تدافعت في محاولتي رسم صورة او بورتريه سريع لرئيس جمهورية فرنسا الحالي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي مضى على تسلمه لمقاليد السلطة في فرنسا أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة ويستعد الآن بكافة قوي اليمين السياسية بما فيها أصوات الجبهة القومية اليمنية المتطرفة للدخول في المعركة الرئاسية في عام 2012 . تدافعت في مخيلتي العديد من الصور القاتمة لشخصه الذي صار مكروها جدا في فرنسا، وتدهورت شعبيته الى القاع، بسبب سياساته " الاصلاحية" الكارثية" كما يري البعض، والتي تساهم مع أشياء وظواهرأخري في فرنسا في رسم صورة لمجتمع آفل EN DECLIN يرزح تحت مشاكل العوز والفقر والبطالة، كما يري البعض ان الانجاز الوحيد الذي حققه ساركوزي بسياساته " الاصلاحية " المتسرعة الفاشلة، وعلى كافة المستويات، هو أنه جعل فرنسا بطلة العالم في " التشاؤم " من ذلك المصير المظلم الذي ينتظرها عند نهاية الأفق، وعلى الرغم من وعود الرئيس في كلمته لتهنئة الشعب الفرنسي بالعام الجديد 2011، بأنه سيكون عاما " نافعا"، الا أن الغالبية العظمي من الشعب الفرنسي تشعر بالاحباط وبخيبة الأمل، حتى أن أحد رجال الدين من القساوسة في فرنسا دعي على ساركوزي بالموت، وصحيح أنه تأسف في ما بعد لذلك، الا انه برر فعلته بقوله ان سياسات ساركوزي " اللاإنسانية" وبخاصة في ما يتعلق بالغجر والمهاجرين يند لها جبين فرنسا الجمهورية وبلد حقوق الانسان، وانه وليس لدي ذلك الرئيس غير الوعود والكلام الطنّان والجعجعة على مايبدو، من واقع السياسات والاجراءات التي نعاني هنا منها مع الشعب الفرنسي، ونتأسي أيضامنها، بل ونتعجب ونستغرب منها أحيانا، لكننا نرجو ونأمل أن يكون هذا العام 2011 بالفعل مفيدا ونافعا لكل الفرنسيين، على الرغم من أنه لا توجد اية إشارة في الأفق تدعو الى الحبور والتفاؤل بعام ميلادي جديد تحت راية حكمه.فجأة تدافعت على عشرات الصور القاتمة SOMBRE للرئيس ساركوزي، ولا اجد تعبيرا عن نقمة شعبية أدق وأعمق من تلك اليافطة التي رفعها طفل في المظاهرات التي اجتاحت عموم البلاد في سبتمبر العام الماضي، وشارك فيها أكثر من 4 مليون مواطن احتجاجا على مشروع تعديل قوانين التقاعد والمطالبة بالغائه، وكانت تلك اليافطة التي رفعها ذلك الصغير تقول ببساطة" يا ساركو، نحن لانحبك "وهي تلك المظاهرات التي عبرت عن "كراهية "حقيقية لشخصه، واسلوبه في الحكم، وعشقه للظهور، وصورته في يافطاتها بعد أن وضعت له شاربا مثل الزعيم النازي أدولف هتلر! وكنت شاركت أيضا في تلك المظاهرات، التي لم تشهد لها فرنسا نظيرا من قبل في تاريخها السياسي كله، اعتراضا على سياسات رئيس، وصورتها في فيلم..
رئيس الأثرياء
وقد يختلف اثنان في فرنسا على شخصية هذا الرئيس المضطربة في كل شيء، الا انهما سيتفقان على شييء واحد، الأ وهو أن ساركوزي يحكم- كما ثبت ذلك من خلال سياساته- ليس كرئيس لتوحيد وتجميع كل الفرنسيين، بل يحكم بالفعل نيابة عن أثرياء فرنسا، ولمصلحتهم فقط، وانه يدمر ماكينة حماية المواطنين والمكاسب التي انتزعتها الطبقات العاملة في الصحة والتعليم وضمانات العمل والتقاعد خلال سنوات طويلة من النضال والاعتصامات والاضرابات والتظاهرات، ومنذ أيام " الجبهة الشعبية" في الثلاثينيات حتى صارت فرنسا تتباهي بأفضل نظام للتأمين الصحي والاجتماعي في العالم، ثم اذا بهذا الساركوزي يحضر في الساحة السياسية ويريد أن يخسف به الأرض.حتي أن أحد الكتب الصادرة حديثا في فرنسا بعنوان " رئيس الأغنياء" وهو من تأليف زوجين عالمين من أبرز علماء الاجتماع، يؤكد وبما لايدع مجالا لأي شك من خلال أبحاث أجرياها في قلب حياة تلك الطبقة، أن الرئيس ساركوزي مشغول فقط بتوزيع الهدايا والهبات على افرادها وعائلاتها وممثليها في السلطة،وذلك من خلال تعديلات في نظام الضرائب يسهل لها أمورها ويرضي جشعها، ويجعلها تزداد ثراء وغنى، ولم يعبأ ساركوزي أو تهتز له شعرة، حين تظاهر الملايين من الشعب الفرنسي الكادح في الشوارع ورفعوا المطالب والمظالم والشكاوي في سبتمبر " الأسود" الماضي، ونجح بعناده في فرض القانون الجديد الخاص بالتقاعد بالمكر تارة، وبالخداع تارة أخري، من خلال اتباع سياسة التسويف مع النقابات العمالية، ثم فرضه بالقوة من خلال هيمنته على كافة المؤسسات القانونية والبرلمانية والتشريعية في فرنسا. وهو يروج لسياسة "البلنج بلنج " أي رنين المصوغات والسلاسل المذهبة التى تطبل وتزمر للمظاهر والاعلان عن الثراء من دون خجل وتعتبرها عملا مشروعا على الرغم من مشاهد البؤس والفقر والبطالة المتفاقمة في البلاد. وبالاختصار بحثت عن قطاع في قطاعات المجتمع الفرنسي، في الصحة والتعليم والاعلام، أو أي قطاع لم يتضرر من سياساته التي أطلق عليها " إصلاحية" فلم أجد، في حين تدافعت كل تنلك الصور القاتمة لرئيس جمهورية زئبقي ومتهور ومندفع ومتسرع ونرجسي، أناني مخادع وسطحي، وهو يفرض حضوره في المشهد السياسي والاعلامي مثل نجوم السينما، ويهرع للتصوير معهم وهو يمنحهم الأوسمة والنياشين..
ولا يخجل من الاعلان عن ثرائه بابراز ساعته وماركتها،وإنحيازه الااخلاقي للاغنياء والاعجاب باسلوبهم في الحياة ولهوهم وعبثهم، حتي يبدو كما يقول أحد الكتّاب في فرنسا : " إن الفكرالاجتماعي والاقتصادي الذي يؤمن به ساركوزي، يعتمد على مد موائد الاغنياء في فرنسا بأطباق طعام أكثر،حتي يتساقط منها فتات خبز أكثر، فيهرع فقراء فرنسا للمها وجمعها في تلك الأوعية الحقيرة التي تستخدم في إطعام الكلاب " ثم يضيف: " لكن ربما لا يعرف ساركوزي ان أثرياء فرنسا هم بخلاء جدا، وأن لديهم أطباقا مذهبة خاصة لجمع فتات الخبز وبقايا الطعام، وبحيث لا يتبقى منها أي شيء بالمرة لفقراء فرنسا الجوعى "، وينوّه الكاتب والفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنر بمزايدات ساركوزي اللفظية، التي اعتبرها البعض من خلال بعض تصريحاته المتسرعة بانها " غير موزونة" فيقول عنها إنها مجرد قناع يخفي به ساركوزي عجزه، وأن الهيجان الاعلامي لساركوزي، يكشف في الطرف الآخر منه عن حالة اللافعل، وإفتقاد القدرة على الانجاز.أما العالم النفساني الفرنسي علي مجودي مؤلف كتاب بعنوان " عايز أقول لكم حاجة. أجمل تصريحات نيكولا ساركوزي" فيقول عنه في مجلة " نوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية الاسبوعية العدد 2392 الذي تصدرته صورة ساركوزي وعليها سوال: هل هذا الرجل خطر؟ "، يقول مجودي ان ساركوزي يمثل خطرا كرئيس للجمهورية، بسبب عدم قدرته على استيعاب وهضم "الحدود الرمزية " السلوكية التي وضعتها لنا الحضارة الانسانية، وهي صحيح حدود تعسفية، لكن من الضروري الالتزام بها، غير أن ساركوزي لايعبأ ولا يفهم هذه الحدود، فاذا به حين يستقبل من طرف بابا الفاتيكان على أنه " كاثوليكي" يتصرف بشكل أحمق وأخرق، ويروح يرسل رسالة عبر هاتفه الجوال، والبابا يلقي كلمته، وكاميرات التلفزيون تصور الواقعة.ان عدم التزام ساركوزي بتلك الحدود الرمزية الانسانية تذكرنا كما يقول مجودي بأنه صاحب سوابق في الموضوع، وقد فعلها من قبل. ألم يسمح ساركوزي لنفسه بأن يغري ويتزوج من إمرأة " سيسيليا زوجته الثانية"، قام هو نفسه بعقد قرانها عندما كان يحتل منصب عمدة نويي؟ . ان ساركوزي تهيمن وتستحوذ عليه طاقة نرجسية هائلة، طاقة تجعله لايعبأ بتابوهات ومحرمات، بل تجعله يتفاخر مزهوا لغياب تلك الحدود الرمزية " الحضارية" في تصرفاته ومعاملاته وسلوكياته..
خطاب يشجع على الكراهية والعنف
وهو من هذا المنظور يشبه جان ماري لو بن زعيم الجبهة القومية العنصرية لليمين المتطرف في فرنسا، لكن هناك مغزي كبير في ان لا يستخدم رئيس جمهورية نفس الكلمات التي يستخدمها الاخيراليميني المتطرف العنصري، لانها تحيل بمعانيها الى، وتذكّر بكل الشرور والكوارث التى ارتبطت بتاريخ القرن العشرين، ولا يليق برئيس جمهورية استخدامها، ومن ضمن هذه الكلمات التلويح بسحب الجنسية اذا اعتدي شخص حاصل على الجنسية الفرنسية على شرطي وتسبب في موته. إن هذا الرئيس ساركوزي يسير في الاتجاه المعاكس لمسيرة الحضارة، التي تدعو الى نبذ مثل تلك مفاهيم، وعدم الاعتداء على " الآخر". ان " خطاب" أي رئيس جمهورية، يمنح " شرعية " لكلامه، ولذلك عندما يكون هذا الخطاب كريها، مثل خطاب ساركوزي ضد المهاجرين والغجر، فانه يمنح شرعية ارتكاب افعالا كريهة وضيعة ومدمرة " . وهنا ينتهي كلام على جودي..
ان ما يدعو الى الاستنكار والاستياء في فرنسا حاليا أشياء كثيرة في رأي الفيلسوفة الفرنسية بلاندين كريغل، من ضمنها كما تذكر في استطلاع لمجلة فرنسية انحطاط " فكرة " فرنسا، وتهميش المثقفين، ووضعهم في آخر الطابور، والمعاناة التي يعانيها الناس المخلصون، واحتقار العمل، والتنكر لكل صاحب موهبة أو كفاءة عن إستحقاق، والتخلى عن الضعفاء، من العجائز والشباب على السواء، وباختصار ان عجلة الديمقراطية في فرنسا توقفت في رأيها عن العمل والدوران..
كما يشير الكاتب والمحلل السياسي الصحافي جان فرانسوا كان في مقال له بمجلة " ماريان" العدد 715 الصادر في 1 يناير 2011 الى وعود ساركوزي الكاذبة، فيقول انه كان وعد عندما ظهر في برنامج تلفزيوني فرنسي وتحديدا في 25 يناير عام 2010، وعد بأن معدلات البطالة في فرنسا سوف تنخفض وتتناقص يقينا في ظرف أسابيع , لكن مرت سنة، ولم يتحقق اي شييء، بل لقد ارتفعت وتضخمت معدلات البطالة في فرنسا بشكل مرعب، حتى تجاوزت 4 مليون عاطل عن العمل، بل ووصلت الى 4 مليون و200 ألف، اذا اضفنا اليها أعداد العاطلين عن العمل في الاقاليم التابعة لفرنسا في ما وراء البحار.كما يضاف اليها أكثر من ستمائة ألف عاطل غير مسجلين، من غير المطالبين بالبحث عن عمل لتقدمهم في السن، وبذلك يصل عدد العاطلين عن العمل في فرنسا في الواقع الى أكثر من 5 ملايين عاطل.ويضيف : " لقد بدت لنا " الساركوزية" او الفكر السياسي لساركوزي ومذهبه في الحكم وإدارة السلطة، وهو تلوّح بعلامات الانتصار في يناير 2008 أي منذ ثلاث سنوات فقط، وبدت كما لوكانت تؤمن بقيم أصيلة وذات جدوي مثل قيمة " التنوع "، من خلال ضم راما ياد من أصل سنغالي، ورشيدة داتي من أصل جزائري الي الوزارة. وانفتاحها على أفكار الاحزاب الاخري والفكر الاشتراكي والاستفادة منها، وعبرت عن ذلك بضمها كوشنر الاشتراكي الي الحكومة وتعيينه وزيرا لخارجية فرنسا. كما كانت تلك الساركوزية وعدا بتحسين أوضاع الفرنسيين الاجتماعية، وكان ساركوزي وعد بأنه سيكون " رئيس القدرة الشرائية" وبطلها الأوحد في فرنسا عن جدارة لكن ماذا حدث بعد مرور ثلاث سنوات على حكمه؟.يجيب فرانسوا كان : " خرج كوشنر وفضيلة وراما ياد ورشيدة من الحكومة، وكانت عودة كل رجالات العهد الشيراكي من السياسيين المخضرمين، وأغلقت الابواب أمام مظاهرالانفتاح والتنوع وحماية البيئة، وشعارات الحث على العمل أكثر لمزيد من الكسب، وغير ذلك من طنطنة وجعجعة فارغة ومزايدات لفظية ومن ضمنها التزام الساركوزية بحقوق الانسان وعدم التهاون بشأنها لتحقيق عيش كريم لكل مواطن فرنسي.ثم فجأة وبعد ثلاث سنوات لم يتحقق شيئا، فلم تكن هذه الساركوزية المعلنة الا سرابا خادعا، وتكشفت للناس حقيقته.ان من ضمن انجازات ساركوزي، ان كان ثمة انجازات بالفعل لهذا الرئيس، انه استطاع ان يستقطب لصالح الحزب الذي يمثله أصوات اليمين المتطرف، الذي يصوت عادة لسياسات الجبهة القومية اليمينية المتطرفة التي يمثلها الجزار الفرنسي" لو بن "، وكان احد المظليين الذين يمارسون تعذيب الثوار في الجزائر، وهذه الجبهة القومية كما هو معروف، جبهة يمينة عنصرية، ولا تحلم الا بتطهير البلاد من المهاجرين والعرب واليهود والسود، وتعتبرهم رعاعا مسؤؤلون عن كل الجرائم والموبقات التي ترتكب وسوف ترتكب في فرنسا. كما انها تنتقد في تصريحاتها سياسات ساركوزي المتهاونة " الرخوة" المتسامحة تجاههم، وتعتبرها ليست بالشدة والحزم المطلوبين. وقد كانت تلك الاصوات التي تذهب عادة للجبهة القومية، هي التي رجحت كفة ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهي التي نجحته وأوصلته الى سدة الحكم والسلطة في فرنسا،فقد كان ساركوزي يقدم نفسه في المشهد الانتخابي الرئاسي بصورة " رجل تحديث " يميني ليبرالي "، يسعي الى إحداث " قطيعة" مع أساليب حكم اليمين المتعاقبة، التي لم تنجح في رأيه في ايجاد حلول لمشكلات المجتمع الفرنسي( مثل مشكلة الضواحي، ومشكلة البطالة، ومشكلة الامن وغيرها )، فقد باءت كل مشروعاتها الاصلاحية وللأسف بالفشل، لفترة عهود طويلة، ومنذ فترة الستينيات تحديدا
التشكيك في الهوية
وكانت أساليبها في الحكم جامدة ومتقشفة، وبيروقراطية وقديمة عفي عليها الزمن، ولابد ان تدخل متحف التاريخ، ويظهر " سوبرمان " جديد مخلص، لكي يفتح للجمهوريةالخامسة صفحة تاريخية جديدة.وقدم ساركوزي نفسه في صورة هذا " الرئيس السوبرمان " الملهم، الذي يليق بعصر " العولمة" الجديد الذي دلفت اليه فرنسا، وذلك " الحراك الاجتماعي " التي هى في أشد الحاجة اليه، ولن يستطيع بالطبع سوى هذا الساركوزي "ابن المهاجر" أن يحققه لها، وبالفعل تصدرت هذه الصورة للسوبرمان " الاطلسي" الجديد المشهد الانتخابي الرئاسي الفرنسي قبل ثلاث سنوات، واستطاع ساركوزي بالفعل أن يجسدها بطاقاته الهائلة على العمل، وقدرته على توحيد صفوف كل تيارات اليمين الفرنسي حول شخصه، وإنتزاعه وهو إبن " المهاجر " المتواضع لمركز الصدارة من أبناء العائلات الفرنسية الارستقراطية الغنية التي ينحدر منها زعماء التيار الديغولي عادة، ولذلك كسب الجولة أمام مرشحة الحزب الاشتراكي سيجولين روايال وفاز في انتخابات الرئاسة، وربما يكون أفضل تجسيد في الإعلام الفرنسي لصورة الرئيس نيكولا ساركوزي( " لص الجمهورية " Le Voleur de la République ) كما أطلقت عليه مجلة "ماريان الفرنسية" الإسبوعية ووضعت صورته على الغلاف- عدد – )يتمثل في رأيي في عروسته الماريونيت الخشبية، التي تظهر لملايين من المشاهدين فى فرنسا في برنامج فكاهي يومي للعرائس تبثه قناة "كنال بلوس"..
ويظهر فيه ساركوزي من خلال عروسته كشخص أناني كريه وجشع، يشبه الى حد كبير مصاصي الدماء في السينما، ويتصرف بشكل فردي ونرجسي الى حد مقيت، ويريد أن يخطف كل شييء،ويستحوذ على كل شييء مثل طفل نزق، وهو يتفاخر ويتغني في كلامه في البرنامج في كل لحظة، بجمال زوجته كارلا Carla ابنت الارستقراطية الايطالية ( عارضة أزياء سابقا، ومغنية، وسيدة فرنسا الاولى حاليا) وذوقها وأناقتها، ويوجه حديثه الى المشاهدين، ثم يروح يردد بين الحين والآخر عبارة : " شايفين مراتي كارلا جميلة وحلوة قد إيه ؟ ". يظهر " ساركوزي"في برنامج " لي جينيول دولا انفورماسيون " LES GUIGNOLS أي " عرئس الإعلام" مساء كل يوم لكي يعلق على الأحداث الجارية في فرنسا، من خلال عروسته الكاريكاتورية " النمطية" تلك، ويكشف عن ثقافته وسطحيته وجهله، إذ يسخر البرنامج بالطيع من سياسات الرئيس نيكولا ساركوزي الحكومية على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويظهره في صورة الطفل المتهور الاناني النزق، الذي يحسب نفسه امبراطورا وسياسيا حذقا جبارا مثل " نابليون بونابرت" الذي يعتبره نيكولا في الحياة مثله الأعلى،وهو نيكولا ليس في واقع الأمر، ليس إلا قزما لايصل بقامته حتى الا ركبة زوجته. كما يظهر ساركوزي في البرنامج أيضا وهو يجهل أبسط قواعد اللغة الفرنسية حين يتكلم أو يخطب، فيرتكب - كما يحدث تما ما في الواقع أثناء حديثه وفي بياناته وخطبه – يرتكب أخطاء فادحة في قواعد اللغة الفرنسية لايرتكبها صبي جزار مبتديئ في المهنة، ويتكلم مثل المجرمين "الشمحطجية" ويتلفظ بألفاظ السوقة و"حثالة" Racaille المجتمع، وقد كان كان ذلك التعبير كما وضعناه هنا بالفرنسية، التعبير الذي أطلقه ساركوزي بنفسه، على شباب ضواحي العزلة والفقر المتمردين على هامش المدن الفرنسية،وكان ساركوزي عرف بعباراته البذيئة السوقية الفظة، فصاح مرة في فلاح فرنسي من الناقمين على سياساته، وهو يتفقد أجنحة المعرض الزراعي الذي يقام في باريس كل سنة " ايها المسكين الغبي، إنزاح من هنا "Casse toi pauvre con ومرة أخري أثناء زيارته لمصنع، صاح مرة في أحد العمال الغاضبين " لو كنت راجل إنزل لي " وأراد أن يشتبك معه في خناقة.!..
الأزمة المالية
ان منظر ساركوزي وهو يغضب ويسب ويشتم، هو منظر لم يألفه الفرنسيون مع أي رئيس جمهورية في تاريخ الجمهورية الخامسة من قبل، وهو يدعو المهاجرين من العالم الثالث الذين يقطنون هنا منذ أكثر من ربع قرن، يدعوهم للعجب والدهشة والاستياء معا، فلا يمكن ان تكون جمهورية فرنسا المتقدمة التي منحت العالم سياسيين وكتابا وشعراء وفلاسفة بارزين وأصبحوا ملكا للانسانية من أمثال ديغول وجورج بومبيدو وفرانسوا ميتران وفيكتور هوجو واندريه مالرو وفولتير،و بول إيلوار وكامو ومونتسكيو وروسو، وكذلك تروفو وجان لوك جودار وادجار موران ومارجريت دورا وسارتر، لايمكن أن تكون بكل تراثها السياسي والفكري قد انجبت رئيسا كهذا..ولابد أن يكون السبب هو La Crise" الازمة المالية العالمية " التي صار يلوح بها ساركوزي الآن دوما، لتبرير وتمرير كافة سياساته وقراراته وخياراته " الملهمة"، تلك " السياسات والخيارات التي هبطت بفرنسا الجمهورية وشعاراتها المدوية" الحرية والعدالة والمساواة الى القاع، ومرغت سمعتها في التراب والوحل. بل ويروح ساركوزي من خلال عروسته الماريونيت يتردد أيضا في النطق بعباراته في البرنامج المذكور ويتهته، فيجعل المشاهدين يتشبثون ببطونهم حتي لا يموتوا من الضحك، وبالطبع يبالغ البرنامج كثيرا في إبراز عيوب ساركوزي الخلقية، وكذلك فشل سياساته على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتحسين معيشة الفرنسيين،،وقد استطاع منذ توليه السلطة أن يضع أغلب الاعلام الرسمي في جيبه، وهو " النجم الأوحد " للإعلام وبخاصة الاعلام الفرنسي الفضائحي من نوع التابلويد وصحافة الاثارة. ومن الصعب الحديث عن أنجازات تحققت في عهده على أي مستوي، بل يمكن الحديث فقط عن القرارات المستعجلة الجائرة التي اعتمدتها حكومته وبرلمانه ومؤساساته، والحديث عن نقمة شعبية في فرنسا بسبب سياساته القمعية وفضائحه ومواقفه وسلوكياته التي يضخمها البرنامج التلفزيوني المذكور بالطبع،والمشكلة النفسانية والعصابية التي يمثلها ساركوزي بشخصه وسيرة حياته وواقع مسيرته السياسية ذاتها التي حققت له أضعف شعبية لرئيس جمهورية في تاريخ فرنسا كله.. وقد كشف استفتاء أخير للرأي نشرته جريدة " لوباريسيان" أن 34 في المائة فقط من الشعب الفرنسي توافق على سياساته ..و ربما يكون الانجاز الوحيد الذي حققه ساركوزي يتمثل في إصابة الفرنسيين بأمراض الكآبة والتشاؤم من صورة المستقبل واليأس والضياع، حتى كشف استطلاع أخير أن فرنسا هي بطلة العالم في التشاؤم، والفضل يعود الى ساركوزي وسياساته، التي لا تضع في اعتبارها المواطن الفرنسي العاطل الغلبان وتحسين أوضاعه المتدهورة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بل تتكرس في أغلبيتها لخدمة مصالح الأثرياء والمؤسسات المالية والبنوك.وأصحاب النفوذ في امبراطوريات الاعلام الفرنسي، وخدمة مصالح القائمين عليها، وبسط وتوسيع نفوذهم.وكان ساركوزي ومنذ أول لحظة تسلم فيها مقاليد الحكم ذهب ليتعشى ويحتفل بانتصاره الرئاسي في مقهي ومطعمFOUQUET’S في حي الشانزليزيه في باريس، وظهر في حفل العشاء مجموعة من اصحاب النفوذ في الاعلام والمجتمع الفرنسي مثل المغني جوني هاليداي،وفي اليوم التالي ذهب ساركوزي مع زوجته الثانية لكي يقضي فترة أجازة قصيرة بعد انتهاء الحملة الانتخابية الرئاسية في مالطة وظهر على سطح يخت يملكه أحد أباطرة الاعلام من أصدقائه وأصحابه المقربين،الذين برزوا في حفل العشاء، وهؤلاء كان يسكنون او يملكون عقارات في حي " نويي" Neuillyالراقي الذي كان يديره من قبل ساركوزي كعمدة، ويسهر على خدمتهم ومصالحهم وممتلكاتهم، ويطمح كعمدة شاب قادم من أسرة متواضعة الى أن يكون غنيا مثلهم ويعيش وسطهم ويتودد اليهم، ونجح بالفعل في أن يكون ممثلا لطبقة الأثرياء في فرنسا/ ولذلك يظهر في برنامج الاراجوزات الفرنسي المشهور المذكور في صورة مصاص الدماء، الذي يعيش على دم ضحاياه من الفقراء الغلابة المعدمين، وأراجوزا أرعنا لايفكر الا في نفسه ومصلحته، وهيمنته فقط على كرسي " السلطة" والحكم في فرنسا، كما يصور البرنامج أفراد الحكومة ووزرائها الذين يختارهم ساركوزي بمعرفته على شكل ماسحي أحذية يلمعون له حذائه، حتى صارت كل القرارات لتسيير حال البلد لا بد ان تخرج من مكتبه في قصر الرئاسة " الإليزيه"، وهم وزراء فرنسا مجرد خيال مآتة و" نمور" من ورق. فساركو هو الذي يسهر بنفسه على إدارة البلاد، وهو الذي يختار ويقرر للفرنسيين وفي محلهم بنفسه، أما رئيس الوزراء فرانسوا فيون هذا فهو مجرد " طيف " و" شبح " أو بالبلدي " شخشيخة" لا تودي في عرف السياسيين والدبلوماسيين وأولاد البلد، ولا تجيب..كما ان من ضمن انجازات ساركوزي، ان كان ثمة انجازات بالفعل لهذا الرئيس، انه استطاع ان يستقطب لصالح الحزب الذي يمثله أصوات اليمين المتطرف، الذي يصوت عادة لسياسات الجبهة القومية اليمينية المتطرفة التي يمثلها الجزار الفرنسي" لو بن "، وكان احد المظليين الذين يمارسون تعذيب الثوار في الجزائر، وهذه الجبهة القومية كما هو معروف، جبهة يمينة عنصرية، ولا تحلم الا بتطهير البلاد من المهاجرين والعرب واليهود والسود، وتعتبرهم رعاعا مسؤؤلون عن كل الجرائم والموبقات التي ترتكب وسوف ترتكب في فرنسا..كما انها تنتقد في تصريحاتها سياسات ساركوزي المتهاونة " الرخوة" المتسامحة تجاههم، وتعتبرها ليست بالشدة والحزم المطلوبين. وقد كانت تلك الاصوات التي تذهب عادة للجبهة القومية، هي التي رجحت كفة ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهي التي نجحته وأوصلته الى سدة الحكم والسلطة في فرنسا،فقد كان ساركوزي يقدم نفسه في المشهد الانتخابي الرئاسي بصورة " رجل تحديث " يميني ليبرالي "، يسعي الى إحداث " قطيعة" مع أساليب حكم اليمين المتعاقبة، التي لم تنجح في رأيه في ايجاد حلول لمشكلات المجتمع الفرنسي( مثل مشكلة الضواحي، ومشكلة البطالة، ومشكلة الامن وغيرها )، فقد باءت كل مشروعاتها الاصلاحية وللأسف بالفشل، لفترة عهود طويلة، ومنذ فترة الستينيات تحديدا، وكانت أساليبها في الحكم جامدة ومتقشفة، وبيروقراطية وقديمة عفي عليها الزمن، ولابد ان تدخل متحف التاريخ، ويظهر " سوبرمان " جديد مخلص، لكي يفتح للجمهوريةالخامسة صفحة تاريخية جديدة.وقدم ساركوزي نفسه في صورة هذا " الرئيس السوبرمان " الملهم، الذي يليق بعصر " العولمة" الجديد الذي دلفت اليه فرنسا، وذلك " الحراك الاجتماعي " التي هى في أشد الحاجة اليه، ولن يستطيع بالطبع سوى هذا الساركوزي "ابن المهاجر" أن يحققه لها، وبالفعل تصدرت هذه الصورة للسوبرمان " الاطلسي" الجديد المشهد الانتخابي الرئاسي الفرنسي قبل ثلاث سنوات، واستطاع ساركوزي بالفعل أن يجسدها بطاقاته الهائلة على العمل، وقدرته على توحيد صفوف كل تيارات اليمين الفرنسي حول شخصه، وإنتزاعه وهو إبن " المهاجر " المتواضع لمركز الصدارة من أبناء العائلات الفرنسية الارستقراطية الغنية التي ينحدر منها زعماء التيار الديغولي عادة، ولذلك كسب الجولة أمام مرشحة الحزب الاشتراكي سيجولين روايال وفاز في انتخابات الرئاسة..غير ان حصاد ثلاث سنوات من حكم ساركوزي لم ينجح ولحد الآن الا في إزعاج الفرنسيين وقلقهم وزعزعة ثقتهم في أنفسهم وتشاؤمهم من صورة ذلك المستقبل المظلم الذي ينتظرهم وهم يدلفون الى عام آخر جديد، تحت حكم "رئيس " أطرش " لايسمع، ولا يعبأ بمعاناتهم وعذاباتهم ومشاكلهم وشكواهم ..