يكتب القاص الفلسطيني قصصا قصيرة جدا تكثف حالات متعددة للمعتقلين داخل المعتقل وتنبني على مفارقات تظهر كيف يصطرع داخل كل واحد منهم مفردات واقع جهم وتخيلات تتجاوز بهم كل الحدود. كما تظهر كيف أن المُعتقَل قد يكون أحيانا تصورات يصعب التحرر منها.

قصص قصيرة عن المعتقل

مجموعة قصص

المتوكل طه

 

طُوبى

أخذوه منها!

لم يبق لها في الدنيا غيره. تزوجت وأنجبته بعد سنوات من الرجاء والبكاء، وراح زوجها إلى البعيد، ولم يعد! وأحاطت ابنها برموشها وشغاف قلبها، وكبر مع النذور والصلوات، وهيّأت له كل ما تستطيع ليعوّضها! لكنهم اعتقلوه، كأنهم نزعوه من أضلاعها، أو سلخوه من روحها، أو قطعوا فلذة من رحمها، وأدْموا قلبها، فبَكَت ورَجَت، وكادت تهيم جنوناً وتفقد لُبّها، لولا أن ربطَ اللهُ على فؤادها، فتماسكت، وبقي دمعها جارياً، وطرْحَتُها السوداء تلفّ رأسها المفزوع، الذي يتفتّت خوفاً عليه وجزعاً على مصيره.

وراحت ترابط أمام السجن. تقف من الشروق إلى الغروب، لا تأكل ولا تشرب، ودمعها يبلل أرض قدميها، وتعود صافنةً شاخصة في السماء وفي جدران السجن، وصارت تنام واقفة، وتبزغ الشمسُ فتجدها على حالها، واقفةً حيث تَرَكَتْها أمامَ السجن، واعتادت الكائناتُ على منظر وقوفها، ولم تفلح الدعوات واللغات معها، لتعود إلى دارها! بقيت ماثلةً راسخة أمام السجن، وشيئاً فشيئاً ضربت جذورها في التراب، وأطلقت ذراعاها الأوراق والأغصان، وتفرّعت من رأسها ووشاحها طلوقٌ خضراء، وبدأت شروشها تدبّ في الأرض، وتصعد في كل اتجاه إلى أن أصبحت شجرة، لجذعها شكل قوام امرأة، يصّاعد منها غُصنان كبيران، التفت حولهما غصون كثيرة وورق أخضر كثيف.. وجاء الطير وحطّ عليها، وراح الناس يتظللّون بفيْئها، واحتشدت بالأعشاش والزغب والهديل والزقزقات، وأضحى مَنْ يمرّ بها يعتقد أنها شجرةٌ تنبئ بغابة ستمتدّ، لتنشر المسْك والشَّهْدَ والزنجبيل.

 

طُلق نعنع

لا أنسى تلك الصورة التي كان يرسمها؛ يقف على شرفة بيته عند الغروب، يجلس على كرسي القش الهزّاز، يحمل "الكوبّاي" والبخار يصّاعد منها، فتمتلئ الشرفة بعبق الشاي الثقيل الخارط، وينهض ليقطف من قوّار النعناع قصفة، ويغمسها في الكاسِهْ.. وينْغَدها مع سيجارتين!!

كان دائماً يعيد المشهد نفسه! وكم أطربتني لكنتُه وهو يلفظ كلمة "الكوبّايْ" الطافحة بالشاي المطهم بالنعناع الأخضر الطازج!

كأنني أتلمّظ ذلك الطعم، وتمتلئ أنفاسي بتلك الرائحة الأخّاذة النافذة!

 والآن، ها هو يتمدّد على سريره، يكاد يلفظ آخر رمقٍ من روحه، وإدارة المعتقل ترفض الإفراج عنه. لقد التهمه السرطان!

واستشهد صاحبُ الكوبّاي، فوددنا أن نودّعه قبل أن يأخذوه، فانكببنا على وجهه نقبّله، ونغسله بدموعنا الباردة!

لاحظ السجّان أن صاحبنا يغمض كفّه، ويقبضها على شيء ما! فحاول أن يفتحها، فمنعناه، وهددّناه، فطلب منا أن نفتحها خوف أن نكون قد هرّبنا معه شيئاً!

أرجعْنا أصابعه وفردْناها، فانبسطت يده، فإذا بعِرْق نعناعٍ أخضر يتوسّطها.

 

قمر الممرّ

سريرٌ فوق سرير، ومثلهما يقابلان الباب الحديد، وممرٌ صغير بينهما، لا يكاد يكفي ليكون جلستنا حول الطعام، فنأكل جالسين على حواف الأسرّة، ونصلّي فرادى.

في الصباح، لاحظ زملاء الزنزانة أنني أتحسس الممرّ وقطعة البطانية المفرودة فوقه!

في اليوم الثاني، رأيت زميلي يتحسّس البطانية، كأنه يتأكد من جفافها!

في اليوم الذي يليه، رأيت الثالث يتأكد من أن القطعة ناشفة، حيث راح يعصرها، وكذلك فعل الرابع.

في اليوم الخامس، أزحنا قطعة البطانية من مكانها، وتركنا الممرّ عارياً نظيفاً.

في اليوم السادس، كنّا أربعتنا نتحسس بأقدامنا العارية الممرّ، ونتأكد من أن ماءً لامسه أو جرى فوقه!

في اليوم السابع، كان البحرُ الذي يزورنا كل ليلة، فيعبئ الزنزانة بأمواجه الصغيرة، فتتراقص الأسرّة فوقه، كأنها تتهادى ببطء ورويّة! كان البحر قد حمل على صفحته قمراً صغيراً، فيندرج كالكرة على ثناياه! كان البحرُ قد ترك لنا القمرَ على الممرّ، فأصبح بقعةً بيضاء كالحليب، وصار الممرّ سماءنا، ونحن على وسائد السحاب.

 

صراخ في الوسادة

من أين لي أن أعلم؟ وكيف لي أن أدري؟

كل ما أعرفه أنني دخلت إلى الغرفة، وكان المعتقلون في استقبالي، ثم أشاروا إلى سرير ليكون مضجعي ومحلّ نومي! ولم أنتبه كثيراً إلى تلك النظرات المبهمة والغريبة في عيون المعتقلين ساعةَ رُحت أرتّب البطانيات والوسادة، وأُهندم السرير!

نمت أولَّ ليلة في السجن، كنتُ متعباً، إذ لم أنمْ طيلة ثلاثة أشهر ما يكفي، هي فترة التحقيق المخيف والصعب!

كأنني سمعتُ بكاءً وأنيناً، أو ربما كان ذلك صدى رجاء وتوسّل، لكن القشعريرة لم تصل إلى حديد عظمي إلاّ في الليالي التالية!

مَنْ الذي يبكي في وسادتي؟ من أين يأتي هذا الإلحاف والنحيب؟

بعد ليالٍ، لم أستطع النوم! فما إن أضع رأسي على المخدّة، حتى يخترق رأسيَ صوتُ نشيج مجنون، وتوسّلات بعيدة عميقة مذبوحة، وأصوات دمع مشروخ.

وتبينّت أنَّ من كان قَبْلي ينام على هذا السرير قد قتله أحدهم بدعوى الخيانة! لقد كان خائفاً ويرتعد من العذاب. وكان المعتقلون يعرفون أنه بريء!

لكنّ أحداً منهم لم يفعل شيئاً، حتى لا يُتَّهمَ بالتعاطف مع المشبوه، وتركوه يموت مظلوماً!

 

ساحر

أهلاً بالساحر!

فُكّوا قيوده،

اجلس.

وظلَّ مدير السجن خلف مكتبه، يتأمل باستخفافٍ وجهََ السجين الجالس على مقعدٍ آخرَ الغرفة، وجنديان يصوّبان على رأسه.

ها.. هل تستطيع أن تجترح لنا معجزةً؟ والسجين لا يرّد!

هيّا، أخرِجْ لنا حمامة من جيبك ها ها..

والسجين ساهمٌ لا يتحرك!

إذاً، تضحك على السجّانين، وتخيفهم بألعابك المكشوفة؟ إنني أحذّرك، وسأبعثك إلى الزنزانة الانفرادية حتى تبكي دماً، مفْهوم؟ خذوه!

وَخزَه جنديٌّ بماسورة بندقيته، وأشار إليه أنْ يسيرَ أمامه ويداه على رأسه.

خرج السجين واضعاً كفّيه على شَعره، واتّجه نحو الباب، دالفاً إلى الساحة، وما إن وصلها، حتى رفع يديه، وأتى بحركات سريعة، فطارت حمامتان، فارتبك الجنود. ثم استدار، ومدّ يده في جيبه، فأخرج وردةً حمراء، وتقدم إلى جندي، وقدّمها له، فتناولها خائفاً، وما إن مسكها الجندي، حتى تخيّلها أفعى، فتركها، وولّى هارباً، ووقعت جَلَبة، خرج معها مدير السجن من غرفته، فرأى الجنود مذعورين متحفّزين، يتراجعون إلى الخلف، فيما يضع السجين يديه على رأسه، ويمضي نحو الزنزانة!

 

زيارة

رمَوْه على أرض الزنزانة، كان الدم ينزّ من أنفه وفمه، وقد أُغمي عليه من شدّة الضرب على رأسه وكل أنحاء جسده؟ حتى لم يستطع أن يتكئ على ساعده لينهض، ويتخلّص من رائحة البطانيات العفنة ولزوجةِ البول التي تشرّبَتْها، في عتمةٍ ثقيلةٍ لم يتبيّن فيها مواضع الجروح والكدمات والكسور.

كان حلقه جافاً، لم يستطع أن يبصق الدم المتجمّد في خشب فمه، وأنفه مرضوض، يكاد الهواء لا ينسرب إليه بفعل الدم المتجلّط فيه.

تخثّر الدم، وانتفخ وجهه، وازْرَقّ ظهره، وتحطمت أضلاعه، ولم يقوَ على تحريك ذراعيه.

كأنه بين النوم والصحو، والألم يستبدّ بالرأس الثقيل الدائخ الزائغ.

وفجأة، تراءت له القامات، ولم يتبيّن الوجوه! كان النبيّ والوليّ والشهيد والذبيح بملابسهم الطويلة المُسدلة يقفون عند رأسه، وما إن أيقنوا أنه شقّ رمشيْه ليراهم، حتى اختفوا!

التبس عليه الأمر، هل يتخيّل؟ أم أنَّ ملمس أذيال ثيابهم التي غطت وجهه كان حُلماً؟!

 

آباء

رفع الكيس عن رأسي، وأبقى الكلبشة تقيّد رسغيّ، وأجلسني قبالته، ليبدأ حفلة جديدة من التحقيق.

رنّ جرس الهاتف، وأدار حواراً ملهوفاً مع امرأته! لقد كانت ابنته مريضة، وها هو يستفسر عن حالتها، وامرأته تطمئنه.

كان المحقق مشغولاً على ابنته، ويدقّق في أسئلةٍ لعل الإجابة عنها تريحه، ويبدو أن زوجته فعلت ما يريد.

كنتُ أسمع حديث المحقق، وفهمت من سياق الأسئلة والتعقيبات أن حالة ابنته مستقرّة، وأنها تجاوزت حالة الخطر.

لم يكن المحقق يدرك أنني أعرف العبرية، وأفهم كل ما يُقال، لكنه انتبه أن دمعةً برقت بزجاجها من عينيّ، كأنني تذكرت طفلتي التي لم أسمع صوتها منذ ثمانية وسبعين يوماً!

أحسّ المحقق بما يختلج في صدري!

وقف، ورفعني من تحت إبطي، ومشى معي إلى الإكس (أصغر من الزنزانة وأكثر ضيقاً)، وفتح بابَ الحديد، وسألني، وهو يفك الكلبشة من وراء ظهري: ما اسم ابنتك؟

وقبل أن أجيب، دفعني بقوة إلى داخل الإكس، وأغلق الباب بركلة من قدمه!

 

ابنتنا الشمّامة

انتبه السجّان إلى ما كنّا نفعله لتلك الشتلة اليافعة التي بزغت وكبرت، وها هي تمرع وتكبر، وربما تطرح ثمراً بعد أسابيع، ونقطف عنها غير شمّامة عسلية المذاق!

يأتي سجين، فيمسّد النبتةَ الطالعة، ويروي آخرٌ أرضَها بقليل من الماء، ونتحلّق حولها كأنها ابنتنا، ونخبر بعضنا بأنها بلغت شبراً وأكثر، وها هي تحنَّن وتزهر، ونتخيلها غرسةً ستنبز بأوراقها، وستمتد حتى تمسي عريشة، تتدلى منها دحاميس الشمّام الشقراء.

كان السجّان يرقبنا كلما خرجنا إلى الفورة وتوجهنا إلى مسكب ابنتنا اليانعة.

تقدّم السجّان، وأمرنا بأن نبتعد عنها، وراح يحملق فيها، وفجأة! رفع بسطاره، وراح يمعسها ويفركها، كأنها أفعى تكاد تلدغه، ولم يتركها حتى لم يعد للأخضر لوناً في التراب.

 

صهيل في العتمة

لا يذكر مَنْ هو أول شخص أطلق عليه لقب "دالي"! لكنه سعيد بهذا التوصيف، الذي يحمل قدراً كبيراً من الاعتراف بقدرته على اجتراح الرسومات اللافتة واللوحات الباهرة!

لكن "دالي" هذا ليس سريالياً، ويتحدث العربية، وليس له شاربان معقوفان فوق فمه، ولم يرَ إسبانيا، فهو من المخيم، ويحبّ الميجنا والميرمية وشوربة العدس، ولا يعرف ما هي الدادائية أو السريالية أو الوجودية أو التكعيبية أو الانطباعية، ولا يفرق بين الرومانسية والواقعية أو التفكيكية أو التعبيرية أو الكلاسيكية أو التجريبية أو التجريدية، ولم يتعرف بعد على المودرن آرت أو الانستليشن أو الفيديو آرت أو الجرافيك.

ولم يجرّب في لوحاته الكولاج، أو يتقيّد بمدرسة بعينها، لكنه أقرب إلى أتباع المدرسة الحُرّة؛ التي لا تقيد الرّسام ضمن إطار أو مدرسة، بل يعمل بحريّة كاملة أقرب إلى الطبيعة أو البديهة.  ولعلي أراه أكثر انتماءً إلى الكلاسيكية الواقعية؛ التي ترسم الأشياء كما هي دون خيال أو تدخّل، وتعتمد على المهارة في استخدام الألوان والمقاييس والمنظور. كما أن صاحبنا هذا يجيد رسم الوجوه كما هي، أو ما يسمى بلغة الفن "البورتريه"، كأنه أحد رسامي الساحات العامة في العواصم الكبرى.

و"دالي" لم يتجاوز الخامسة والعشرين خريفاً، وَهبَه الله، عز وجل، موهبة الرسم، فأبدع بفطرته، وأجاد وأَحْسَن! وكان يرسم التظاهرات والمواجهات على الحواجز والأعلام المُشرعة والنعوش الطائرة على أكتاف الهاتفين.

فسجنوه!

ولم يتوفر له في المعتقل سوى أقلام الحبر الجاف أو الرصاص، فكان يرسم على القمصان الداخلية وعلى قصاصات الأوراق، ويهديها لأصدقائه، لكنه راح يرسم على جدار ساحة الفورة لوحته الكبيرة، فيقضي ساعة الفورة في الرسم، ثم يعود ويكمل، وبقي شهراً أو أكثر على حاله حتى اكتملت.

بعد ليالٍ استيقظ المعتقلون على رشقات رصاص متتالية، تبعتها قعقعة سلاح ورشّات أخرى، واستمر إطلاق النار ساعة أو يزيد.

في اليوم الثاني لاحظ المعتقلون أن جدار ساحة الفورة كان محفّراً ومرشوقاً برصاص كثيف، وأصبح كالغربال، وثمة دماء أسفل الجدار!

ما هذا؟ وما الذي جرى؟

يقول السجّانون: لقد باغتتنا الخيول المرسومة على الجدار، فخرجت منه، وجمحت وصهلت، وكادت توقعنا تحت حوافرها، فرميناها بالنار!

وها هو دمها على الجدار.

 

انتحار

خرج المحقق، لا يلوي على شيءٍ، مصدوماً مذهولاً مما رأى! فتبعه جنود الحراسة المتحلّقون حول غرفة التحقيق، ليتبيّنوا الذي جرى! فما وجدوا شيئاً غيرَ متوقّعٍ أو جديداً!

تذرّع المحققُ أمام الجنود بغير أمر، فعادوا إلى مواقعهم، ورجع إلى غرفته!

نظر إلى السجين، فوجده على حاله، مقيّداً وجالساً على مقعد السؤال، لا دم في ذراعه أو على فمه!

ومرّة أخرى، خرج المحقق أكثر هدوءاً إلى الساحة، كأنه دار حوله نفسه مضطرباً، ثم عاد إلى غرفته، فوجد السجين كما تركه!

حاول المحقق أن يسأل السجين دون أن ينظر إليه، ولكن دون جدوى.

طلب من الجنود أن يذهبوا بالسجين إلى الزنزانة، ثم أمرهم أن يحضروه، ثم أعاده، ثم أحضره، ثم أعاده، وأحضره... حتى انغلق الأمر على السجين والجنود!!

في اليوم التالي، أمر المحقق بأن يظلّ الكيس على رأس السجين، والقيود خلف ظهره وفي رجليه، وحاول أن يسأله، فعجز عن الكلام! وقف المحقق، وسحب أقسام المسدس، ضغط بإصبعه على الزناد، فاخترقت ستُ رصاصات جسدَ السجين! هرع الجنود إلى الغرفة، فوجدوا المحقق يجثم على الأرض غارقاً بدمه، والسجين على حاله، ينتفض الكيس على رأسه، والسلاسل تخشخش خلف ظهره وبين رجليه!

 

اللبلابة

أَطَلَّتْ برأسِها الأخضر الطريّ، فاستبشرنا خيراً. ثمةَ لبلابةٌ تعربشت، وها هي تلقي برأسها على نافذتنا! وكبرت اللبلابةُ، ونفذت من بين مربعات الشَّبَك الحديدي، فابتهجنا وتفاءلنا!

وامتدت بعروقها، وراحت تفرد غصونها على السقف حتى صارت شبكةً خضراء، تتدلى فوقنا سماءً تشبّثت كالظلال العميقة على كلِّ تلك المساحة التي تغطّينا.

وهبطت بأصابعها الرفيعة إلى الجدران كالأواني المستطرقة، تنزل شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد لونٌ سوى لونها.

وأصبحت زنزانتنا مبطّنةً بتلك اللبلابة المندفعة بنسغها وعروفها الدقيقة إلى أن لامست الأرض من كل الجهات.

وازدادت اللبلابة متانةً وقوّة، وراحت تحتلّ فضاءنا وتكبر. وكنّا في نومنا نلمس تلك العروق التي تلامس وجوهنا وظهورنا وأرجلنا وأذرعنا، فنزيحها بلطف، فتتمسك بنا، وانتبهنا أن لتلك العروق رؤوساً تخترق الجلد، وتروح تمتصّ دمنا!

لم نصدّق الأمر بدايةً، حتى أدركنا أن هذه الأغصان الليّنة الرفيعة هي أقرب إلى المخلوقات الزاحفة التي تخترق لحمنا، وتشرب منه، دون أن نتألم أو نتأذّى، إلى أن زاد هزالنا وضعفنا، وازدادت قوّتها ونضرتها.

بعد شهور أو سنوات، كانت اللبلابة تعبئ الزنزانة، وكنّا هياكل هشّة نَخِرَة، تتحَلّل، وتذوب.

 

ورقة الليمون

أوقفوها بثوبها الأبيض القشيب، والغلالة الشفيفة تغطّي وجهها الصّبوح، وقدّموا لها ورقة الليمون، فأخذتها بيدها اليمنى، وطبعتها على عجينة القمح يمينَ البوابة، قبل أن تدلف إلى الساحة، ويجلسوها في انتظار عريسها الآتي بزفّته المطهمة الرانخة، ويدخلوه ليجلس بجانبها، ويسقيا بعضهما من الشراب ذاته المنقوع بالعسل.

اكتمل العُرْس، وسطعت الأضواءُ في غبش المغرب، وكان الغناءُ المرتّلُ هائجاً طازجاً يفيض بالبهجةِ والدموع. وفجأة، ارتبكت الأبواب، وتعالت أصواتٌ حادةٌ وغريبة في الشارع، وتعالى هديرُ المركبات وطقطقة السلاح، وارتفع الصُراخ، وانخبطت الدُّنيا، واختلط الحلم بالكابوس، وأخذوه، ورموه مكبّلاً على أرضية الدورية، وراحت السيارات العسكرية تولول، وتطلق الرصاص على الجموع التي هجمت تحاول تخليص العريس من بين القيود.

وظلّت العروس في بيت عريسها، تسقي كلّ صباحٍ أصيص الريحان، إلى أن انقضت الأعوام الخمسة عشر، ليرجع العريس فيجدها بثوبها الأبيض أمام البوابة، ويجد ورقة الليمون ما زالت يانعةً مطبوعة على عجينة القوس!

وتشبك العروس ذراعها بذراعه، ويعبران إلى الساحة، ويجلسان، كأنها كانت تشير إلى النسوة أنْ يواصلن تلك الأغنية التي ما برحت فضاء الساحة وكأس الشراب.

 

جلوة

ألقت الملقط بعيداً، وتأفّفت.

لمَنْ تزجّج حاجبيها، وتزيل الشوك عن الصبّار الرخو؟ ولمَنْ تُمَنْجِل هذا القوس الأسود فوق رموشها المصقولة؟ فكل مَنْ حولها معتقلات مثلها، وستمضي سنوات وسنوات وراء القضبان! وزوجها؟ أعانه الله! يزورها ويواسيها، ويؤكد لها حبّه وإخلاصه، ويطمئنها على الأولاد!

 نامت، ودمها يغلي ويفور، فينقبض صدرها، وتكاد تختنق، ومن المستحيل أن تخضّ جدولَ الشهد، ليقطر العسل! فتنام وفي فمها الحامض لهفة معدومة، ونشفان يشقق الحَلْق.

وتحلم، فتراه بكامل زينته، عائداً من الحقل، مطهماً برائحة الحشائش الطازجة، وعرقه البارد ينفذ إليها كرائحة المواقد المُطفأة.

ويخنس إليها، ويتمدد قرنُ الغزال، وتنفتق الصخرةُ عن نرجسٍ، له فحولة المطر العنيف، أو الرهام الخفيف، في أماسي الربيع الباردة.

تصحو، وتبحث عن الملقط والمرآة، وتحدّد السيف، حتى لا ينثلم أو يفقد النَّحْر.

 

ليلة الإفراج

لقد مرّت الأعوام كأنها أيام، رغم أن كل يوم كان أطول من عام!

خمس عشرة سنة مضت، وها نحن نحتفل به، فقد تزيّن وشذّب واستحمّ جيداً، وأجلسناه على خمس بطانيات، كأنها عَرْشُ نُتوّجُهُ فوقَه عريساً أو أميراً، فنضحك ونتذاكر ونسرد النكات اللطيفة، ونتمنّى له أياماً هانئة وعُمراً مُعافى.

أشرقت الشمس، فألبسناه، وغنَّينا له، وودّعناه.

في غرفة الإدارة، رفض أن يوقّع على أوراق الإفراج عنه، وانتهاء محكوميته! فاستغرب مدير السجن، واستدعى ممثّل المُعتقل، لعله يقنع زميله بالرواح، فالأبواب مفتوحة أمامه!

جلسا على مقعد في الساحة، وأشعلا سيجارتين، وانتظر ممثل المعتقلين تفسيراً، يوضح له غرابة موقف صاحبه!

صمت صاحبه وسكت، وأطرق، وأدار وجهه ورفعه، وغيّر هيئة جلسته وعدّلها، ولم يستقرّ به القعود، وأخيراً نَطَق!

كيف سيكون حاله أمام امرأته بعد كل هذه السنوات؟ لقد أصبح عنّيناً لا ينتصب فيه رجل! حتى أنه نسي أن له وظيفة أخرى غير تصريف الماء المالح!

لكنه خرج من البوابة الكبيرة، فاستقبلوه، وحملوه إلى الدار.

في الليل، كان الشمع يسّاقط جذلاً رقراقاً كثيفاً، يضوّع بضوئه الناعم المنحنيات الظمأى.

أخافه الفشل والخمول وركود الحصان أو ذبوله.

وانكسر الحصان، بالفعل، ولم يقْوَ على الصهيل!!

أجهده العَرَق، وخارت قواه، فأخفى وجهه، وتلعثم، وتمنّى لو قضى قبل هذا الليل.

استيقظ متأخّراً! كانت امرأته وحدها في المطبخ، فاقترب منها، فثارت عروق القرنفل، واندلح ماء الزهر على الأرض، وانخفق الرخام، وفارت القهوة من الدلّة على قُرص النار.

 

عادة.. عادية

دورة المياه والمغسلة في زاوية الغُرفة، فإذا كانت البطانية مُسدلة على الباب تغلقه، يكون الحّمام مشغولاً، وإن كانت مثنية إلى الأعلى، فإنه يرحب بالمحصورين، ليفكّوا زنقتهم، وعلى راحتهم!

أزاح أحدهم البطانية، ودلف إلى الحمام، وقد فك نصف أزرار بنطاله، فوجد شاباً يحتل دورة المياه، يداعب ذَكَره، كأنما يمارس عادته السريّة، فجُنّ جنونه، وراح يضرب الشاب، ويصرخ فيه، ويجرّسه، ويتّهمه بالشذوذ والسقوط، وأقام الدنيا ولم يقعدها!

اجتمعت اللجنة التنظيمية، واكتفت بلفت نَظَر الشاب، وطوت صفحة العادات السرية وغير السريّة. لكن الرجل الذي اكتشف الأمر ظلّ يردح ويفضح ويشنّع ويُسمَّع، كأنه كولومبوس الذي اكتشف العالَم والكنز المخبوء!

.. وصل الأمر إلى السجون الأخرى، وامتدّ إلى البلد والناس، فكان مَنْ يتلقّف الخبر يزيد عليه وينْقِص، أو يحلل ويبدّل، ويفتي ويحكم، فكان ثمة أكثر من أربعين رواية وحكاية وقصّة، ذَهَب بعضها إلى أن الشاب قد باع الضمير والبلاد، وحطّم الخيمة والأوتاد، فاسودَّ وجه أهله، فطأطأوا رؤوسهم، وانهدّ عقال جدّهم، وباتوا يتحاشون العيون.

وذَهَب بعضها إلى أنه شاذ ورعبوب يجري عليه نهر الفحولة كما أحدثه قوم لوط، فلَطَم أهل الشاب، وأصابهم الخزي والعار، ولحقهم الذلّ والشنار.

.. وظلّ الشاب منكسراً، منطوياً، مذلولاً، بعد أن كان مثل طُلق الياسمين، يبشر بفتى يحمي الديار، ويلوّح بالسيف البتّار.

وكان أن أصابت الشبان عقدة العادات، وتمنّوا لو أنهم لم يناضلوا، أو يقارعوا العدو، أو يكونوا في هذا السجن ذي الألف قيد وباب وقضيب!

 

الرجوع.. إليها

وأخيراً!

لقد سمحوا لهما بزيارة بعضهما.. ياه، لقد مرّت تسع سنوات على اعتقالهما، وكان من المفروض أن يتزوجا بعد أن عقدا قرانهما، فاعتُقلا، ولم يتمكّنا من التواصل إلاّ عبر الرسائل المكتوبة، بوساطة الصليب الأحمر!

وأخيراً! ستراه وسيراها.

أمضت السجينات الأسبوع الأخير قبل الزيارة بهندمتها وتزيينها. ولكن، كيف؟ لا يوجد سشوار لتمليس الشَّعر، ولا ماكياج أو أحمر شفاه أو كحل أو أخضر أو أحمر لصَبْغ الخدود ومداراة آثار الأيام! وراحت تحدّد حاجبيها، وتزيل الزوائد، وتنظّف الأسنان خمس مرات يومياً، لتضيء ضحكتها، وتطيب أنفاسها!

وشدّت قوامها، وقلّمت أظفارها، وعقصت خصلاتها، واخترن لها أكثر الملابس جدّة ونظافة، وراحت كل واحدة توصيها: تكلمي كذا، واضحكي هكذا، وانظري كذا.

وحارت كيف تسلّم عليه، هل تعانقه أم تصافحه فحسب، أم تقبّل خدوده، أم تضم يده بيديها.

وانشغلن، وحضَّرن، وأوصيْن، وكررن...

ولم تنم ليلتها، وجاءت "البوسطة"، وحملتها صباحاً إلى "المعبار" (غرفة في السجن يتلاقى فيها المعتقلون الذين سيتم نقلهم من سجن إلى آخر)، وطالت الطريق، وسال عرق الرطوبة والقيظ غزيراً، وانتظرت، وكادت الشمس تغيب، فلم تأكل ولم تشرب، فذبِلَت، وتعبت، وأنهكتها الأفكارُ وتزاحُمُ السيناريوهات في عقلها، لكن شغفها وتوثّب قلبها ولهفتها ساعدتها على التماسك.

وأدخلوه،

كان الشيب قد وَخَط شَعره، وغلب عليه، وبدا ضعيفاً؛ بأسنانه التي صارت أقرب إلى السواد، وبشاربه الكث غير المشذّب، وبلباسه اللامبالي.

كان السجان يقف أمام غرفة الزيارة، وهما على مقعدين متقابلين.

وبعد السؤال عن الحال والصحة والأحوال، كانت تتحدث عن زميلاتها في السجن، وكان يقصّ عليها حكايا زملائه في الأسْر.

 ومرّت ساعتا الزيارة، وعاد كل منهما إلى سجنه، ولم يعودا يكتبان لبعضهما أسبوعياً، بل كل أسبوعين أو كل شهر أو اثنين.

وفي الزيارة الثانية، لم تنشغل كثيراً بمظهرها، ونامت ملء جفونها، وتناولت فطورها، ولم تتعجل الأمر، فيما كان هو منشغلاً بلباسه ولحيته وحذائه ولون أسنانه.

وأحسّت، وهو يصافحها، بأنه مرتبك وحزين وهَشّ، وينتظر أن تعيده إلى هناك، عميقاً في الخفاء.

 

مجرد مكالمة

لم تكن حينها قد وصلت الهواتف النقّالة والجوّالات والبلفونات، لنهرّب واحداً، نتّصل بواسطته مع أهلنا، ونتواصل مع الدنيا. أو تَغُضّ إدارةُ السجن نظَرها عن الهواتف النقّالة التي نهرّبها، لأنها ستُراقب مكالماتنا، وتعرف كل أسرارنا وأخبارنا وهمومنا، وتفتح هامشاً تنفيسيّاً لنا.

كان ذلك أيام الهواتف الأرضية وقُرص الأرقام الذي يدور، فيأتي الصوت بعيداً أو غائماً، أو ينقطع الخط فجأة!

وكُنّا نعمل في مغسلة السجن، والسجّان يجلس على طاولته في مدخل المغسلة، وأمامه الهاتف، يربض كالبطة السوداء.

كان عملنا نمطياً رتيباً معروفاً، ومع الأيام اطمأن السجّان لنا، فلم نأتِ على خطأ أو مخالفة أو حركة مُريبة!

فكان يذهب لقضاء حاجاته، ويتركنا في المغسلة، ويكتفي بإغلاق بابها علينا.

نظر زميلي إلى الهاتف، ثم هجم عليه، ورفع السمّاعة، وأدار القُرص، وراح يتحدث مع أمّه على الطرف الثاني، التي ابتهجت، على ما يبدو، بسماع صوت ابنها.
وأعلنت أُمُّه الخبر، ووزّعته وكالات أنباء الحارة والجيران، فتساءل الخبثاء من الناس:

كيف له أن يتحدث بالهاتف وهو في السجن؟

كيف سمحوا له بذلك؟ وما هو الثمن الذي دفعه مقابل ذلك؟

وانخبطت الحارة والبلدة، ووصل الخبر وانتشر، وتفجرَّ الأمر، وتطامن العباد، واتفقوا على أنه "معهم"، وتهامس أهالي المعتقلين مع أبنائهم أثناء الزيارة.

وما هي إلاّ أسابيع قليلة، حتى كان صاحب المكالمة محشوراً في الزاوية، وعليه أن يعترف!!

 

الكابوس

لم يَدُرْ في خَلَدِ الفدائيين، الذين يعبرون الحدود للقيام بعمليات ضد الاحتلال، أنهم إذا نالوا الشهادة سيصبحون أرقاماً في "مقبرة الأرقام"، أو سيتمّ سَجْن جثامينهم في ثلاجات السجن الضخمة عقوداً طويلة!!

وكان يحضر المشرف على الموتى كل ستة أشهر تقريباً، ليرى عن كثب حالة المُمَددين في صناديق البرودة، وَيُعاين بيديه المغلّفتين بكفوف النايلون والكّمامة المُطْبقة على فمه وأنفه وعينيه من وراء زجاج نظارتيه وَضْع الجثّة، ويسجّل ملاحظاته على ورقٍ، ضمن ملفات معلّقة على أُكرة كل جارور.

وفجأة! فَتَح أحد الجوارير، وسَحَبه إلى الخارج، فلم ير شيئاً، سوى بقايا ماء مكثّف يتناثر على صاج الجارور، ولا أحد!

أطبق الجارور، وراح بهلعٍ يفتح باقي الجوارير، فوجدها معبّأةً على حالها.

فعاود النظر في ذلك الجارور الخاوي، وتحسّسه بيديه، ونظر، وطرق على جنبات الصفيح، فلم يجد غير الصدى، فانثنى، وراح يبحث كالمخبول في المكان، فاصطدم برجلٍ له وجه مدبوغ متغضّن شاحب، عارياً إلاّ من قطعة قماش تضرب إلى الصفار، فانذهل وزاغ، وكاد يسقط من هول المشهد، لولا أن الرجل أطبق بيديه على رقبة المُشرف، وراح يضغط ويضغط، ويكزّ على أسنانه، إلى أن سقط مْيتاً. فقام الرجل وحمل المُشرف، ومدّده في الجارور، وأغلقه!

استيقظ المُشرف من كابوسه، وفرك عينيه دائخاً خائفاً، ينتفض من تكرار هذا الحلم الثقيل المُمِضّ المرعب.

في اليوم الثاني كان المُشرف قد أعدّ العدّة لافتعال حريق هائل يأتي على مخزن الموتى، وعلى الثلاجات والموجودات وما فيها.

ومع تصاعد الدخان الكثيف المشعوط، كانت أجسادٌ تتعالى، وسط العجاجة السوداء، بملابسها البيضاء إلى البعيد.

 

فانوس الإمبراطور

مع الانتعاش الذي مَسّ الأحاديث المتعلّقة بالأنْفَاق، والتفكير الحذق لاختراع طريقة غير مسبوقة للهرب، حدّثني أقدم سجين في الغرفة، فقال:

كنا نعمل في مغسلة السجن، فوجدنا مَنْهلاً واسعاً لتمرير المياه العادمة، يُفضي إلى مصبّ قناة المجاري الرئيسة، فنزلنا إليها، ورحنا نحفر فوقها، لعلنا نجد منفذاً يخرجنا إلى النور.

بعد أيامٍ وجدنا فانوساً قديماً، فأخرجناه، وأزلنا الوَخَم والوحل والصدأ عنه، وأيْقنّا أننا سنجد بداخله الجنيّ الذي سيحقق لنا المعجزات! وفرحنا.

وبالفعل، حككنا الفانوس، وانتظرنا، فتصاعد منه الدخان، وبدأ الجنيّ بالتشكّل، وأخيراً، ظهر لنا، فإذا به شخص رئيس الإمبراطورية الكبرى!

فركنا أعيننا، وحملقنا فيه، فإذا به هو هو، الذي يخطب ويصرّح، ويظهر في الصحف والفضائيات.

فقلنا: هذه فرصة لنوصل إليه وجهة نظرنا، لعله يعمل على تفكيك حالة الصراع السرمدية الدامية، ويُنهي هذه الدائرة المُفْرغة المليئة بالدم والعنف والكراهية.

وراح يستمع لنا، وينْصت، ويهزّ رأسه مُنْسجماً مع ما نقوله.

ولاحظنا أنه كلّما تحدثنا عن المجازر والمذابح التي ارتكبها السجّان بحقّنا، تلاشى الرئيس، وانكمش، وصار أصغر حجماً.

وواصلنا كلامنا الواضح الموضوعي المشفوع بالأرقام والتواريخ، لكنه كان يتلاشى ويتضاءل.

وعندما سألناه عن الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الطفل المُنتهكة في بلادنا، صَغُر حجمه، وتقلّص إلى درجة أنه فتح باب الفانوس، ودلف إليه، وأغلق عليه الباب.

حملنا الفانوس، ورحنا نهزّه، لعله يُخَرْوِش أو نسمع حركة ما بداخله، لكنه كان فارغاً!

حفرنا أسفل المنهل حفرة صغيرة، ودفنّا الفانوس.

ورجعنا إلى حالنا.