في المقالة التي تنشرها الكلمة يردّ الطبيب شبلي الشميّل على منتقدي نزعته الاشتراكيّة، مبرهناً بشكل غير مباشر على أن النظر العقلي في الظواهر والمفاهيم هو واحد من أهم أدوات التنوير العربي ومحاولات مفكريه لإقامة مجتمع بشري عقلاني.

الدكتور شبلي الشميّل والاشتراكية

أثير محمد على

إعداد وتقديم
تنشر مجلة "الكلمة" في عددها لهذا الشهر مادة صحفية تعود لعام 1908، كانت مجلة "الطليعة" قد أعادت نشرها عام 1936. وفيها يدافع شبلي الشميل (1850-1917) عن خياره الفكري الاشتراكي ويرد على منتقديه. ليس من المبالغة القول أن قيام مجلة "الطليعة" بإعادة نشر مقالة شبلي الشميل يحمل في طياته تأكيداً تاريخاً على مد جذور توجهها الفكري نحو الفعل الثقافي والسياسي والفلسفي الذي ميّز الشميل.

صدرت مجلة "الطليعة" إثر مؤتمر مثقفي سوريا ولبنان المنعقد في زحلة سنة 1934، والذي دعا لترسيخ الروح الحداثية في الثقافة العربية وربط الهم الثقافي بالحركة القومية. ورأت المجلة النور عام 1935 وبقيت تصدر في بيروت حتى 1939، وقام بمهام رئاسة التحرير بداية فؤاد الشايب ومن ثم رجا الحوراني. وتركت صفحات المجلة التي زخرت بالدراسات والمقالات والملفات أثراً هاماً في عالم الصحافة العربية السورية واللبنانية، مما جعلها في مصاف الدوريات التنويرية، لما قامت به من بث الروح العلميّة والعلمانية، وعقد أواصر الصلة بين المثقف والقضايا الاجتماعية والوطنية والوحدوية، إضافة لتشديديها على البعد القومي ومفهوم التقدم والنضال ضد الفكر الاستعماري وثقافة الاستشراق، ومناهضتها للسلفية والفاشية والعنصرية.

ويكفي الاطلاع على أسماء بعض الكتاب الذين ساهموا بالكتابة لـ"الطليعة" حتى تتوضح صورة الحراك الثقافي الذي قامت به المجلة كما لو كان فعل ناشط سياسي وثقافي، قبل انشقاق التيار التقدمي السوري إلى تيار ماركسي شيوعي، وتيار قومي عروبي.

من بين كتاب المجلة أذكر: سليم خياطة، صلاح البيطار، ميشيل عفلق، وكامل عياد .. ولقارئ الكلمة أترك ما خطه شبلي الشميل قبل مئة عام ونيف، وأعادت "الطليعة" نشره قبل 75 سنة، مع مقدمة تبسط فيها سياق الرد.

الدكتور شبلي الشميّل والاشتراكية
أهم ما كتبه فيلسوفنا العربي الكبير في سنة 1908 لشرح النظريات الاشتراكية والدفاع عنها.

يعدّ الدكتور شبلي الشميل من أبرز كتابنا الذين هاجروا إلى القطر المصري في أوائل هذا القرن واحتلوا مكانة عالية جداً في حياته الأدبية والاجتماعية والفلسفية. فهو الذي عرف قراء العربية إلى نظريات داروين في النشوء والارتقاء وبوخنر في المادية، تلك النظريات التي أقامت الدنيا وأقعدتها عليه في بادئ الأمر. وله تآليف علمية عديدة ومقالات متفرقة نشرها في أمهات الصحف والمجلات المصرية كـ "المقتطف" و"المؤيد" و"المقطم" وغيرها. وطرق فيها أهم المواضيع التي كانت تشغل بال أبناء العصر في ذلك العهد.

أما المقال المنشور تحت هذه الكلمة فهو بحث علمي متين يرد به على صديقه سليم سركيس، الذي كان قد أخذ عليه في "المؤيد" دفاعه عن الأفكار الاشتراكية والترويج لها. قال الفيلسوف الشميّل:

في كتابك لي على صفحات "المؤيد" طلبت مني أن أثبت حقيقة وأدفع شبهة. طلبت أن أبين لماذا أدافع عن الاشتراكيين وأن أتوسع في الموضوع، لأن ما كتبته على صفحات "الأخبار" لم يكن مقنعاً وأن أدفع عن نفسي سوء الظن بي، كأن الاشتراكية وصمة وأنا قد تلوثت بحمأتها، وأنت لا تريد لي ذلك، أو أنك تريد أن أبين الحقيقة الناصعة وأن أخرج منها طاهر الذيل، فشكرتك على حسن ولائك ولو أني عجبت أكثر بدهائك.

كنت أفهم قبل اليوم أن الاشتراكية في نظر خصومها مطلب بعيد المنال، فإذا هي فوق ذلك وصمة تعرض صاحبها لأقبح المظان ليس في نظر الجمهور فقط بل في نظر الخاصة أيضاً. فخفف عنك، أيها الصديق؛ فما هي بأول وصمة ألصقت بي ثم عاد الناس إلى الهدى. من ربع قرن نشرت في اللغة العربية مذهب "داروين" ولم يكن معروفاً بها من قبل، فقامت القيامة عليّ من كل صوب وكأني جئت أمراً أدّاً، حتى بلغ التحمس من بعضهم أن قصدني للتعرف بي لا للسلام والكلام ولكنه ضلّ السبيل فقصدني في غير المكان الذي أنا فيه واعترضته البحار فأطفأت منه جذوة تلك النار. ثم مرت السنون والناس بيننا يرتقون حتى صار مذهب داروين بيننا – أو كاد – كمذهب "كوبرنيخ" في الكون أو "غليله" في الأرض، وحتى بلعهما في جوفه.

وما الاشتراكية كما يرميها خصومها بأضغاث أحلام، ولا أصحابها ظلام طغام، فهي لا تركب بمطالبها متن الخيال وتحلق بالإنسان إلى جنات النعيم ولا تكبله بحبال الخيال وتزجه في قعر الجحيم، بل تريد أن تمهد له سبل السعادة على هذه الأرض فتسترد له الفردوس الضائع، تسترده من أيدي مردة الاجتماع وأبالسته، فتخفض من كبرياء وترفع من نفوس وتقرب بين صولجان الملك وعصا الراعي حتى يتم تكافؤ الفضل بينهما.

أراني ركبت متن الخيال في قولي أنها تريد أن تمهد له سبل السعادة على هذه الأرض، والأولى أن أقول أنها تريد أن تقلل من ويلاته فتضمن له حاجاته وتصون حقوقه بعد أن تفرض عليه واجباته وترفعه من تحت مواطئ الأقدام إلى مقامه كإنسان، وتعلمه أنه عضو من الاجتماع، لا يجوز أن يبقى عالة عليه غير نافع، وأنه عامل فيه لا يجوز أن يبقى غير منتفع، وأن تبادل المنفعة ينبغي أن يكون على قدر العمل.

هذا هو مبدأ الاشتراكية. ومن ظن غير ذلك فهو واهم. وهذا هو المبدأ الذي أدافع عنه، فهل فيه مأخذ عليّ لعاقل أو مظنة بي لجاهل؟

والاشتراكية ترجمة لفظة "سوسياليزم" الإفرنجية. وضعها كتابنا الأولون وجرى عليها الجمهور، وهي خطأ في التعريب جرّ معه خطأ أعظم في الفهم. والصواب الاجتماعية من الاجتماع أي العمران وأصحابها الاجتماعيون. وهي ليست مذهباً من المذاهب بل هي نتيجة لازمة لنظر الإنسان في الاجتماع. وهي قديمة كالاجتماع نفسه مثبوتة في تعاليم الفلاسفة وسائر المصلحين في جميع العصور. وكلما ارتقت مدارك الإنسان وزاد اختباره زادت انتشاراً واقتداراً. وهي لا تعلم اقتسام المال، "كن مطمئناً على ثروتك أو ثريتك ما شئت وما شاءت النحاة تصغير ثروة، بل العدل في تقسيم المنفعة ورأس المال. ولابد لي قبل التوسع في الموضوع أن أزيل وهماً وقع لك، فأنا لم أقم في "الأخبار" للمدافعة عن خطة بل عن مبدأ اعتبره مشتركاً بين سائر المصلحين – والاشتراكيون أعظمهم اليوم – وهو إصلاح مركز الإنسان في العمران. وما دفعني إلى ذلك إلا ما كتب هناك مما يوهم أن الاجتماع على هدى وأن الاشتراكيين يدفعونه إلى الضلال، لئلا يكون لذلك تأثير سيئ في الأفكار المتقلقلة التي تحتاج إلى تنشيط يجبنها عن التوغل في فيافي هذه المباحث ويرميها في الجمود؛ لذلك لم أقف عند الأسماء ولم أبخس أحداً حقه فساويت بالفضل بين جميع الذين ناهضوا الاجتماع في سائر أطواره بقصد الإصلاح من الفلاسفة المصلحين إلى دعاة الأديان أنفسهم. ولم أنكر فضل أولئك الذين تطوعوا في هذا الجهاد فكانوا كالأعضاد فيه، ولو أنهم أتوا أحياناً أعمالاًَ مشجوبة قضت عليهم وذهبوا فيها شهداء نظام الاجتماع.

ولا ريب أن الاشتراكية هي الدعوة المنصبة نحوها الأفكار والمعقودة عليها الآمال اليوم. وهي وإن كانت متفقة في الغاية إلا أن فيها اختلافاً كثيراً في الآراء شأن كل فئة في دعوة مثل هذه كثيرة العقبات، وأي مذهب من المذاهب الكبرى علمياً كان أو فلسفياً أو دينياً لا تكثر فيه المسائل الخلافية من دون أن تمس جوهره بشيء ولذلك رأيت أن هذا الموضوع الشاسع الأطراف البعيد المرمى لا يأمن صاحبه الزلل والخبط في تيه فيافيه.

فالاجتماع طبيعي هو وكل ما فيه، مستفاد من الطبيعة. والنواميس التي تسوس نظامه هي نفس نواميسها وأعظم هذه النواميس اثنان: إحداهما يوجب التنازع، وهو تكافؤ القوى في العمران كتكافؤها في الطبيعة. والآخر يوجب الارتقاء، وهو تكافل العمران بتوفير قواه كتكافل العالم أجمع بتوفير قواه في ارتقائه.

فالاجتماع شديد التنازع قليل التكافل لشدة ما فيه من التبذير في القوى التي له ولذلك لا يزال منحطاً جداً بالرغم عن اندفاعه البديع في القرن الماضي، لأنك كيفما جلت بنظرك فيه رأيت أموراً يأنف منها الطبع وينكرها العقل. وقد ينفر الإنسان منها حتى لا يقدر أن يضبط نفسه عن القيام ضدها. تراها في شرائعه ونظاماته وعاداته ومعاملاته في كلياتها من حيث الغاية منها والباعث عليها وفي جزئياتها من حيث تطبيقها على كل فرد من أعضائه، حتى أن البحث فيها لا ينضب.

أوليس من العار على الإنسان الذي يمتاز عما سواه من الكائنات بقوة العقل والاكتساب بالاختبار أن تنتظر ارتقاءه من الطبيعة نظيرها، وهو القادر أن يتصرف فيها، بما له من المدارك لمصلحته؟ ويا ليته اقتصر على ذلك ولكنك تراه دائماً يستخدم هذه المدارك لإقامة العقبات في سبيل ارتقاء العمران، ولكم صده عنه وقضى عليه بالتقهقر لشدة التباين بين أعضائه في العقل والعلم والقوة، وقامت الأثرة مقام تبادل المنفعة فارتفع قوم إلى الأوج وانحط آخرون إلى الحضيض، وكلما  قلّ هذا التباين قلت العقبات لاقتدار الأضداد حينئذ ووجوب الإصاخة لهم.

وهل العمران كما هو الآن يستفيد من قوى فرد أو يعرف أن يستفيد منها، أوليس هذا هو التبذير بعينه؟ وإن كان لا يعرف، أفلا يكون هو الذي يدفع هذا الفرد إلى الإضرار بنفسه وبالمجموع كله عملاً بناموس هذا التكافؤ؟

كثيرون يطرقون هذا البحث ويكثرون فيه من المنّ على الإنسان فيطلبون الإصلاح له. لضعيفه وسقيمه ومن لم تمده الطبيعة بالقوة الكافية للحصول على ما تستقيم به أموره، يطلبونه له رأفة به وشفقة عليه. أما نحن فنقول أن الإنسان في الاجتماع في غنى عن رحمة الراحمين وشفقة المشفقين، فلا نطرق هذا البحث لتحريك العواطف ولا ندع للإنسان على الإنسان مناً لأننا ننظر في ذلك إلى المصلحة المشتركة. ففي العمران كما في الطبيعة لا يضيع شيء ولا يضيع تأثيره، والتأثير الذي يحدثه الفرد في الاجتماع لا يدرك أهميته إلا الذي يقدر ناموس تكافؤ القوى في الطبيعة قدره. فكم من تأثير إذا نظرت إليه مباشرة يتراءى لك عديم القيمة، ثم بالانتقال والتفاعل يتحول مع الزمان ويصير ذا شأن عظيم في الطبيعة، ولنا في الأفعال المتجمعة مثال محسوس مثل الشرارة للبارود، وعليه المثل "سبب النار شرارة وسبب الشر كلمة" ومن هذا القبيل الزلازل وسائر نكبات الطبيعة الفجائية.

فعلى هذا الناموس تتمشى أفعال الإنسان في العمران فإذا أحسنّا أو أسأنا إلى الاجتماع فإنما نحسن ونسيء إلى أنفسنا. وما نصنعه في سوانا يرده لنا هذا السوى "بفرطه"، كما يقال في لغة الماليين.

فالاجتماع كما ترى أكبر مرابٍ، ولكن على عكس المرابين. فهو يردّ لك كل شيئ تنفحه به رباه ولو تبرعت به تبرعاً ووهبته له هبة. خذ مثالاً لذلك الأمراض، هنا أناس جمعوا بذكائهم أو دهائهم الأموال على ظهور العمال فسكنوا الأحياء الفسيحة الأرجاء تنفذها الشمس ويلعب بها الهواء وتحف بها الحدائق، وبنوا فيها القصور يمرحون فيها على وثير المهاد وفاخر الرياش وتحوطوا بكل ما تصح به الأجسام وتنفى الأسقام. وعلى قيد قصبات منهم أكواخ متراكمة بعضها فوق بعض كالتلال يزدحم السكان فيها كالذباب لا شمس ولا هواء ولا ماء إلا ما يكفي للاختمار وجعلها بورة البوار ومعمل الدمار حيث تجد الأمراض مرتعاً خصيباً، فماذا يقيك من شر ما جنيت أيها المطمئن بعزلتك وأنت شريك جارك في الماء والهواء والغذاء، حمالة الأمراض ونقالة الوباء؟؟

وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة يضيق عنها الحصر وتتجدد أمامك كل يوم وتدلك على نقص نظامات تلك الشرائع القائمة على مبدأ تأييد القوي وإرهاق الضعيف. غني يتقاضاك مالاً لا يزيد في غناه  بلغة والله يعلم من أين أتى، وكل ما في مسكنك من المقتنيات لا يفي بسداده وإنما يكفي ليصون عيالك. فالقانون الذي لم يعرف كيف يستفيد من عملك لينتفع بك وينفعك يقضي عليك ولو أدى ذلك بك وبعيالك أن يأويكم العراء ويصدر القاضي، وقد مات منه الضمير، حكمه مصدراً باسم مليك البلاد... الخ. ثم يصب البلاء على العباد، فعلى من اللوم إذا تراكمت أمثال هذا الأفعال بناء على هذا الناموس وأحدثت تأثيرها في الجموع فقاموا يصادرون الاجتماع ويحدثون الثورات كالثورة الفرنساوية وثورة العمال القائمة اليوم والتي سيكون هولها أشدّ من تلك إن لم تدفع بالحكمة، لانحصار تلك في بقعة من الأرض وفي شعب ولانتشار هذه في كل العالم المتمدن.

ولولا نهضة رجال الثورة في الماضي وسريان روحهم الحية في أعقابها لبقي الإنسان يرسف في قيود الجهل حتى اليوم ولتقهقر الاجتماع عما كان عليه أيضاً بالرغم عن ناموس الارتقاء العام. أما وقد بلغ التنبيه في الأفكار مبلغه  اليوم فلا خوف عليه أن يتقهقر لانتشار العلم وانتشار مبدأ الاشتراكية بسبب ذلك واقتدارها على تنفيذ مطالبها، بل كلما تقدمنا ستزداد هذه الحركة الارتقائية سرعة وتقرب الأمم بعضها من بعض فتقل الحروب ويتفرغ الإنسان للاشتغال لمصلحة العمران. والغريب أن كل واحد منا في حديثه وكتاباته كل يوم يخدم دعوة هذا التمهيد الوجيز كاف لأن يقنعك أيها الصديق بأن مبدأ الاشتراكية ليس مما يخجل منه ولا هو مما يجب أن يحجم عنه.

وقد قرأت في "المقطم" شذرات مختلفة في الاشتراكية بعضها مناقض للآخر بحسب كتابها فيها. الناس يعتقدون الاشتراكية كما يفهمونها لا كما هي أو كما يجب أن تكون، شأنهم في أكثر المسائل الاجتماعية. الاشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لا بد من الوصول إليها ولو بعد تذبذب طويل. الاشتراكية كالاجتماع نفسه ذات نواميس طبيعية تدعو إليها.

الاشتراكية لا تضر الاجتماع لأنها تطلب للاجتماع ما تطلبه نواميسه نفسها، بل بالضد من ذلك تنفعه إذ تؤيد الفضيلة وتصدّ عن الرزيلة باتباعها سبل الاجتماع القويمة. لأن الفضيلة ليست إلا انطباق أعمال الاجتماع على نواميس الاجتماع والرزيلة مخالفة هذه النواميس. الناموسان العظيمان اللذان يسوسان الاجتماع هما تكافؤ القوى في العمران وهذا يوجب التنازع والثاني تكافل العمران بتوفير قواه وهذا يوجب استخدامها كلها لمنفعته. فالاشتراكية لا تطلب سوى أن تسير في الاجتماع على هذين الناموسين بحيث لا يضيع فيه شيئ من قواه يمكن صرفه إلى منفعته. لا شك أن الاشتراكية إذا أريد بها الاشتراك بالمنفعة من غير الاشتراك في العمل، ألا تكون  حينئذ عدلاً وأكبر حاثٍ على الاجتهاد.

ما قولك في رجل ينال أجراً معلوماً عن عمله وآخر ينال فوق هذا الأجر كذا في المائة من الأرباح على نسبة العمل وأهميته، فأيهما يجد أكثر من الآخر وهل تقف أرباح رأس المال بذلك، ما قولك في رجل به كفاءة لأن يأتي أعمالاً نافعة جمة ولكنه ينقصه شيئ إداري كمعرفة وجود العمل مثلاً، وهذا ليس بالشيئ النادر في الاجتماع. فمثل هذا الرجل المهم قد يموت جوعاً إذا ترك وشأنه وهذا أقل الشرور منه لولا أنه يخشى أن ينقلب عضواً شريراً في الاجتماع كثير الضرر كما هو الغالب. فلو كان في الاجتماع نظام يعرف كيف يستفيد من مثل هذا الرجل وينفعه معاً، ألا يكون ذلك أصلح لحال الاجتماع؟

وما قولك في نظام اجتماعي يهتم بشؤون الأفراد فينشئ إدارات تهتم بوجود أعمال لكل العمال كل حسب طاقته – وهذا ليس من الأحلام – ويقيم المستشفيات على نسبة السكان ويوفر الماء للجميع على حد سواء ويقدم الصابون والكساء الأول البسيط  لكل معوز (لأن الموسر لا يقبل ذلك) تيسيراً للنظافة التي هي أول دعائم الصحة. فهل أفراد الاجتماع الذين يتكفلون بذلك كل حسب طاقته يغبنون من عنلهم هذا. أفلا تربوا أرباحهم عموماً على خسارتهم مادياً وصحياً وأدبياً من توفير وسائل العمل للعمال. ألا يزيد هناؤهم في صحتهم وصفاؤهم في راحتهم؟ ألا يقلّ التذمر في الاجتماع حينئذٍ؟ أو لا يصبح الاجتهاد عنوان الفضل الصحيح ويكون ذلك أكبر حاث على العمل والجد؟ وهذا ليس حلماً إلا في رؤوس الذين تستثقل طباعهم الخروج عن المألوف وهذا النظام ولا ريب نظام الاجتماع المستقبل.

وما قولك أيضاً في نظام المحاكم عموماً كما هي اليوم. فكأن واضعها ظنّ أن الإنسان ما خلق إلا لكي يقضي عمره كله في دعوى تعرض له في حياته كأن ليس له شغل آخر. وما هي النتيجة؟ إن الدعوى الواحدة تؤجل من شهر إلى آخر ومن سنة إلى أخرى حتى ينقضي عمر صاحبها فيها وربما تركها ميراثاً وحيداً لأولاده. وبئس الميراث تصرف فيه قوى الإنسان إلى جهة واحدة وأية جهة! ألا ترى المحاكم لو كانت موزعة في كل مدينة بل في كل بلد على نسبة سكانه بحيث أن دعاويهم تنقضي في أقصر الأوقات لهم أو عليهم، أما كان ذلك أربح حتى للخاسرين أنفسهم؟ أو ليس هذا تبذيراً قبيحاً في هذه القوى ومنعها عن الانصراف إلى شؤون أخرى أنفع للاجتماع. أم ذلك من الأحلام التي يحلم لها حالمو الاجتماع أيضاً؟

الاجتماع كما كان في القديم وكما لا يزال حتى اليوم ليس نظاماً طبيعياً، وكل موضوع ومشروع فيه مخالف لهذا النظام. ولكنه بحكم نواميسه الطبيعية التي هي أقوى من كل ناموس وضعي، سائر بالضرورة إلى هذا النظام. وإنما هو سائر إليه بعد اضطرابات وثورات وقلاقل قد تكون فيها مئات السنين كأمس الدابر بسبب نظاماته الموضوعة. ولكن هذا السير قد يسرع أيضاً بناء على ناموس تجمع القوى. وهنا يظهر فضل عقل الإنسان، فكلما ارتقى الإنسان وزاد اختباره استخدم هذا الاختبار لتقصير هذه المدة.

أن القرن الماضي وهو الذي امتاز أيضاً بوضع الفلسفة العملية على قواعد علمية متينة. وسيكون تأثير هذه الفلسفة عظيماً في إصلاح الاجتماع وستقيه من التذبذب الكثير وتمنعه من التقهقر وتدفعه في الارتقاء بسرعة تتمشى فيه على نسبة حسابية، لأن القضايا القائمة عليها هذه الفلسفة ثابتة والاضطرابات التي نشاهدها اليوم ليست إلا لنفض الغبار القديم.

 

الطليعة، س2، ع8، بيروت، تشرين الأول 1936)