تقدم هذه الدراسة استعراضا سريعا لتاريخ التناول الرمزي لموضوعة الاغتصاب في المسرح، معرجة على عمل سعدالله ونوس، قبل التريث عند عرض المسرحي العراقي فلاح شاكر (العرس الوحشي) بالتحليل.

العرس الوحشي والاغتصاب الرمزي

قراءة في مقاربة العرض وتأويله للنص

عوّاد علي

حظيت موضوعة "الاغتصاب" باهتمام العديد من كتاب الرواية والقصة والمسرح والسينما في العالم، سواء على المستوى الواقعي أو الرمزي (الفردي/ الجماعي) لفعل الاغتصاب بوصفه شكلاً من أشكال العنف القائم على الجنس، وجريمةً تسبب الصدمة للضحية، وتقوض مركزها في المجتمع. وتشير بعض الدراسات النفسية إلى إن جريمة الاغتصاب تلحق ضرراً كبيراً على الضحية يلازمها طوال حياتها، ويؤثر سلباً على شخصيتها، أنثى أكانت أم ذكراً، كبيرةً في العمر أم صغيرةً، فذاكرتها تحتفظ بهذه الجريمة، وتقع تحت تأثيرها، وقد يغلب عليها حب الانتقام السري من الجاني. هذا على الصعيد الواقعي، أما على الصعيد الرمزي، وهو ما يهمنا في الإبداع الأدبي والفني، فثمة انواع مختلفة من الاغتصاب تندرج، اذا ما اردنا فلسفتها، تحت مفهوم الاغتصاب الجمعي، مثل استلاب وطن أو أرض (احتلال) أو سلطة، أو حرية تعبير، أو حقوق مدنية، أو أحلام شريحة اجتماعية تقع تحت خطوط البؤس، و تسعى إلى الخلاص، او الحصول على مخلص... إلخ.

* * *

في المسرح العالمي تُعد مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي)، للاسباني أنطونيو بويرو باييخو، من أشهر المسرحيات التي تتناول موضوعة (الاغتصاب)، فهي تتوجه إلى تشريح التعذيب السياسي، وعدوانه الإنساني وتخريبه للجسد والروح، وتدور أحداثها في بلدة إسبانية. وقد أعد سعد الله ونوس هذا النص تحت عنوان (الاغتصاب) حاول فيه مقاربة الهم الفلسطيني على خلفية الأحداث نفسها، ولم يكتف بالاغتصاب الجسدي الذي يتعرض له المعتقل الفلسطيني وزوجته على يد ضابط إسرائيلي، بل أضاف إليه اغتصاب زوجة الأخير على يد رئيسه ليمد الدلالة إلى اغتصاب الأرض والتاريخ.

وفي الرواية العالمية، وخاصةً ذات المنحى النسوي منها، ثمة عشرات النماذج التي تنبني متونها السردية على حدث الاغتصاب، ومن أحدث تلك النماذج، مثلاً ، رواية (العقاب) (2004) للأميركية جيليان هوفمان، التي تدور أحداثها حول اغتصاب شاب لصديقته الطالبة الجامعية وتركها معاقةً جسدياً ونفسياً، غير قادرة على أداء الامتحان، فتبحث عن العزاء في مكان آخر. أما في الرواية العربية فأشير، تمثيلاً أيضاً، إلى رواية نسوية بعنوان (جراح الروح والجسد) (1999) للمغربية مليكة مستظرف، تقدم سرداً ذاتياً نابعاً من تجربة داخلية مزلزلة خرجت منها طفلة ـ بطلة الرواية ـ مثخنةً بالقهر والمهانة بسبب استباحة أحد الرجال لجسدها الغض. وقد وشم جرح هذه الطفلة في ذاكرتها صورة الذكر الشبق المسيَّر بالشهوة، والمنقاد إلى الرغبة الآثمة، مستشعرةً عداءً دفيناًَ لكل ما يمس عوالمه.

* * *

استوحى الكاتب المسرحي العراقي فلاح شاكر مسرحيته (العرس الوحشي)، (التي عرضت في مهرجان المسرح الأردني الثالث عشر عام 2006، وفازت بجائزتي أفضل نص وأفضل عرض متكامل)، من رواية بنفس العنوان للفرنسي يان كفلك، تدور أحداثها حول جندي أميركي في إحدى الوحدات التي كانت تخدم في فرنسا. وقبل أن تغادر وحدته عائدةً إلى أميركا بيوم بواحد، يصطحب صديقته الصغيرة في رحلة توديعية، لكنه يميل بعربته العسكرية إلى مكان منعزل ينتظره فيه اثنان من زملائه في الوحدة، وهناك يقوم الجنود الثلاثة باغتصاب الصبية، تاركين بذرةً ملعونةً وملتبسةً في أحشائها، لكن محاولات التخلص من الجنين تفشل، فيأتي المولود وتعجز الأم، وهي تتأمل صورته، عن معرفة من هو أبوه من بين المغتصبين الثلاثة. وتحاول قتله مراتٍ عديدةً لكنها لا تنجح، فتعامله بقسوة مفرطة ليعيش فصامياً معزولاً ومشرداً. وتنتهي الرواية بقيام الابن بقتل والدته خنقاً في البحر كطريقة وحيدة لمعانقتها للمرة الأولى والأخيرة!

وقد سبق لشاعر عراقي، هو محمد مظلوم، أن خمّن، متأملاً في ظاهرة قتل عشرات النساء العراقيات، ممن يعملن في خدمة الثكنات العسكرية للقوات التي تحتل بلده، بذريعة (غسل العار)، خلال عام واحد من الاحتلال، خمّن بأن رواية (العرس الوحشي) هذه ستصبح مرجعيةً أدبيةً وتأويليةً لبعض الكتاب العراقيين، وسيعاد اكتشافها من جديد في هذه المرحلة. ولكن فلاح شاكر لم يشأ، وهو يتخذ منها مرجعيةً، أن يحاكي هذه الظاهرة الواقعية في نصه الدرامي، كما يفعل الكتاب التقليديون حينما يستوحون نصوصهم من الواقع، بل عمد إلى خلق واقعة تقوم على الاحتمال، وربما مفارقة لأفق توقع المتلقي، وشحنها بقوة سيميائية ليرتفع بها من إطارها المرجعي/ الفردي إلى مستوى استعاري/ جمعي.

فالصبية، في نصه، التي اغتصبها ثلاثة من الجنود الأميركان (المارينز)، وحملت جنيناً، لا تعرف مَن منهم أباه، لم يقتلها أهلها غسلاً للعار، لسبب لا يحدده المؤلف، تاركاً للمتلقي أن يتخيله، من خلال ملء الفراغ الذي يشكله في فضاء النص، ذلك الفراغ الخلاق الذي يحول حدث (الاغتصاب) من علامة صغرى، أي جريمة اغتصاب ضحيتها فرد واحد، إلى علامة كبرى تشير إلى استلاب وطن كامل واستباحته، بوصفه الفضاء الحضاري الذي تكونت فيه طفولة البشرية. ومما يعزز استنطاقنا لهذا الفراغ/ العلامة الكبرى أن الصبية التي أنجبت طفلاً سفاحاً، رغم محاولاتها اليائسة قتل الجنين في بطنها، ترفض أن تكون أماً لمولود هو ثمرة اغتصاب وحشي، ولا تستطيع أن تحبه لأنه صار آلاماً في رحمها تطيل لحظة عذاب ذلك الاغتصاب إلى الأبد.

ولو قرأنا مفردة "المولود" هنا كعلامة ذات محمول إنساني يحيل إلى العلاقة البيولوجية التي تربط الأم بوليدها لما تقبلنا تنكرها له في هذه المسرحية، كونه لا ذنب له، ولا يحق لأمه أن تنبذه، وتعاقبه بتركه وحيداً ست سنين في مخزن الغلال المظلم، محروماً من الحب والرعاية والحنان حتى يصل به الحرمان إلى حب البعوض لأن لسْعَتـَهُ جعلته يشعر بكينونته وانسانيته "إنها لا تتركني وحدي .. تلسعني .. تعانقني ...". وكذلك بمحاولتها، أي الأم، أن ترميه في الفرن لولا اعتراض أبيها الذي منع الخبز عنه. وأخيراً بإرساله إلى المصح العقلي للتخلص منه نهائياً. أما إذا قرأنا مفردة "المولود" بوصفه علامةً رمزيةً منبثقةً من العلامة الكبرى، وهي القراءة التي أرجّحها، فإننا نجد أنفسنا متعاطفين مع تنكر الأم لابنها، ومستسيغين سلوكها وموقفها منه، فهو هنا ليس العصفور الذي حملته الشجرة المقطوعة بفأس الحطاب، كما يحاول أن يشبّه نفسه لتليين قلب أمه واستمالتها إليه، وهو يتساءل: "أنَخْنقُ العصفور لأنه سيكشف عن بشاعة الحطاب أم نقتله لأنه يفضح سكوت الشجرة عن قطعها؟"، بل هو الدمار الذي زرعه المغتصب/ المحتل في الوطن، والتركة المشؤومة التي خلفها المارينز وراءهم لأرض كان شعبها يحلم بالحرية والانعتاق. ولكم كانت رؤية المخرج أحمد حسن موسى لماحةً وذكيةً حينما رسم شخصية الابن ( التي أداها رائد محسن أداءً مبدعاً) على النحو الذي ظهرت فيه، شخصيةً مشوهة الخلق، في ظهرها حدبة، تمثل كينونةً استعاريةً، وعلامةً حبلى بمدلولات وصور للاغتصاب الجمعي بدلالته الرمزية، ليذكرنا بالمخلوقات القزمة ذات الآذان المدببة والرؤوس الفرائية والأيدي الحرشفية التي خرجت من صندوق باندورا (هبة الإله الغيور زيوس للبشر في الأسطورة اليونانية) زاحفةً على الأرض لتنشر البؤس والبشاعة، وتغرس الخصام بين أهلها.

لقد حاول فلاح شاكر في (العرس الوحشي) إنتاج خطاب مسرحي موازٍ للخطاب السردي الذي انتجه يان كفلك، فرغم علاقة التناص، على مستوى الحدث في إطاره العام، بين المسرحية والرواية، فإن الأولى تنسج عالمها بخيوط درامية تحمل خصوصيةً تمثل نهج فلاح شاكر في خلق دراما مسرحية ذات نكهة متفردة من حيث بناء الفعل المتوتر والصراع المتأجج بين الرغبات والهواجس والعواطف الإنسانية العميقة المتناقضة حيناً والمتقاربة حيناً آخر، وكأن أطرافها في مباراة كونية، يتصارعون للسيطرة على منصة الحضور الكوني! فها هنا يتمظهر التوتر بين الأم وابنها حاداً، ساخناً، يدفع العاطفة إلى التتأجج بالحيرة، والعقل إلى نسيان مغامرة المنطق، فلا يبدأ أحدهما حتى يبدأ الثاني، يضاهيه في السيطرة على بنية النص، ولكن تبقى الأم لها سطوة الحضور، في ذلك التجاذب الساخن بين المريض والممرضة، بين المحب الهائم والمحبوبة الساخرة... وكما في جميع تجارب فلاح شاكر المسرحية يتسم الحوار في هذه التجربة بأسلوبه الشاعري، وغنائيته العالية المتناغمة مع توتره ودراميته وحسه الوجداني والفلسفي:

"الأم: الشجرة ماتت أوراقها..غادرها ربيع الحلم.. إذا قُتـِلَ حلم البيت داخل المرأة فإنها ستكون مستباحة..
وحينئذ العالم كلّه حتى السموات لا يمكن أن تكون بيتاً صالحاً لها..
الابن: وهم بيت
الأم: الموتى لا يؤمنون بالوهم .."

* * *

لم تكن مقاربة المخرج أحمد حسن موسى لهذا النص مقاربةً امتثاليةً، بل مقاربةً منتجةً تقوم على رؤية مغايرة، وتأويلية تخطت النسق النص الدلالي للنص، ونواياه، ونسجت خطابها الجمالي، واقترحت مغزى مختلفاً له من خلال قرائتها واستنطاقها لما هو مسكوت عنه، فعمل المخرج مبضعه كالجراح الماهر، وراح يشّرح جسد النص، ويعيد تركيبه، يحذف ما يراه غير منسجم مع رؤيته، وسياق القراءة، ويفجر مكنوناته الوجدانية، ويشيّد من أحجاره بناءً اخراجياً متماسكاً في تشكيلاته، وإيقاعه، وظلمته وإضاءته، تتوازن فيه الحركة والحوار في فضاء بصري سمعي فعال في تأجيج التحفيز النفسي للمتلقي، وشده إليه. ويقودنا التركيز على تفاصيل هذه المقاربة التأويلية، التي تُعد العمود الفقري لأي تجربة إخراجية متميزة، إلى الإمساك بحوافز (موتيفات) الاختلاف بين رؤية المؤلف ورؤية المخرج، وهي حوافز أسست، حسب هذه القراءة، نصاً ثانياً موازياً لنص المؤلف هو نص العرض الذي يشتبك معه المتلقي، ويؤوله، ويفكك شفراته. ومن جملة تلك الحوافز:

1- تحاول الأم، في نص المؤلف، الحصول على النقود التي أخفاها الابن في العبارة لتسافر، أوتهرب إلى الخارج "أعطني النقود.. عليّ أن أغادر العراق.. هذا خلاصي الوحيد". ويشير هذا الحافزإلى أن شخصية الأم، رغم منحاها الاستعاري الذي يحولها إلى صورة للوطن أو الأرض، فإن النص يقدمها بوصفها كائناً درامياً/ اجتماعياً يفكر بحلول واقعية لأزمته الإنسانية، حتى وإن كانت تلك الحلول تتقاطع مع مكانتها الدرامية الرمزية، أو مع المثل العليا التي يتقصد بعض الكتاب إيلاءها أهميةً. أما في العرض فقد عمد المخرج إلى كسر أفق توقع المتلقي، وآلية إدراكه التي تفترض معرفتها بسياق الفعل الدرامي وسيرورته استناداً إلى قرائن تقليدية بأن جعل الكنز (الثروة) الذي تسعى الأم (مثلتها شذى سالم ببراعة) إلى استرداده هو عباءة أبيها وعقاله المخبئين في صندوق معلق في سقف المسرح. ولنا أن نتخيل الدلالات الحافة لهذا الكنز، وخاصةً حينما ترتدي العباءة وتلف العقال على رقبتها، في المشهد الأخير، وهي تقف على الصندوق المعدني (من مخلفات الآلة العسكرية للمارينز) الذي دفنت فيه عارها (الابن السفاح)، عار الاحتلال، حياً حتى تكتم على أنفاسه، وتتخلص منه إلى الأبد، ثم تشنق نفسها بذلك العقال لتوحي لنا بعملية تطهير تراجيدية أشبه ما تكون بعملية شنق كلمنسترا لنفسها في تراجيديا (أوديب) الاغريقية بعد اكتشافها لخطيئة زواجها من ابنها، على النقيض من امرأة الأسطورة (باندورا) التي لا تفلح في إعادة المخلوقات الشريرة إلى صندوق زيوس.

2- كانت الأم، في نص المؤلف، متزوجةً بعد ولادتها من مترجم اسمه سعيد (من الواضح أنه كان يعمل مترجماً مع القوات الأميركية، رغم عدم إفصاح النص عن ذلك) لأسباب عديدة منها: التخلّص من عذاب أهلها، ومحاولة إيقاف عارها عند سد الماضي (حينما يصبح الزوج أباً لإبنها)، والحصول على المال الذي يساعدها في السفر إلى الخارج. ولكن المترجم يُقتل على يد الابن، رغم أن الأول كان متعاطفاً معه، وحاول إبقاءه في البيت، معرضاً علاقته بزوجته إلى التوتر، ففشل في كبح جماحها، ورضخ إلى إصرارها على طرده:
"الإبن: كنتِ تصرخين بالمترجم .. لا أريده هنا لا أستطيع التنفس وهو هنا.. حاولَ المسكين إبقائي.. ولكنك منعتِ عنه كلّ ما يمكن أن تمنحه المرأة لزوجها.. ذهبت إلى غرفة أخرى.. إلى سرير آخر..".
وقد شكلت الغيرة الأوديبية الدافع الأساسي لعملية القتل، ساقطةً بكل ثقلها على فضاء النص، متحركةً بقوة، بلعنة، بشهوة الالتهام، برغبة البقاء الأزلي رغم المفارقة الكبيرة:
"الابن: ... بنيت لك بيتاً من الرمال فوق الشاطيء حتى تتركي المترجم وتسكنيه لوحدك.."
" الابن باهتياج: تكذبين وأعرف أنك تكذبين.. سنوات وأنا أسكن هذه العبّارة ولم تزورينني قط.. كنت في الليل أطوف حول البيت.. من النافذة كنت أهمس أمي، وأنت تجلسين قرب المدفأة تشاهدين التلفاز، وهو يجلس قربك يقرأ ويقبّلك بين الحين والآخر.
الأم : كنت تتجسّس علينا.. ألهذا قتلته؟". وفي نص العرض لانجد أية إشارة إلى زواج الأم بعد اغتصابها، وانجابها، وذلك لكي يضفي المخرج عليها صفات مثاليةً (بيوريتانيةً)، ويعمق البعد السيميائي/ الرمزي في شخصيتها. وتكشف عملية تجريدها (أو تنقيتها) من الشوائب الاجتماعية، على هذا النحو، عن رؤية إخراجية صبغت خطاب العرض المسرحي في معظم تفاصيله، وأعني بها تقديم شخصية الأم إلى المتلقي بوصفها أنموذجاً للضحية المطلقة (أو الخالصة) التي يدفعها إحساسها بالمهانة، وثقل الحيف الذي وقع عليها إلى المقاومة، والتحدي... وأخيراً الانتحار التطهري.

3- وفي سياق هذه الرؤية الإخراجية أيضاً حذف المخرج حوارات للأم، في نص المؤلف، تكشف، صراحةً، أنها كانت على علاقة عاطفية مع أحد جنود المارينز الذين اغتصبوها، ومنها الحوار الآتي الذي تتخيل من خلاله أنها تخاطب ذلك الجندي:
"الأم: نعم أعرف أنك ستعود العام القادم.. خدمتك العسكرية ستنتهي وتعود إلى أمريكا .. وأنا ؟ سأذهب.. لِمَ لا آتي معك.. إلى مشيغان.. سأعيش في مزرعتك الرائعة.. من ذا يستطيع أن يصبّرني عاماً على فراق أنفاسي؟ وأنا أخاف أن أقتل.. لأني أحبك..".
وحين تسترجع حادثة الاغتصاب الجماعي التي خطط لها حبيبها تصرخ نادبةً:
"الأم: ويل.. لا.. لا.. ويل كذبت عليّ.. لا يا ويل لن تجعلني مومساً.. لازلت صغيرةً.. ليس ثلاثتكم.. ليس ثلاثتكم ".
وفي الوقت الذي يكشف وجود هذه الحوارات، في نص المؤلف، عن المنحى الدرامي/ الإنساني (غير المثالي) لشخصية الأم، كما أسلفت، ويؤكد، ربما، على امتثال المؤلف لأجزاء من معطيات الرواية التي استوحى منها مسرحيته، ومن ثم لرؤية يان كفلك، فإن حذفها في نص العرض يؤكد بالمقابل على امتلاك المخرج رؤيةً مغايرةً تماماًً لرؤية المؤلف، وهي رؤية تسم بطلة المسرحية، في بعدها الرمزي، بالنقاء الوطني، والكمال المطلق الذي لايشوبه أي سلوك سلبي، والعذراء الطاهرة المغتصبة. ويذكّرنا هذا التباين بين رؤيتي المؤلف والمخرج بتباين بريخت وبعض المؤلفين الفرنسيين في تصوير شخصية "جان دارك"، فقد وسمها الأول بـ "قديسة المسالخ"، ولم يكن شعوره تجاهها طرياً للغاية، في حين صورها الثاني بطلةً خالصةً من دون منازع، بل أقرب ما تكون إلى نبية، ورعة، شفافة، عذراء طاهرة.

4- تنتهي أحداث المسرحية، في نص المؤلف، بانهيار الجزء الذي تقف عليه الأم من العبارة (الفضاء الدرامي المتخيل)، وسقوطها في النهر مع سماع أصوات رصاص. وحين يحاول الابن الامساك بها لانقاذها يسقط معها في الماء، وهو يردد بأعلى صوته "أماه.. أماه"، ثم يختلط صوته بالنشيد الوطني الأميركي. وترشح عن هذه النهاية التراجيدية الرمزية مدلولات عديدة تتعلق بموت طرفي المعادلة في عملية الاغتصاب (=الاحتلال) بفعل حتمي لا اختياري، وهي من دون شك نهاية تتناغم ونوايا المؤلف النموذجي (الذي نفترض أنه يختلف عن المؤلف الفعلي) بوصفه استراتيجيةً نصيةً، على حد تعبير أمبرتو إيكو، في حين ينتهي العرض، في نص المخرج، كما ذكرنا، بدفن الأم لعارها حياً في صندوق معدني، وشنق نفسها بعقال أبيها، وهو فعل اختياري، نابع من إرادة مقاومة، يرمز إلى اجتثاث غرس الاحتلال ومحو بشاعته، والتضحية بالنفس كخلاص نهائي. ولكنه يبدو، من منظور نقدي، فعلاً قصدياً للمخرج خاضعاً، في نواياه، لفكرة مثالية أكثر من كونه حافزاً درامياً مقنعاً للمتلقي.