزية التي هيأت نفسي مبكراً للتخصص فيها. وذات يوم قبل أربع سنوات فوجئت بصدور رواية جديدة له، قرأت الخبر في موقع إنجليزي ونقلته إلى أمي، فسألتني بفرحة غامرة:
- متى سيترجمونها؟
قلت:
- انتظري، بعد سنة أو سنتين، وإذا حالفني الحظ سأقرؤها قبلك بالإنجليزية.
- من يجلبها لك من أميركا؟.. الأميركان لا يجلبون لنا سوى الدمار والفوضى..
- يا ماما ربما يتغير الوضع..
- تفو عليهم.. لا ضمير عندهم ولا وجدان. بماذا أفادونا من ثقافتهم وعلمهم منذ احتلالهم لبلدنا؟ لو كانوا حريصين علينا لجلبوا لنا محطات كهرباء وتنقية مياه، وأدوية لمعالجة الناس من جراثيم قنابلهم، وعوضونا عن سنوات الحرمان. لا تتفاءلي يا صوفيا، هؤلاء يحملون معهم كوارث لا تحصى، ويزعمون إنهم جاؤوا ليحررونا من الدكتاتورية، ويجعلوا من بلدنا واحةً للديمقراطية...
- الله ينتقم منهم.
- اسمعي كلامي ولا تدرسي لغتهم.. إذا كنتِ مصرةً على دراسة اللغات فأمامك الإسبانية أو التركية.
- تريدينني أن أذهب إلى بغداد!؟
- لا، لا طبعاً. أقصد ربما يفتحون كليّةً للغات في أرابخا.
- لكني أحب اللغة الإنجليزية ومتفوقة فيها.
- صدقيني الإسبانية أفضل، هناك قارة كاملة تتحدث بها.
- الإنجليزية أكثر انتشاراً، وإذا نلت الشهادة سأصبح مدرسةً في الأقل.
- أنت حرة.
بعد فترة قصيرة علمت أن الرواية مترجمة إلى العربية أيضاً ومنشورة منذ عدة أشهر، فكان ذلك بالنسبة إلى أمي مثار غبطة لا توصف، وفي الوقت نفسه وجدتَها فرصةً لتهاجم اللغة الإنجليزية:
- أرأيتِ؟ سأقرؤها قبلك. ها قد ترجموها إلى العربية ولم يمر عام على صدورها بالإسبانية، فلا تظلي مخدوعةً بلغة بوش.
قبل شهرين عثرت مصادفةً على صورة سلمان البدر تحت وسادة أمي، سألتها عنها فقالت بشيء من الارتباك إنها صورة الشاب الذي أرشدها إلى كتب ماركيز، فواتتني الجرأة هذه المرة وسألتها عن السبب الذي يجعلها تحتفظ بها، تعكّر وجهها الهادئ بنوع من الاضطراب، وأخذت سيجارةً وسحبت منها نفساً وقالت:
- لا شيء.. أحتفظ بها لأني أدين له بالعرفان فقط، ألا تدينين أنت بالعرفان لأساتذتك؟
- بلى.
وأرادت أن تغير الموضوع فقالت:
- السنة المقبلة ستتخرجين إن شاء الله ويتحسن وضعنا المالي. أبوك لم يترك لنا إلاّ قليلاً من النقود.
- ألن تحاولي استحصال راتب تقاعدي له؟
- سأحاول طبعاً. بريمر الخرا كان السبب، لو لم يقدِم على فعلته الخسيسة لكنا الآن في وضع أفضل.
- ماما أنت تستخدمين لفظةً يستخدمها ماركيز كثيراً!
- حذاؤه أشرف من بريمر.
- هل تعرفين أنه أصدر كتاباً يقول فيه إنه جاء متطوعاً؟
- لا أريد أن أعرف، خرا عليه وعلى من أرسله.
في الصيف الماضي اكتشفت أن ماركيز مغرم مثلي بالمغنية شاكيرا، ويعدّها هديةً من الله إلى الجنس البشري. وقد أثنى عليها في إحدى كتاباته قائلاً إنها "بوجهها الشاب الرائع وهشاشتها الخادعة، كانت واثقة تماماً من أنها ستصبح شخصيةً معروفةً ذات شهرة واسعة. لا أحد في وسعه أن يغني ويرقص مثلها، إذ تبدو وكأن هذه الأحاسيس البريئة من اكتشافها هي وحدها. إنها اختراع كولومبيا الأبرز، وهي النموذج الأمثل لقوة أرضية في خدمة السحر". أما هي فقد عدّته بالمقابل مايسترو كلماتٍ وفيلسوفاً كبيراً، وإذا ما قرأت له واحدةً من قصصه فإنها لن تجرؤ على كتابة شيء آخر.
ما أروعك أيها الكولومبي الجميل! هل ألوم أمي وسلمان البدر على ولعهما بك؟ لقد انتقلت العدوى منهما إليّ وإلى رجل حياتي، الذي ينبغي أن أحكي عنه الآن: اسمه فادي ميخائيل، شاب طويل القامة، عيناه بلون شراب التمر الهندي، ووجهه القمحي مشرق على الدوام، يحلو لي أحياناً تشبيهه بـ "موريشيو" الذي أحبته "ميم" في "مائة عام من العزلة"، فيضحك قائلاً "لكنني لست ميكانيكياً مثله يا سانتا صوفيا بيدال". وهو الابن الأوسط في أسرته، والده معاق حرب وأمه مديرة مدرسة. تخطينا أنا وإياه سنتنا الأولى في كلية التربية بدرجات عالية، رغم أنه غير متفرغ للدراسة مثلي، فهو يذهب يومياً، بعد انتهاء المحاضرات، لمساعدة أخيه الأكبر في بيع الأدوات الكهربائية المنزلية وتركيبها.
افتتن بي فادي وأسرى في قلبي حمى الحب (يسميها هو شحنة الحب طبقاً لمصطلحاته الكهربائية) بعد مرور أيام قليلة من بدء حياتنا الجامعية، لكنني أخفيت الأمر عن أمي طوال علاقتي به لأنه مسيحي. أنتظره كلّ صباح أسفل درج القلعة الغربي، فيأتي بسيارته الأوبل الزرقاء، ونقطع جسر "الطبقجلي" إلى شارع المجيدية، ومنه إلى مبنى الكلية في حي "غرناطة". أما في طريق العودة فيوصلني إلى رأس جسر "الشهداء"، الذي تحوّل في السنوات الأخيرة، بعد منع مرور السيارات عليه، إلى سوق شعبي صاخب، تملأه العربات المحملة بملابس الأطفال الصينية والإيرانية، وأدوات المكياج والعطور الرخيصة، والأحذية البلاستيكية والجلدية والحقائب النسائية. أقطع هذا الجسر مشياً من جهة مصرف الرافدين، وفي أغلب الأحيان أتدافع مع المتبضعين والمتبضعات لأجد لي طريقاً أسلكه، ثم أعرج إلى سوق الدجاج لأرتقي درجات القلعة. أما فادي فيمضي إلى محل أخيه في شارع أطلس ليباشر عمله مع الأسلاك والثريات والمصابيح والمقابس، وهو لا يدري إن كان يومه سيمضي بأمان أو سيشهد كارثةً من الكوارث المحتملة في أية لحظة: انفجار سيارة مفخخة أو قنبلة أو عبوة ناسفة. في بداية العام الحالي انفجرت مفخخة يقودها انتحاري على مسافة ليست بعيدة عن محله، فهشمت قوة الانفجار زجاج الواجهة والمصابيح المعروضة فيها، وجُرح هو في يده، وفي المكان الذي حدث فيه الانفجار تطايرت أشلاء عشرات الناس. وقبل ثلاثة أسابيع ألقى إرهابي، يقود دراجةً ناريةً، قنبلةً على مخزن لبيع المشروبات الروحية، لا يبعد عنه سوى عشرات الأمتار، فتمزق صاحبه إلى أشلاء متفحمة، واختلطت كحول القناني المحطمة في المخزن، وسالت على الرصيف في كوكتيل فريد من نوعه، وتضرر محل رجل حياتي مرةً أخرى.
اخترت، أول ما اخترت، من روايات ماركيز "مائة عام من العزلة"، وأعرتها لفادي كي يقرأها، وكان اهتمامه محصوراً بديكنز وفورستر وكونراد، وغيرهم من الكتّاب الإنجليز، ولا يعرف شيئاً عن أدب أميركا اللاتينية، رغم أنه أخبرني بأن عمه المهاجر إلى البرازيل كان مهتماً بهذا الأدب، خاصةً كتب ماركيز، التي ما زالت محفوظةً في بيت جدته. باشر فادي في قراءة الرواية خلال عطلة نهاية أحد الأسابيع، وجاءني صباح الأحد مبهوراً من خوارقها وغرائبها، راسماً على ورقة شجرةً للسلالة التي تتكرر أسماء أجيالها جيلاً بعد جيل، ومدوناً فيها بعضاً من تلك الخوارق.
فرهاد
على مائدة الطعام رويت لمراد رحلة العذاب الخطرة التي أوصلتني إلى السويد:
"خرجنا أنا وزوجتي أينور من كردستان إلى تركيا بشق الأنفس. مكثت في اسطنبول أربعة أعوام وسبعة أشهر في انتظار موافقة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على طلب لجوئي، لكن انتظاري القاتل لم يأت بنتيجة، فلجأت أخيراً إلى عصابة تهريب البشر مقابل خمسة آلاف دولار. حملني قارب خشبي قديم صيف عام 1996 عبر بحر إيجه إلى جزيرة ثاسوس اليونانية. كانت سعته لا تتجاوز عشرين شخصاً، في حين أن المهربين الأوغاد حشروا فيه ما يزيد عن الثلاثين، معظمهم من الباكستانيين، وكنت العراقي الوحيد بينهم. قالوا لنا إنهم سيلقون بنا في الليل على أحد سواحل الجزيرة، وعلينا بعد ذلك أن نتدبّر أمرنا! وكما لو أننا ذاهبون في رحلة سياحية حدثنا مساعد قائد القارب عن تاريخ الجزيرة وميزاتها قائلاً: "سميت الجزيرة على اسم الأمير ثاسوس ابن الملك الفينيقي أجينور ملك صور، الذي خطف ابنته الأميرة أوروبا كبير آلهة الإغريق زيوس وتزوجها وأسكنها في جزيرة كريت. جاء إليها ثاسوس أول مرة في القرن السادس قبل الميلاد مرسلاً من أبيه الملك بحثاً عن أخته المخطوفة، لكنه لم يعثر عليها. تشتهر الجزيرة بالجبال وغابات التنوب والصنوبر ومناجم الذهب والنبيذ والمكسرات والرخام والنساء الجميلات. ولا أخفيكم سراً أنها من الجزر القليلة في اليونان التي توجد فيها بلاجات للتعري، أي كما نقول نحن "زلط ملط، ربي كما خلقتني". وكان نبيذها في العصور القديمة من الشهرة إلى درجة أن جميع القطع النقدية فيها تحمل صورة إله الخمر ديونيسوس على جانب، وعناقيد العنب على الجانب الآخر. أما الآن فإن اسمها المعروف بشكل غير رسمي هو "ليميناس"، وتبعد نحو سبعة كيلومترات عن البر الرئيسي لليونان...". وختم حديثه بكذبة لم تنطل على أحد من ركاب القارب: "اليونان بلد كريم، ستحتجزكم شرطته بعض الوقت، عليكم أن تتحملوا، لكنكم في النهاية ستحصلون على حق اللجوء، وبعد بضع سنوات ستصبحون مواطنين، وإذا لم تعجبكم فبإمكانكم أن تطلبوا توطينكم في أي بلد أوروبي، وهناك ستجدون أنفسكم في جنات عدن... أتمنى لكم حظاً سعيداً". وجاء الحظ السعيد أسرع مما كنا نتوقع: ارتطم القارب بصخرة كبيرة على مقربة من الساحل الشرقي للجزيرة وتحطم، ولم ينج من ركابه سواي أنا وقائد القارب ومساعده وعدد قليل ممن يجيدون السباحة، أما الباقون فقد ابتلعهم البحر.
بعدما تسلقنا الصخور إلى البر أمسك إثنان من الباكستانيين بقائد القارب "تاركان" وأتخماه ضرباً، ثم انتزعا منه النقود التي يحملها ووزعاها بالتساوي على الناجين، أما مساعده تيمور ففرّ مذعوراً صوب إحدى غابات الصنوبر. بعدئذ تفرّقنا إلى أربع جماعات، كل واحدة تتكون من ثلاثة أشخاص، كي لا يُكتشف أمرنا، وسلكنا اتجاهات مختلفةً.
سرت أنا ورفيقاي مرجان وأسد الله باتجاه جبل تكسو ثلثيه من الأسفل أشجار داكنة الخضرة، فيبدو من بعيد أشبه بفتاة سمينة عارية الصدر، ترتدي تنورة مزركشة. لا تستغرب.. ثمة جبال تشبه الحيوانات وأخرى تشبه البشر، في إندونيسيا جبل يشبه المرأة الحامل المستلقية على ظهرها، وفي قرغيزيا جبل يجثم على ساحل البحر له شكل كلب، والصيادون اعتادوا أن يجعلوه علامةً ثابتةً، خوفاً من أن يتيهوا في أعماق البحر. وعلى الحدود بين عُمان والإمارات يوجد جبل اسمه "حفيت" يشبه الحوت. فيما بعد عرفت أن جبل ثاسوس الذي يرتدي تنورةً اسمه "إبساريو"، وكانت في داخلي رغبة شديدة في أن أتسلقه، وأنام على قمته حتى الصباح لأكتشف عالم الجزيرة، وأختار المكان الذي أتجه إليه. كان الأمر بالنسبة إليّ سهلاً، رغم القلق والتعب، فقد تسلقت جبل "أزمر" الذي يحتضن السليمانية أكثر من مرة، وأيام العسكرية كما تذكُر كنا نهبط ونتسلق الجبال كالبغال، لكن رفيقيّ كانا أكبر مني سنّاً ولم يجربا تلك الرياضة طوال حياتهما.
سلكنا طريقاً ميسميةً متعرجةً على طرف غابة الصنوبر التي قصدها تيمور، وأتاح لنا ضوء القمر أن نسير بخطى سريعة، دون أن نعرف إلى أين ستقودنا تلك الطريق. كنت أتقدم رفيقيّ وفي داخلي أمنية أن نجد تيمور أمامنا ليكون دليلنا، لكننا لم نقع له على أثر، اختفى مثل فص ملح ذاب.
عند منتصف الليل انتهت بنا الطريق إلى منحدر يفضي إلى وادٍ فسيح، ومن بعيد تراءت لنا أضواء تتلألأ لقرية كبيرة تبدو على شكل هلال، فأدركت أنها تقع بين هضبتين. قطعنا ذلك الوادي ووصلنا إلى القرية بعد ساعتين، لم نتوقف خلالها إلاّ مرتين لأخذ قسط من الراحة. كان مرجان وأسد الله يجيدان قليلاً من العربية الفصحى، ويحفظان الكثير من القرآن، فأخذا طوال الطريق يتلوان بالتناوب آية الكرسي والآيات الطاردة للشياطين والعفاريت، بينما كنت أنا أستحضر تارةً وجوه الذين غرقوا في البحر، وتارةً وجوه زوجتي وطفليّ أيهان ومريوان الذين تركتهم في شقة حقيرة بحي "قاسم باشا"، أفقر أحياء الشطر الأوروبي من اسطنبول..."
قاطعني مراد قائلاً:
- يبدو أن زوجتك هي التي اختارت اسم البنت، وأنت اخترت اسم الولد.
- صحيح، أردناها قسمةً عادلةًَ..
- هل كنت تجرؤ على تركهم في ذلك المكان لو لم تكن أينور تركمانيةً؟
- لا طبعاً، كانت تتحدث مع جيراننا في ذلك الحي وكأنها واحدة منهم.
- أرأيت؟
- ماذا؟
- عليك أن تنتزع من رأسك ما يفرّق الآن بينك وبينها..
- أهلها هم السبب.. أنا أحبها ولا أستطيع الاستغناء عنها.
- يا رجل! الحب أسمى من السياسة ألف مرّة.
- تلقي اللوم عليّ وكأني أنا الذي هجرتها. لقد عانيت كثيراً من أجلها، كانت تحلم بالعيش في أوروبا، فخاطرت كي أحقق لها حلمها.. دعني أكمل لك مغامرة رحلتي لتعرف مدى ما قاسيته من أجلها:
"حين بلغنا القرية كان الإنهاك قد نال من أجسادنا، وبسط النعاس نفوذه علينا، فلجأنا إلى طرف مزرعة مسيّجة بأجمة سرخس تحجبنا عن الشارع. اعتقدنا أن ذلك المكان هو أفضل مكان يمكن أن نأوي إليه حتى ينبلج الصبح فنقرر ماذا نفعل. افترشنا أرضاً معشوشبةً واستسلمنا لسلطان النوم، لكن الصباح كان، على العكس مما توقعناه، يحمل لنا فألاً سيئاً، فقبل أن توقظنا أشعة الشمس أيقظتنا هراوات الشرطة. لم نعرف من الذي أبلغ عنا، ربما كان صاحب البستان، أو شخص آخر رآنا من نافذة بيته نجتاز الأجمة. كبّلت الشرطة أيدينا وقادتنا إلى مركز احتجاز مغلق خاص بالمهاجرين غير الشرعيين، فوجدنا هناك عشرات المحتجزين من جنسيات مختلفة، وما كاد النهار ينتصف حتى انضم إلينا رفاقنا التسعة الناجين من الغرق، وكان ستة منهم باكستانيين وثلاثة إيرانيين.
قضيت في ذلك المركز أحد عشر شهراً، وقد ادعيت بأنني هربت من بلدي لأن الإسلاميين أرادوا قتلي بسبب تحولي إلى المسيحية، ثم نقلوني إلى مركز احتجاز مفتوح في مدينة كافالا على رأس خليج يُسمى باسمها، تبعد بضعة كيلو مترات عن جزيرة ثاسوس، وكان يُسمح فيه للمهاجر غير الشرعي بالدخول والخروج والعيش بحرية نوعاً ما. تعرّفت في ذلك المكان على أربعة عراقيين فأصبحنا أصدقاء لا نفترق، أحدهم كان مثلي يحمل شهادةً في الفلسفة، ويعشق الفيلسوف جيل دولوز مثلما كان سلمان يعشق ماركيز، وقد وصل إلى اليونان بعد ثلاث محاولات فاشلة كاد يغرق في اثنين منها، لكنه كان متفائلاً أكثر من الجميع، وذا جَلَد نادر. حين سألته: "كيف لم تتعظ من تلك التجارب الخطرة الفاشلة؟" قال: "أنْ أموت غرقاً في البحر أفضل من أن أحيا مقهوراً فى وطني". وما زال هذا الصديق الرائع يتواصل معي من نيوزلندا على الإنترنت، ويكتب لي عن إشكاليات السلطة والمجتمع والرغبة، واصفاً دولوزه بأنه "نسمة الهواء" الفلسفية الأقوى في النصف الثاني من القرن العشرين، ومفضّلاً إياه على تربه الفيلسوف ميشيل فوكو.
أتيحت لي في ذلك المركز أول فرصة للاتصال بزوجتي، بعد سنة من انقطاع أخباري عنها، فشهقت من الفرحة، وكاد يغمى عليها. يا إلهي، كانت لحظةً عصيبةً يصعب عليّ الآن وصفها. قالت لي إنها كانت يائسةً تماماً، معتقدةً أنني غرقت في البحر أو قُتلت في حادثة ما، وقد بحثت كثيراً عن المهربين الذين تولوا تهريبي فلم تجد أحداً منهم، ثم أبلغت السلطات التركية والصليب الأحمر ومفوضية اللاجئين عن اختفائي، وكان ذلك، من حسن حظي، هو الأمر الذي عجّل في قبولي لاجئاً وتوطيني في السويد، حيث جرى ترحيلي عقب تسعة أشهر، فأقمت في مدينة مالمو، في حين مكث أصدقائي في المركز أكثر من سنتين. هذا ما جرى لي، أما زوجتي فكانت معاناتها قاسيةً ومزدوجةً: قلقها المدمّر عليّ من جهة، ونفاد كل مدّخراتها من جهة أخرى. لقد عاشت وضعاً نفسياً ومعيشياً صعباً جداً إلى أن عملت غاسلة صحون في أحد المطاعم الصغيرة. وكانت تأخذ معها فضلات الطعام لأيهان ومريوان، اللذين تتركهما في رعاية جارة طيبة مقابل قليل من المال. تصور أنها استنجدت بأهلها أكثر من مرة ليساعدوها، فلم يحولوا لها إلاّ مبلغاً بخساً، كانوا يتحججون دائماً بأن وضعهم سيئ بسبب الحصار، والآن يبدون حرصاً مفتعلاً عليها، ويحاولون تطليقها مني.
لم يكن أمر التحاقها إليّ سهلاً بعد حصولي على الإقامة في السويد، فالإجراءات التي تتبعها مفوضية اللاجئين معقدة ومقرفة، ولذا كان عليها أن تتحمل شهوراً أخرى من الانتظار. لكني استطعت أن أخفف من معاناتها المعيشية إثر حصولي على عمل في متجر يملكه أحد أقاربي، فتركَتْ مهنة غسل الصحون.
من أغرب الصدف التي مررت بها في مالمو أنني التقيت باهر الكناني، هل تتذكره؟ الشاعر الذي عرفّنا إليه سلمان في "راوندوز" أيام العسكرية. جاء لاجئاً من عمّان بعدي ببضعة أشهر فانضمّ إلى نفس المدرسة التي كنت أتعلم فيها اللغة السويدية. يومها بدا لي أشبه بكاهن سومري، أطلق شعره مثل الهيبز كأنه أراد أن ينتقم من السنين التي كانوا يعاقبونها فيها بحلاقة رأسه نمرة صفر. كانت لقاءاتي به لا تتعدى الفرص القصيرة خلال ساعات الدراسة، فأنا أقضي بعد ذلك أغلب وقتي في العمل، أما هو فكان يغلق باب بيته، ولا يلتقي أحداً سوى صديق واحد أو اثنين من أصدقائه الكتّاب العراقيين، محاولاً التخلص من ماضيه المؤلم. وفي السنوات اللاحقة صرت أراه في أوقات متباعدة برفقة صديقته وهو يتأبط كيساً معبأً بعلب البيرة وقارورة عرق "أوزو".
- هل سألك عن سلمان؟
- أنا أخبرته فحزن كثيراً، كان يعتقد بأنه أُسِر في إحدى معارك احتلال الفاو أو فرّ إلى الخارج، وفي اليوم التالي كتب عنه مرثيةً يقول فيها:
"أيها الموت خذ الدكتاتور وأعد لي سلمان البدر
خذ سماسرة الحرب كلّهم بلا استثناء
خذ نياشينهم، وأطيانهم، ومزارعهم، وسياراتهم الفارهة
وإن شئت خذ معهم أيضاً شعراءها
فهؤلاء ليسوا أقل سوءاً منهم
كان صديقي أعذب من قصائدهم المنافقة
وأرقّ من بدلاتهم المستوردة وربطاتهم الحريرية
أيها الموت كن جنتلماناً مرةً واحدةً وحقق لي أمنيتي
لا أريد شيئاً أكثر من أن تعيد عاشقاً وحالماً إلى الحياة
لعله يبهجنا مثل ماركيز بمائة عام أخرى من العزلة،
وخريفاً آخر للبطريرك، ومأتم أم عراقية كبيرة".
تغيرت تقاطيع وجه مراد فجأةًً، وقال بنبرة خافتة كما لو أنه يحدّث نفسه:
- يا له من شاعر راءٍ.. تُرى هل استجاب الموت لدعوته بالفعل فأعاد سلمان إلى الحياة؟
- ماذا؟ هل جننت أنت أيضاً مثل نورهان؟
- ألم تقل إنه بدا لك أشبه بكاهن سومري؟
- قلت بدا لي ولم أقل إنه أصبح كاهناً بالفعل.
نهضت عن المائدة وذهبت إلى المغسل. وبينما كنت أتمضمض تطلعت من النافذة الزجاجية الكبيرة فأبصرت الشمس وهي تجنح إلى الغروب، وأخذت أفكّر فيما جرى للناس في البلد من تغيّر صوب الأسوأ، "يبدو أن الكوارث التي عاشوها جعلت عقولهم تجنح إلى الغروب أيضاً، من كان يتصور أن مراد، الحسي العقلاني شبه الملحد، سيؤمن في يوم من الأيام بهذه الخزعبلات؟"
حين عدت إلى الصالة بادرني قائلاً:
- لن أرتاح إلاّ حين أتأكد.. دعنا نذهب إلى بيت نورهان.
- هل أنت جاد يا مراد؟ ألم تقل إنك تتبعتها فلم تلحظ أثراً لها ولا للرجل الذي انتحل شخصية سلمان؟
- قصيدة الكناني أدارت رأسي وجعلتني أشكّك في قناعاتي العقلية.
- لم أكن أتصور أنك هش إلى هذه الدرجة.
همهم مراد بضع كلمات لم أسمعها جيداً، لكني فهمت منها أنه لا يبالي بما قلته، ومضى إلى المغسل. عاد بعد دقائق قليلة حاملاً صينية شاي ووقف أمامي، أخذت استكانةً ووضعتها على الطاولة. قال دون أن يتزحزح عن مكانه:
- قل عني ما تشاء، لكن القصيدة تذكرني بقصة النبي عزير التي رواها السائق..
- أي سائق؟
- سائق سيارة الأجرة الذي أوصل الجثة إلى أهل سلمان.
- وما علاقة قصة عزير بسلمان والقصيدة؟
- كلاهما تتحدث عن عودة الميت إلى الحياة.
قلت له بهدوء وأنا أبتسم:
- توارد خواطر ليس إلاّ.
تراجع إلى الخلف وجلس قبالتي. حرّك الملعقة الصغيرة داخل استكانة شايه وشفط منها جرعةً. أراد أن يقول شيئاً لكنه تردد، وأخذ ينكش شعره. مرت لحظات وأنا أراقب حركة أصابعه، شاعراً بأن ثمة سراً في رأسه يحاول أن يبوح به، وبعد قليل عقد العزم وتساءل:
- إن كان الأمر توارد خواطر فكيف تفسر اختفاء جثة سلمان؟
- ما بك مراد؟ لقد بدأت تهلوس.. متى اختفت جثة سلمان؟ ألم تسلمها لأهله بنفسك؟
- لم تكن جثة سلمان؟
- جثة مَن إذاً؟
- استخرجناها أنا والسائق من مقبرة في الكوت.
أذهلني اعترافه فسألته:
- وجثة سلمان ماذا فعلتما بها؟
- اختفت..
- مراد أنت بدأت تخلط بين الحلم والواقع!..
- في هذه المسألة بالذات لا.. أقصد أن الجثة اختفت بالفعل..
- مستحيل..
- لا تتسرع يا صديقي، في الطريق فلت التابوت وتحطم، فوضعنا الجثة في السيارة وذهبنا إلى مستشفى الكوت العسكري لنأتي بتابوت آخر، لكننا حين رجعنا إلى السيارة فوجئنا باختفائها..
ازددت استغراباً فقلت:
- كيف اختفت؟ نبت لها جناحان وطارت؟
هزّ كتفيه قائلاً:
- من يدري؟ ربما سُرقت، أو سحبتها الملائكة إلى السماء؟
- هل أنت عاقل يا مراد؟ أكان سلمان مسيحاً جديداً وأنا لا أدري؟ ما هذه الترهات؟
مدّ رقبته إلى الأمام وقال:
- إذا كانت جثته قد اختفت فلِمَ لا يمكن أن يعود؟
- هذا أمر مستحيل.. والأقرب إلى العقل أن أحداً ما سرق الجثة لنفس الغرض الذي دفعكما إلى سرقة الجثة من القبر.
- وقصة النبي عزير وقصيدة الكناني؟
- قلت لك توارد خواطر ليس إلاّ.
نظر إلى ساعة يده وقال بحزم:
- دعنا إذاً نذهب إلى بيت نورهان لنقطع الشك باليقين.
- ألا تعرف رقم هاتفها؟
- كلاّ.
ألماس
أنا الآن في الثالثة والستين من عمري، لكن من يراني يتصورني في الخمسين، رغم أنني لم أهنأ كما ينبغي أن تهنأ به كل امرأة، أعني أن تأخذ حقها من الحياة. هل أهدرت إذاً حياتي هباءً بسبب مثاليتي؟ ربما نعم وربما لا، فلكل إنسان ما يراه ويعتقد به. تربيت في بداية تفتح أنوثتي على أفكار تقدّمية كان من الصعب جداً أن أتخلى عنها، وحين شعرت بأنني يمكن أن أتخلى عن جزء منها كان الزمن قد أكل نصف عمري. حاولت كثيراً فلم أفلح، لجأت بإلحاح من صديقاتي إلى ترّهات كنت من أشد الرافضات لها، منها أنني صعدت إلى منارة جامع النبي دانيال ومارست الطقس الذي تمارسه النساء، وقرأت كتاب "الابراج والسحر" لأبي معشر الفلكي، الذي ينسبه إلى هذا النبي، ويورد فيه أنه قال "من عمل بما جاء في هذا الكتاب عن نية طيبة فإنه يحصل على الإفادة"، وذهبت إلى بيوت دجالين ومشعوذين يدّعون بأنهم سحرة، وقرأ على رأسي شيوخ يزعمون أنهم يعالجون بالقرآن جميع أنواع العلل النفسية والاجتماعية، وبصق في فمي رجال يؤمن الناس بأنهم من نسل النبي محمد... كل ذلك لَعَلّي أنال مرادي وأهنأ به، لكن مرادي كان عصياً على التحقق، فبقيت عانساً إلى الآن، أدخن بكثرة، ولا أنام قبل تناول كأسين من الفودكا. أقيم مع نورهان وابنتها صوفيا، وكنت قبل ذلك أسكن مع أخي الصغير وزوجته في بيت أبي الحاج رشدي، الذي رحل عن الدنيا بعد وفاة أمي بستة أشهر. تركنا بيتنا القديم، الكائن خلف ضريح "طوبال عثمان باشا" في القلعة، وسكنا في حي "المجزرة" قبل عشر سنين. كانت علاقتي بزوجة أخي باكزة ليست على ما يرام، فهي رغم تدينها الكاذب لئيمة وأنانية وبخيلة، ظلت تحاول إقناع أخي بأن يرغمني على الزواج من أي رجل حتى بلغتُ الستين، كي تتخلّص مني، لكن أخي كان حليماً فلم يستجب لها. وأخيراً أنا التي تخلّصت منها، فما إن ترمّلت نورهان حتى حملت أغراضي وقصدت بيتها، وصرت أشاركها في النفقات بجزء من راتبي التقاعدي، وأضع في جيب صوفيا نهاية كل شهر مبلغاً يسد جانباً من حاجاتها. في الحقيقة هي التي بادرت ودعتني قائلةً إن وجودي إلى جانبها له فائدة للطرفين.
مذ أقمت مع نورهان هدأ رأسي من زوابع باكزة اللعوب، واستعدت راحة بالي.. أصبح همي الأول رعاية صوفيا ونباتات الزينة والزهور التي ملأت بها شرفة المنزل، نباتات وزهور من أصناف مختلفة كالدارسينا وأذن الفيل والبنفسج والأراليا والريحان والقرنفل وذيل الحصان والمطاط.. وضعتها في أصص فخارية مطلية باللون الأبيض وثبّتها على الشرفة بتناسق، فأصبح كل من يمر في الشارع يرفع رأسه ويحدّق إليها بإعجاب. كما واصلت اهتمامي بتاريخ المدينة، التي بات الصراع حول هويتها الإثنية، بعد الاحتلال، يقلقني كثيراً، فقرأت كل ما كتبه عنها المؤرخون: ياقوت الحموي ومصطفى جواد وعبد الرزاق الحسني والأب بولس بيجال وطه باقر وفؤاد صفر والأب أدي شير وكاراماس وشاكر خصباك ونينل يانكونسه وتوفيق وهبي وحنا بطاطو ونجات كوثر أوغلو وكريم زند... وخطر لي قبل بضعة أشهر أن أغامر بإعداد كتاب عن تاريخها وتكوينها الفسيفسائي، منذ تشييدها في عهد الملك الآشوري "سردنا بال" (آشور ناصربال الثاني) إلى الآن.
حين قرأت نورهان مقدمة الكتاب قبلتني مهنئةً وقالت بمزح:
- يا سلام يا خالتي.. لقد رسبتِ في الحب ونجحتِ في التاريخ!
قلت لها:
- حبي للمدينة هو الذي يدفعني إلى كتابة تاريخها.
لكنها تخلت فجأةً عن مزحها وسألتني:
- هل سيصغي إليك أحد؟
- الدنيا لا تخلو من العقلاء.
- المصالح فوق العقل، وأرابخا بالنسبة إلى الطامعين بها بقرة تدرّ ذهباً لا حليباً، ولذا يعدونها خطّاً أحمر.
كنت ولا أزال أقرب إلى نفس نورهان من أمها، تلتجئ إليّ منذ مراهقتها لتطلعني على هواجسها، أو تطلب مني أن أساعدها في أمر ما، ولم تخبئ عني أي سر من أسرارها سوى مباهجها الغرامية مع سلمان البدر، فقد كانت تمتنع، من باب الحياء، عن ذكرها، رغم أنني كنت سأتفهمها حتماً، وأنصحها فقط بأن تكون حذرةً. لم يكن حزني على استشهاد حبيبها سلمان البدر أقل من حزنها، لأنني كنت أنا السبب في تعارفهما ذات يوم، وما برحت بعض تفاصيله عالقةً في ذاكرتي.. كنت آنذاك في سن الأربعين، وقد بدأ اليأس من أن أحظى برجل أتزوجه عن حب يدبّ في نفسي، فلم يبق أمامي إلاّ أن أؤدي ذلك الطقس الذي تؤديه الفتيات اللواتي يصغرنني بنصف عمري، وهو أن أقصد جامع النبي دانيال، وأصعد إلى منارته وألقي منها قطعة قماش معقودةً، دونما إحكام، لعلها تنحل عندما تلامس الأرض، فأنال مرادي.
طلبت مني نورهان أن نكمل طقس العيد بزيارة مرقد الأميرة "بغدة خاتون"، فوافقت على الفور. في طفولتي كنت أمر من أمامه وأنا ذاهبة إلى المدرسة أو عائدة منها، وأسمع الناس يقولون دُفنت معها سبع جرار مملوءة بالذهب، فاستولى اللصوص عليها قبل انتهاء أربعينيتها. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي أعيد ترميم قبة المرقد، إلاّ أن غارات الطائرات الأميركية على أرابخا في حرب الكويت ألحقت أضراراً بها، فتهاوى بعض أجزائها، ثم أعيد بناؤها من جديد بعد الحرب بسنوات. تذكرت أنني لم أزرها منذ عشرين عاماً، فقلت لنفسي "تستحق الزيارة، المسكينة ماتت وهي عذراء. ومن يدري.. ربما تجلب لي فألاً حسناً". كانت المسافة قريبةً، فقطعناها في بضع دقائق. اخترنا مصطبةً منزويةً تحت شجرة وارفة، وجلسنا نتطلّع إلى النساء والعجائز اللواتي يتبركن بالمرقد.. وهناك جرى التعارف بين نورهان وسلمان. ومن يومها أصبحا عاشقين يستمتعان بالحب.
أشارت عليّ نورهان مرةً، قبل استشهاد سلمان، بأن أقرأ روايات ماركيز، التي تحتفظ بها الآن في مكتبتها وكأنها جواهر ثمينة. قالت لي إنها تعجّ بقصص حب واقعية سحرية مشوقة جداً، ينتهي مصير معظمها إلى قفص الزواج، وكان قصدها أنني ربما أُصاب بسحر إحدى تلك القصص، إلاّ أنني لم أصغ إليها قط، ولم أقرأ سطراً من تلك الروايات، فأنا لا تستهويني سوى روايات غوركي وسيمينوف وبونداريف، وغيرهم من الواقعيين الاشتراكيين. حين كنت شيوعيةً امتلكت عشرات الكتب من إصدارات دار التقدم، من بينها روايات هؤلاء الكتّاب، وأتذكر أن مسؤولي الرفيق سلام (لم أكن أعرف غير اسمه الحركي هذا) كان يعتبر رواية "الأم" لغوركي أعظم رواية كُتبت في جميع العصور، وهو الذي حثني على قراءتها. لكن أخي الكبير أتلف تلك الكتب كلها يوم أرغمني على ترك الحزب.
أي شيطان ركب رأس نورهان اليوم، ووسوس لها أن سلمان البدر عاد إلى الحياة بعدما شبع من الموت؟ يقيناً أنه ليس ذلك الشيطان الذي يتوهم السذّج بوجوده متخفياً في عالمهم، بل شيطاناً من لحم ودم، رجلاً من هذا الزمن الخرب، فماذا يريد من هذه المسكينة؟ قلت لها أنت مجنونة عودي على بيتك ولا تنخدعي، انتظريني حتى أرجع من أربيل، لكنها انساقت وراء السراب.
اللهم احمها من كل سوء.
مراد
بينما كنا نسير حثيثاً إلى بيت نورهان، أخذت تدور في رأسي هواجس وتساؤلات غريبة... "بماذا أصف حظي مع هذه المخلوقة؟.. لقد حرمني موت سلمان من الاقتران بها في شبابها، وتحرمني الآن عودته إلى الحياة.. ألا يبدو الأمر وكأنه صفعة موجَّهة لي عقاباً على ذنب ارتكبته؟ لكن هل رغبة الارتباط بعشيقة صديق ميت تُعدّ ذنباً؟ ربما هي كذلك في نظر بعض الناس، أما أنا فأجدها مسألةً مشروعةً...".
قطع فرهاد هواجسي قائلاً:
- هل تعرف أني بدأت أشفق عليك؟
- لماذا؟
- كنتَ أكثرنا عقلانيةً في تفكيرك، والآن صرت تؤمن بالمعجزات.
- كل الأديان السماوية ذكرتها...
- مراد! منذ متى صرت تؤمن بالأديان؟
- لا علاقة للأمر بالإيمان.
- لكن رواياتها نتاج عصور غابرة، أما الآن فلا محل للمعجزات في عصر العلم.
- يا صديقي، نحن ذاهبان لقطع الشك باليقين ولن نخسر شيئاً، ثم أنها فرصة لتلتقي نورهان، متى رأيتها آخر مرة؟
- بعد تسرحي من الجيش.
- هل لامتك على مقتل سلمان؟
- ما شأني أنا حتى تلومني؟
- كنت تستطيع أن تحول بينه وبين الموت..
- أنا؟
- تمنعه من الصعود إلى الساتر.
حدّق فرهاد إليّ بدهشة وقال:
- كيف كان بمقدوري أن أمنعه وهو يبعد عني عشرات الأمتار؟
- لكنه أخبرني بأنه كان إلى جانبك.
- أخبرك وهو ميت؟
- لا، لا، في الحلم، قال إنه كان منبطحاً مثل الجميع، وقد جفّ لسانه من الغبار والعطش، وفجأةً وجد نفسه منتصباً على ساقيه، فشعر بدوار يطحن رأسه، وصار الفضاء منفياً من حوله كأنه غير موجود. سحبه أحد الجنود من ساقه اليمنى، وقد ظننت أن من فعلها هو أنت، فانزلقت قدمه على سفح الساتر، وظلت الأخرى ثابتةً كموجة عالية. امتدت يدٌ أخرى لتسحبها فهوى جسده كله مترنّحاً، وارتطم رأسه بالأرض، وقذف من فمه كتلة دم دافئةً.. وتكاثف ضباب أحمر في عينيه، وأخذ يفقد لونه شيئاً فشيئاً حتى صار مظلماً.. عندها أدرك أنه مقتول مثل "سانتياغو نصّار"، واستسلم لموته.
- أي سانتياغو نصار، أي بطيخ؟!
- ألم تأكلا أنت وإياه علبة جبن، وقطعاً من البسكويت المملح مع جرعات قليلة من عصير التفاح قبل بدء الهجوم بساعتين؟
- ماذا تخرّف يا مراد؟ تسألني بعد ثلاث وعشرين عاماً إن كنت أكلت جبناً وبسكويتاً قبل الهجوم؟
- دعك من هذا.. لقد أكدّتَ لي بعد عودتي من مأموريتي أنك كنت منهمكاً طوال الوقت بتسديد قاذفتك، فلم تشعر بوجود سلمان على مقربة منك، وحين اشتدّ الهجوم على السريّة اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد بإمكان أحد أن يعرف من قُتل ومن جُرح ومن وقع في الأسر.
- ها عدتَّ تخرّف ثانيةً، أنا لم أكن أحمل قاذفةً أصلاً، بل بندقية كلاشنكوف.
- من الذي حدثني بذلك إذاً؟
- راجع حلمك السوريالي.
- والله بدأت الأمور تختلط في رأسي.
- مراد، هل تأكدت أن الجثة التي استلمتها من المستشفى كانت جثة سلمان؟
- لم أكشف عنها، كان التابوت مغلقاً. لكنني رأيتها في الحلم.
- إذا كانت كل معلوماتك مستقاة من حلم، فلِمَ لا تكون نورهان مثلك أيضاً قد حلمت بعودة سلمان إلى الحياة؟
أفحمني فرهاد بتساؤله فلم أجد ما أرد به عليه، قطعنا شارع "صلاح الدين" الذي يفصل بين حي "طوقات" وحي "بولاغ"، وتابعنا سيرنا صامتين باتجاه القلعة.
قبل أن نرتقي درجات مدخلها الذي جئنا منه، مرّت من أمامه دورية أميركية متجهة إلى السوق الكبير، وكادت إحدى عرباتها تدهس صبياً تتدلى من يده ثلاثة أسلاك رفيعة تحمل صينية شاي، تشبه ذراع ميزان يدوي، لكن الصبي رمى نفسه بسرعة على الرصيف، فتعالت عدة أصوات في السوق شاتمةً جنود الدورية بأقذع الشتائم. التفتُ إلى فرهاد وقلت له منفعلاً:
- كلاب، يستحقون أكثر من ذلك.
ردّ فرهاد ممتعضاً:
- لا تتجنى عليهم يا مراد، هؤلاء بشر مثلنا.. وبعد سنتين سيغادرون..
- يغادرون؟ إلى أين؟
- إلى بلادهم..
- هكذا ببساطة تنطلي عليك خدعتهم؟
- تقول ذلك لأنك تكرههم.
- يا صديقي، يكفي القليل من الحكمة للتفكير في الأمر الآتي: لقد شيّدوا في المنطقة الخضراء أضخم سفارة في العالم، إنها أكبر بستة إضعاف من مجمع الأمم المتحدة في نيويورك، وبعشرة أضعاف من سفارتهم في بكين، تُكلّفهم إدارتها السنوية مليار دولار، فيها عشرون مبنى وألف موظف، وهي تُعدّ مدينة فيها كل وسائل الترفيه حتى أنها يمكنها أن تعيش مستقلةً أعواماً عديدةً! فكيف يصدق إنسان عاقل أنهم شيّدوا مثل هذه السفارة الأسطورية في بلد يدّعون بأنهم سيغادرونه؟
- وما علاقة ذلك بالخطأ الذي ارتكبته الدورية؟
- بشرفي لم يكن خطأً..
- ما أدراك؟
- ما أدراني؟ هم هكذا.. يستخفون بنا ويستهدفوننا.. قتلوا آلاف العزّل، وفي كل مرة يكذبون ويتستّرون على جرائمهم.
- هل يُعقل أنهم أرادوا دهس الصبي عمداً.
- لِمَ لا؟ إنه في نظرهم لا يساوي أكثر من بعوضة..
صمت فرهاد برهةً ثم سألني:
- ألا يذكّرك بأيام صغرك عندما كنتَ تعمل في مقهى بهذا السوق؟
شعرت بأنه يريد تغيير الموضوع لامتصاص غضبي، فهززت رأسي وقلت:
- كانت أيام شقاء لكنها حلوة.
- ألم يكن اسمها "جوت قهوة"؟(11)
- كلا، هذه مقهى قديمة لم يبق لها أثر، تحولت هي وجارتها الى مخازن ودكاكين.
- كنت أسمع بها منذ زمان.
أشرت له بإصبعي إلى عجوز يجلس على قفص فواكه أمام محل خضار، ماداً رجله الخشبية بارتياح على الرصيف، وقلت:
- كانت هناك، وصاحبها بالمناسبة من أقارب زوج نورهان.
حين وضعنا أقدامنا على درجات القلعة قال فرهاد:
- يبدو أن اسم نورهان لا يسقط من فمك اليوم، هل تفكّر في إنهاء عزوبيتك بها؟
- الأمور تعقدت الآن.
- لم تتعقد ولا هم يحزنون، ستفيق من وهمها وتنتهي المسألة، وسنذهب أنا وأمك وشادان لنخطبها لك.
أثار فرهاد شجوني، فتذكرت لقائي الأخير بنورهان، يومها عبّرت لي، بأسلوب غير مباشر، عن ندمها على رفضها الزواج مني (كنت قد تهورتُ بطلب يدها مرةً أخرى إثر مرور عام على استشهاد سلمان، فاعتذرتْ)، وسألتني إن كنت سعيداً في زواجي أم لا، ففاجأتها بأنني ما زلت أعزب، وقلت لها بصراحة، لا تخلو من مبالغة مقصودة، أذهلَتها: "رفضكِ جعلني أتخلى عن فكرة الزواج، اكتفيت بعلاقات حرة مع نساء صادقتهن بعد تسرّحي من الجيش، نساء كثيرات، فتيات وأرامل ومطلقات، منحنني متعةً تفوق عشرات المرات ما يمكن أن تمنحني إياه امرأة واحدة". وكنت أعنيها هي بـ "امرأة واحدة"، لكنني لمتُ نفسي بعدما ودّعتها، أحسست بأنني استخدمت تعبيراً فظّاً، وكذبت أيضاً، لأنني كنت أتمنى في أعماقي أن يجمعنا بيت واحد، وأنا واثق الآن من أنها ستستعيد ألقها إذا ما ملأ رجل مثلي حياتها بفيض محبته.
حين التقيت نورهان، أول مرة، في السنة السابعة للحرب، كانت قد باشرت عملها منذ أشهر قليلة في محطة التلفزيون. قادتني إلى مكتبها صدفةً ابنة عمي يوكسل، المذيعة في القسم التركماني. ذهبت إليها ذات يوم لأسألها عن مصير برنامج تاريخي كنت قد تقدّمت بطلب إلى المحطة لإعداده، فأخذتني على عجل إلى قسم الإدارة للاستفسار عنه، ثم استأذنت مني وهرعت إلى الاستوديو لتذيع نشرة الأخبار. كان القسم يتألف من غرفة واسعة فيها ثلاثة مكاتب، أحدها يشغله رجل أشيب، سمعه ثقيل، والثاني تجلس خلفه موظفة في منتصف العمر، ذات سمرة غامقة وشعر أجعد معقود من الخلف كأنه ذيل حصان، والثالث تضيئه شابة ساحرة الجمال. أثار فضولي اسمها المدون على لوحة خشبية موضوعة أمامها: "نورهان كمال هرمزلي"، فاتجهت إليها لا إرادياً وسألتها عن البرنامج، فأخذت تبحث داخل درج مكتبها، ثم سحبت منه، بعد لحظات، ورقةً وقدّمتها لي قائلةً بصوت أسيل اخترق فؤادي قبل أن يصل إلى أذني:
- للأسف أخي.. المدير اعتذر عن قبول برنامجك، لكن لا تيأس فربما ستعدّ أفضل منه مستقبلاً.
شكرتها على لطفها، دون أن أكترث لفحوى كلامها "فليذهب التاريخ ومديرها إلى الجحيم.."، وبقيت واقفاً كالصنم، أوزّع نظراتي بينها وبين اللوحة التي تحمل اسمها، فانتبهت إليّ وقالت:
- هل تريد أن تسألني عن أمر آخر؟
قلت بصوت خافت ومضطرب:
- مسألة شخصية.. لكن ليس هنا.
ابتسمت ابتسامةً مشرقةً هزّت كياني:
- أين إذاً؟
- هناك..
أدرت ظهري وأشرت إلى الممر:
- أرجو أن لا تنزعجي.
هزّت كتفها ونهضت مشدوهةً، وأشارت لي بيدها أن أسبقها إلى الممر، لكني أشرت لها أن تسبقني. بدا قوامها وهي تسير أمامي أهيف متأوداً منحوتاً بدقة متناهية.
قالت:
- تفضّل...
قلت:
- هل تعرفين شخصاً اسمه سلمان البدر؟
وقع سؤالي عليها كالصاعقة، فتغير لون وجهها وفقد بريقه، وتراجعت إلى الخلف وأسندت ظهرها إلى الجدار:
- هل تعرفه أنت؟
- أنا الذي جلبت جثته إلى أهله؟
- أكنت صديقاً له؟
- لم تدم صداقتنا سوى بضعة أشهر، خطفته الحرب قبل أن تتعمق.
- من أوحى إليك بأنني أعرفه؟
- اسمك.
- هل كان يذكره أمامك؟
- كثيراً، بل يومياً. كنتِ أنت وماركيز شغله الشاغل في الجبهة.
- يا حبة قلبي.
- أكنتِ تحبينه بقدر ما كان يحبك؟
- كنت أعشقه.
- والآن؟
- ذكراه لن تنمحي أبداً.
شعرت بعد ذلك اللقاء بأنني وجدت في نورهان ضالتي المنشودة، وصرت أتخيّل الحياة معها، وأنا في الجبهة، بالغة العذوبة، تشبه رقصةً بارعةً، وأتحرّق شوقاً إلى اليوم الذي يجمعني بها مكان واحد، بل سرير واحد، لأتشبع بأنوثتها وأكون على شفير السعادة الكبرى.
أخذت أذهب إلى المحطة، كلّما جئت إلى أرابخا في إجازتي الدورية، بحجة زيارة ابنة عمي. أمرُّ من أمام باب قسم الإدارة، حيث تجلس نورهان في مواجهته، وألوّح لها بيدي محيّياً، مع ابتسامة دمثة في الظاهر، شهوانية في أغوار نفسي، فتردّ على تحيتي برفع كفها، راسمةً على وجهها المُشرق، في كل مرة، تعبيراً لم يكن بمقدوري تفسيره، فينتابني إحساس بأنني أحاول عبثاً لفت انتباهها إليّ، وليس مستبعداً أن تكون قد أغلقت قلبها بعد فقدان سلمان البدر. لكن جمالها الضاغط عليّ كالسحر كان يدفعني إلى المضي في المحاولة، واستحوذت رغبتي في ترويضها على تفكيري، وأصبحت تؤرقني.
لم يفطن أحد في المحطة إلى سبب مواظبتي على المجيء عدا يوكسل، فقد أطلعتها على رغبتي في الاقتران بنورهان مذ لقائي الأول بها، وأوكلت إليها أن تجسّ نبضها، في الأقل إن كانت تفكّر في الزواج أم لا، لكنها لم تحصل على إجابة قاطعة منها، الأمر الذي زادني تشوشاً وارتباكاً، وجعلني أتردد في مفاتحتها.
بقيت على هذه الحال عدة أشهر، تصفعني فتنة نورهان ليل نهار، ويتلوى في داخلي توق عارم إلى الغوص في بحر جسدها الباذخ، الشهي، لكني لم أستطع أن أبوح لها بعُشر ذلك. وذات مرة حسمت المسألة وطلبت من يوكسل أن تعرض عليها رغبتي في خطبتها، إلاّ أن نورهان رفضت بحزم، متعللةً بأنني كنت صديقاً لسلمان البدر، وقد تفقدني أيضاً مادامت الحرب مستمرةً.
نورهان
انقطع الاتصال مرةً أخرى بيني وبين سلمان، لكن من جانبه هذه المرة، فقلت في دخيلتي من المؤكد أن الرتل الأميركي اللعين نفسه قد شوّش عليه، فهو قادم من الجهة التي قصدها ذلك الرتل. ورغم أنني تضايقت لم يخطر في بالي هاجس مقلق، فقد باتت هذه الحال مألوفةً لدى الجميع، وبعد دقائق قليلة ستزول، وربما سيصل سلمان قبل أن يكلمني أو أكلمه.
ابقيت هاتفي النقال في يدي، ورحت أتخيّل شكل سلمان بعد ثلاثة وعشرين عاماً على غيابه، وأسأل نفسي: "كيف ستكون مشاعري حين تتلاقى نظراتنا؟ هل سيخفق قلبي بشدة وأتسمّر في مكاني؟ هل أعانقه وأقبله أمام الناس في الشارع؟ هل أدفن رأسي في صدره وأنخرط في البكاء؟ هل أدعك شعره بأصابعي وأنا ملتصقة به كما كنت أفعل في ما مضى؟ وماذا بعد لقائي به؟ إلى أين سنذهب؟ هل آخذه إلى بيتي لنعوّض عن حرمان سنين طويلة؟ لكنني يا ربي لست وحدي، معي ابنتي، ماذا أقول لها، وكيف ستكون ردة فعلها؟... لا، لا، من الأفضل أن أمكث معه بعض الوقت في سيارة هاشم أو في أحد المطاعم، ثم أطلب من صوفيا أن تذهب إلى بيت خالها بحجة أن صديقتي بولينا في خطر ويجب أن أبقى معها في المستشفى حتى الصباح. إنه حل معقول ولا يوجد أفضل منه". ثم أخذت أتخيّل كيف سيكون لقائي بسلمان في البيت: "أسبقه على جناح السرعة أولاً وأبخّر غرفة النوم، واستبدل مفارش السرير، ثم أنتظره خلف الباب، أتركه نصف مفتوح كي يدخل فوراً.. لكن ما أدراني أنه لن يخطئ العنوان؟ لا، لا، يُستحسن أن أجلس في الشرفة لأراقبه وهو يأتي، وحينما ألمحه مقبلاً ألوّح له بيدي، فيطمئن ويحث خطاه، عندئذ أهبط مسرعةً وأفتح الباب. بعد لحظات يدلف جذلاً ويغلقه وراءه، يحتويني بذراعيه ويضمني إلى صدره بشغف، يلثم شفتي بقبلة طويلة سرعان ما تُلهِب جسدينا المتعطشين إلى بعضهما، ثم يعانقني فتلسع أنفاسه أذني ورقبتي، يعتصر بيديه خصري وظهري، يزداد التصاقاً بي. أسحبه من يده، دون أن ينبس أحدنا بكلمة، وأدخله إلى غرفتي، أجلسه على السرير، أفتح له ألبوم أغاني خوليو الذي يحبه. آه لو كان عندي زجاجة نبيذ! لكن لا بأس سأرويه من نبيذ جسدي المعتق. ألتقط من خزانة ملابسي قميص نومي الأبيض الشفاف الذي يفضله وأذهب إلى الحمام، أغتسل على عجل، أجفف جسدي وأرش عليه العطر الذي يستثيره، أتقدم إليه، أقف أمامه فيرفع رأسه ويحدّق مبهوراً إلى نهديّ وهضبتي الرطبة الملساء، يهبّ واقفاً، يتجرد من ملابسه ويزيح القميص عن كتفيّ، يسقطه على الأرض، يحتويني ويشبك ذراعيه خلف ظهري ويشدّني إليه، يقبّلني بنشوة ويشمّ شعري، تحتك حلمتاي بشعر صدره الكث فتعتريني قشعريرة، يجرني برفق إلى السرير، أضطجع على ظهري وأثني ساقيّ وأفردهما، يركع على ركبتيه خاشعاً ويتأملني بنظرات مخبولة، يدسّ يديه تحت ردفيّ ويرفعهما قدر ما يستطيع ويسألني: هل ما زال حبيبي يتضوّع برائحة الأناناس؟ أشعر بقليل من الخجل وأرد عليه بصوت خافت: تذوقه حبيبي.. أنت أدرى"، وحين يشرع في التهامه أرتعش من اللذة، فتنطلق من أحشائي تأوهاتٌ شبيهةٌ بثغاء حمل يموت. لكن هاجساً غريباً قطع فجأةً تدفُّقَ مخيّلتي: "تُرى هل يستطيع العائد من الموت أن يمارس الحب؟".
مرّ وقت أطول مما ينبغي ولم يتصل سلمان، فبدأ يساورني القلق، بحثت في هاتفي فإذا بي أعثر على الرقم الذي كلمني منه، فرحت كثيراً واتصلت به، لكنه ظل يرن دون رد، عاودني القلق ثانيةً، حاولت مراتٍ عديدةً لكن دون جدوى، بعدئذ أُغلق الخط نهائياً ليتركني نهباً للحزن والخيبة، وأخذت أناجي ربي: "يا إلهي، أي يوم عصيب هذا؟ لماذا تفتح لي باب الأمل ثم تغلقه في وجهي؟ ماذا فعلت كي تعاقبني بهذه الطريقة؟ دعني أنعم بلذة الحب مع رجل حياتي في ما تبقى من عمري، ثم افعل بي ما تشاء في آخرتك، هل أجرمت لأنني أحببت وعشقت؟ أليس الحب أجمل إحساس زرعته في قلوب البشر؟ ألا يشيخ الإنسان إذا توقف عن العشق كما يقول عبدك ماركيز؟ أعدِكَ بأنني سأصلي لك حتى الموت إن سهّلت وصول حبيبي إليّ الآن، ألستَ من أعاده إلى الحياة بعد كل هذه السنين، فلماذا لا تكمل جميلك وتجمعني به ثانيةً؟"، لكن ربي لم يستجب لمناجاتي، تركني مهشمةً وفريسةً للألم، فقررت أن أنساه إلى الأبد وأبحث عن سلمان بنفسي..
عبرت إلى الشارع الثاني، شاردة الذهن، لا أعير أي اهتمام للسيارات المسرعة، وأوقفت سيارة أجرة متهالكةً. كان النهار قد اقترب إلى الزوال والسماء فقدت زرقتها من شدة السحاب الذي بدأ يغلظ ويركب بعضه بعضاً، طلبت من السائق أن يوصلني إلى جسر "النصر"، ماذا يفعل الغريق إلاّ أن يتمسك بقشة؟ ربما حدث لسلمان أمر طارئ كما في المرة الأولى، فكّرت في ذلك عقب نصف ساعة من الانتظار. لكن السائق رفض أن يسلك الشارع المؤدي إلى الجسر عبر "الشورجة"، متحججاً بأنه مغلق. سألته مرتابةً:
- من أغلقه؟
خفّض صوت المسجّل، الذي يبث أغنيةً حزينةً لمغنية ريفية، وقال:
- هل يوجد غيرهم؟.. الأميركان.
انعطف باتجاه حي "المصلى"، وأضاف:
- لعنة الله عليهم في الدنيا والآخرة.
ثم رفع صوت المسجّل، وأخذ يردّد مع المغنية بلوعة منبعثة من القلب، وكأنه يوجه نداءً إلى شخص غائب:
"من يوم ما سافرْتْ قلبي أخذته وياك
هم زين أخذته ورحت مايرهم بليّاك
لا أقدر آني أجي ولا أقدر آني انساك
حسّيت عيني انطفت من قُتْلَك ألله وياك"
ضربتني الأغنية في الصميم، لكني أخفيت تأثري بها وقلت:
- عفواً عمي، لماذا أغلقوه؟
أطفأ المسجّل وقال:
- قبل وصولهم إلى الجسر تعرض رتلهم إلى صاروخ..
استولى على روحي ضرب من القلق أكثر فظاعةً، فسألته:
- وكيف كانت ردة فعلهم؟
- كالعادة.. جُنّ جنونهم، فأطلقوا النار بشكل عشوائي على أسطح المنازل والسيارات المارة، ثم أغلقوا الشارع وقبضوا على الأبرياء.
ازدادت ضربات قلبي وخامرني شعور سوداوي:
- هل قتلوا أحداً؟
- الله وحده يعرف عددهم، لكني أخمّن أنهم ليسوا أقل من عشرين.
شهقت:
- يا ويلي!
جفل السائق:
- هل أنت من سكان تلك المنطقة؟
قلت:
- لا، لا، أنا.. أقصد لي فيها أقارب.
- الله الحافظ يا ابنتي.
كان السائق، ذو السحنة الغامقة السمرة، يربو على الستين من عمره، ولهجته أقرب إلى لهجة أهل الريف، يلف رأسه بشماغ عتيق، من دون عقال، يخفي معظم لحيته البيضاء. سألته بصوت مخنوق:
- هل نقلوا المصابين إلى المستشفى؟
- لا أدري.
- أرجوك أوصلني إلى المكان من شارع آخر.
- سأحاول.
أخذت السماء تنث رذاذاً ناعماً تلتصق قطراته بزجاج السيارة، فرفعت رأسي وتساءلت بصوت مرتفع تناهى إلى سمع السائق:
- لماذا تدير لي ظهرك يا ربي؟ أليس هذا منتهى القسوة؟
فنظر إليّ من خلال المرآة وقال محتجاً:
- لا تكفري رجاءً.. الله ليس بشراً حتى تعاتبيه.. إنه أرحم الراحمين.
- لو تعرف ما بداخلي يا عمي لما كفّرتني.
- الله ليس مسؤولاً عما يجري لنا.
- أعرف.. لكن من حرقة قلبي أقول ذلك.
- الأفضل أن تطلبي منه العون والرحمة.
- طلبت فلم يستجب.
- اصبري.
- آه لو كنت تعرف مأساتي.
أزاح شماغه عن جانبي وجهه فبدت وجنتاه من خلال المرآة غائرتين كأنه من دون أسنان، وقال:
- كلنا عندنا أقارب يمكن أن يُقتلوا في أية لحظة.. أنا فقدت زوجتي.
- مأساتي أعقد.
- كيف؟
- يصعُب عليّ توضيحها لك.. أقصد أنها غير قابلة للتصديق.
- وهل ما جرى لنا قابل للتصديق؟ اتقِ الله يا ابنتي..
قاد السائق سيارته في شارع ترابي متعرج محاذِ لسور مقبرة مترامية الأطراف. بقينا صامتين بضع دقائق، لكنني كنت أغلي من الداخل، وفجأةً تبادر إلى ذهني أن أسأله:
- هل تؤمن بالمعجزات؟
تردد قليلاً ثم قال:
- الله قادر على كل شيء.
- افترض أن زوجتك عادت إلى الحياة، هل تفرح؟
- أفرح؟ بل أقلب الدنيا من الفرح.
- وكيف تكون ردة فعلك لو أنها قُتلت مرةً أخرى قبل أن تراها؟
- سأُجن حتماً..
ضغط السائق على دواسة الفرامل ليتفادى مجموعة أحجار متناثرة، وأضاف:
- لكنه افتراض غير معقول.
لذتُ بالصمت، وأدرت وجهي إلى جمهرة رجال منهمكين بدفن جثة في الطرف القصي من المقبرة، وعلى مبعدة منهم حلقة نساء حللن شعورهن ومزّقن ثيابهن، وهن ينُحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، فشعرت بانقباض عضلات قلبي، ونكّست رأسي.
بعد قليل تحول رذاذ المطر إلى زخات شديدة الوقع تضرب ﺍﻷﺭﺽ بقوة، أعقبها ﻫﺩﻴﺭ ﺭﻋﺩ ووميض برق. استبدل السائق شريط المسجّل بآخر يحتوي على أدعية وأذكار لشيخ ذي صوت يافع ينشج ويزفر وكأنه سيودع الدنيا بعد لحظات، وأخذ يسير على هون حتى بلغ الشارع الرئيسي الذي يربط جسر "النصر" بحي "الشورجة". استدار إلى اليمين وقاد سيارته بهدوء، لم نجد أمامنا أي عائق، فتأكد لنا أن الرتل الأميركي قد انسحب ولم يُعد الشارع مغلقاً. من بعيد تراءت لنا قبل منحدر الجسر مجموعة سيارات مصابة يزيد عددها على سبع، وعند المثلث الذي ينتهي إليه شارع فرعي يتجه إلى اليمين ربضت سيارة بيك آب أميركية للشرطة مطلية باللون الأبيض والأزرق وقد ترجّل أفرادها، باستثناء سائقها، شاهرين بنادقهم تحت وابل المطر. عندما مررنا من جانبهم خفف السائق من سرعته فتسنى لي أن أرى السيارات المصابة عن قرب، كانت ذات ألوان مختلفة، إحداها خمرية، ففزعت وقلت لنفسي "يا لمصيبتي، لا بد أن تكون هذه سيارة هاشم"، وتحفزت للطلب من السائق أن يتوقف عندها لألقي نظرةً عليها، لكني أيقنت بأنه لن يفعل خوفاً من الشرطة، فمضى عابراً الجسر، بينما راحت عيناي تدمعان وقلبي ينزف.
عند نهاية الجانب الآخر من الجسر سألني السائق:
- إلى أين تريدين أن أوصلك الآن؟
قلت بصوت متحشرج تخنقه العبرات:
- خذني إلى المستشفى الجمهوري.
كانت المستشفى تغص بعشرات من الناس، عدا المرضى؛ رجال في حركة دائبة بين أبواب غرف العمليات والعناية المركزة وأجنحة الجراحة، وأطباء وممرضين يتنقلون بكمامات طبية أو من دونها، ونساء يفترشن الممرات وهن مستغرقات في العويل ودعاء الله أن يخسف الأرض تحت أقدام الأميركان، ويذلهم ويهبهم الموت الزؤام. كانت أصواتهن حادةً ولها طنين، ولا أحد يستطيع أن يسكِتهن أو يطلب منهن مغادرة المكان رغم الفوضى التي أشعنها، ولو تجرأ أحد المسؤولين أو الحرس على ذلك لهجمن عليهم وأشبعنهم ضرباً. لم يكن بين الحضور الكثيف داخل المستشفى أي مسؤول حكومي، وكأن الضحايا مجرمون لا مواطنون أبرياء.
سألت موظف الاستعلامات عما إذا كان بين المصابين شخصان أحدهما سلمان والثاني هاشم، فتصفح سجلاً بين يديه وقال:
- إصابة هاشم خفيفة.. تجدينه في جناح الجراحة رقم 3، أما سلمان فهو في صالة العمليات.
شهقت:
- هل حالته خطرة؟
- لا أدري.. هل أنت زوجته؟
تلعثمت:
- لا، لا، أنا...
- أخته؟ من أقربائه؟
- ابنة خالته.. و...
- يمكنك زيارة هاشم، أما سلمان فلن تستطيعي رؤيته اليوم.
شعرت بشيء ما تحطم في داخلي، وانهمرت دموع ساخنة على وجنتي. شكرت الموظف وهرعت إلى الجناح رقم 3، مخترقةً بصعوبة الحشد الذي يحتل الممر الطويل. دلني ممرض شاب إلى سرير هاشم. وجدته راقداً على جنبه الأيمن وقد كسى وجهه بعض الاصفرار والشحوب. وقفت خلفه وناديته بصوت خافت مرتعش، لم يرد عليّ، لكن مريضاً نحيفاً ضئيل الجسد على مقربة منه، بادر قائلاً:
- إنه نائم.. هل أنت زوجته؟
تجاهلت سؤاله:
- سأنتظره حتى يفيق.
جلست على كرسي بلاستيكي مجاور لسرير هاشم، فأراد المريض النحيف أن يكلمني مرةً أخرى لكني أدرت له ظهري وبقيت أراقب وجه هاشم. كان رأسه سليماً وجسده مغطى بملاءة بيضاء فلم أستطع أن أتبين أي أثر لإصابته، وبعد نصف ساعة غادرت الجناح إلى الخارج لأدخن سيجارةً. كان المساء قد حلّ تماماً والمطر توقف عن الهطول. اتصلت بإبنتي وأخبرتها بأنني سأتأخر عند صديقتي بولينا، لكنها فاجأتني بسؤالها عن لقائي بسلمان، فقلت لها متهرّبةً:
- سأحدثك فيما بعد، هل اتصلت خالتي ألماس؟
قالت:
- لم تتصل، لكن عمي مراد جاء إلى البيت مرتين، وفي المرة الثانية كان برفقة رجل اسمه فرهاد..
استغربت:
- أي فرهاد؟
- لا أدري.. يبدو أنه يعرفك منذ زمن طويل..
- هل قالا لك شيئاً؟
- لا، سألا عنك فقط، لكني لم أعطهما رقم هاتفك.
- أمر غريب..
- ماذا؟
- لا شيء..
بعدما أنهيت مكالمتي أيقنت بأن مجيء مراد وفرهاد إلى البيت ليس صدفةً، بل له علاقة بعودة سلمان الغامضة والخارقة إلى الحياة، إلاّ أن حيرةً شديدةً إضيفت إلى عذابي المر، فتساءلت في سري "تُرى كيف عرفا بعودته؟ هل يدرك الاشخاص المقربون أمراً كهذا دون أن يخبرهم أحد؟ لو صح ذلك لكنت أول من أدرك!.. مَن أخبرهما إذاً؟ هل يُعقل أن سلمان نفسه اتصل بهما مثلما اتصل بي؟ من أين حصل على رقميهما؟ ربما كان هاشم يعرف رقم مراد.. لقد صُدما حتماً مثلي.. ولكن لماذا ذهبا إلى بيتي بدلاً من الذهاب إلى بيته؟ إنها ألغاز لن يحلها إلاّ هاشم.. فلأرجعْ إليه وأنتظر حتى يفيق من غفوته".
أشار لي المريض النحيف بيده، وأنا أدلف إلى الجناح، إشارةً فهمت منها أن هاشم قد استيقظ من النوم، فأسرعت إليه، يغمرني شعور مبهم، حزن ولهفة في آن. أزاح الملاءة عن جسده وحاول رفع جذعه عن السرير ليسلم عليّ، لكنه عجز عن الحركة، انحنيت على رأسه وقبلته من جبينه ودعوت له بالسلامة، مفتعلةً ابتسامةً منكسرةً، فيما راحت دموعي تنهمر، وكادت تهمي حبّات منها على صدره لولا أنني عجّلت في مسحها. نويت أن أسأله عن سلمان، إلاّ إنه دعاني إلى الجلوس على الكرسي وسبقني قائلاً:
- هل رأيتِه؟ لماذا وضعوه في جناح آخر؟
تمالكت نفسي وقلت:
- اطمئن، إنه بخير.
حدّق إلى عينيّ وقال:
- لكنني أعتقد أن إصابته أبلغ مني.
- لن يعجز الأطباء عن معالجته.
- كيف كانت لحظة لقائك به؟
- مذهلة جداً.
- هل أخبرك عن الرواية التي كان يحلم بكتابتها هناك؟
- لم يسمحوا لي أن أمكث معه طويلاً..
- كان يود أن يسميها "عاشقان من أرابخا".. لكن سجانيه في الأسر حرموه من أدوات الكتابة..
فغرت فمي وكدتّ أسقط على وجهي من هول المفاجأة:
- في الأسر؟ هل كان سلمان أسيراً؟!
- من أين عاد إذاً؟
شعرت بأن الأرض تميد بي، أمسكت بطرفي الكرسي وثبتّ جسدي عليه بصعوبة، أما هاشم فقد واتته قوة غريبة وتمكّن من رفع جذعه ومدّ يده ليمسكني من ذراعي:
- نحن أيضاً صُدمنا أمس بعودته..
- يا إلهي! ومن يكون ذلك الذي يرقد في قبره؟
رمى ظهره على السرير وقال:
- لا أحد يدري.. ربما يكون مراد هو الشخص الوحيد الذي يعرف..
- منذ ثلاثة وعشرين عاماً وسلمان أسير؟ لماذا لم يكتب إذاً أية رسالة؟ آلاف الأسرى كانوا يتبادلون الرسائل مع أهلهم بواسطة الصليب الأحمر.
- لم يكن مسجَّلاً فيها..
- لماذا؟
- كان الإيرانيون غاضبين عليه فوضعوه في قفص ناء قرب الحدود الأفغانية، ومنعوا لجان الصليب الأحمر من زيارته.
نهضت من الكرسي، وغادرت الجناح بسرعة خاطفة وأنا أستعيد في رأسي كلام سلمان:
"لولا حبك لما استطعت تحمّل الأمكنة الرهيبة التي ساقوني إليها. كنتِ وحدك البلسم الذي يمنحني قوةً غامرةً، تحملين لي السكينة فتزداد مقاومتي لهم. إني أدين لك بالبقاء يا نورا، وأشعر الآن بأنني انبعثت من جديد خصيصاً من أجلك.
- كنتَ تقاوم مَنْ؟
- كلاب وذئاب وضباع وسفلة".
خضت مرةً أخرى موج البحر المتلاطم في ممرات المستشفى حتى بلغت صالة العمليات الكبرى، وجدتها مغلقةً، نظرت إلى داخلها من خلال نافذة الباب الزجاجية الدائرية فإذا بها تغرق في العتمة، ولا شيء يوحي إلى وجود حياة فيها. أخذت أصرخ كالمعتوهة وأطرق الباب بعنف، لم يفتحه لي أحد، فعزمت على اقتحامها بكل الغضب الذي انبعث من أعماقي، لكن اثنين من الممرضين هرعا إليّ وأمسكا بي من ذراعيّ، كانت ملامح أحدهما تشبه ملامح الرجل الذي رأيته في الحديقة، والآخر امرأة بدينة تشبه زوجته الوقحة التي شتمتني. سحباني إلى غرفة مجاورة وأقعداني على كرسي خشبي. ظلّ الرجل واقفاً أمامي وراح يمتص انفعالي وتوتري، بينما فتحت المرأة خزانةً وأخرجت منها كأساً مملوءةً بسائل شفاف، يميل إلى الاصفرار قليلاً، وقدمتها لي. شربتها دفعةً واحدةً وغطيت وجهي بكفيّ وصمتُّ. بعد لحظات بدأ أثر السائل يدبّ في جسدي، وشعرت بأن ساقي أصبحتا واهنتين كالقطن، وأن عظامي تتكسّر تحت جلدي، وتتسلل إلى صالة العمليات.
إشارات
(1) الاسم البابلي والآشوري لمدينة كركوك.
(2) بمعنى "أخي" باللغة الكردية
(3) كلمة تركية تعني "باب المدفع".
(4) جمع كلمة "yatak" التركية التي تعني "فراش النوم".
(5) التسمية التي تُطلق على قسم الشؤون الإدارية في وحدات الجيش العراقي.
(6) نوع من أنواع الغناء الريفي العراقي الحزين.
(7) أميرة اذربيجانية عاشت قبل سبعة قرون، ومرضت في طريق عودتها من الحج، فمكثت في أرابخا وتوفيت فيها، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، فلم يستطع مرافقوها إرجاعها إلى بلادها، فدفنوها في القلعة.
(8) ملحمة كردية صاغها شعراً أحمدي خاني ( 1650م - 1706م)، وتُعدّ أعظم مأساة عاطفية في تاريخ الأدب الكردي، ويُعبَّر عنها عادةً بأنها "قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء". ترجمها إلى العربية محمد سعيد البوطي، وصدرت عن دار العلم للملايين في بيروت.
(9) نوع من أنواع الغناء التركماني يماثل غناء المقام العراقي الشهير.
(10) بلدة كلدانية صغيرة تقع في شمال غرب مدينة أربيل.
(11) لفظة باللغة التركمانية تعني "المقهى المزدوج"، وقد سميت بهذا الاسم لوجود مقهى أخرى بجوارها.