تبدأ محررة «الكلمة» هنا رحلة معرفية مع المستعرب الأسباني الكبير تتعرف فيها على الإنسان والعالم، وعلاقته بنفسه وبثقافته قبل أن تطرح عليه أسئلة العلاقة بثقافتنا التي أمضى عمره متخصصا في دراستها. وتقدم فيها نموذجا للمواجهات المعمقة التي تطمح «الكلمة» في أن تجريها مع أعلام الفكر والثقافة.

فسيفساء لذاكرة حاضرة

لقاء مع المستعرب الاسباني بدرو مارتينث مونتابث

أثير محمد على

مقدمة
كانت عقارب الساعة تقترب من موعدي مع المستعرب الاسباني المرموق Pedro Martínez Montávez بدرو مارتينث مونتابث. سافرت بعيني أتابع حركة الصباح المدريدي في ساحة سانتا آنا بأبنيتها الواطئة، التي تعود لبدايات القرن التاسع عشر. لم أرتحل بعيداً في ذهني، وأنا أرسم خط سيري إلى العمارة التي يقيم فيها أستاذي خلف المنعطف المقابل، بعد عبور شارع آتوتشا صوب كنيسة سان سيباستيان المعمرة.

في حقيقة الأمر، عصفت بي فكرة إجراء مقابلة مع بدرو مارتينث مونتابث في زيارة سابقة لبيته، حينها غاب العالم الخارجي بعد أن قرعت البوابة الكبيرة، وولجت ردهة البناء الداخلية، كانت رائحة ورنيش عطرية تفوح من أرضية سلالم خشبية تصرّ تحت وقع قدمي وأنا ارتقيها إلى الطبقة الثانية. في زيارتي الأولى تلك تعرفت على بيت أستاذي، حينئذ غمرتني التساؤلات بين الغرف والممرات المتوالدة عن مغزى رعشتي المتأملة للزمن، ربما لأن الدُور الموروثة المحافظة على سماتها البدئيّة مارست عليّ جاذبها باستمرار، بكل تراكمات الحنين المترامية الأطراف في تفاصيل الأثاث وترجيع الذكريات في الزوايا.

حسناً، فكرة اللقاء الذي أجريته مع المستعرب تقوم على علاقته مع فضاء المكان/ البيت الذي يعيش فيه لتصل إلى فضاء الزمان الحميمي والعام على حد سواء، فالعلاقة مع المسكن تشكل التكئة لتناول السيرورة، ومقولات المصائر التي حاول أن يستنفذ حدود ممكنها بدرو مارتينث مونتابث.

من جانب آخر، وانطلاقاً من رؤيتي بأن وجوه الكائن البشري هي محصلة لظرفه التاريخي وتجربته اليومية والنفسية عامة، فإنني حاولت الانزياح عن التناولات الغالبة في الصحافة العربية، من حيث تسليط الضوء على الجانب المتعلق بعلاقة المستعرب مع ثقافتنا العربية فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب الأخرى له كمواطن في بلده الأم، والشروط الذاتية والموضوعية التي تحكمت بموقفه النقدي من العالم، ثم من الثقافة العربية. بمعنى أن محاولتي تقوم على الاهتمام بالحاشية المكتوبة على هامش متن ملامح المستعرب، قبل أن تخوض في مقولاته ومنجزه الفكري، وكفاحه الأكاديمي، وما أضافه لعالم الاستعراب.

بداية، أود القول أنني أجريت عدة مقابلات مع الأستاذ بدرو مارينث مونتابث توزعت على عدد من الأيام، وفي كل لقاء حملت معي حزمة من الأسئلة والأفكار التي كنت أطرحها عليه في بداية كل جلسة. وبما أن ضفاف أسئلتي عملت على إيقاظ أعشاب ذاكرة بعيدة لأستاذي، فإن دوري الأساسي فيها كان تحديد مسار اللقاء بالمجمل، وترك بقعة الضوء له لسرد ما تمليه حاجته للقول والتعبير.

قبل الشروع في المقابلة كان علي اختيار اللغة التي سأدير بها الحديث ما بين العربية أو الإسبانية، وحين فكرت أن روح الكلام تومئ لآفاق الذاكرة الشخصية بالحضور، لم أتردد باختيار اللغة الأم لأستاذي لأنها اللغة الأصدق تعبيراً عن تلك السرحات الشخصية، والانطلاقات الحكائيّة في الحارات الحميمية.

وأثناء عملية الترجمة والإعداد والكتابة قمت بتغيب، أو بالأحرى تقليص، حضوري في اللقاء إلى الحد الأقصى. تركت لأستاذي كامل السطور للبوح، ولم تقتصر ترجمتي على ما سمعته منه فقط، وإنما على ما أبصرته من تعابير وانفعالات وحركة يد أو رجفة رمش.. إلخ، وهنا أشير إلى أن ما أبصرته ترجم في سياقات التراكيب اللغوية في النص إلى علامات الترقيم، والصفات والظروف المطابقة للحالة البصرية التي شهدتها. ولن أكون مبالغة أن النص الذي أتركه بين يدي القارئ أشبه ما يكون بمونودراما، وعليه فإن فعلي فيه هو فعل دراماتورجي يطلب من مستقبل النص أن يخوض لذة تعمير الفضاء الدرامي، الذي تتحرك به شخصية المستعرب بدرو مارتينث مونتابث وتخاطبه بذات صوتها.

قسمت المقابلة على حلقات ستنشرها مجلة "الكلمة" تباعاً. وحلقة هذا العدد تطال ملامحاً وخفايا من الحياة الخاصة لا تكمل صورة المستعرب المحترف فقط، وإنما تساعد على فهم تطورها في الزمان والمكان. أما الحلقات المتواكبة التالية فإنها ستلتف لمقاربة ما هو موضوعي في علاقته مع قضايا وشخصيات ثقافية عربية، وتقدمه كباحث كرس جهده للدراسات العربية وأضاف الكثير، ولا تغفل عن رأيه في الدراسات العربية، والكيفية التي أسس بها للاستعراب المهتم بالأدب والفكر العربي الحديث حوالي منتصف القرن العشرين في المراكز الأكاديمية الاسبانية. ليغدو اسمه في مصاف أهم المستعربين في العالم الاسباني-اللاتيني.

وبما أن الذاكرة تمارس غوايتها على السارد نفسه نحو أزقة جانبية وتعمل على تفتيتها وتشظيتها، فإن كتابتي حاولت إعادة تركيب وترتيب ما تركه أستاذي لي من تفاصيل، لإدراجها في شبكة لوحة فسيفسائية تكون كل قطعة سردية فيها بمثابة توضيح محايث لمرتسمات صورته ككائن بشري، ورجل، ومواطن، ومستعرب...

وقبل أن أترك الحلقة الأولى بين يدي قارئ "الكلمة"، أود التنويه إلى الاختلاف بين معنى Andalucía "إقليم الأندلس" من جهة وبين al-Ándalus "الأندلس التاريخية" من جهة أخرى. اندلوثيا أو "إقليم الأندلس" هو التقسيم الإداري المعاصر للمقاطعة المتوسطية في الجنوب الاسباني، والتي تتمتع باستقلال ذاتي، وتضم حدودها مدن: اشبيلية، قرطبة، غرناطة، جيان، مالقا، قادش، المريه، ولبا. وهي تختلف اختلافاً كلياً عن al-Ándalus "الأندلس التاريخية" والتي تشير إلى مفهوم أوسع يضم معظم أراضي اسبانيا والبرتغال في ذروة حضور الظاهرة التاريخية العربية في شبه الجزيرة الإبيرية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حدود "الاندلس التاريخية" كانت تتقلص مع الوقت حتى ساعة الزوال آن سقوط غرناطة.

لم يرق لي أن استخدم اسم أندلوثيا في نصي، رغم جواره جادة الصواب، وفضلت عليه كتابة "إقليم الأندلس" في أغلب سطور النص، وفي حال التطرق إلى العصر العربي الأندلسي في سياق النص استخدمت تعبير "الأندلس التاريخية" للتمييز.

لقارئ الكلمة أترك مشهدية الكلام للمستعرب الاسباني بدرو مارتينث مونتابث:

 

فسيفساء لذاكرة حاضرة..

الحلقة الأولى

 

المسكن.. وجماليات المكان
بدايةً، أود القول أنني لا أستطيع السكن في أي منزل آخر، فمع هذه الدار تكيفت وهنا أشعر بالراحة، وأجد نفسي في مكاني وفي مسكني.
في حقيقة الأمر، تمحورت حياتي كلها حول البيت والجامعة، بالطبع دون أن أغفل عن أماكن أخرى أثرت في تكويني ولها أهمية كبيرة في عمري.
أما فيما يتعلق ببعض أفكاري على وجه العموم، وتلك الخاصة بالبيت، فأعتقد أنني إنسان متقادم، أو لنقل بأنني عتيق على حد التعبير الاسباني، ولكن هذا لا يمنع من كوني إنسان معاصر، فواحدة من غاياتي الأساسية هي أن أنتمي لزمني: لزمني الذي عشته والذي أعيشه في راهن الآن.
من جانب آخر، أريد أن أنوه إلى أن هذه الدار تعود لعائلة زوجتي Mercedes ميرثيدس، وهي مليئة بذكريات أسرتي من حمويّ، اللذين أكن لهما حباً واحتراماً جماً، إلى زوجتي وأولادي بطبيعة الحال. وتتبع الدار لبناء من منتصف القرن التاسع عشر، بمعنى أن عمرها يكاد يبلغ المائتي عام. ومثل كل العمارات القديمة التي تقع في وسط مدريد العاصمة، فإنها تجاور الحي الذي يعرف بـ "حي الآداب"، فهنا عاشت شخصيات أدبية تاريخيّة من العصر الذهبي أي القرن السابع عشر، فبيت المسرحي Lope de Vega لوبي دي فيغا (1562-1635) على سبيل المثال، قريب من هنا ويقدم نموذجاً للعمارة من عصر ازدهار كبير، كذلك "المسرح الاسباني" الذي وجد مكانه الـ "كورال دي كوميديا" سابقاً.

الدار واسعة جداً، وأرى أن فضاءها الداخلي سيء التوزيع تبعاً لمفهومنا المعاصر، فمهندسو العمارة في القرن التاسع عشر لم يقوموا بتوظيف الفضاء الداخلي بشكل موفق أو نفعي، مقارنة مع ما يقوم به المعماريون المعاصرون. وسبب قولي هذا هو أن الدار تحتوي على ممرات عديدة، إضافة إلى الكثير من الغرف والتي يكاد بعضها أن يكون رديء التهوية، ويمتاز هذا النمط من البيوت بسقفه العالي جداً، مما يشكل مشكلة فيما يتعلق بعملية التنظيف، وعليه لا بد من إشادة سقف مستعار في بعض الغرف. في كل الأحوال، راقت لي هذه الدار بمتاهتها المتشعبة باستمرار، فمفهوم الفضاء المنزلي بالنسبة لي هو الوسط الخاص بالحميمية بشكل أساسي، وهنا يتحقق فضائي الحميمي، الذي تواشج مع حياتي واشتبك مع تفاصيل عمري، فأنا أساكن المكان ويساكنني منذ عودتي من مصر أي منذ منتصف عام 1962، فهو المكان الوحيد الذي أشعر فيه براحة الخصوصيّة  والألفة. من جهة أخرى، أعتقد أن واحدة من المخاطر التي تعانيها الحياة المعاصر هي فقدان الحميمية، إضافة للاعتداء المؤرق على الخصوصية، حتى أننا استسلمنا لهذا الظرف وأخذنا على عاتقنا مهمة التكيف معه طالما أن الدفاع عن الحميمية الإنسانية هو شيئ معقد وصعب.

في كثير من الأحيان يبرر هذا الاعتداء بالحاجة إلى التواصل أو الإعلام. ومن وجهة نظري هو تبرير زائف، والحقيقة أن الفضاء الحميمي للإنسان عامة لا يُحترَم الآن، وغالباً ما يعاني الفرد من الهجوم المستمر على تضاريس فضائه ومكانه الخاص، حتى لو تعلق الأمر بأشخاص غفل أو عاديين، كما هو الحال في وضعي، فأنا لست معروفاً ولا مشهوراً إلا ضمن نطاق محدد وضيق. بالنهاية، المسكن بالنسبة لي كما للجميع على ما أعتقد هو المكان/ المأوى حيث الحميمية والخصوصية.

المرأة الأولى ورحلة في تقلبات المكان والزمان
يجب أن أشير إلى أن واحدة من الصور الموجودة في ردهة مدخل البيت هي صورة والدتي. وتستقر صورة زوجة أبي في الصالون الكبير. وهنا أود أن أوضح أمراً هاماً وهو أنني أعتبر زوجة أبي أماً لي، لأنها فعلاً كانت أمي الثانية. ولحسن الحظ، أو لسوئه، كان لدي أمان: والدتي البيولوجيّة، وأمي التي ربتني.
ذكرياتي القديمة الأولى تعود لأطياف بعيدة قبل الانتقال النهائي إلى مدريد، وهي مرئيات من مسقط رأسي في قرية تعرف بـ خُودَر، وهي كلمة تعود بجذرها إلى اسم العلم العربي (شَودَر)، الذي تم تحريفه مع الوقت إلى (خَودَر)، ليستقر لفظه عند الاسم الحالي للضيعة.

توفيت والدتي البيولوجية مع بداية الحرب الأهلية (1936-1939) وأنا بعمر 3 إلى 4 سنوات إثر ولادة متعسرة ولد معها أخي ميتاً، بمعنى أنني فقدت حينها وبنفس الوقت أمي وأخي المفترض. في تلك اللحظة لم يكن والدي في البيت، لأنه كان غارقاً في صراعات الحرب، فانتقلت إلى بيت جدتي لأمي، ومن ثم إلى بيت عمي في القرية.. حينها كنت وحيداً ومفتقداً للحماية. من الجلي أن صلة الوصل الأولى مع المرأة تعود لذكرياتي مع أمي البيولوجية روسا، والتي كثيراً ما تجاهلت وجودها فيما بعد وعلى مرّ سنوات طوال من حياتي لأسباب مختلفة. بالطبع واحدة من الذكريات التي تركت أثراً لا يمحى في نفسي هي فقدان أمي البيولوجية، ولكن انفعالي العاطفي وغبطتي بالعثور على امرأة أخرى، أي أمي الثانية روساريو زوجة والدي، جعلني أتماهى بحبها بشكل كامل كأم لي.

وإذا انطلقت بقطار الذكريات فإنني سأشرع رحلتي من محطة ضيعتي خُودَر التابعة إدارياً لقضاء مدينة Jaén خايين الأندلسيّة والتي تعرف في المراجع العربية باسم جيان. هناك ولد الطفل بدرو مارتينث مونتابث في 30 حزيران سنة 1933، وسينتظر ثلاث سنوات مصيرية، تبدأ معها الحرب الأهلية، ليفقد معها والدته وأخاه الوليد بآن واحد.
قيل لي بأنني من برج السرطان، رغم أنني لا أؤمن بهذه الحسابات، إلا أن ابنتاي نتاليا وروسا ايسابيل اللتان تهتمان بالأفلاك والأبراج وتدافعان عنها، أكدتا لي أنني أمثل نمطيّة برج السرطان وصفاته المعيارية. وكان قد قيل لي بأن أهل هذا البرج يتعذبون كثيراً في الحياة، حينها لم يفزعني ذلك ولم أحاول معاكسة هذا القول. ورغم أنني شخص عانى كثيراً في هذا العالم وعرف معنى الشقاء وشظف العيش باكراً، إلا أنني استثمرت فعل الحياة إلى أقصى الحدود التي قدرت عليها، والتي أتاحها لي وضعي. بهذا المعنى أرى أنني لازلت في حيويتي.

حسناً، بالعودة إلى أندلس الحرب الأهلية.. ماذا سأقول؟!!
لدي ذكريات مهولة..
مع الوقت أخذت أكتشف وأقتنع بأن التجربة الأكثر مأساوية والتي يمكن أن تمرّ على شعب ما، أو أية مجموعة بشرية، هي المواجهة الأهلية العنيفة. من المؤكد أن كل الحروب كريهة وقذرة وجميعها ينطوي على حيثيات دمار مادي وروحي ونفسي، إلا أن الصيغة الأكثر سوداوية للحروب هي الحرب الأهلية.
ما أقوله ينطلق من حرب عاشها ذلك الطفل الذي كنته، والذي لا يمكن له بأي حال من الأحوال تفسيرها أو فهمها. ومما رأيت وجربت يحضر الجوع والبؤس في فضاء ضيعتي الريفي، رغم ذلك فمشاعر الحرب في الضيعة لا يمكن مقارنتها مع مدينة كبيرة كمدريد والتي تحولت إلى جبهة قتال وحشي.

نعم أذكر بعض الأشياء..
كنيسة الضيعة المحتلة من قبل ميليشيات القوات العسكرية التي وصفَتْ نفسها بالوطنية Nacionales، ولم تكن من الوطنية في شيئ، لأنها انقلبت على الحكومة الجمهورية المنتخبة شرعياً، والأجدى نعتها بالقوميّة اليمينيّة Nacionalistas.

ما الذي أذكره أيضاً؟
أذكر أزيز الطائرات المفاجئ وهي تحلق قبل القصف، ونحن الأطفال نلعب بين أشجار الزيتون، أو فوق الأرصفة المعفرة بالأتربة، وكان علينا الركض بالسرعة المتاحة لأقدام الصغار نحو بيوتنا بحثاً عن الأمان المفقود بين الخرائب.

ترتبط الحرب التي دارت رحاها في أجواء ذلك الطفل بمرئيات موت والدتي، والتي تمظهرت أمامي على مدار حياتي وبشكل ملح بين الحين والآخر رغم محاولاتي مقاومتها. أذكر أنهم قادوني من يدي لأرى والدتي ممددة على سرير الموت في غرفة نومها حيث لفظت أنفاسها الأخيرة، مع وليدها الذي ولد بلا حياة جاثياً بين فخذيها. هي مشهديّة عبشة ظليلة تطفو أمام عيني من اسبانيا الأعماق حينها.. اسبانيا السوداء، ومن "إقليم الأندلس" الأكثر غوراً في هذا القاع السحيق.

أذكر أنهم أوقفوني خلف نافذة بيت القابلة السيدة إنكارنا، المطل على ساحة الضيعة الرئيسية، كي أتمكن من مشاهدة الموكب الجنائزي للنعش الذي يضم أمي وأخي معاً، وهو يشق طريقه صوب المقبرة ليلحدا قبل مغيب ذلك اليوم.
أذكر ذلك تماماً..
وفهمت من مشاهد الطفولة تلك بأنني أضحيت بلا أم، إلا أن الحنين للأم المفقودة ما برح دخيلتي، رغم أن دور الأم قامت به امرأة أخرى اسمها روساريو، وهي المرأة التي تزوج بها والدي بعد الارتحال إلى مدريد.

بيت الضيعة لازال قائماً حتى الآن في شارع كان يسمى Vistahermosa "المنظر الفاتن" قبل أن يحمل، منذ سنوات خلت، اسم "بدرو مارتينث مونتابث" حين سميت "ابناً مختاراً" لقريتي من قبل إدارة البلدية سنة 1983. ولأكن صريحاً لم يعجبني تغير اسم الشارع، لأن "المنظر الفاتن" أحلى بكثير من "بدرو مارتينث مونتابث".

روساريو هامت بحبي وكرست حياتها بالمجمل لتربيتي، حتى أن أحدهم أفضى لي لاحقاً بأنها من شدة شغفها بي تنازلت عن أمومتها، ولم تقدم على تجربة الإنجاب.

لا أعرف فيما إذا كان ذلك حقيقياً أم لا، ولكن الواقع الذي خبرته هو أنني كنت وحيدها وصغيرها في هذا العالم. من هنا ولمقاربة علاقتي مع العالم الأنثوي لا بد من الانطلاق بداية من أمي البيولوجية روسا، ومن ثم من أمي الثانية روساريو.

مع توالي الأيام، أوصد أبي الباب على سيرة أمي الراحلة روسا، ولم يحدثني عنها بعد الانتقال إلى العاصمة، ولوقت لابأس به، وفي وثائق المدرسة الرسمية لم أكن بدرو مارتينث مونتابث، وإنما بدرو مارتينث غارثيّا، فقد حملت كنيتي الثانية لقب عائلة أمي روساريو.

أرادت روساريو أن تمحي فيّ كل ذاكرة تتعلق بحياتي الماضية قبل مدريد ومنها ذكرياتي مع أمي روسا. كانت تعتقد أنها بتصرفها هذا تقوم على حمايتي ومساعدتي على الحياة بنسيان كل شيئ سابق عليها خلال الحرب الأهلية. تاقت لأن تكون أمي الوحيدة. بالطبع لم أنس أمي الراحلة روسا التي حملت ذكرى سريرها ونعش موتها كامنة في باطني كما أشرت سابقاً، وإن كنت أتظاهر بالنسيان.

المدينة تفتح أبوابها وروساريو الأنثى أحضانها
انتقلت للعيش في مدريد سنة 1939.
هناك الكثير مما لم أعد أذكره، وأعتقد أنني تركت المجال مفتوحاً أمام لاوعي كي يمرر منديلاً على زوايا من الذاكرة لمسحها ومحيها.
حسناً، القدوم إلى مدريد..
البيت الأول الذي أقمنا فيه كان في شارع غرناطة..
سجلوني في مدرسة مختلطة، وأذكر أن وجود البنات الصغيرات فيها لم يرق لي حينها.. نعم أذكر هذا الإحساس جيداً.

في البيت المدريدي الأول رأيت عالماً جديداً. وبطبيعة الحال لم يعد مكاني ريفياً بل مدينياً، حتى أن عائلتي أضحت أخرى، وفيها اكتشفت المرأة الثانية في حياتي: أمي روساريو، والتي أعود لأشدد على أن صلتي بها كانت صلة حب متبادل وحنان مطلق. لعل ذلك الطفل بـ 6-7 سنوات فكر حينها أن حياته وصلت إلى هنا، وما كان هناك في الخلف هو شيئ آخر.
أما عن ظروف الزواج الثاني لذلك الأندلسي ابن براري خودر، فأقول أن والدي تعرف إلى روساريو بالمراسلة. كان ذلك مألوفاً خلال الحرب الأهلية. وعُرفت النساء اللواتي راسلن المحاربين بإشبينات الحرب، ومهمتهن كانت رفع معنويات الجنود بأنثى الكلمة وتلاصق السطور.
بعد توقف الحرب وكرور سنين السجن عاد والدي للحياة الأهلية، وتزوج من صاحبة الأنامل الواثقة، كاتبة الرسائل الشابة روساريو: ممرضة ماهرة، امرأة بشخصية تحمل تناقضاتها وأضدادها الخاصة، فهي بذات الوقت قاسية كما هي حنونة بامتياز، تستطيع الوصول إلى أقاليم رقة من الصعب أن تصلها أية امرأة أخرى، ولكن يمكن أن تكون بحزم وقسوة مفردة أيضاً. وعلى طباق معها كان أبي حنوناً جداً، إلا أن ظروف حياته جعلت منه رجلاً مخفي الحضور، فضّل أن يكون في موقع خلفي في البعد الثاني لمشهديّة تلك الأسرة الصغيرة. ولعل قوة الشخصية التي امتلكتها أمي روساريو، تتأتى من أنها كانت تستوعب وتتمثل ما كان يدور حولها بعمق، ورغبت بإدارة شؤون العائلة لأنها ببساطة كانت قادرة على ذلك.

مدريد في ذلك العصر والأوان.. تداعيات ذاكرة
الصغير بتلك العمر لا يستطيع أن يتذكر كثيراً، وإدراكه للعالم حوله كان يحبو بخطوات سيرورته الأولى. بعد بيت "شارع غرناطة" انتقلنا إلى بيت آخر في "شارع مونتيسا" لتقاسم السكن مع بقية أسرة أمي روساريو. وهي عائلة نمطية لا تختلف عن الأسر المدريدية لتلك الفترة. وهنا أود التنويه إلى أن أجدادي في ضيعة خودر كانوا قد ماتوا قبل الانتقال إلى مدريد، أما صلتي مع جدتي الريفية لأمي روسا، ومجمل المكان الأول بشخوصه وإيقاعه الريفي، فقد انقطعت تماماً مع اندماجي ودخولي إلى معمار المكان الحضري بكل وجوهه وشخوصه المدينيّة. وكان علي أن أتكيف مع حياة أخرى، جديدة تماماً، ففي مدريد ولد كائن آخر، وكأنني استولدت لمرة ثانية في فضاء أخذت شخوصه تلعب على مسرح حياة هذا الكائن الآخر أدوار الأم والجد والخال وابنة العم..
قبل أن أتابع أود التنويه إلى أنني وصلت المدينة، بعد أن حطت الحرب رحالها، وأنا أعاني من ضعف في بنيتي الجسدية وصحتي بسبب سوء التغذية والنمو، فقد قدمت من الريف بأقدام نحيلة وبطن ظاهرة الانتفاخ، ولكن رعاية أمي روساريو ساعدتني على تخطي محنتي الصحية والبقاء على قيد الحياة.

من الشخصيات التي أثرت بي كثيراً يحضر جدي من جهة أمي روساريو. رجلٌ جدي جهم المحيا، كان يعمل مفتش بوليس. في حقيقة الأمر، لم يترك جدي على شاشة ذاكرتي أية ضحكة علت مرتسمات وجهه. أما ابنه، أي خالي، فقد كان يعمل في سلك الشرطة أيضاً، إلا أنه كان على النقيض منه مرحاً، ولعل طراوة مزاجه تعود لمواهبه في الغناء وعشقه للأوبرا والثارثويلا الاسبانية، حتى أنه أراد أن يتابع تعليمه الفني إلا أن مصائر تلك المرحلة أعاقت إرادته عن متابعة قدره المختار ونهجه ذاك. جميع مع أحاطوا بي كانوا يفيضون بالحنان نحوي، حتى أن ذلك الرجل الحازم، الجهم مفتش البوليس جدي، كان يرافقني أيام الآحاد لمشاهدة مباريات كرة القدم، وينشغل جانباً بالدردشة مع فريق من أصحابه. كما كان يأخذ يدي الصغيرة في كفه ويذهب بي إلى دكان الحارة لأغرف ما تتيحه تلك الأزمان من ملذات السكاكر.

في تلك المدريد تبدأ مرحلة مابعد الحرب الأهلية..
مابعد الحرب كانت مهولة ومزرية، ليس في مدريد فقط وإنما في عموم اسبانيا، وأستطيع أن أؤكد على أنني أكلت بشكل أقل وتعذبت أكثر في مرحلة مابعد الحرب، بالمقارنة مع رحى المعارك السوداء في الضيعة، حيث كان من المحتمل العثور على شيئ يؤكل.

بالكاد استطاعت مدريد المحطمة التنفس وهي تخضع لنظام ترشيد في المواد الغذائية، وغيرها من ضروريات الحياة، كان لكل عائلة دفتر بونات غذائية، ومع بداية كل أسبوع كان علينا الذهاب إلى المراكز والجمعيات التموينية الخاصة بتوزيع الأغذية، كي نستلم حصتنا من نصف كيلو من العدس أو نصف كيلو من الحمص أو ما يصب لنا من قوارير الزيت.. الخبز كان أسود اللون تماماً، كريات داكنة جافة. نهايته... الجوع الحقيقي والصراع على البقاء بدأ مابعد الحرب الأهلية، واستمر الوضع على هذه الحال لمدة 10 إلى 12 سنة.

أما النخب الأول من المواد الاستهلاكية، فكان نادر الوجود ويباع في بضعة محلات معدودة، وفي تلك الظروف نشطت تجارة السوق السوداء الوسخة، مما أفرز ثروات ضخمة فيما بعد في يد حفنة من الناس.

من تلك الدار أذكر ابنة عم بعيدة، تكبرني بسنوات عديدة شاركتنا السكن، اسمها خوليانا: كائن لطيف وغاية في العذوبة، رغم ما نُعتت به من غرابة الأطوار ونصف العته.

خوليانا الفتاة الفاتنة كانت تعشق الشعر، وهي من فتح أمامي بواباته، فأول قصيدة تعلمتها وساكنت عمري كانت من إنشادها، بين الفينة والأخرى تشرع بالغناء أو قراءة القصائد.. أو تختفي وتفر من البيت بين ليلة وضحاها ولا تعود للظهور إلا بعد عدة أيام. كانت مدلهة بالرجال، وتسحر بهم بسهولة عجيبة. وتعددت جوباتها الغرامية وتوقانها المخبول مع توسع معارفها الشعرية وإنشادها للقصائد والأغاني، وإيغالها في شفافية زمن بعيد.. أذكر فرحي حين مشاركتها طقس تنقية العدس أو الحمص حبة حبة، وأغنية أغنية، ننقي الحبات الصالحات ونفرد جانباً الحبات المسوّسات لرميها لاحقاً، أو حتى لتجاهل السوس فيها وتركها لتطهى مع الحبات الأخريات مع ذروة الإيقاع الشعري وهو يموج مع خبايا الهواء المنسرب من نوافذ الدار.

أعتقد أن ذكرياتي غير متصلة، ولكني أود أن أسردها كما تطفو وتتداعى على حالها بدون حبكة مسبقة التحضير.

قضى أبي نهاية الحرب في السجن، فقد انجرّ إلى الصراعات القتالية، بدأ مع فريق وانتهى مع فريق آخر. في الضيعة كان يشغل منصب سكرتير عام لحزب عرف بـ"اليسار الجمهوري"، وهو حزب تميز بتوجهه المعتدل، وبطبيعة الحال خاض الحرب إلى جانب الفريق الجمهوري. وقدم أبي كسكرتير عام للحزب في خودر عملاً عظيماً، لأنه كرس طاقته لإنقاذ الاسبان من الفريق اليميني، أثناء الانتقامات الرهيبة التي كانت تجري على قدم وساق، في زمن الفوضى والكره الأعمى وعصف الجنوح، فأحكام القتل والإعدام كانت تنفذ بلحظة آنية ومباشرة بعد الملاحقة لدى كل من الفريقين المتصارعين، دون أن ننسى أن الحرب الأهلية دارت بين أخوة تخاصموا وتقاتلوا وتواجهوا بالعنف والعنف المضاد. تعشّق مع ولاء أبي السياسي جانب إنساني بقي حاضراً لديه باستمرار، فقد كان رجلاً عاطفياً وجد نفسه في قلب حرب مروعة مسربلة بلون الفظاعة..

يحضرني من ملامح أبي الموشورية جانب جمالي إبداعي، فقد كان عازف غيتار ممتاز، وميله لم يكن لمحض فلامنكو الغيتار بقدر ما كان للغيتار الكلاسيكي والموسيقا الشعبية الأوسع. حاولت تعلم العزف منه، ولكن ذلك كان مستحيلاً، فوالدي لم يكن بارعاً في التعليم، وكان يتوتر بسرعة ولا يطيق صبراً مع أخطائي المتكررة. إضافة إلى إدراكي بأنني لست موهوباً بالعزف على الغيتار، كما أني كنت قليل الانضباط في تلقي الدروس على يديه. ما أود قوله هو أن والدي امتلك بعداً فنياً خلاقاً سريع التأثر والانفعال، كان رجلاً أندلسياً بكل معاني الكلمة، ولكنه كان يملك عمقه الخاص أيضاً. في إهداء وجهته له في إحدى كتبي، قلت:
"إلى أنطونيو مارتينث إيريرا.. أندلسي متكامل.. وربما دون أن يعرف"

قضى والدي سنوات الحرب مع الفريق الجمهوري في الضيعة كما قلت، وبعدها هام على وجهه فاراً بين تلال طليطلة. وهناك قبض عليه من قبل قوات الفريق اليميني، وأودع السجن بضعة سنوات..
بالكاد تحدث معي عن أعاصير تلك الأيام وزنازينها، ربما لأن شخصيته تميل لقلة الكلام عموماً، فقط أسرّ لي أنه نجى بصعوبة من الإعدام ثلاث مرات. من المؤكد أنه تعذب في السجن كثيراً، وأعتقد أن مراسلات أمي روساريو البريدية إليه كانت الخيط الذي مده بمعنى الحياة والحرية والأمان. وبعد خروجه من السجن كان عليه أن يعيد تحقيق حياته ويتغلب على اغترابه الموحش وهو لا يملك شروى نقير، كافح وعمل كثيراً، لم تكن لديه دراسة جامعية ولكنه تلقى دروساً في المبادئ الأولية للعلوم الصيدلانية، مما سمح له بالعمل في صيدلية كمعاون صيدلاني في بعض الأوقات.

فيما بعد، علمت من قبل بعض المعارف أن النساء كن يعجبن به، وأظن أن سبب ذلك لا يعود لوسامته بل لقدرته على الإحساس بالأشياء الجميلة، ولعل هذا ما كان يؤثر على الطرف الأنثوي. كان رجلاً مربوع القامة، بنظرات عذبة وصوت دافئ حنون رغم حاجته للكثير من الحنان.

من المؤكد أنه لم ينس والدتي روسا رغم أنه كان يتظاهر بذلك، لأنني كنت أشعر بها وهي تحيا في ركن ما في ذلك الداخل الظليل منه، إلا أنه مثلي كان عليه أن يعيش حياة أخرى ويتنازل عن تلك التي حققها خلال سنوات الشباب الأول في الريف.

لعدة سنوات التحق والدي أنطونيو مارتينث إيريرا للعمل في حوانيت ومتاجر مختلفة، وهنا تحضر ذاكرتي "دكان بيثينتي ريكو" التي اشتغل فيها والدي لفترة لابأس بها، وهي دكان لا تزال قائمة للآن في "شارع كونثيبثيون خيرونيما" القريب من هنا، وتختص ببيع أدوات الاحتفالات والأعياد المتنوعة.

حتى الآن، ومع اقترب نهاية السنة، أشق طريقي إلى تلك الدكان لشراء القبعات المخروطية، والصفارات، وشرائط الورق الملونة كاحتفاء بوالدي وكذكرى للمكان الذي اشتغل فيه تلك الأيام البعيدة. فيما بعد ترك هذه الدكان وانتقل للعمل في المكتبات، وكان عليه العمل لساعات طوال كي يؤمن لقمة العيش اليوميّة للأسرة ويسطّر له في المدينة سيرة حياة جديدة.

الفضاء اللعبي واكتشاف العالم.. حقبة الأربعينات
التحقت بالمدرسة الابتدائية مع أترابي الصغار. في حقيقية الأمر، ارتهن تعليمي بشكل دائم بمدى حصولي على منحة تتيح لي الدراسة المجانية في المراكز التعليمية المختلفة. ولحسن الحظ، توفرت لي باستمرار منحة ساعدتي على متابعة الدراسة. والمنح كانت تقدم حينئذ من قبل الحكومة عن طريق مؤسساتها التربوية سواء الوزارية أو عن طريق المراكز التعليمية مباشرة. أما في حالتي فحصلت على معظم المنح في مراحل الدراسة المختلفة من قبل رهبانية مدارس التقى، المعروفة بـ لوس اسكولابيوس، رغم أنني في فترة متقدمة تركت الدراسة في مدارسهم وحملت دفاتري وأقلامي إلى مدرسة حكومية.

فيما بعد مع التحاقي بالجامعة، رغبت في أن أشارك والديّ في مصاريف البيت، فأخذت بالعمل بشكل منتظم، وإن لم يكن بدوام كامل في مراهنات كرة القدم، وهي نوع من المراهنات التي تنشط خلال الفترات الدورية للمباريات، وفيها يحاول المراهن أن يتنبأ بالنتائج، ويتعلق الأمر بالحظ إلى درجة ما، إلا أنها ترتبط أيضاً بقدرة المراهن على توقع الفائز والحدس بالنتائج من خلال متابعته لمستوى الفرق وطبيعة الظروف التي تحيط باللعب، إلى ما هنالك من عوامل تتدخل في حكمه. الأمر نفسه يشبه المراهنات المعمول بها في مضمار الخيول من حيث المراهنة على الجواد الفائز بالمرتبة الأولى والثانية.. إلخ، ولازالت مؤسسة المراهنات على كرة القدم قائمة حتى الآن وأسمها: "مراهنات الجمعيات الرياضية الخيرية"، وهي من أهم المراهنات في اسبانيا من حيث عدد المشاركين فيها، مقارنة مع غيرها من المراهنات الأخرى، لما للعبة كرة القدم من شعبية واسعة لم تحققها أو تزاحمها عليها أية رياضة أخرى.

عملت في مجال المراهنات مع فريق يتكون من 200 إلى 250 شخصاً. خلال فترة بعد الظهر في الأيام الثلاث الأولى من الأسبوع: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وكان علي فحص النتائج المسجلة في كل بطاقة من بطاقات المشتركين، والعمل على فرز صاحبة النتائج الصحيحة عن تلك التي لم يحالفها الحظ في التوقع. بالطبع كنا نقوم بمراحل العمل كافة بشكل يدوي، وليس كما هو الحال الآن حيث تعلن النتائج بسرعة، لأن الآلات الحاسبة أصبحت تقوم بمهمتنا القديمة على أحسن وجه.

في حقل المراهنات قبضت أجري الأول، حينها كنت أعتبر نفسي محظوظاً، فاعتباراً من تلك اللحظة بدأت بالحصول على قدر من النقود لجيبي الخاص دون أن أتحايل على رهان آخر هو الحياة اليومية، فحتى عمر السابعة عشرة لم أحصل أبدأ على نقود ممنوحة لجيبي، ولم أكن أعرف ما الذي يعنيه ذلك. رغم أنني كنت أقوم بمناوراتي الخاصة على حفنة السنتيمات التي أعطانيها والديّ من أجل وسائل المواصلات للذهاب إلى المدرسة، ففي بعض الأحيان كنت أقطع الطريق مشياً على الأقدام للمدرسة بدل ركوب الترام أو الحافلة للتوفير أجرة النقل.

الأربعينات كانت سنوات قحط وجوع، وقتئذ كنت أعيش في "شارع مونتيسا"، ومن ثم انتقلنا للعيش في "شارع القنطرة". كنا نلعب في الشارع بكرات نصنعها من بقايا الخرق البالية، والجرائد البائتة الأخبار، ونحزمها بالحبال للحصول على كرة كوكبية، أما المرمى فكان يمتد من عمود الكهرباء إلى الجدار المقابل، هناك استطعنا اللعب بحرية، فالسيارات المارة في الشارع وأزقته المتفرعة تعد على أصابع اليد، وعند مرور إحداها كنا نوقف اللعب حتى تمضي، لنعاود ركضنا وتقافزنا وراء كرتنا المحزومة. أما الملاهي والمجمعات الرياضية الضخمة، التي تحوي على الملاعب والمسابح المختلفة فلم تكن منتشرة شعبياً، وفقط تمتع بها أطفال الأغنياء وأصحاب الامتيازات.

شكّل الشارع لنا نحن الصبية والبنات، مكاناً للعب، وفضاء للمعرفة ولحداء المخيلة.
في مضارب الشارع تعلم معظمنا ما تعلم.. وتعلمت أنا أسساً هامة للحياة.
كانت لأبناء جيلي ثلاثة فضاءات: البيت العائلي، والمدرسة، والشارع. والأكثر جاذبية من بينها بالنسبة لنا كان محيط الشارع بكل تشعباته المختلفة دون أدنى شك.
كنا أسياد الشارع بلا منازع، وفي بؤرته المصغرة اكتشفنا اللعب، وباللعبي بدأنا باكتشاف العالم، رغم أننا لم نكن نعرف ما كان يجري في الخارج، وعندما أقول الخارج فإنني لا أعني خارج اسبانيا فقط، وإنما خارج حزام الحارة التي سكناها، فالذهاب لوسط العاصمة كان يعتبر مغامرة المغامرات. كان علينا التعايش مع بلاط الأرصفة، وإسفلت الطريق في الحارة لتوسيع مداركنا، وفهم ما يقع في الخارج من خلال تمثلنا لظرف الداخل/ الحي.
أكرر، كنا أسياد الشارع بلا منازع، وفي بؤرته المصغرة اكتشفنا اللعب، ومن ثم تعرفنا على جنيات الشبق الأولى المميزة لتلك العمر المبكرة. كنا نتصارع بالحجارة والحصى، وأذكر برية معشوشبة بلا عمران كانت تمتد خلف "شارع مونتيسا".. والتي شهدت ساحات الوغى التي خضناها بين متاريسها الترابية.

وبفضل مناورات الادخار كنا نستطيع توفير بيسيتا واحدة تمكننا من الذهاب لسينما الحي خلال العطلات، والتي اعتبرناها ملحق من ملاحق متع الشارع، ولكنها المتعة الأكثر سحراً. غالباً ما كنا نصرف البيسيتا على النحو التالي: 75 سنتيم أجرة اللوج العلوي الأرخص في السينما، وبالـ 25 سنتيم المتبقية كنا نشتري كيساً ضخماً من بذور عباد الشمس. وندخل السينما بعد الظهر ونبقى فيها حتى المساء، فسعر البطاقة كان يسمح لنا بحضور حفلتين متعاقبتين، يكرر في الثانية منهما عرض فيلم الحفلة الأولى، وغالباً ما يكون لواحد من أفلام البطل الصيني Fumanchú. هناك في البلكون العلوي كنا نسمر نظراتنا ونسرح مخيلتنا في الشاشة الشاسعة، بينما نتابع فصفصة البذور ورمي قشوره إلى أرض الصالة في الأسفل، لنعيد الكرة في الحفلة التالية.

تلك كانت اسبانيا الأربعينات بالنسبة لي. في ذلك التقشف والجو العدائي كان على طفل مابعد الحرب الذي كنته أن يتعلم فعل العيش..

الآن ينتابني الاحساس بأن الأجيال الحالية لا تعرف ما عشناها بشكل واف تماماً، وأحياناً لا يعنيها حتى أن تعرفه.

الاستعادة.. والزيتون وطور السنين
اقتلعت من ماضي الأول، وربما لهذا السبب قام جزء هام من حياتي على استعادة المفقود والماضي البعيد. تماماً كنبتة انتزعت من أرضها ومن ثم عادت لتستنبت نفسها في تربتها الأم، أعتقد أنني فهمت ذلك باكراً ولم أصرح به. من جانب آخر، أوكد على أن واحدة من الصفات التي تميزيني هي أنني شخص واقعي قادر على التكيف مع ظروف الحياة، ولكن إحساسي بالفقد لم يجعلني أتنازل عن أفكاري ولا عن غاياتي ومبادئي ومشاريعي.

عدت لاستعادة الزيتون بعد أن نسيته تماماً مع الوقت..
رجعت لاستعادة مرتسمات حقول الزيتون، وتلال الزيتون في "إقليم الأندلس". وتحولت روابط طفولتي مع شجرة الزيتون لعلاقة مع الرمز: رمز لثقافة جمعية، فالأندلس في عيني ريف يمتد برحابة صدرٍ متيم، وهذا ما أشعر به حينما أتجاوز "سهل المانشا" وأصل حدود الاقليم عند منطقة ديسبينيا برّوس، حينها أبصر كيف تتحرك تضاريس الأرض ارتفاعاً وهبوطاً، ويتفتح المشهد على عمق الاقليم. من الجائز أن وراء انطباعاتي هذه يكمن مؤثر نفسي لعب دوره في بصيرتي التي ترى في الاقليم وادياً عميق الغور. ومن المؤكد أن منظر "سهل المنشا" يولد الانطباع بالانفتاح على اتساع المدى، إلا أن هذا الانفتاح يضرب عمقاً في "إقليم الأندلس".

أعتقد أنني أعرف جغرافية اسبانيا جيداً، وبغض النظر عن أنها بلدي، أستطيع القول أنها فتنتني بعد معرفتها، ولا زالت تفتنني كل يوم. الأمر نفسه حصل لي ما يشابهه مع بلدان أخرى كمصر، وايطاليا، وتركيا، والمكسيك على سبيل المثال. ومن النافل القول بأن الانطباعات المتعلقة بكل بلد هي مختلفة باختلاف التجربة الشخصية.

أظن أن من يعرف جغرافيا اسبانيا، بل أفضل الحديث هنا عن شبه الجزيرة الإيبرية، سيدب في أوصاله سحر ما. تضاريسها تمنح الشعور بوجود بلدان متعددة فيها، وفي حال "إقليم الأندلس" يمكن القول أنه نشأ ضمن نطاق الحوض النهري. فعلى ضفاف نهر "الوادي الكبير" Guadalquivir، الذي يشق طريقه في الأرض، نشأ الاقليم بثقافاته المتنوعة، لذلك فهو النهر الكبير.. النهر الأب.

وأود التنويه هنا إلى أنه يوجد في اسبانيا نهر آخر يشابه نهر الوادي الكبير في عظمته وهو el Ebro الايبرو، إلا أنه نهر يخترق أقاليماً عدة في اسبانيا، على العكس من "الوادي الكبير" الذي يعلّم الأندلس بإيقاعه العميق كما تعلّمه هي بإيقاعها.

أما في اقليم كتلوينا فيمكن الحديث عن الوديان أكثر من الوادي الأوحد. فالأنهار تهبط من جبال البيرينيه وتتشعب شرايين رحلتها في الأرض، لذلك فالمشهديّة في حال كتالونيا هي مشهدية أنهار ووديان متعددة.

بالطبع هناك نهر el Tajo التاخو، الذي يعرف بالعربية بنهر التاجو وهو أطول الأنهار جميعها، إلا أنه نهر تتقاسمه اسبانيا مع البرتغال حيث يمر بإقليم كاستيا، ثم إقليم اكسترمادورا ويتابع طريقه في البرتغال ليصب في المحيط عند ثغر لشبونة. ويمكن القول أن تأمل تدفق التاخو وهو يلتف ويعرج على طليطلة لا يشابه على الإطلاق تأمل زخمه وهو يضيع في أمواه الأطلسي عند لشبونة.

محصلة قولي أن نهر "الوادي الكبير" يخلق اندلوثيا ويتماهى معها..

"إقليم الأندلس" أو أندلوثيا هي الريف/ الحقل الذي كان لفترات طويلة مملوكاً بيد قلة من الناس من ملاك الأراضي والأعيان بسبب سوء توزيع الثروة. لذلك فتاريخ الاقليم عرف شخص El señorito السنيوريتو وهي كلمة صكت بالاسبانية وتخص مالك الأرض الأندلسي.. هذا إذا لم نتحدث عن شخوص المزارع، والمرابع، وشغيل الأرض المعاوم الذي كان ينتظر أن يحالفه الحظ في ساحة القرية، بمرور سيد من أسياد الأرض ليعمل لساعات محددة، مقابل أجر يقلّ مع حاجة الشغيلة وتنافسهم، بخفض أجورهم، وحتى عراكهم فيما بينهم للحصول على عمل اليوم أو أشباه اليوم.

هي واحدة من مرئيات تلك الأيام القابعة في داخلي، فجدي لأبي كان من بين أولئك الشغيلة المعاومين، مات بعمر 51 منهكاً من قسوة العمل.

أندلوثيا هي تاريخ حقل ضم كل ما هو رديء وكل ما هو حسن لمجتمع تلك الأيام الريفي..

في "إقليم الأندلس" النهر هو الأب، والحقل هو الأم، أما ثمرة هذا الوصال الرمزي وحصيلته فهي الزيتون.

تقولين أنني أذكرك بشجرة الزيتون في شخصي.

في حقيقة الأمر لا أعرف؟!!

أرغب أن أكونها، طالما أن الزيتون معمر جداً وراهن أيضاً..

الزيتون هو حوض المتوسط.. هو الحضارة، والثقافة، والصبر، والأمان، والحكمة..

هناك بيت شعر لشاعر الحداثة الأميركي-لاتيني Rubén Darío روبين داريّو كتبه أثناء زيارته لجزيرة مايوركا الاسبانية على ما أذكر، يقول فيه:

Aquí junto al mar latino,
digo la verdad:
siento en roca aceite y vino,
yo mi antigüedad.

هنا بحذاء البحر اللاتيني
أقول الحقيقة:
أحس زمني المعمر
بالصخرة والزيت والنبيذ.

بمعنى أن ما يلخص المتوسط من خلال شعرية داريو هو الصخرة العارية، وشجرة الزيتون التي تنتج الزيت، وعناقيد العنب التي يخمر منها النبيذ، فكل من شجرتي الزيتون والكرمة تفيضان بمعنى السخاء في الوجود الإنساني أكثر من أي شجرة أخرى.

أعود لأؤكد أنني شخص واقعي، ولكني في كل الأحوال لم أغض الطرف عن رؤية أبعاد غير واقعية أو رمزية في الأشياء المادية. لذلك فأنا أرى أن الزيتون والكرمة هما حصيلة اجتماع نموذجي ومتكامل لهذين البعيدين: العياني والرمزي.

حسناً، رافقيني إلى الصالون الكبير... كما ترين هنا على مائدة الوسط، يوجد مجسم صغير من الفضة لشجرة زيتون، وهو يعود ليوم كان علي فيه المناداة وافتتاح العيد لأهل قريتي خودر، بعدها قدمت لي إدارة البلدية باسمهم هذا الشجرة الفضية. وعلى قاعدتها الفلينة حفر بخط ناعم فوق صفيحة معدنية: "إلى السيد بدرو مارتينث مونتابث المنادي الأول للعيد، خودر/ 2003".. حينها تناولت شجرتي وأنا أعرف أين سيكون مكانها في بيتي. هنا في مركز هذه الطاولة في مكان مرئي ولكن دون أن توحي بالمباهاة، يمر بها الزائر، يعيها دون أن يراها.

يحضرني الآن شعر لـ Manuel Machado مانويل ماتشادو، يعدد فيه وينعت بقصيدة مقتضبة مدن "إقليم الأندلس". أذكر أنه حينما وصل لمدينة جيان لقبها بـ Plateado Jaén، جيان المفضضة كإشارة للون أخضر الزيتون اللجيني.

هي القصيدة التي تنتهي بقوله:

Huelva a la orilla
de las Tres Carabelas.
Y Sevilla.

ولبا على ضفاف
ثلاثة مراكب شراعيّة.
واشبيلية.

هكذا وصل في نهاية القصيدة إلى اشبيلية، والتي تركها لتصورات المخيلة بلا وصف يطوقها.

تعالي وعرجي معي عبر ممر الكتب هنا، لأريك تفصيلاً شبه مخبأ في هذا الركن...

هذه هي لوحة التكريم التي منحتني إياها الضيعة كابن مختار لها، وهنا للأسفل لوحة تكريم من قبل جمعية الصداقة العربية الفلسطينية.، وفي ذلك الجانب بين الكتب لوحة تمثل حقلاً من الزيتون..

شجرة الزيتون هي كل ما تحدثت عنه سابقاً، إضافة لأن لها فضيلة أخرى بالنسبة لي. هي أنها شجرة كتومة متحفظة، تنطوي على نفسها وتضرب جذور برازخها عميقاً في الأرض، مليئة بتجاعيد المعاني والأسرار، ليس لها ضوضاء ولا أبهة مثيرة للانتباه كما هو الحال مع شجرة أخرى كالسرو، والتي أحبها أيضاً.

لنعد إلى غرفة الجلوس عن طريق غرفة السفرة، من هنا.. من هنا.. أتعرفين بفضل جدران هذه الممرات الجانبية، أخذت مع الوقت أشيد الرفوف تباعاً، بعد أن امتلأت حجرتان واسعتان بالكتب.

نسمات المروحة ولغة الحب الأول
كل هذه المراوح في الصالون الكبير هي لزوجتي مرثيدس، وبعضها متوارث تباعاً ولأجيال مختلفة من قبل نساء عائلتها الراحلات، وكأنها رسائل سطرن على نصها المجازي حكاياتهن الخاصة. المراوح مصنوعة ومرسومة يدوياً، طبعاً وكما تقولين هناك لغة خاصة بالمراوح في الثقافة الاسبانية، وأخرى خاصة بالأزهار عبر عنها فديريكو غارثيا لوركا في مسرحيته "لغة الزهور". وأتفق معك على أن المروحة احتلت، ولا تزال بأشكالها الجمالية المختلفة، مكاناً هاماً لدى الاسبان، وليست حكراً على النساء ويستخدمها الرجال أيضاً، حتى أنها تشكل واحدة من الملحقات الاكسسوارية للباس إضافة لوظيفتها في ترطيب الوجه والعنق والجيد باستجلاب النسيمات وقت الحر.

أما بالنسبة للإجابة على السؤال عن اليوم الذي بدأت تهب فيه نسمات المروحة بلغة الحب الأول، فأقول أنني تعرفت إلى زوجتي مرثيدس مع بداية دراستنا الجامعية في كلية الآداب والفلسفة، كنا بعمر 18 سنة. جمعتنا الدراسة العامة المعمول بها خلال السنتين الأوليتين في الكلية قبل الدراسة التخصصية، ولكننا كنا في صفين أو مجموعتين مختلفتين تبعاً للترتيب الأبجدي لألقابنا العائلية. في حقيقة الأمر جذبتني ميرثيدس منذ البداية، هي كما هي، كما كنت أراها. ولكني ارتكبت حينها خطأ في تحديد اسمها، لأنني كنت أعتقد أن اسم ميرثيدس ليّو يخص طالبة أخرى، أما هي فأعطيتها اسماً مختلفاً عن اسمها.. ومع مرور الوقت اكتشفت أن اسم مرثيدس يعود للطالبة التي جذبتني وتابعتها من بعيد.

عندما أحصر ذاكرتي ومشاعري، أستطيع القول بأن تلك الشابة مثلت لي منذ البداية أموراً عدة، فإلى جانب جاذبية حضورها الجسدي، أستطيع القول بأنها امرأة تمتلك نوعاً خاصاً من الغموض، على الأقل بالنسبة لي، وهنا أود التوضيح بأن الغامض، أو المبهم الذي يوعز بأبعاد أعمق من صرامة المظهر المعلن، مارس سلطته عليّ وجذبني إليه باستمرار. تحضرني تلك الصبية/ السر، الجدية والمرحة بآن واحد. وأعود للقول بأن التركيب بين النقائض دائماً ما كنت أتوقف عنده. ربما لهذا السبب جذبتني اللغة العربية، وكل مكونات الثقافة العربية والتي أرى إلى أنها واحدة من التعابير المناسبة في محاولة تركيب وتجاوز الأقطاب المتعارضة، وأقول محاولة لأن الأمر قد يكون مستحيلاً في بعض الأحيان. وأذكر أولئك الأقدمين الذين وصفوا اللغة العربية بلغة الضاد، كما لو أنهم يقولون لغة الأضداد أو المتناقضات. ولعل السبب نفسه كان وراء اهتمامي بالشعر السياسي على سبيل المثال.

كنت ألمحها باستمرار مع ثلة من صويحباتها، فهي كانت ولازالت شخصاً اجتماعياً، على العكس مني، فأنا لم أكن اجتماعياً على نحو كبير بل أميل للوحدة دون أن أفقد حس التضامن مع الآخر لاعتقادي بأنني جزء حيوي من الجماعة. ميرثيدس كانت فتاة تنتمي لطبقة اجتماعية أعلى من طبقتي، فأنا كما سردت أعود لجذور متواضعة سواء من حيث أصل أهلي الفلاحي في الضيعة، أم عبر تحولاتي المدينيّة الشعبية في العاصمة. كنت أرى فيها فتاة الطبقة الوسطى المرتاحة مادياً فهي ابنة طبيب، وأذكر أنني كنت أسمعها تقول أنها ستذهب في عطلة نهاية الأسبوع للتذلج على الثلج في الجبل مع أصدقائها، أو أنها ستذهب للتصيف. بالنسبة لي التذلج في الجبل كان يفوق تصوري عندئذ، فكيف يمكن أن يكون للواحد منا أدوات التذلج؟!! وكيف يذهب للجبل كي يمارس الرياضة؟!! ناهيك عن بحبوحة التصييف.

مرثيدس كانت تمثل كل ذلك.. والأهم أننا وقعنا بالحب بشكل طبيعي.

أما على صعيد كوننا زملاء في السنة الدراسية، فلم نكن على توافق دائم، فهي كانت تأنبني ولا زالت بأنني لم أدعها تنقل عني في الامتحانات، ولم تفهم أنني لم أدع المجال لأي كان كي ينقل عني، من هنا موقفي الحازم والرافض لعملية النقل في الامتحانات، ودائماً قلت للطلاب أنني لن أشدد على المراقبة كما لو كنت شرطياً، ولكن من أراه يغش فسأسحب منه الورقة مباشرة وأرسبه في الامتحان. وبالطبع فعلت ذلك أكثر من مرة.

ارتباطي العاطفي مع ميرثيدس بدأ في السنة الثانية من دراستنا الجامعية. أذكر أن الوقت كان ربيعياً حين ذهبنا مع مجموعة من الزميلات والزملاء إلى بحيرة حديقة الريتيرو، حيث استأجرنا قارباً صغيراً وأخذنا نجدف معاً.. كان يوم الـ 19 من شهر آذار/ مارس، ومن جهتي أقدمت على فعل ما يسمونه إعلان الحب للمحبوب. وأعتقد أن هذا التفصيل السردي تكرر مع 99% من عشاق مدريد في تلك المرحلة، ولم تكن جمالياته استثنائية بأي حال من الأحوال. وبعد تخرجي من الجامعة 1956 تزوجنا مرثيدس وأنا، وأثمر زواجنا أربعة أبناء: سرخيو، بدرو أنطونيو، روسا ايسابيل، ونتاليا.

كنت أتوقع، تعد تخرجي وحصولي على منحة أن أشرع برحلة عمل إلى مصر مع ميرثيدس، إلا أن حرب الـ 56 إثر تأميم قناة السويس، اضطرتني لتأجيل سفرتي المصرية حتى بداية عام 1957. وقررت مع ميرثيدس السكن هنا في بيت أسرتها. وأعتقد أنني منذ اللحظة الأولى تكيفت مع إيقاع البيت اليومي، ولم تشكل لي الحياة مع حمويّ أية مشكلة على الإطلاق، وشعرت بالسكينة وبراحة فريدة، وتفاهم كبير. حماتي كانت امرأة آسرة، وأضيف أن واحدة من مؤثرات علاقتي مع عالم المرأة يتأتى من تلك السيدة الجميلة الرائعة، الاستثنائية بامتياز، ذات القدرة المفردة على التضحية، فالعيش من أجل الأخرين شكل مبرر حياتها بالكامل، كانت امرأة مليئة بالعطاء والوفرة والسحر، إلى جانب كل ذلك كانت غاية في الحساسية، تعشق الشعر وترتله بشكل آسر.

أذكر صوتها حين زيارتها لنا في القاهرة لعدة مرات، وهي تقول لي: إيه بدرو لم لا تأخذني لأزور المساجد؟!! على العكس من حماي الذي لم يطلب مني مثل هذا الطلب، لأنه كان يفضل أن أتركه في المقاهي الشعبية والبارات حيث يستطيع شرب كأس من الويسكي وتسنح له الفرصة للحديث مع الناس، ولعل لعمله كطبيب مؤثر في تفضيله هذا. أذكر انذهال حماتي حين رافقتها إلى مدينة الموتى في القاهرة لترى القرافة، وإلى الحارت الشعبية التي عشقتها.

حسناً، ما هو مبرر كل هذه السردية. آآآ..، إن عائلة مرثيدس لم تنحدر من "إقليم الأندلس" ولكنها كانت تملك حبلاً سرياً يصلها مع ما هو أندلسي.. حتى أن هواية زوجتي لرقصة الفلامنكو la Sevillana (الإشبيلية) تبرهن على المرأة الأندلسية التي تتعايش معها. في أحيان كثيرة أفاجأها وقد وضعت أسطوانة موسيقية وأخذت بالرقص وحيدة.. وقد أورثت بناتي وابني سرخيو هذا الميل الفني، والذي يعكس بجانب مع جوانبه الميل لما هو شعبي أو كل ما له مسحة أندلسية.

هناك في الصالون الكبير على تلك الطاولة، التي تصطف عليها مجموعة من صور العائلة، صورة فوتوغرافية تخص راقصاً على خشبة مسرح وهو يفتح ذراعيه كطير يحلق، إنه خوسيه وهو ليس فرداً من العائلة، هو أستاذ الرقص الذي علم ميرثيدس "رقصة الإشبيلية"، وهي نفس الصورة التي تضعها ابنتي المستعربة روسا ايسابيل في مكتبها في الجامعة، لأنه من علمها هذه الرقصة أيضاً.

بتغيير وجهة الموضوع، أود القول أن الحياة الزوجية تمر بمراحل مختلفة مع مرور السنين، بمعنى أن طبيعة العلاقة مع الطرف الآخر بعمر 25 سنة ليست هي نفسها بعمر الـ 75 سنة. ولكني أريد أن أؤكد على شيئ يخص حياتنا الزوجية، هو أنني مدين لمرثيدس بشكل كبير. وحالتها ليست بمنأى عن غيرها من النساء الاسبانيات لجيلها، حين كان عليهن أن يكيّفن من مسار تحققهن بما يتناسب مع وضع الزوج الاجتماعي. فكما يحدث في البلاد العربية، والإسلامية على وجه العموم، اسبانيا حافطت لزمن طويل على أن يختص الفضاء العام بالذكر والفضاء الخاص بالمرأة، والمجتمع كان مصنعاً بهذا الشكل.

وككل نساء منتصف القرن الماضي، ولكي يستطيع الزوج أن يأخذ موقعه في الفضاء العام، كان على ميرثيدس التنازل وتكريس الحيز الأعظم من حياتها للبيت والأولاد. من جهتي، حاولت في هذه المعادلة أن أعطي الوقت الذي أستطيعه لأولادي، ولكني كنت منهمكاً بواجبات أخرى، خاصة عندما بدأت أقبل مسؤوليات مختلفة في إدارة الجامعة. لذلك، وقبل أي شيئ يجب أن أعترف بفضل زوجتي الإيجابي على كل منجزي، مع أنها لم تتوقف عن العمل خارج البيت رغم اعتبار عملها هذا أقل أهمية من عملي. من المؤكد أنني قدمت تنازلات لأجلها، ولكن ليس بالقدر الذي قدمته هي ولا يمكن أن يضاهيه على الإطلاق.

أحاول الحديث عن زوجتي باستخدام مفاهيم موضوعية، وهنا تكمن الصعوبة بالنسبة لي، أن تتحدث بموضوعية عن كائن ليس محبوباً فقط، وإنما هو فرد من عائلتك، هو أمر صعب، فالعائلة لا تحبها فقط وإنما تحترمها أيضاً. وعند الكلام بموضوعية عن ميرثيدس، أعتقد أن لها تناقضاتها الخاصة، لديها قدرة كبيرة على التفهم، ولكنها تظهر في حالات أخرى انعدام قدرة على التفهم بشكل محير.

لا أدري ربما نحن البشر مجبولون على ذلك..

لا أدري؟؟.

ميرثيدس هي شخص ينوس بين حالات من الاندفاع المرح وحالات من الأسى الشفيف. ربما بسبب حساسيتها الرهيفة تستطيع بسهولة التموضع في أقطاب متطرفة متنافرة.

بالنسبة لي "أن تحب"، يعني "أن تحاول الفهم" أيضاً. ولعل ابن رشد قال شيئاً شبيهاً: "حينما يتسع الفهم يكبر الحب". بمعنى أن الفهم الملازم للرأس والعقل، ليس منفصلاً على الاطلاق عن القلب والإحساس.

وبذلك أعود لفكرة تركيب العناصر المتناقضة الذي أشرت لها سابقاً، والذي تتأسس عليه رؤيتي للحياة. فالحب بالنسبة لي هو محاولة للفهم أيضاً.

سرديات طالب في الجامعة الفرنكوية..
أعتقد أني كنت طالباً جامعياً مجتهداً، بمبادئ محددة وآراء واضحة. درست كل ما علي دراسته، أما المواد التي لم ترق لي أو لم تكن تهمني فدرست ما هو ضروري منها، بينما كرست وقتاً أكثر للمواد التي جذبتني وتبحرت فيها بشكل واسع، لعل هذا ما جنبني الاحساس بالهيبة من الامتحانات، وبشكل عام حصلت على درجات جيدة ومستويات متقدمة على أقراني من طلاب الجامعة. أما أساتذتي فأستطيع القول أنهم ثمنوا جهدي، ولاحظوا أنني طالب متميّز، ومن الممكن أن أقدم شيئاً نافعاً. وفي معرض الحديث هنا أضيف بأنني لم ألفت الانتباه لجهدي الدراسي فقط، فأمر لفت الانتباه كان سهلاً حينها للمجتهد، بل ساعدني عليه كوني طالب ذكر، فأغلب طلبة كلية "الآداب والفلسفة" كن من الإناث.

المجتمع الاسباني كان يطفح بذكورية سلطوية، والجامعة كانت بطرياركيّة بامتياز، وكلف الطالبات المبرّزات مضاعفة الجهد كي يصلن لنفس مستوى قرائنهن من الشبان، فيما لو استثنينا الفتيات المتقدمات اللوات وقع  هوى الاعجاب بهن في قلوب الأساتذة.

بهذه المناسبة سأروي لك نادرة حصلت معنا في الجامعة. وآسف إن كان شطط الذكريات يذهب بي بعيداً عن مرام اللقاء معي. هي نادرة تعكس هيمنة السلطة الذكورية على مناخ الجامعة أثناء حكم فرانكو، وتحديداً عند منتصف القرن الماضي.

كان لدينا أستاذ جامعي اشبيليّ يمتلك نَفَساً بطرياركيّاً فظيعاً، ولم يكن الأستاذ الوحيد في ذلك بالطبع. وعمل على تجاهل وجود الفتيات في الدرس إلا في حالات معينة، ومثل أساتذة آخرين عمل على فصل الطالبات في جهة من قاعة المحاضرات عن الطلاب الذين تُرِكوا ليحتلوا الجهة الأخرى، ومن شدة تمييزه للذكور على حساب الإناث كان يسرّ للطلبة الشبان بالموضوع الذي يريد أن يمتحنهم فيه.. هكذا إلى هذه الدرجة.

وأذكر أنه في إحدى السنوات دعانا إلى مكتبه قبل الفحص الأخير وحدد لنا موضوع الامتحان، وإن لم تخني الذاكرة كان حول موضوع قروسطي هام ومعروف وحاضر في الذاكرة التاريخية الاسبانية.

وعندما جاء يوم الحسم، كانت الصبايا منعزلات في جهتهن ونحن الشبان في الجهة الأخرى. في حقيقة الأمر أخذ بعض الطلاب منا يرتجف خوفاً من أي يكون الأستاذ قد نسي ما أفضى لنا به سابقاً، ونتورط بما لم نركز على دراسته، ولحسن الحظ سرعان ما تنفسنا الصعداء حين لم يحد عن التزامه الذكوري السابق معنا، بعدها ولى شطر وجهه نحو الجهة الأنثوية الأخرى، وأعلى الصوت بأن امتحان البنات سيكون في موضوع شبيه، واختار لهن موضوعاً نافلاً شديد الخصوصية والصعوبة.

اعتاد أستاذنا الجامعي هذا أن يعلن نتائج الامتحان في نهاية الفصل شفهياً، بالطبع معظم الذكور حصلوا على درجة الامتياز.. أما الصبايا فنسبة كبيرة منهن رسبن، فيما لو استثنينا البنات اللواتي كن يحملن أسماء تعود لـ"إقليم الأندلس". وفي إحدى الفصول كان بيننا شابة غاية في الجمال اسمها روثيّو، وحينما كان الأستاذ يتابع القاء نتائج الامتحان علينا، وصل لاسم روثيّو وأعلن: درجة مقبول، ولكنه آن رفعه نظره عن الورقة التي بين يديه، رأى وجه روثيو الصبوح، صحح لتوه: لا لا يا آنسة.. مرتبة الشرف.

أقص هذه النوادر لأقرب الصورة التي كانت عليها الجامعة الفرانكويّة.

حسناً، هي الجامعة التي طالما جادلت وكافحت ضدها، ولكن يجب أن أعترف بأن كل أستاذ فيها كانت له شخصية قائمة بذاتها، كل واحد كان هو: كائن مختلف بفرادته بكل فضائلها ورذائلها. وكون الأستاذ الجامعي كائناً مفرداً، حتّم على الطالب فك أحجية مزاجه وحرز تفضيلاته لتحديد كيفية التعامل مع مادته الدراسية.

في السنة الثالثة اخترت الدراسة في فرع "التاريخ" وفرع آخر هو "الدراسات السامية".

وعلى اعتبار أن مرثيدس اختارت التاريخ أيضاً فقد جمعنا هذا الفرع والذي كان كبيراً، فصفنا كان يضم حوالي 50-60 طالب وطالبة، بينما في الفرع الثاني اقتصر عددنا على 5-6 طلاب فقط.

انهيت دراسة "التاريخ" عام 1955، وحصلت على الإجازة في "الآداب السامية" سنة 1956. وخلال مراحل دراستي الجامعية أنجزت في العطل الصيفية قسماً كبيراً من خدمتي العسكرية الالزامية، ختمتها بمخيم تدريبي عملي لمدة ستة أشهر بعد تخرجي في الثكنات. وبهذه المناسبة أشير إلى أنني لم أمتلك روحاً عسكرية على الاطلاق، ولكني كنت أحرص على إكمال واجباتي دون أن أجهد لأكون مبرزاً. وفي صائفة ذلك العام أتاحت لي الظروف التعرف على المغرب وهو البلد العربي الأول الذي زرته قبل أن أحطّ رحالي في مصر.

الدرب يتمهد نحو الاستعراب، وعدة من أسفار أخر..
مدة الدراسة في "كلية الآداب والفلسفة" في جامعة مدريد المركزية هي خمسة أعوام، في العامين الأولين يتلقى فيهما الطالب دراسة عامة تشمل جميع الطلبة، وفي العام الثالث يبدأ التخصص بدراسة فرع من فروع الكلية.

من جهتي وكما أشرت سابقاً تابعت دراستي التخصصية في فرعين هما "التاريخ" و"الدراسات السامية".

بداية، كنت أشعر بانجذاب ما نحو حقل التاريخ، وكي أكون أكثر دقة، كان ميلي نحو الدراسات القروسطية، خاصة تلك المتعالقة مع تاريخ شبه الجزيرة الإيبرية.

قبل أن أتابع، أود التوقف لأنوه إلى أن سبب إقبالي على الدراسة في كلية "الآداب والفلسفة"، هو أن والدي رفض تماماً أن أدرس بعد حصولي على الشهادة الثانوية، دراسة أخرى كنت أفضلها وأميل إليها على نحو جلي، ألا وهي كلية "العلوم السياسية". أذكر أن والدي، بحمل تجربة مريرة على كاهله، قال لي حينها: يا ابني هل أنت غبي.. في اسبانيا الفرانكوية لا يمكن أن تدرس العلوم السياسية.

من المؤكد أن والدي فكر أن مثل هذه الدراسة تعني رهن المستقبل بيد ضريبة لا بد من تسديدها، وبأن من يدرس العلوم السياسية تلك الحقبة لا يستطيع التفكير والفعل بحرية. لهذه الأسباب أقدمت على التسجيل في كلية "الآداب والفلسفة".

بالمصادفة، أذكر أنني في الصائفة التي سبقت العام الدراسي الأول، قرأت كتاباً سحرني وكان Poemas arábigoandaluces "أشعار عربية-أندلسية" ترجمها المستعرب الكبير Emilio García Gómez اميليو غارثيا غوميث (1905-1995). وهي مختارات شعرية للشاعر ابن سعيد المغربي (1213-1275 أو 1286) المولود في جيان في قرية تسمى "الكالا دي الريال". وهو شاعر عرف به اميليو غارثيا غوميث في مصر أثناء توسيع دراساته كطالب مبعوث. لاحقاً، وكما هو معروف رفضت استخدام مصطلح Arábigoandaluz الذي كان يستخدمه أستاذي اميليو غارثيا غوميث، لأننه لم يوح لي بأنه مصطلح موقف بالمضمون، رغم جمال إيقاعه الصوتي.

مع دخولي السنة الأولى في الكلية كان علينا الاختيار بين دراسة اللغة الاغريقية أو العربية.

الاغريقية لم تكن جديدة علي، لأنها كانت مدرجة مع اللغة اللاتينية في المنهاج التعليمي الثانوي في اسبانيا، ونتائجي فيها كانت أفضل من اللاتينية، ولكن عندما كان علي التقرير في الجامعة فضلت أن أدرس في حقل جديد علي وهو اللغة العربية، والتي فكرت أنها لا بد أن تفتح لي عالماً جديداً وأفقاً مختلفاً عما كنت أعرفه حتى تلك اللحظة، إضافة لأنني حدست بأنها دراسة تتعلق على نحو ما بتلك الأشعار التي فتنتني لابن سعيد المغربي.. هكذا اخترت دراسة العربية، وحالفني الحظ منذ السنة الأولى بتلقي دروس اللغة العربية على يد المستعرب الكبير اميليو غارثيا غوميث.

كانت للأستاذي غارثيا غوميث شخصية آسرة لحد بعيد.. شخصية لديها تناقضاتها الخاصة هي الأخرى. كانت له ببنية جسدية ضئيلة وهشة، إلا أنه كان يملأ كامل فضاء قاعة الدرس بحضوره البارز. وساعده على تحقيق ذلك عاملين أساسيين: الصوت، وكيفية الحركة.

كان صوته طبيعياً يبتعد عن الاصطناع، رخيماً بترددات مختلفة ومتنوعة، يترك من يصغي إليه في حيرة من أمر هذا الجسد النحيل، الذي تستطيع ذبذبات صوته الانتشار في هواء المكان والهيمنة عليه.

بالطبع يختلف صوته كثيراً عن صوت العديد من الأساتذة الذين يتبعون حالياً الأسلوب الأميركي في الإلقاء، ويميلون للمبالغة المصطنعة مثل بعض الممثلين المتواضعين.

الأمر الثاني الذي أشرت له يكمن في أنه كان يعرف كيف يتحرك في قاعة الدرس، حتى في ممرات عمارة الكلية وردهاتها المتعددة. دائماً ما انتابني الإحساس بأن حركته تشبه حركة مصارع الثيران آن يلج مع فريقه حلبة المصارعة ويسير في محيط دائرتها ينقش حضوره فيها قبل مواجهة الثور. وهنا أنوه إلى أن واحدة من الخصائص الكثيرة التي يتمتع بها مصارعي الثيران هي أنهم يعرفون كيف يمشون ويحركون أقدامهم، وكيف يستخدمون الجسد دون أن يعوا هذه المعرفة أو يفتعلوها.

إلى جانب كل هذه المميزات كان غارثيا غوميث رجلاً مثقفاً جداً، يتحدث بقشتالية رائعة، وكتبه تدل بلا أدنى شك على أنه كاتب ممتاز رفيع الأسلوب.

أحاول أن أقرب صورة المستعرب ايميليو غارثيا غوميث بغض النظر عن المؤثر الجاذب الذي لعبه الأستاذ عموماً في نفوس الطلبة في تلك المرحلة، والذي اضمحل حالياً، ذلك لأننا كنا تربة ممهدة لينثر فيها المعلم بذور معرفته. ومن بين أشياء كثيرة، كان الأستاذ اميليو بالنسبة للشاب الذي كنته بعمر 18 سنة، كما لغيري من الطلاب والطالبات، شخصية مدهشة جذبتنا إليها بالعالم الجديد الذي فتح أبوابه أمامنا.

أما فيما يخص الحديث عن عيوبه، فله نقائص عدة مثل جميع البشر. احداها كانت واضحة تماماً، وهي أنه كان يوجه جلّ عنايته للطلاب الذين يهتمون بمادته الدراسية، ويميل لاختيار نخبة محددة مميزة من مريدي مادته. صحيح أنه لم يكن يتجاهل البقية لكنه لم يكن يمنحهم عناية كبيرة. هذا هو عيبه من وجهة نظري، وربما فضيلته من منظور آخر.

العيب الآخر والذي أخذت أكتشفه مع الأيام معه ومع غيره من أساتذة فرع "الدراسات السامية"، هو أن رؤيتهم كانت تقليدية في تناولهم للمواضيع المختلفة، وفي طروحاتهم البحثية، وفي منهجهم أو غياب المنهج التعليمي في تدريسهم. إضافة لأن دراسة اللغة العربية كانت تتركز حتى نهاية الدراسة التخصصية على تطبيق ما خطّه المستعرب Miguel Asín Palacios ميغيل أسين بلاسيوس (1871-1944) من تعاليم في Crestomatía del árabe literal، وهو كتاب يضم تعليمات تقليدية قديمة أعيد نشرها مرات عديدة، ولست متأكد فيما لو أن الطبعة الأولى منه رأت النور في سنوات العشرينات أو الثلاثينات، ولكني أعتقد أن أسين بلاسيوس اعتمد في وضعه على ملاحظات مستعربين سابقين عليه حول تعليم اللغة العربية.

موضوعياً، تعتمد تعاليم أسين بلاسيوس على المعالجة الصرفيّة ومورفولوجيا اللغة بامتياز، ولكنها لا تتعرض للنحو أو لكيفية تركيب الكلام الصحيح، وغيرها من أمور أساسية في تعليم اللغة كعلم الصوتيات وعلم الأصوات الوظيفي وعلم الدلالة. وفي حال التطرق لهذه المسائل اللغوية خلال سنوات دراستنا التخصصية فإن الأمر لم يتعد تنويهاً عابراً بلا تبحر في الموضوع.

قضية أخرى هي أن هذه الدراسات، التي انكفأت على مدارها التقليدي دون حراك، لم تهتم بالاستخدام الشفوي والممارسة العملية للغة العربية، مما جعلنا حينها ندور في فلك دراسات نظرية تهيئنا لفهم نص قروسطي وترجمته للاسبانية. فمروحة المواد التدريسية الواسعة تمحورت بمجملها حول الدراسات القروسطية، وعلى نحو خاص تلك التي تتعلق بتاريخ وأدب وثقافة العصر الأندلسي، والتي كانت تسمى حينئذ اسبانيا العربية أو اسبانيا الإسلامية.

حسناً، لنقل أن عمل المستعرب كان نافعاً، لأنه يخدم أبحاث المؤرخين، ويسهل لهم السبيل لفهم النصوص العربية القديمة عن طريق الترجمة.

هذه الحالة جعلتني أشعر بالقلق، صحيح أن آفاق علاقتي مع العالم العربي كانت تتسع بما تقدمه لي الجامعة والكتب، إلا أنني في داخلي بدأت أقول بأن نهاية مطاف ما هو عربي لا يجب أن يتوقف عند الحد الذي تسوّر حدوده الجامعة، وبأن ما أدرسه كان بالأمس وجزء منها ما يزال، ولكنه ليس بكل تأكيد ما هو كائن اليوم ولا ما يمكن أن يكون في الغد. فقد حُصِر العالم العربي مع سنوات دراستي الجامعية في الماضي، إلى درجة أننا لم نناقش حقيقة اللغة العربية كلغة حية تستخدم للحديث والتفاهم، وأن العرب يتواصلون بواسطتها إلى الآن. وبطبيعة الحال، لم تكن لدينا نحن الطلاب أدنى فكرة عن التنوع الهائل في اللغة المحكية الموجودة في العالم الناطق بالعربية. وكل هذه الامور أخذنا نعرفها لاحقاً، وتبعاً للتجربة الشخصية لكل واحد فينا وللموقف النقدي الخاص الذي وجّه فهمنا وتمثلنا وتفسرينا لها.

من خلال فقدان التواصل التام مع الحاضر العربي الذي كان يدور من حولنا وليس بعيداً عنا، أذكر على سبيل المثال، أنه في العام الدراسي 1953-1954 كانت لدينا مادة تحمل اسم "الإسلام المعاصر"، وتستمر فترة تدريسها على مدار أربعة أشهر لضخامة حجمها، في هذه المادة لم يذكر لنا أحد أي شيئ بشأن تأسيس دولة إسرائيل. وأكاد أجزم بأن كل ما توفر لدي حول هذا الحدث يعود بالتأكيد للصحافة ووسائل الإعلام، والتي بدورها في اسبانيا الفرانكويّة لم تكن تخبر وتعلم بشكل كافٍ ولا وافٍ.

للأستاذ اميليو غارثيا غوميث ندين بالشكر لأنه حاول أن يفتح لنا المجال حول بعض المعلومات عن الحاضر العربي في مادته في السنة الثالثة. كان يظهر وهو يتأبط جريدة مغربية ثنائية اللغة (عربية-اسبانية) تدعى El Día "النهار"، يطلعنا على بعض أعدادها، والتي اعتبرناها كنزاً ثميناً عثرنا عليه رغم طباعتها المتواضعة. هذه الأشياء كانت تحدث معنا طالما أن عالما العربي الذي نغوص نحن الطلبة في دفائن بحاره هو الماضي.. الماضي الأندلسي، فالحاضر العربي هو حاضر جُيرنا على تجاهله. لعل أدونيس في عنوان كتابه "الحاضر الغائب" يشير لمعنى مشابه لما حصل معنا بشأن الحاضر المخفي أو البعيد، وكل ما يدل على العالم العربي المعاصر كان هو الغائب بامتياز عن دراساتنا.

بالعودة للغة العربية في "الدراسات السامية"، أشير إلى أن اللغة كانت الجذع الرئيسي الذي تقوم عليه هذه الدراسة، بالطبع كانت هناك مواد تاريخية وأدبية عربية متنوعة ولكن حقبها لم تصل حتى إلى عتبة تاريخ 1492، بل كانت تصل للقرن الحادي أو الثاني عشر ومن ثم تتوقف. كذلك لم يحدثونا عن ماضي بقية العالم العربي خارج دائرة "الأندلس التاريخية"، باستثناء التطرق السطحي لشمال افريقية والمغرب، أو نثرات تعليمية نمطية تأتي على ذكر العصر الأموي والعباسي. فكل ما هو غير "الأندلس التاريخية" لم يكن له هوية خاصة ولا واضحه.

قَبِلَ البعض منا نحن الطلبة هذا الوضع، فمن بين أسباب أخرى، لأن الأندلس كانت ظاهرة تأخذ بالألباب، إضافة لأنها جزء من تاريخ اسبانيا، فهي تشكل بعداً من أبعاد تاريخنا وثقافتنا وشخصيتنا نحن الاسبان. هو ما قلته دائماً ودافعت عنه باستمرار، رغم كل التصنيفات التي وضعتني في خانة المضاد لـ"الأندلس التاريخية"، أو الخائن للدراسات الأندلسية.. ببساطة لأنني فيما بعد فتحت الباب أمام الدراسات العربية في الجامعة على الأدب والفكر العربي الحديث.

رغم عيوب المنهج العلمي وتقنيات التعليم في فرع "الدراسات السامية"، والتي لم نكن نحن الطلبة على وعي نقدي بها، أشير إلى أن ما كان يشدّنا لمتابعة الطريق، إضافة للحكمة والمعرفة الغزيرة لدى الكادر التدريسي، هو التعامل الإنساني الاستثنائي من قبل العديد منهم رجالاً ونساء. وعلى وجه الخصوص أذكر الأستاذ Elias Terés Sádaba إلياس تيريس سادابا (1915-1983) الذي كرس حياته للأندلس التاريخية وأضحى المستعرب الأكثر معرفة بثقافتها وآدابها، حتى أنه يتفوق على المستعرب اميليو غارثيا غوميث، واكتشفت فيما بعد أنه عازف غيتار ممتاز ومن أهم دارسي فنون الفلامنكو، وللأسف تركت شخصيته في الظل، وكل هذه الأبعاد أخذت أتمثلها مع غيري من الطلاب لاحقاً بالإرث المعرفي والإنساني التي خلفها وراءه، حتى أنني حينما أصبحت أستاذاً في الجامعة، وعلى مقربة منه قدم لي كل رعاية أشكره عليها. وبلا مبالغة أرى في الأستاذ الياس تيريس سادابا أهم رجل تعرفت عليه في حياتي من الناحية الإنسانية بعطفه وسخائه الاستثنائيين.

أما الأستاذة Soledad Gibert سوليداد خيبرت فإلى جانب معرفتها العميقة بالدراسات العربية الأندلسية، كانت تمثل لنا المرأة الأستاذة والمربية التي تعاملت بحس أمومي رائع مع جميع الطلبة. كما أذكر إنسانية الأستاذ الراهب Darío Cabanelas داريو كابانيلاس (1916-1992).

إلى جانب المواد الخاصة بالدراسات العربية، تلقينا المواد الخاصة باللغة العبرية والعالم اليهودي، ولم أتحدث عنها لسبب بسيط هو أن اهتمامي الدراسي بها كان بدرجة أقل رغم نتائجي الممتازة بالعبرية واحترامي لهذه الدراسة، فميولي ومواهبي كانت تتجذر شيئاً فشيئاً لأصبح مستعرباً وركزت كل جهدي نحو هذه الغاية. ومن بين أساتذة اللغة العبرية يحضرني الأستاذ Francisco Cantera فرانثيسكو كانتيرا (1901-1978)، بأبحاثه الهامة حول اليهودية في اسبانيا، وشخصيته الصعبة والمشاكسة، إلا أنه كان يتعامل معي بمودة واهتمام مدهشين.

عموماً، نتائجي كانت جيدة ودرجاتي عالية، ولكن بالنظر خلفاً الآن، أرى أن أعراض مباعدة عما كنت أدرسه كانت تظهر في الفترات الأخيرة من دراستي الجامعية، ذلك لأن صوتاً في داخلي كان يهمس لي بأن كل هذا الذي مرّ علي في "الدراسات السامية" هو نسخة مصغرة والواقع أرحب منها.. وأن ما تلقيته هو قليل وهناك أكثر، وهذا الأكثر عليك أن تكتشفه بنفسك..

لعل هذا ما جعلني أشعر بشيئ من الخيبة مما أثر على جهدي الدراسي ولكن تصميمي على الاستعراب كان يشتد مع ذلك.

من جانب آخر، وبشكل عام أشير إلى أن الأسس التعليمية لفرع "التاريخ" في كلية "الآداب والفلسفة"، كانت محافظة وتقليدية أكثر منها في فرع "الدراسات السامية"، وتنبع من الخطاب الإيديولوجي الفرانكوي، بالطبع لا أغفل هنا عن بداهة محاولة البعض من أساتذة التاريخ الانزياح عن شواخص هذا الخطاب ونقاط علامه، حتى أن مؤثر البعض منهم ظهر فيما بعد على تفكيري ومواقفي النقدية، وكان أعمق من مؤثر كثير من أساتذتي في فقه اللغة العربية. وعلى سبيل المثال يحضرني السياسي والمؤرخ Santiago Montero Díaz سانتياغو مونتيرو دياث (1911-1985) أستاذ التاريخ القديم: شخصية عبقرية حقيقية، فوضوي anárquico تمتع برؤية عقلية حادة ونافذ وهو بدوره خصني بمودته وعنايته. أذكر أيضاً أستاذ تاريخ الفن Diego Angulo دييغو أنغولو (1901-1986)، كذلك لا يمكن نسيان السياسي والمؤرخ Jesús Pavón خيسوس بابون (1902-1976) أستاذ التاريخ المعاصر بشخصيته المذهلة وهو يتناول مع الطلبة أبعاد شخصيات تاريخية كنابوليون أو امبراطورة النمسا، أو وجوه اسبانيا المحافظة والتقدمية متمثلة في سيرة امرأة هي الراقصة Lola Montes لولا مونتيس (1821-1861).

أرغب التنويه إلى أنني كنت من دفعة الطلاب الأولى التي طبق عليها نظام تقديم الرسالة الجامعية كشرط للحصول على الإجازة سواء في فرع "التاريخ" أم في "الدراسات السامية". ومن خلال هذه الرسالة، التي تتناول موضوعي بحث، اتضحت بوادر الانشقاق الكامن الذي كان يحدث معي في دراستي بين الماضي العربي الذي جذبتي دراسته منذ البداية، وبين الحاضر والمستقبل الذي لم أعرف كنهه كما لو كان أحجية أو طلسمان.

دار موضوع رسالة التخرج للحصول على الإجازة في التاريخ حول شخصية القائد العربي محمد بن أبي عامر الملقب بـ المنصور بالله (938؟-1002) من خلال التاريخ القروسطي المسيحي. أي الكيفية التي رأى بها المؤرخون في الجزء المسيحي لشبه الجزيرة الايبرية هذه الشخصية وأرخوا لها. أما موضوع رسالة التخرج في "الدراسات السامية" فكان حول "الشاعر أحمد شوقي، حياته ومنجزه الأدبي".

من هاتين الرسالتين يمكن استبانة الشرخ الذي كان يعتمل في داخلي، فبحثي الأكاديمي في الدراسات التاريخية كان يؤكد على العالم العربي والتاريخ المرتبط به، وكأنه يستبين بداية طريقي نحو الاستعراب بشكل واضح، وبنفس الوقت تدل رسالة تخرجي للحصول على الإجازة في "الدراسات السامية" على الخط المفارق والذي بدأت أرسمه لنفسي وأنا أوجه عنايتي نحو الأزمنة الحديثة والأدب العربي الحديث. وفي حقيقة الأمر، عندما أعود لقراءة رسالتي حول الشاعر أحمد شوقي أشعر بالخجل، ولكن علي القول أنني أرى فيها ملامح خطوات مفارقة أولى لطالب غير متردد، خطوات سيتأكد مع الأيام وتسطع بوضوح في أبحاثه القادمة.

التلميذ يوغل في الانشقاق عن خط الأستاذ
إلى جانب بوادر انزياحي وقطيعتي عن الخط الرئيس للدراسات التاريخية والسامية على حد سواء، يجب أن أوضح فضل أستاذي اميليو غارثيا غوميث في ولوجي فضاء الاستعراب الحديث حينما فتح أمامي باباً جديداً، لم يقل لي بصراحة ما الذي يكمن خلف الباب، واكتفى بالإيعاز لا أكثر، وبطريقة أفهم منها بأن هناك شيئ ما وبأن علي أن أكتشفه بنفسي بالمضي قدماً. بمعنى أنه قام بدور المحفز لي لأختار كيفية تعاملي مع أبحاث الاستعراب.

خطوتي الأولى تمثلت في كتابي الأول الذي طبع في المغرب سنة 1956 تحت عنوان La escuela sirio-americana "المدرسة السورية-الأميريكة"، وتتناول أنطولوجيا لشعراء الرابطة القلمية، وهو أول كتاب ينشر بالاسبانية حول هذا التوجه الحداثي في الشعر العربي.

وعند تحضير كتابي الثاني للنشر سنة 1958، طلبت من الأستاذ اميليو غارثيا غوميث أن يكتب لي تقديماً للكتاب الذي حمل عنوان Poesía árabe contemporánea "الشعر العربي المعاصر". ولا أخفي شكي وقلقي وخشيتي من احتمال رفضه لطلبي، إلا أنه استجاب وكتب التقديم وترك فيه ترجيع قبولٍ بعيد للمسار الجديد، وبأن على الاستعراب أن يقدم أشياء أخرى أيضاً. ولكنه ترك هذه المهمة للمستعربين الأخرين، ولم يتدخل فيها قط، بل وكان من خلال بعض الوجوه غير متفق معها.

دائماً ما أكدت وقلت للأستاذ اميليو غارثيا غوميث بأن له رؤية للعالم العربي تختلف عن رؤيتي، وقد تناقضها في أحياناً، إلا أن تواصلي معه لم ينقطع خلال مسار حياتي الأكاديمية. ومع احترامي الكبير لأستاذي لم أعتبر نفسي ذلك التلميذ المخلص الذي يتابع خطى أستاذه حرفياً، بل بالأحرى مثلت بالنسبة له الطالب المتمرد، المريد المنشق، والمستعرب الذي تابع فتح الأبواب على مصاريعها نحو عوالم أخرى وسار بدروب تختلف عن تلك المتناقلة والمتوارثة من قرون عدة.

رغماً عن ذلك، لم أكتب أية كلمة ضد الاستاذ إميليو على الإطلاق، ولماذا أكتب ذلك وهو أستاذي؟ والأستاذ دائماً يجب أن ينظر له باحترام، خاصة ذلك الذي ترك لك المجال لتكتشف شيئاً عظيماً، وبعدها كان عليك أن تتابع كشوفك وتحقيق ذاتك. هو أشار لي بأن هناك شيئ ما وأنا توجهت إلى هناك وخضت مغامرتي. ولكن الفضل يبقى له بتلك الإشارة أو الإيحاء وله يجب أن أتوجه بشكري العميق.

ملاحظة واعتراف قبل الابحار لمصر
بدأت أتحضر للذهاب إلى مصر سنة 1956 بسبب حصولي على منحة مضاعفة، واحدة من الحكومة الاسبانية وأخرى من الحكومة المصرية، لمتابعة وتعميق دراستي للاستعراب فيها. علي التصريح بأن الحصول والجمع بين منحتين معاً لا يجوز رسمياً، وعليه لجأت للدكتور حسين مؤنس الذي أوكلت له مهمة تسليمي أوراق المنحة المصرية، وكان فيما أذكر مديراً للمعهد المصري للدراسات الإسلاميّة الذي دشنه طه حسين في مدريد، وبسطت معه حيثيات موضوع المنحة المضاعفة. فقال لي بتواطؤ: حسناً، فيما يتعلق بمنحة الجانب المصري ليس من الضروري أن يدري بها الجانب الاسباني، والعكس بالعكس.

وبالمزاح أقول أن الأستاذ حسين مؤنس غض الطرف وقبل أن يكون شريكي في التستر على أمر المنحة المضاعفة. في حقيقة الأمر يجب شكر المصريين على بُعد التواطؤ الموجود فيهم، فالعالم العربي حالياً لا يمكن أن يعيش بدون حضور التواطؤ المصري معهم، بغض النظر عما هو جيد أو سيئ بالموضوع، ورغم خفوت هذه اللهجة المتواطئة منذ فترة لابأس بها. إلى جانب إدارته للمعهد المصري، كان حسين مؤنس أستاذ مادة "العربية المحكية" في فرع "الدراسات السامية"، وقد مدّ يد العون لي بمودة ووجهني نحو مجالات مهمة فيما يخص الاستعراب.

لم هذا الشطط؟؟
آآآ كنت أتحدث أن أستاذي اميليو غارثيا غوميث..
حسناً، في شهر تموز/ يونيو 1956، ضرب لي موعداً في مكتبه في "المعهد الاسباني-العربي للثقافة"، بشأن المنحة الاسبانية حين عرف أن سفرتي لمصر ستكون في شهر أيلول/ سبتمبر من نفس العام، وهو ما لم أستطع تحقيقه في الوقت المقرر كما ألمحت سابقاً بسب العدوان الثلاثي في شهر آب. قبل أن أتابع أشير إلى أن فضل تأسيس "المعهد الاسباني-العربي للثقافة" يعود للمستعرب لاميليو غارثيا غوميث، وذلك في عام 1954، وهو مؤسسة حكومية تتبع لـ"الجمعية الاسبانية للتعاون والعلاقات الدولية" والتي بدورها تتبع لوزارة الخارجية.

حينها كنت أتمّ الخدمة العسكرية في كتالونيا، فقدمت لمدريد للقاء الأستاذ اميليو في المعهد المذكور، فقد كان أول من عين لإدارته، وفي منصب المساعد عين المستعرب الكبير Miguel Cruz Hernández ميغيل كروث إرناندث (1920-)، وهو أمر ملفت للانتباه حينها لأن أغلب المدار كانوا يأتون من السلك الدبلوماسي لا من سلك الاستعراب لشغر مثل هذه الوظائف في الخارجية الاسبانية.

هناك في مكتبه كان موعدي مع غارثيا غوميث. التلميذ السابق مع أستاذه في حيز مكان رسمي. دار الحديث بجدية مصيرية مع شعور بالرهبة لم يفارقني ألبته، فمن بين الأمور التي كنت أود أن أخبره بها إلى جانب منحتي الدراسية إلى مصر، هو أنني سأقدم على الزواج بعمر 23 سنة وسترافقني زوجتي في رحلتي المصرية، لم أكن أعرف كيف سيكون وقع الخبر عليه، وكيف سيفهمه رغم خصوصيته.

بدأ الأستاذ يحدثني عن المنحة الاسبانية وتفاصيل الوضع الدراسي، أذكر تماماً كلماته حين قال لي بحسم تقريري: حسناً مونتابث.. انظر، حضرتك ستذهب إلى مصر كطالب منحة اسبانية لتحقق هدفين أساسيين، الأول: هو أن تتعلم من اللغة العربية الفصحى كل ما تقدر عليه، وتمنح عنايتك الخاصة للغة المحكية، وسترى حضرتك أن العامية والفصحى وجهان للغة واحدة، أما الهدف الثاني، وبما أنك طالب منحة فإنك ستجوع لا محالة، وذلك لأن طلاب المنحة عليهم أن يجوعوا ليعرفوا معنى الحياة فيصلب عودهم.

ذلك كان مستقبلي الذي قُدِر لي في مصر من قبل سلطة الاستعراب الرسمية. حينها همست لنفسي: حسناً، سأحاول أن أكون عند حسن الظن، وأتم مهمتي الرسمية، رغم أنني سأجوع بشكل أقلّ بفضل منحة المصريين والتي لا يعرف بها أحد من الاسبان، أما موضوع زواجي فخير لي التكم عليه.

من خلال تجربتي واستقلالي عن أستاذي اميليو غارثيا غوميث، حاولت لاحقاً أن لا أقوم بدور الاستاذ الذي يحول دون إطلاق الحرية لتلاميذه، والحيلولة دون تكوين رأيهم الخاص في المسائل البحثية المختلفة، حاولت أن لا يكون الرابط الذي يعقد بيني وبينهن وبينهم رابط اعتماد عليّ، وإنما رابط تفاهم ووفاء، لا رابط ولاء أو إخلاص أعمى يقوم على اتباع حرفي أمين لخطى الاستاذ.

الوفاء بالمعنى الاسباني يتعلق بالأخلاق (La Ética)، فإن تكون وفياً لا يمنع أن تكون أنت نفسك دون التنازل عن شخصيتك لصالح شخصية الأستاذ. أما الاخلاص الأعمى فيعلق بالسلوك والتصرف الذي يدفع الطالب الأمين لتجاهل رأيه بترديد رأي الأستاذ أو نسخ شخصيته دون إضافة أو تجاوز.

مع الاستاذ اميليو كنت دائماً وفياً. ومن جهة أخرى، بحثت عن طلاب أوفياء لا تابعين ولا أمناء، وهو أمر صعب لأن كثير من الطلاب يخطؤون في تحديد المفهوم والفارق بين الاثنين.

تخوم المعمورة الروحية تتسع في مصر
أكدت باستمرار، وكل يوم ترسخ قناعتي بما أكدته سابقاً، بأني أنا بدرو مارتينث مونتابث كفرد، ومستعرب محترف، وكائن إنساني، ورجل من زمنه لا يمكن أن أُفهم دون مصر، هذه هي حقيقتي التي تتوافق تماماً مع سيرتي، فمن وجوه عدة تبلورت أناي بما قمت بمعرفته وإنجازه في الديار المصرية.

اللقاء مع مصر كان أكثر من مجرد كشف، فسِفرُه يبوح بـ التجلي حسب المعنى العربي للكلمة، ولكن روعة هذا التجلي لم تقتصر على لحظة الرؤية، وإنما استمر كتجليات واكبت زمني باستمرار.

من النافل القول أن عشق مصر ما برح حنايا بدرو، والذي سيدوم على مناجاتها والولع بها. فحبها هو واحد من المشاعر العظيمة الذي عرفتها في حياتي بلا أدنى شك، فمصر وسمتني بعلامتها المتوقدة إلى الأبد...

يصل بدرو مارتينث مونتابث الديار المصرية: شاب متزوج ومتخرج من الجامعة حديثاً، مبهور بمغامرة الكشف، بعين مستيقظة على كل شيئ، بمسام جسد متفتحة، بحواس متحفزة على الإبصار والتبصر. شاب يبدأ سيرورته المعرفية والإنسانية بعمر 23 وبتجربة محدودة، فالشباب الاسبان حينئذ كانت تجربتهم الحياتية ضيقة الأفق سواء من الناحية الاحترافية أو الحيوية أو حتى التجربة الجنسية، ولم نكن متعمقين في معرفة أي شيء حول هذه الأمور. وذلك الشاب بلا تجربة والمنفتح والمفتون والمستعد لاتهام العالم كما نقول بالاسبانية يصل إلى مصر وفي لحظة تاريخية من الأهمية بمكان.

أبحرت من ميناء برشلونة في شهر شباط/ فبراير 1957 برفقة ميرثيدس، واستغرقت الرحلة أكثر من 20 يوماً إلى أن وصلت شواطئ الاسكندرية. أما طول الرحلة المديد فعود سببه إلى أنني حجزت على مركب شحن لخط بحري تجاري يتنقل بين موانئ عدة في البحر المتوسط، ويقبل بعدد محدود من الركاب على سطحه. وأذكر أنني عرفت بأمر المركب عن طريق أصدقاء، وهو واحد من مركبين لنقل البضائع ويحملان اسمي بلدتين  من أصول عربية في الشرق الاسباني: المركب الأول اسمه Benicasim "بني قاسم"، والثاني Benidorm "بني دورم". وبما أن المركب يعتمد على الشحن فإنه كان يرسو في الموانئ المختلفة للقيام بعمليات التفريغ والتعبئة، وكان علينا نحن القلة من الركاب الانتظار إلى أن تشد المرساة مرة أخرى نحو مرفأ آخر وهكذا دواليك. حتى أننا حينما كنا نرسو في شواطئ إحدى المدن الايطالية، حتمت علينا مستجدات الخط البياني لرحلة الشحن، العودة إلى برشلونة لنقلع منها من جديد إلى شرق المتوسط. قضينا الرحلة ميرثيديس وأنا كما لو كنا في يخت فاخر يتنقل بين موانئ المتوسط، نفصفص بذور عباد الشمس على سطح المركب، وهو يشق عنان الأمواج، ودون أن نعرف تماماً ما الذي ينتظرنا في المحطة البحرية التالية. حتى أن الوقت الذي كانت تستغرقه عملية التفريغ والشحن في ميناء لم يكن محدداً مما عرضنا لمغبة تركنا على الرصيف القاري، فيما لو قررنا القيام بنزهة برية ولم نحضر لحظة انتهاء حركة البضائع نزولا وطلوعاً. ولذلك لمست تركيا بعيوني، ولم تتح لي فرصة النزول من المركب إلى الرصيف القاري فاكتفيت بالرؤية من على سطحه.

تلك الرحلة أوصلتني إلى بيروت قبل الاسكندرية، وبما أن استطلاعاتنا حول مدة الرسو في ميناء بيروت أفضت لنا بأنه ستستغرق حوالي يومين، قررنا ميرثيدس وأنا السفر أن نخوض غمار السفرة على طريق الشام إلى دمشق، ورافقنا صديق مصري جاء معنا على نفس المركب من برشلونة، وهو نحات اسمه عبد القادر مختار.

أخذنا البوسطة وانحشرنا مع جملة ركابها إلى جانب ما تفيض به المخيلة من حيوانات وأمتعة، تماماً كأي بوسطة تسير على خط منعطفات "إقليم الأندلس" حينئذ، لذلك لم ينتابنا الاستغراب بل ألفة خلوات الروح مع برازخها المتماثلة.

حاشية مكتوبة بين قوسين..
أعلنت مصر عن نفسها لي في المشرق العربي، بداية في بيروت، ومن ثم وعلى نحو خاص في دمشق. لا زلت أذكر صور جمال عبد الناصر وهي تغرق فضاء سوق الحميدية. حقاً، كان المشهد مدهشاً مدهشاً..

حسناً في تلك السفر الشامية، بدأ احتكاكي الأول مع البازار الشعبي، والأزقة. صحيح أنني كنت سافرت في رحلة إلى المغرب، البلد الفاتن التضاريس، ولكني لم أتجاوز الجانب الخاضع للحماية الاسبانية في الشمال المغربي، وتحدياً إلى طنجة وتطوان، في أواخر المرحلة الاستعمارية. وهنا أود أن أشير إلى أن الإدارة الاستعمارية الاسبانية حينها أشبه ما تكون بوكيل للاستعمار الفرنسي في المنطقة، أو نسخة مصغرة محلية عنه.

ربما في تطوان بدأت أحدس بالعالم العربي من خلال بعض الصداقات، وفي معرض الحديث هنا أذكر الشاعر المغربي محمد الصباغ (1930-)، والشاعرة Trina Mercader ترينا ميركادير (1919-1984) التي كانت تشرف على تحرير دورية al-Motamid "المعتمد" وهي مجلة اسبانية-عربية، كذلك الشاعر Jacinto López Gorgé خاثينتو لوبيث غورخي (1925-) الذي أدار سنة 1953 مجلة Ketama "كتامة" في تطوان وهي أيضاً ثنائية اللغة اسبانية-عربية.

رغم صلاتي هذه، ولبضعة أشهر في تطوان وطنجة، فإنني لم أعتبر أن ذلك المناخ الثقافي فيها عربياً، لانعدام الصلة بين المجتمع الاسباني من جهة والمجتمع العربي من جهة أخرى. فالمجتمع الاسباني فيها مقتلع ومنقول من مكانه الطبيعي ليغرس في المجتمع العربي. ولم يحقق الاسبان أي نوع من العلاقات الحيوية ولا أي ملتقى مع السكان الأصليين. أقول هذا بغض النظر عن حبهم الكبير للمغرب. لكل هذه الأسباب، أموضع علاقتي مع الثقافة العربية في شمال المغرب في نهاية المرحلة الاستعمارية بين قوسين.

جوبات كلام أولي عن مصر..
بالنسبة لذلك الشاب كان الابحار في البحر المتوسط، والوصول إلى المشرق العربي يحمل لهفته الخاصة، فهو الفضاء الذي سأتحرك وأعمل على تحقيق حياتي فيه للسنوات القادمة.

مع تقدم الأزرق البحري في الرحلة كانت اسبانيا تبتعد أكثر فأكثر إلى الخلف.

أستطيع الحديث عن مصر لسنة كاملة دون أن أسدل ستار النهاية، ومن الصعب الاختصار واللجوء للذاكرة الانتقائية، أمر معقد ولكني سأحاول، رغم أن إبعاد مصر والنأي عنها للحديث حولها ليس بالأمر الهين.

سكنت مع ميرثيدس أول الأمر في "بنسيون الاسماعيلية" المطل على ميدان التحرير، ويقع في بناء لازال قائماً حتى الآن، والمنطقة بالمجمل، بطرازها المعماري المتأورب الذي تطغى عليه المسحة الإيطالية، تعود لأيام الخديوي اسماعيل والخديوي توفيق. ورغم أن القاهرة ليست مدينة ساحلية متوسطية إلا أن هذه المنطقة في وسط البلد توحي بروابط ما مع المتوسط.

في حقيقة الأمر القاهرة ليست مدينة بقدر ما هي مدن متعددة.

بعد ذلك انتقلنا للسكن في الزمالك حيث غيرنا السكن أكثر من مرة ولكنا سكنا في عمارة في "شارع بهجت علي" أطول مدة خلال إقامتنا في القاهرة.

مصر التي عرفتها، والقاهرة التي كنت أتحرك بها، هي مصر المرحلة الناصرية.

حسناً، جمال عبد الناصر..

سيكون من الغباء أن أطلق حكم قيمة على جمال عبد الناصر، ولكني أعتقد أنه الشخصية الأهم في العالم العربي المعاصر دون أدنى شك، بكل انعكاساتها الموشورية، من المؤكد أن لديه سلبياته ولكن لا يمكن إغفال الإيجابيات فيه.. هو شخصية جدلية بامتياز.

ومن وجهة النظر السياسية أسهم في تشكيل الكثير من أبعاد ومميزات التقدمات والتراجعات في سيرورة العالم العربي المعاصر. وألهج بالشكر لأنني خضت تجربتي المصرية في تلك السنوات الناصرية، والتي خدمت في خطف أبصاري لشدة حقيقتها من جهة، وشدتني لأحيد عن طريقي لرؤية واقع مزيف لم يكن على طباق مع الحقيقة من جهة أخرى. في كل الأحوال ساعدتني هذه التجربة الغنية على أن أكتشف العروبة وأبعاداً هامة أخرى سترافقني طوال حياتي.

أعتقد أنني حينئذ شرعت أخمن معنى La Arabidad العروبة، والتي فرقتها عن El Arabismo القومية العربية، أو El Panarabismo الرابطة أو الجامعة العربية.

وبدأت أدرك العروبة على أنها من الممكن أن تكون هوية محتملة، وأرى أن مغامرة الهوية هذه لم تنته جدالاتها حتى الآن. وليس من المستغرب أن لا يستطيع كثير من المستعربين تحديد معنى العروبة، ولكن يجب القول أن الكثير من العرب أيضاً لا يستطيعون تقديم معنى كاف وافٍ لهذا المفهوم، أو الإجابة الحاسمة على سؤال: ما هي العروبة؟

وفي معرض الحديث هنا أود التنويه إلى أنني لا أقصد بالعروبة الناصرية بأي شكل من الأشكال، فقط أردت الإشارة لهاجسي في البحث عن هذا المفهوم في تلك السنوات الناصرية في مصر.

بالتأكيد العروبة، كما كل الانتماءات العميقة، من الصعب تحديدها وحصرها بمعنى واحد، خاصة أنها تتعلق بمجالات الأحاسيس والأفكار والسلوك والقدرات.. إلخ ولكني أستطيع القول، وهنا أتفق مع بعض المفكرين العرب، أن حجر الزاوية لمفهوم العروبة هو اللغة، والتي بدورها تلعب تؤسس لهوية محتملة.

أعرف أن هذا الرأي يجعلني أواجه آراء أخرى ترى في العروبة مقومات ومفاهيم أخرى، ولكنها بالنسبة لي هي اللغة. لذلك أقول أن دراما العروبة هي دراما اللغة العربية. الأمر يشبه شيئاً نواته جامعة ولها صفة الديمومة، ولكنه ينقسم ويتشظى لاحقاً ليذوب في عناصر أخرى. والصعوبة تكمن في الوصول للنواة. أنا لم أصل لها حتى الآن، ولا أعتقد أنني سأصل لها. وعزائي الوحيد أن الأغلبية الساحقة من العرب لا يعرفون مما تتكون هذه النواة.

كل هذه الأفكار بدأت أحدس بها في مصر. أما فيما يتعلق بالناصرية، فلم تكن إلا تظاهرة لهذا القضية المتشابكة، أو امكانية لم تتبلور. من الواضح أنني لا أتناول هنا الناصرية ببعدها السياسي وإنما كإمكانية فكرية، فالناصرية لم تكن أكثر من حركة تاريخية حاوت تقديم إجابات على تساؤلات ملحة.. أي أنها حركة تقديم إجابة أكثر منها حركة خلق. وكل هذه الأفكار يمكن مناقشتها وتفسيرها تاريخياً.

حسناً، كل هذه الأمور التي أطرحها لم يكن بدرو مارتينث مونتابث الشاب قد تبصر بها ولكنه كان يعيشها كجزء من تجربته.

في مصر كان علي أن أقوم بعدة أشغال، ذلك أن لدي عائلة يجب تأمين معيشتها ورعايتها، ففيها ولد لي ثلاثة أبناء (سيرخيو، وبدرو أنطونيو، وروسا ايسابيل).

رسمياً عينت في منصب المدير التقني لـ"المركز الثقافي للدراسات الاسبانية"، والذي تحول فيما بعد إلى "معهد ثربانتس"، وكان قد تأسس أيام الجمهورية الاسبانية (1931-1939) بفضل المجتمع الأهلي الاسباني الموجود في مصر، والذي تحدر معظم أفراده من أسلاف اسبان سيفارديين. أظن أنهم أطلقوا عليه في بداية الامر اسم "المدرسة الاسبانية" حين تأسيسه في 13 كانون الثاني/ يناير 1931. وكان المركز الثقافي الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط. وهذه السنة يحتفل "معهد ثربانتس" بمناسبة مرور 80 عاماً على تأسيسه.

إلى جانب شغلي والمستجدات اليومية في "المركز الثقافي للدراسات الاسبانية"، عملت على إصدار مجلة al-Rabita "الرابطة"، وهي دورية اسبانية-عربية، وكان علينا تجاوز صعوبات النشر فلجأنا إلى مطبعة تديرها سيدات يونانيات يعرفن إلى حد ما الإسبانية.

عملي الأساسي كان في هذا المركز الثقافي، إضافة لشغلي في قسم اللغة الاسبانية في "مدرسة الألسن العليا"، التي أسسها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وتحولت فيما بعد إلى كلية الألسن في جامعة عين شمس. ووظيفتي كانت في التدريس والإدارة لفترة من الفترات. ولا أنسى أن أشير إلى أنني اشتغلت مذيعاً في الإذاعة المصرية في قسم الإسباني الموجهة حينها لأمريكا اللاتينية، وكنت أذهب إلى الإذاعة عند الفجر ثلاث مرات في الأسبوع. كما أنني عملت على ترجمت قصص اسبانية لصالح دار نشر مشهورة لصاحبها كامل الكيلاني.

إضافة إلى كل هذا كان علي أن أتابع التحضير لأطروحة الدكتوراه، والتي انتهيت منها ودافعت عنها عام 1963 بعد العودة إلى مدريد، وكانت تعالج موضوعاً غريباً عن "تذبذبات أسعار القمح في مصر خلال العصر المملوكي". ولانجاز هذا البحث كان علي التوجه إلى الأرشيفات، خاصة إلى دار الكتب في باب الخلق، للتنقيب في المخطوطات وكتب المؤرخين.

عرفت مصر وتحركت في مختلف مناطقها: أعرف مصر من السويس حتى سيوه، ومن الاسكندرية حتى وادي الحلفا.

ولكني أقول أنني تعرف على روح البلد وناسها في الشارع المصري..

في حقيقة الأمر اعتبرت نفسي دائماً رجل مكتب وشارع، أو لنقل رجل مكتبة وشارع، من هنا أعطيت الشارع منذ الصغر اهتماماً جماً وهو بدوره علمني الكثير.

ماذا أحدث عن الشارع في القاهرة؟؟.. إنه الواقع الأكثر استحواذاً على المشاعر، الواقع الأكثر حراكاً بانفتاحه الثقافي الكبير. وهنا أتوقف لأقول أنه رغماً عن قسوة النظام العسكري الديكتاتوري فإن المنجز الثقافي والتربوي في مصر كان ضخماً.

دأبت على الطوف في الشارع لمعرفته.. مررت في ساحة العتبة واسمعت لصخب الأغاني، وهدير محركات الحافلات، ضجيج المرور، أصوات البشر، وحاولت الحديث مع الناس وارتكبت الأخطاء.. كل ذلك وضع بصمته على تجربتي الفريدة من نوعها، وحاولت اللقاء مفرد القاهرة الشعبية، ولكنها كانت وما تزال صعبة المنال.

(يتبع)