كتبت عما تمثله ثورة 25 يناير المصرية الرائعة، ثورة الشباب والجيل الجديد ومصر كلها، من عودة حقيقية للروح المصرية، والعربية من ورائها. ليس فقط تلك العودة الأسطورية التي تحدث عنها توفيق الحكيم في روايته الرائدة، وإنما عودة الروح بكل دلالاتها المتعددة، وطاقاتها التي لاتحد. وهي عودة مغايرة كليا وجذريا لتلك التي نجدها في رواية توفيق الحكيم، والتي نعرف جميعا أنها، أي الرواية، كانت الملهم الأساسي الذي دفع جمال عبدالناصر الشاب لتكوين تنظيم الضباط الأحرار والقيام بحركته «حركة الضباط الأحرار» أو انقلابه العسكري، والتي سميت فيما بعد بثورة 23 يوليو. وتبدو الآن بالمقارنة مع ثورة 25 يناير العظيمة، وما خرج فيها من ملايين، انقلابا عسكريا وليست ثورة بأي حال من الأحوال. وربما كان اسم حركة الضباط الأحرار الأول هو ما قرّ في وعي رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال، أحمد شفيق منذ بواكير شبابه التي يبدو أنه لم يتقدم عنها برغم أن الشيخوخة أدركته على أكثر من مستوى، ولذلك يشير دوما لثورة 25 يناير الرائعة باسم الحركة لا الثورة، إذ يبدو أن فكره ووعيه لم يتجاوزا بعد حركة الضباط الأحرار، والنصف الأول من القرن الماضي.
وعودة الروح التي أتحدث عنها هنا يدرك أبعادها بشكل مادي ملموس جيلنا، المعروف بجيل السيتينات، أكثر من غيره من الأجيال التي تعيش الآن في مصر. لأنه الجيل الذي عاش انكسار هزيمة 1967 المروّع والمدمر معا وهو في شرخ الشباب. وهي الهزيمة التي رفضها هذا الجيل، جيل الشباب وقتها، في مظاهرات عام 1969 الشهيرة، كما رفضها جمال عبدالناصر بلاءات مؤتمر الخرطوم الثلاثة، ولكن سرعان ما كرسها السادات بحرب التحريك التي انتهت بجيش العدو الصهيوني على بعد 101 كيلومترا من القاهرة (حيث كانت تدور المفاوضات المعروفة بهذا الإسم) يفاوض ويساوم ويسوم مصر الهوان الذي بدأ تمرغها في وحوله منذ ذلك التاريخ. وانتهت تلك المفاوضات بفض الاشتباك، وجولات كيسنجر المكوكية، التي أفضت في نهاية المطاف، وبعد مسيرة غريبة نزع فيها الشعب المصري عن نظام السادات كل شرعية، حينما خرجت مظاهرات 18 و19 يناير الشهيرة عام 1977 من شواطئ بحيرة ناصر جنوبا وحتى شواطئ البحر المتوسط شمالا ترفضه، في تصويت شعبي كاسح وعفوي وغير مسبوق. فما كان منه بعد شهور من نزع الشرعية عنه، إلا أن ذهب إلى العدو الصهيوني، ووقف في الكنيسيت حيث اختار العدو الصهيوني أن يضع المنبر الذي يخطب منه، لمرارة الرمز والمفارقة، تحت الخريطة التي تقول أن المشروع الصهيوني «من الفرات إلى النيل». ووضع أوراقه كلها في سلة عدو مصر الأساسي، وبقية القصة التي أدت إلى كامب ديفيد وتكريس الهزيمة بالصلح المنفرد والكريه مع العدو الصهيوني، ووأنتصارها الرهيب بفتح سفاره لدولة الاستيطان الصهيوني في القاهرة، معروفة ولا تحتاج إلى تكرار. كل ما أريد تأكيده هنا أن النظام المصري، وليس الشعب المصري الذي رفض التطبيع ولايزال، ارتمي في أحضان عدو مصر الصهيوني منذ ذلك التاريخ البعيد وحتى اندلاع تلك الثورة المصرية الرائعة، وهذا هو سر هلع العدو الصهيوني على فقدان ذخره الاستراتيجي في المنطقة، ومناوراته بل مؤامراته المحمومة ضد الثورة؛ والتي علينا جميعا أن نلتفت إليها، وأن نأخذ حذرنا منها.
وقع الهزيمة على النفس العربية
أقول أن جيلنا ضربته الهزيمة وهو في شرخ الشباب، وعاش سلبياتها التي تسللت إلى ثؤر الروح وأخذت تفت في عضده وعزيمته، وتنهش أحلامه ومستقبله. وتابع وقعها الرهيب ليس فقط على نفسية الشعب المصري، الذي كان أي رفض له للهزيمة منه يقابل بالبطش والقمع والخذلان، كما جرى في مظاهرات عام 1972 الشهيرة، والتي كتب عنها أحد أبرز شعراء جيلنا، أمل دنقل، قصيدة خالدة بعنوان «الكعكة الحجرية»، ولكن أيضا على آدائه وسلوكه في كل مجالات الحياة لسنوات طويلة، وعرقلت طاقة العطاء والإبداع فيه. فلا يوجد شيء يعطل طاقات شعب بأكمله مثل الانكسار والهزيمة، وافتقاده للروح .. روح العزة والكرامة والتحدي التي تبث في نفس الشعب الثقة بذاته وبمشروعه، وتزرع فيه القدرة على اجتراح المستحيل، والتي لا تنهض بدونها الشعوب. فليس ثمة ما يبدد طاقة شعب قدر تغييب أي مشروع له، وهذا ما عاشته مصر طوال أربعة عقود، دون مشروع وطني أو شعبي. لذلك لابد أن يبدأ بهذه الثورة عهد جديد، بروح جديدة بعدما عادت لمصر روحها المتوفزة المبدعة الخلاقة، وأحس كل فرد من الشعب المصري معها بأن له قيمه، وأن صوته ودوره ليس مطلوبان فحسب، ولكن باستطاعتهما أن يغيرا ميزان القوة. لأن الهزيمة وما تبعها من انكسار تسلل إلى ثؤر الروح المصرية، وعشش فيها لأربعة عقود، كانت السبب في نجاح النظام المصري الفاسد والذي يستند على شرعية ما سمي بثورة يوليو التي أنهتها الهزيمة، في قهر هذا الشعب العظيم والعصف بإرادته وأحلامه وكل حقوقه. ودعمه في ذلك نظام عالمي دولي جائر كان حريصا على طول تاريخ مصر الحديث، ومنذ انقضاضه على مشروع محمد علي وحتى إجهازه على مشروع عبدالناصر، على تقزيم دور مصر وعرقلة أي نهضة حقيقية فيها.
وقد عاش جيلنا وقائع هذا العصف وعانى من كل تجلياتها الشوهاء. لهذا فإنه يدرك وبشكل مادي ملموس معنى عودة الروح إليه وإلى مصر، وربما أدرك أنا شخصيا أكثر من غيري من أبناء جيلي، وبشكل مضاعف، دلالات تلك العودة. لأنني عملت لما يقرب من أربعة عقود في عدد من أكبر الجامعات الغربية، من هارفارد وكاليفورنيا، إلى أكسفورد وأدنبره واستكهولم، وأمضيت ربع القرن الأخير أستاذا في جامعة لندن. وخلال هذه السنوات الطويلة، التي كنت اتعامل فيها مع شباب الطلاب والطالبات في أوروبا وأميركا، كنت أدرك أهمية أن تكون روح الشعب حاضرة فيه، وأن يكون لدى كل شاب وعي بأنه يعيش في أفق مفتوح. يمكن أن يحقق فيه أحلامه ومطامحه مهما اشتط فيها. وكيف أن هذا الحضور يفجر طاقات هذا الشعب، ويبث في شبابه خاصة قدرات غير منظورة، وكنت أرى الفرق الواضح بين هذا الشباب الذي أعلّمه، وإنجازه الكبير برغم تواضع قدراته، وبين شباب مصر الذي عاني من غياب الروح أو شحوبها برغم تميز قدراته. وكيف أن شبابا أقل قدرة وذكاءا من الشباب المصري كان قادرا على أن يفعل ما لايفعله شبابنا الذي كان يربى على الانصياعية والخنوع، ويتجرع كل يوم ممارسات الاستبداد المهان من العدو والعالم الخارجي معا، والذي لا سبيل أمامه إلا إهانة شعبه والزراية بقيمة الإنسان فيه.
نقش الثورة في ذاكرة الوطن:
وها هي ثورة مصر العظيمة قد أعادت الروح لمصر بعد غياب طويل، وأصبح واجب كل مصري مخلص شريف، وكل مثقف وطني حرّ، أن يعمل ليل نهار كي تظل هذه الروح حية ومتقدة، تمكن الشعب الذي خرج من قمقم القهر والتزييف والخنوع والخذلان من اجتراح المعجزات التي تعود بمصر إلى عهدها القديم، وتبوئها ما تستحقه من مكانة بين الأمم. عودة الروح هذه لم تتحقق، وما كان لها أن تتحقق إلا بمعجزة بحجم تلك الثورة الجبارة، وبمخاض دموي راح ضحيته ما يقرب من أربعمئة شهيد. أقترح أن تحفر أسماؤهم وتنقش بماء الذهب على مسلة بازلتية حديثة تنصب في ميدان التحرير، كي تظل محفورة في ذاكرة مصر التاريخية، وظاهرة للعيان في جغرافيا أهم ميادينها. ليس فقط باعتبارها شاهدا على ما جرى، ولكن أيضا تذكيرا بأن تلك الثورة التي عمّدها الشباب بالدم وأعادت لمصر روحها لابد من حضورها في وعي كل أجيال الحاضر والمستقبل، والحفاظ علي وهجها واستمرارها.
هذا ما تفعله الأمم الراقية، وقد اثبتت الثورة السلمية الرائعة أن مصر من أرقى أمم الأرض بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء. وأن تاريخها الحضاري العريق الذي يمتد لسبعة آلاف عام، لم يذهب بددا، بالرغم من حرص أعدائها على محو ذاكرتها التاريخية باستمرار. ومن يريد مثالا، ما عليه إلا أن يعود لعمود الباستيل الشهير في وسط باريس، والذي يخلد حتى اليوم شهداء ثورة الأيام الثلاثة الشهيرة من يوليو عام 1830. وهي الأيام المصيرية التي شهدها بمحض الصدفة رفاعة رافع الطهطاوي أثناء إقامته في باريس ولم يعرف كيف يوصّفها. هذه الأيام الشهيرة في تاريخ فرنسا قد أحالت بحفرها على عمود الباستيل الشهير ذاك، ما حققته من حرية تعبير وتأسيس لحقوق المواطنة إلى خطوط حمراء لا يمكن النكوص عنها، او انتهاكها، أو القفز على مؤسساتها حتى اليوم. وأقترح أيضا – واقتراحي هذا لا يتعارض مع الاقتراح الذي كتب عنه الأستاذ سلامة أحمد سلامة بإطلاق أسماء الشهداء على المدارس التي تحمل اسماء المستبد المخلوع أو زوجته، بل يكمله - أن تنصب هذه المسلة البازلتية فوق الكعكة الحجرية التي كانت مصنوعة من الجرانيت الأحمر، والتي أزيلت من هذا الميدان في عهد السادات الكئيب، وقيل أنها نقلت لمكان مجهول حتى يتم الانتهاء من الحفر لمترو الأنفاق، وأنها سوف تعاد ولم تعد. لأن مسلة هذه الثورة التي أقترحها هي بنت تلك الكعكة الحجرية التي خلدها أمل دنقل في قصيدة، فأزالوها كي تظل ذاكرتنا ممحوة، وكي يسهل البطش بشعب مهزوم وبلا ذاكرة تاريخية. على أن تقوم مسلات مشابهة في ميادين مماثلة في كل المدن المصرية التي سقط فيها شهداء أثناء الثورة للغرض نفسه.
فأحد آليات الحفاظ على تلك الروح العائدة حية وفاعلة هي أن نجعلها جزءا من الذاكرة المصرية الحية التي يشاهدها ويعيشها المواطن المصري كل يوم. كي تظل جدوة الروح تلك فاعلة وقادرة على تفجير طاقات مصر على العطاء. والواقع أن مصر كلها قد بدأت تلمس تجليات عودة الروح تلك في حياة المصريين في الأيام الأخيرة، في سلوكات الناس اليومية، وفي إحساسهم بأنفسهم وارتفاع سقف تطلعاتهم وصبواتهم. ولو حافظنا على الثورة، ورعينا خطاها لتحقيق كل مطالبها المشروعة، وهذا هو واجب كل مصري، وواجب كل مثقف حرّ شريف لم يعمل مع النظام البائد، ولم يساهم في تكريس فساده وإطالة عمره، فإن مصر التي يعتز أبناؤها بأنفسهم وبوطنهم معا، ستحقق المعجزات، وستتبوأ المكانة التي تستحقها بين الأمم. وقد تابعت طوال أيام تلك الثورة وحتى اليوم ما يكتبه عنها العالم، وخاصة العالم الغربي، الذي كان يعتبر الرئيس المخلوع حليفه الأساسي في المنطقة، ولكنه أضطر أمام رقيّ الثورة وتحضرها إلى الاعتراف بأنها أحتلت بسلوكها الراقي ومطالبها العادلة الموقع الأخلاقي الأعلى، فبُهِر العالم بها ووقف بجانبها، بينما سقط النظام بعنفه وغزوة إبله المتخلفة، وبلطجيته الحقراء، إلى حضيض أخلاقي غير مسبوق، فتخلى عنه العالم كما تخلى عنه شعبه.
شرعية الثورة وإنجازاتها
والواقع أنه لايحافظ شيء على الروح التي عادت مع ثورة 25 يناير لمصر أكثر من الانطلاق من شرعيتها لبناء نظام جديد. ويستطيع من تابع أحداث هذه الثورة أن يرى كيف كانت عودة الروح التدريجية تلك تمدها بزخم متنامٍ، يتجلى في صمودها واستمرارها من ناحية، وفي التبلور العقلي الناضج والمتصاعد لمطالبها المشروعة من ناحية أخرى. لذلك أشدد على أهمية الإنجاز الأول لهذه الثورة العظيمة، وهو عودة الروح إلى مصر التي مرغها النظام السابق في وحول التبعية والتردي والهوان. فمع عودة الروح تعود العافية وتنفض مصر عن نفسها انكسارات الهزيمة التي عششت في ثؤر الروح لسنين، واستلت من النفوس قدرتها على الفعل، ومن الإنسان إحساسه بالعزة والكرامة. وتوشك تلك الروح العائدة والتي انتظرناها طويلا أن تكون كالعنقاء التي ولدت من جديد من رماد سنوات الانكسار والهزيمة. والعنقاء طائر مستحيل ونادر، لهذا لابد من الوعي بتفرده وأهميته معا، ومن الحفاظ على تلك العنقاء التي ولدت من رماد الهوان الذي مرغ فيه نظام مبارك المخلوع مصر كلها. لابد من الحفاظ على ذلك الكائن الجميل المستحيل معا، ليس فقط من أجل مصر، ولا حتى من أجل العرب، بل من أجل العالم كله الذي بهرته ثورة مصر، وانحنى لها إجلالا وتقديرا، حيث يعتبرها معظم من كتبوا عنها في الغرب أحد أهم ثورات التاريخ وأكبرها وأكثرها رقيا وتحضرا. فقد ظل تيار الثورة في التصاعد، برغم كل مؤامرات النظام وإعلامه وخطاب مؤيديه وكلاب حراسته المفضوح، والذين يدور الكثيرون منهم على انفسهم دورة كاملة لينقضوا على الثورة بزعم أنهم ثابوا إلى رشدهم وأدركوا أهميتها، وهذا أيضا خطر آخر يحيق بها، كأخطار الخارج تماما.
وقد أثبت الشعب المصري رقي معدنه، وعلّم العالم درسا في معنى أن تكون متحضرا بحق، وليس متشحا بقشور الحضارة وطقوسها وأدوات بطشها، وراءك آلاف السنين من الحضارة والعراقة التي تحولت إلى حدوس عميقة ترود حركة المتظاهرين برغم بساطة الكثيرين منهم وعفويتهم. واستطاعت الثورة بنبلها ورقيها واحتلالها للموقع الأخلاقي الأسمى أن تحقق الكثير. لم تجرف الثورة نظام مبارك الفاسد العفن فحسب، ولكنها جرفت في طريقها أيضا كل السلبيات التي طالما ألصقت بالشعب المصري، ضيقا من صبره الطويل مرّه، وظلما له واتهاما بالاستكانة والتواكل والخنوع أخرى. وظل الشعب على مد أيام الثورة المتتابعة واعيا بهدفه لايحيد عنه. فقد كان شعار الثورة الرئيسي هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو شعار محوري، لأنه يوشك أن يكون الشعار الوحيد، بين شعارات الثورة الكثيرة والتي آمل أن يكون هناك من جمعها من أجل دراسة ضافية لها في المستقبل، المصاغ بالفصحى، بينما جل الشعارات مصاغة بالعامية المصرية. وهذه الصياغة اللغوية الفصيحة تكسبه ثقلا إضافيا دالا. وها قد سقط رأس النظام، لكن لابد من إسقاط النظام بأكمله، وبأسرع وقت ممكن، لأنه كلما تأخر ذلك كلما استطاعت فلول النظام إلحاق الضرر بالثورة، والقضاء على الكثير من الوثائق التي ستمكنها من اكتشاف سلبيات الماضي وتصحيحها. فقد امضى الكثيرون من سدنة النظام السابق أيامهم الأخيرة يمزقون الوثائق ويحرقونها. لذلك لابد من الانتباه لهذا كله حتى يمكن بناء نظام جديد على أسس وقواعد جديدة. نظام ينطلق من الشرعية الجديدة التي أسستها هذه الثورة، وأرست بتضحياتها ودمائها أركانها.
شرعية الثورة ... وماهية الشرعية
ولابد أن نبدأ بتعريف الشرعية. فالشرعية في العلوم السياسية هي القبول الشعبي بقواعد السلطة أو الحكم، وهي الأساس والشرط الجوهري لأي حكم شرعي؛ ولا يمكن أن يستمر الحكم بدون هذا القبول الشعبي أو الرضى بشرعيته، سواء أكان هذا القبول معلنا أو مضمرا كما يقول المنظر السياسي البريطاني جون لوك، «فلا شرعية لأي حكم دون رضى المحكومين». أما الفيلسوف السياسي الألماني دولف سترنبرجر، فيقول إن «الشرعية هي الأساس لأي سلطة أو ممارسة حكومية، بناء على وعي الحكومة بأن لها حق الحكم، واعتراف المحكومين بأن لها هذا الحق». أما عالم الاجتماع الأمريكي سايمور مارتن ليبسيت فإنه يرى أنها «تنهض على قدرة النظام السياسي على أن يخلق في المجتمع تصورا بأن المؤسسأت السياسية الراهنة هي الأكثر ملاءمة له، والأقدر على تلبية حاجاته ومطامحه، ومقدرته على المحافظة على هذا التصور وتكريسه». أما المنظر السياسي الأمريكي روبرت داهل فإنه يصور الشرعية باعتبارها مستودعا أو حوضا من المياه مترعا بالقوانين التي تتيح لكل راغب السباحة فيه، بل والحفاظ على ضخ الماء النظيف به على الدوام. وطالما حافظ هذا المستودع على مستوى معين للماء فيه، فإنه يوفر الاستقرار ويضمنه، ويتيح للكثيرين فرصة السباحة فيه؛ وما أن ينخفض مستوى المياة في الحوض عن المعدل المطلوب، حتى يحيق الخطر بالشرعية السياسية وتتهددها المشاكل.
أكتفي هنا بهذا القدر من التعريفات التي تنهض كلها على أن شرعية أي حكم مربوطة بقبول المحكومين له، ووعيهم أو توهمهم بأنه يحقق الخير لهم. وأحب أن أربط بين الشرعية والقانون، لأنها تنهض أيضا على قدر من احترام القانون وشفافيته، فبدونهما لا يتوفر أي تراضٍ حقيقي حرّ. فإذا ما عدنا للواقع المصري قبل ثورة 25 يناير، فإننا سنجد أن حوض السياسة فيه كان فارغا، كما كرر محمد حسنين هيكل في أكثر من حديث. وأن النظام فيه كان مفتقرا للشرعية والمصداقية معا. وأحب هنا أن أشير إلى أنني وخلال أكثر من ثلاثين عاما لم أكتب سواء في كتاباتي بالعربية وهي منشورة في مصر، أو الانجليزية في الكتب والدوريات العلمية، عن النظام المصري، إلا ونعتته دوما بأنه نظام لاشرعية ولا مصداقية له. فقد كان النظام الحاكم المصري، والذي أسفرت عنه حركة «الضباط الأحرار» عام 1952 ينهض على شرعية تلك الحركة وزعيمها جمال عبدالناصر. وهي شرعية كسبها وأقنع الشعب بها بعد العدوان الثلاثي على مصر، وما تلاه من شعبية مصرية وعربية كبيرة لعبدالناصر الذي جاهد على مر سنوات أربع بين 1952 و1956 كي يقنع الشعب بشرعيته وشرعية انقلابه العسكري الذي سمي بالثورة فيما بعد، وتدفعنا ثورة 25 يناير إلى إعادة نظر جذرية في هذه التسمية. وهي شعبية نعرف الآن، أنها بنيت في جانب منها على الكذب الذي أوهم الشعب المصري بأن هزيمة 1956 العسكرية كانت انتصارا، وحجب عنه الحقيقة وهي أنه لولا غضب الاتحاد السوفييتي، والأهم غضب أمريكا، القوة العظمى الطالعة من الحرب العالمية الثانية، على بريطانيا وفرنسا لقيامهما بهذه المغامرة دون استئذانها وإجبارهما على الانسحاب من سيناء، لما تمت لملمة الأمر بالسرعة التي جرت. كما أنه حجب عن الشعب أيّ معلومات عما ترتب عليه من تنازلات في مضايق تيران، ومن وضع لقوات دولية في سيناء تحمي مرور سفن العدو الصهيوني في خليج العقبة.
لكن تلك الشرعية سواء أكانت مبنية على الكذب، أو على شعبية مشروع عبدالناصر الوطني والتحرري الذي لامماراة في أهميته وقيمته الكبيرة، سرعان ما انتهت مع هزيمة 1967 الماحقة. وقد أدرك عبدالناصر بحسه الوطني السليم أن شرعيته قد انتهت مع الهزيمة، ولهذا تنحى مخلصا بعدها، ولكن حالة الفراغ السياسي التي خلقها نظامه بالبطش والخوف، والقضاء على كل البدائل والخصوم في مناخ عارٍ من الديموقراطية، كانت السر وراء مطالبة الشعب له بالبقاء «لإزالة آثار العدوان». ولكن بقاءه كان مشروطا برفضه للهزيمة، وظل حقيقة يترنح تحت وقع هزيمته المدوية حتى قضى بعد ثلاث سنوات. وقد انتهت هذه الشرعية كلية مع موت عبدالناصر، ولكن استمرار الحكم العسكري في مصر بعدها هو الذي جلب على مصر الخراب والهوان الذي عاشته لأربعة عقود كاملة تحت حكم بلا مصداقية أو شرعية شعبية. وهذا هو السر في أن هذا الحكم العاري من الشرعية لم يجد أمامه إلا البطش والتزوير والقمع والاستبداد واحتواء ذوي النفوس الضعيفة، واستخدامهم لتطويل أمده وتكريس فساده، وأهم من هذا كله الارتماء في أحضان العدو الصهيوني وحليفه الأمريكي يكتسب من رضاهما عنه شرعية مكذوبة بعدما فقد شرعيته الشعبية.
سقوط الشرعية القديمة
قلت أن شرعية ثورة يوليو انتهت حقيقة مع موت عبدالناصر عام 1970، وإن ظل النظام العسكري المصري يحكم باسمها حتى 24 يناير 2011. وهو ما خلق كل الإشكاليات التي عانت منها مصر سياسيا وحضاريا منذ هزيمة 1967 وحتى اليوم. فما لايدركه الكثيرون أن الهزائم تترك بصماتها الدامغة على نفسية الشعب وتؤثر على قدراته كلها؛ وقد عانت مصر، ومنذ بداية حكم العسكر لها، من الهزائم المتتالية. هذه الهزائم التي كانت كفيلة في أي مجتمع سليم أن تقضي على شرعية الحكم وأن تجرده من كل مصداقية، لم تغير من نوعية الحكم في مصر، الذي ظل مستندا إلى شرعية ما سمي بثورة 1952، بعد أن أجهزت الهزيمة عليها.
شرعية ميلونية جديدة
وها هي ثورة 25 يناير ترد الروح لمصر، وتكشف عن معدن شعبها المتحضر الأصيل، وعن قيمه التي ظن الكثيرون أنها قد ضاعت، ومشاعر العزة والكبرياء والفداء التي توهم القهر والاستبداد أنه قد أجهز كلية عليها، ويطرح عن نفسه مخاوفه التي عمل كلاب حراسة النظام البائد في الثقافة والإعلام على تكريسها فيه. وأهم من هذا كله يكشف عن وعي ناضج باهر، وإصرار قوي على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو تنازلات. وهكذا تؤسس هذه الثورة شرعية جديدة، شرعية شعبية غير مسبوقة من حيث الحجم والاتساع وانضمام كل عاقل راشد لمظاهراتها المليونية. فبعد عدة ملايين في جمعة الغضب، تجاوز العدد العشرة ملايين في جمعة الرحيل، ثم بلغ العشرين مليونا في جمعة التحدي أو الطوفان، بمعنى أنه لم يمض على الثورة أكثر من أسبوعين حتى انضم إليها كل عاقل راشد في الشعب المصري، وظلت الطغمة الحاكمة معزولة، ليس فقط أما شعبها بل أمام العالم كله، وقد سقطت شرعيتها سقوطا مدوية أذهل حلفاءها وأصدقاءها قبل أعدائها.
نحن نتحدث هنا عن شرعية جديدة مليونية جارفة. شرعية تكنس في طريقها كل ما يمثله النظام الذي أصرت على سقوطه من قيم وممارسات. لذلك لابد الآن من الانطلاق من هذه الشرعية الجديدة لتأسيس نظام سياسي جديد يلبي مطامح الثورة ويبلور حكما ينهض بحق على شرعية شعبية حرّة وعريضة. ويعتمد نجاح الثورة في تحويل شرعيتها تلك إلى واقع ونظام حكم على الجيش الذي يمسك في يده الآن بمعظم الأوراق، وأرجو ألا يتوهم أحد أنه يمسك في يده بكل الأوراق، لأن أهم ورقة في هذه الثورة هي الشعب، هذا المارد الجبار الذي تحرك وخرج من النفق المظلم الذي أدخله فيه القهر، والذي يعرف بحدسه قبل عقله من يعمل معه ومن يعمل ضده! فبرغم كل البطش الجهنمي الذي عانى منه الشعب المصري لأكثر من نصف قرن، فإن بنية مشاعر هذا الشعب ظلت سليمة، ليس فقط لأن معدنه نفيس، ولكن أيضا لأنه شعب وراءه آلاف السنين من الحضارة والإنسانية والرقي.
وأول ما يحتاج الجيش أن يدركه بوضوح هو أن كل ما قام على شرعية ساقطة فهو ساقط، وكل ما عينه المستبد الفاسد المخلوع من نواب أو وزراء لاشرعية لهم، بل إن الخلاص السريع منهم واجب حتمي وضروري كي تتعمق الثقة بين الثورة والجيش. وأن ثاني ما يحتاج إليه الجيش كي يظل حليف هذا الشعب ودرعه الحصين هو أن يرسم مع الثوار خريطة طريق واضحة ومتفق على جدولها الزمني، ترضي ثوار مصر، وتكفل تحقيق شعارهم الأهم «الشعب يريد إسقاط النظام»، واستئصال كل جذوره. فقد أسقط الشعب رأس النظام، ولابد من يكمل المشوار لتحويل شرعية الثورة الجديدة إلى واقع صلب تنطلق منه مصر لتبني مستقبلها، وتزيد أبناءها فخرا بمصريتهم، واعتزازا بأنجازهم وبنظام حكمهم معا. لذلك لابد من الرفض الكامل لهذا الدستور المهلهل لاتعديله، وخلق مناخ يتيح كتابة دستور جديد يفصل بين السلطات ويحقق التوازن بينها، ويزاوج بين أبرز قيم الاستقلال والحرية والعدل التي رسخها دستور 1923 ودستور 1956 ولا يبني على فراغ. ويلقي بدستور 1971 الملئ بالرقع الشائهة والمخجلة إلى مزبلة التاريخ، لأنه دستور تكريس الاستبداد والفساد والحكم المطلق. وها هي التعديلات الدستورية التي أجرتها لجنة التعديلات تثبت مرة أخرى أهمية إلغاء هذا الدستور كلية ووضع دستور جديد. لأن عوار هذه التعديلات في رأيي يشكل انقلابا خطيرا على الثورة، وقفز التيار السياسي المتأسلم، والذي ينتمي إليه ثلاثة من أعضاء لجنة التعديلات الثمانية، على منجزاتها، ومحاولة استخدام التعديلات لتمكينهم مما لم يستطيعوا تحقيقه بدونها أبدا. ولكن تلك قضية أخرى قد أعود إليها في مكان آخر.
المهم هنا هو أن يتوفر المناخ الذي يتيح لشرعية الثورة أن تبني نظامها الجديد، وقيمها الجديدة، ومجتمعها السياسي الجديد في مناخ حرّ خلاق. ولا يمكن لهذا المناخ الحرّ أن يتخلق إلا بالإلغاء الفوري لقانون الطوارئ والإفراج عن كل معتقلي الرأي ومسجونيه، وإطلاق الحريات كافة، وخاصة حرية تشكيل الأحزاب والعمل على تطويرها، وتشكيل حكومة انتقالية من اناس مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة ولم يلوثهم العمل مع نظام مبارك المخلوع. لابد أن يدرك الجيش ضرورة تحقق كل هذه المطالب، وكلها منشورة ومكررة في أكثر من مكان، كي تعمل الثورة وفق شرعيتها الجديدة على محاسبة كل من نهب مصر، أو استولى بغير حق على مال شعبها، سواء في القطاع العام أو في أراضي الدولة أو آثار مصر أو غيرها، وتسترد ما تستطيع منه. على أن يتم هذا كله في زمن محدود تتم بعده انتخابات حرّة وتداول مستمر للسلطة، وأحزاب سياسية تخضع لرقابة الناخب الذي انتخبها وفق برامج يصوّت عليها الناخبون، ويلتزم بها من يطرحونها عليه كما في كل ديموقراطيات العالم الذي يقل عنا حضارة وعراقة.