من خلال مراجعته لكتابين مهمين حول مقولة الاستبداد، يقارب الباحث المغربي منظومة الاستبداد وخفاياه ودلالاتها، وعبرها نتعرف من خلال تحليله لتذييل الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه لمجموعة القذافي القصصية على نموذج "المثقف" الذي انخرط في في التهليل لرموز استبدادية عربية حتى تحول الى خادم للاستبداد.

خدّام الاستبداد

أحمد بلخيري

هناك كتابان مهمان درسا، كل على حدة،  الاستبداد عند العرب دراسة وافية ومفصلة. هذان الكتابان هما "في تشريح أصول الاستبداد قراءة في نظام الآداب السلطانية"1 لكمال عبد اللطيف ، و"الآداب السلطانية"2لعز الدين العلام. يشترك الكتابان معا في دراسة "الآداب السلطانية". لذلك كان تشريح الاستبداد في الكتابين انطلاقا من نصوص مكتوبة مهمتها التنظير للاستبداد. لهذا لم يكن غريبا إدراج هذا النوع من النصوص تحت مفهوم جامع استعمله كمال عبد الطيف هو "النص السلطاني" وهو نص يجعل السلطان فوق البشر لأنه يتمتع بمزايا وخصال لا توجد عند هؤلاء. يرسم هذا النص السلطاني صورة نمطية عن السلطان غايتها الأساسية والوحيدة هي تكريس الاستبداد والبحث له عن "الشرعية". ولذلك لم يكن غريبا أن يضع كمال عبد اللطيف عنوانا للفصل الثالث من الباب الثاني على النحو التالي:"الملك/الإله: المماثلة وتكريس الاستبداد". وبطبيعة الحال، فقد كان الفصل الثالث بعد الفصل الثاني من الباب الثاني أيضا. كان عنوان الفصل الثاني هو:"الملك السلطان، الأبهة والتعالي: في التفكير بالصور".

وجاء في كتاب "الآداب السلطانية"المشار إليه سابقا:"تقوم الدولة السلطانية، ومعها الفكر السياسي السلطاني على ثلاثة أطراف-مفاهيم أساسية هي السلطان والحاشية السلطانية والرعية. وبعبارة أخرى يتخللها شيء من التجريد، تتأسس هذه الدولة، كما توضح ذلك تنظيرات أصحابها على "ذات"تتموقع في قمة الهرم المجتمعي، وهي "السلطان"و"موضوع"لهذه الذات يوجد في أسفل الهرم وهو الرعية، وبينهما "وسيط"يصل الذات بالموضوع وينفذ أوامرها وهو "الحاشية السلطانية".

تمارس الذات سلطتها على "الموضوع"بتحكمها في "الوسيط"كأداة لتدبير شؤون الحكم، وقناة لممارسة سطوتها وضبط شؤون الرعايا. وإذا كانت الرعايا واضحة في وضعيتها الدونية المبنية على الطاعة والخضوع واستسلام الجسد أمام جبروت "الذات"السلطانية، فإن "الوسيط"، نتيجة وضعيته بين "ذات"السلطة وموضوعها، يعيش ازدواجية مدوخة تتمثل في خضوعه للسلطة وممارسته لها في آن واحد. هكذا ترى الحاشية السلطانية في ذاتها "موضوعا"لذات السلطان، وترى في الرعايا موضوعا ل"ذاتها""3.

الازدواجية المدوخة، بتعبير عز الدين العلام، هي التي أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"في تحديده للتمجد وهو:"أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم"4.

قام الباحثان كمال عبد اللطيف وعز الدين العلام، كل على حدة، بتحليل الآداب السلطانية في الثقافة العربية القديمة. ونشر عبد الرحمن الكواكبي طبعة ثانية لكتابه سنة 1902، بعد إعادة نظر وزيادة. ختم هذه الطبعة الثانية، المزيدة والمنقحة، قائلا:"فما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد"5.

وخلافا للباحثين السابقين، فإن الكواكبي كتب عما شاهده مشخصا في الواقع، الواقع الذي كان يعيش فيه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار زمن الآداب السلطانية وزمن كتابة كتاب "طبائع الاستبداد. . . "فالملاحظ هو أن الاستبداد عمر قرونا طويلة جدا في البلاد العربية ومازال إلى اليوم. "ففي أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية، ومازالت السلطة تنظر إلى نفسها من الزاوية نفسها، زاوية نظر الحاكم السلطان، الآمر الناهي، الآمر الذي لا راد لأمره، ولا ضابط قانونيا ومؤسسيا لقراره وحكمه وسطوته.

تجد الاستمرارية مبررات وجودها في طبيعة السلطة السائدة نفسها. فمادامت أنظمة الحكم في أغلب الأقطار العربية والإسلامية تستمد شرعيتها من قوة القهر التي تمارسها على المجتمع، فإنها تلجأ بالضرورة إلى سقف الآداب السلطانية لتحتمي به، ولتنشئ بواسطته سياجا أيديولوجيا يمنحها إمكانية الاستمرار الحامية لمصالحها المتمثلة في تملك أبهة السلطة والتعالي على المجتمع"6 كما قال كمال عبد اللطيف في كتابه السابق الذكر.  

وقد كان الاستبداد، ومازال،  يتخذ مفهوما وتأويلا معينا للدين سندا وغطاء له حتى تكتمل السيطرة، فيكتسب الاستبداد "شرعية دينية"وفق هذا التأويل. اتضح هذا مثلا في خطبة يوم الجمعة التي بثتها القناة الفضائية الليبية يوم 25 فبراير 2011. ذلك أن الخطيب ركز على "ضرورة طاعة ولي الأمر" و"عدم الخروج على ولي الأمر". رغم أن "ولي الأمر" هذا مرفوض من قبل الشعب الليبي، شعب عمر المختار، الذي كان ساعتها، أي الشعب،  في الشوارع يتلقى الرصاص بأمر من هذا الولي بالذات وبواسطة مرتزقة مأجورين كما قيل غير ليبيين. لهذا حرم الخطيب الخروج عليه، وأكد على ضرورة طاعته. دون أن يفطن إلى أن "ولي الأمر"المقصود عنده خرج على "ولي أمر"سابق،  ليس بإرادة الشعب ولكن بقوة السلاح. وهو يستند في التحريم والتحليل إلى ثقافة تقليدية لا علاقة لها بالثقافة المعاصرة، ولا علاقة لها بمفهوم السيادة للشعب، مصدر الشرعية، التي هي قاعدة الديمقراطية.  

استعير مفهوم الوسيط من عز الدين العلام، فأقول إن من بين وسائط المستبد رهط من المثقفين في وقتنا الراهن وليس كل المثقفين. هذا الرهط يسعى إلى تمجيد المستبد ورسم صورة خيالية عنه، ويتملقه. فيحظى هذا الرهط بالذات بعناية المستبد، يفتح له وسائله الإعلامية فيتم النفخ فيه في هذه الوسائل نفخا،  وتسلط عليه الأضواء، ويحظى بالامتيازات. كل ذلك بعد أن يكون المستبد قد وضع هذا الوسيط المتمجد في الموقع الذي يرى أنه يمكن أن يقدم خدمة مهمة لجوهر الاستبداد. ودون إطناب، أشير إلى أن الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، الروائي والمسرحي الليبي،  ربما يدخل ضمن هذا الرهط.

بين يدي الآن كتاب عنوانه "القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء مع قصص أخرى"7. كاتب هذه القصص، كما هو مثبت في الغلاف، هو معمر القذافي. وقد نشرته الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان سنة 1423م (هذا هو التاريخ المكتوب!). كتب الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه تذييلا، تذييلا وليس تقديما، ذيلت به المجموعة القصصية القصيرة المشار إليها. يمكن تقسيم هذا التذييل قسمين. القسم الأول يتعلق بالكاتب أي معمر القذافي، والقسم الثاني يتعلق بنصين قصصيين تضمنتهما المجموعة القصصية المشار إليها، هما "الموت" و"الفرار من جهنم".  

بدأ أحمد إبراهيم الفقيه تذييله بقوله إن "القائد معمر القذافي حالم كبير، ولا شك أن حلمه هو الذي قاده إلى إبداع النظرية الجماهيرية، التي أصبحت واقعا يعيشه ويمارسه ملايين الناس." وهو أي القذافي "قبل أن يكون مفكرا وقائدا ورجل ثورة، إنما هو كاتب مبدع، ومبدع له القدرة على تطويع ملكاته التعبيرية، والاستفادة من الأشكال الإبداعية التي تستجيب للأفكار والانفعالات والتأملات التي يريد تقديمها للناس عن طريق هذه الوسائط الأدبية. إن ميدان  الكتابة الإبداعية الذي يستلهم أفكاره ونماذجه من تركيبة قوامها الواقع والتاريخ والخيال، سيكون أكثر ثراء عندما يجد أن واحدا من صانعي التاريخ، قد اختار هذا الشكل الأدبي، وهو القصة القصيرة، ليكون وسيلته لمخاطبة القراء"8.

إن معمر القذافي، حسب أحمد إبراهيم الفقيه، مبدع"للنظرية الجماهيرية"، و"مفكر وقائد ورجل ثورة"، و"صانع للتاريخ". اعتبره الفقيه  "مفكرا" و"مبدعا للنظرية الجماهيرية"بسبب "الكتاب الأخضر"كتاب معمر القذافي. كتاب نظمت من أجله ندوات "علمية" دولية. كان تنظيمها بطبيعة الحال على حساب المال الليبي العام. وكان النظام الليبي يريد من المشاركين في تلك الندوات أن يقولوا ما يريده النظام لا ما يفرضه البحث العلمي، وقد تحقق له ذلك. هذا ما كانت تبثه القناة الفضائية الليبية عقب كل ندوة. فغدا المشاركون في هذه الندوات مشاركين في ترسيخ الاستبداد. ولا أظن أن المشاركة فيها كانت بالمجان.

وتجدر الإشارة إلى أن القذافي اعتبر نفسه في "قمة عربية"، حسب الخطاب الرسمي،  "فيلسوفا". وهي صفة يتحرج حتى كبار المفكرين والمشتغلين بالفكر الفلسفي بحثا وتدريسا من إطلاقها على أنفسهم. أطلق القذافي على نفسه لقب "فيلسوف"بسبب "الكتاب الأخضر"الذي صار علامة وأيقونة الفضائية الليبية. فلا رأي ولا فكر إلا الرأي المستمد من هذا الكتاب،  ولا فكر إلا "الفكر" الموجود فيه، وبذلك تم القضاء على الحرية الفكرية، وتم إطفاء النور ليسود الظلام. والفلسفة شقيقة الحرية وبنت النور.   

ومعمر القذافي، حسب الفقيه، "صانع للتاريخ" لأنه قام بانقلاب عسكري على النظام السياسي الذي كان قائما في ليبيا إلى حدود نهاية غشت 1969. صنع القذافي من خلال هذا الانقلاب العسكري تاريخه الخاص وتاريخ أسرته المتحكمة في الشعب الليبي بواسطة الكتائب الأمنية، المسلحة وغير المسلحة. لذلك تعتبر عبارة "صانع التاريخ"، في هذه الحالة، افتراء على التاريخ والواقع معا. أما عن كون القذافي "حالما كبير" فهاهي أحلامه في التشبت بكرسي السلطة إلى آخر رمق في الحياة،  وتوريث السلطة لأحد أبنائه،  تذهب أدراج الرياح بفضل ثورة الشعب الليبي. هذا الشعب الثائر الذي وصفه القذافي بأقذع النعوت في خطاب بئيس جدا يدل على بؤس "فكر" صاحبه، كما يدل على عدم توفره على فكر سياسي متحضر ومتمدن. ومع ذلك، قد يدخل هذا الخطاب البئيس التاريخ بسبب المعجم المستعمل فيه، من قبيل "الجرذان" و"الجراثيم" و"المقملين"، وهي الصفات التي وصف بها القذافي الشعب الليبي الثائر ضد القمع والجبروت والاستبداد ومن أجل الكرامة والحرية. وهي صفات لا تجعل من قائلها بطلا من "أبطال التاريخ"،  ولا تجعل منه "قائدا أمميا"حسب قول الفقيه. ليس فقط الألفاظ هي التي تنزع عن القذافي هذه الصفات، بل ممارسته للسلطة المطلقة المزاجية طيلة مدة حكمه، وقد بلغت اثنتين وأربعين سنة. طول مدة الحكم الاستبدادي والمال الليبي العام جعلاه يتوهم أنه "ملك ملوك"إفريقيا".

لنترك ما يتعلق بمعمر القذافي الشخص،  ولننظر الآن في الأحكام النقدية التي أطلقها أحمد إبراهيم الفقيه عن قصتين موجودتين في المجموعة القصصية المشار إليها. رأى الفقيه أن القذافي قدم إلى القصة القصيرة "إضافة كبيرة وخطيرة". والفضل في ذلك عنده لايتعلق بالنص القصصي نفسه، بل يتعلق بمكانة صاحبه. إنه "قائد أممي" و"واحد من أبطال التاريخ". هكذا يحكم الفقيه على النص القصصي من خارجه أي من موقع صاحبه السلطوي. وكان أول ما لاحظه الفقيه هو:"أن معمر القذافي عندما جاء يكتب القصة، لم يكتبها مستخدما القوالب القديمة، ولم يعتمد الشكل التقليدي المتوارث، الذي يطالب بأن يكون للقصة حدث مركزي رئيسي، وأن يكون لها بداية ووسط ونهاية، بكل مايرافق تلك الطريقة التقليدية من أسلوب تقريري، وتتابع تراتبي منطقي للأحداث، واهتمام بالوصف الخارجي. لقد اختار القائد معمر القذافي أن يكتب قصة تنتمي إلى الحداثة، وأن يستخدم "تقنية"فنية متطورة، وأن يستفيد من آخر إنجازات التعبير القصصي، وبمثل ما هو قائد ثوري يمتلئ بهاجس تحطيم القوالب القديمة، وتجاوز الأطروحات التقليدية في الفكر والممارسة، فهو أيضا كاتب مسكون بهاجس الابتكار والتجديد، والبحث عن بدائل جديدة للصياغات الفنية العتيقة"9.

حدد الفقيه،  في الكلام السابق،  ملامح القصة القصيرة التقليدية. وهو تحديد شائع ومعروف. وأشار إلى التقنية الفنية المتطورة والحداثة،  دون أن يحدد بالضبط المقصود بهذه التقنية الفنية المتطورة،  وهذه الحداثة في القصة القصيرة. وقد اقتصر تحليله للقصة القصيرة "الفرار إلى جهنم" على تلخيص مضمونها، مع الإشارة إلى أن جهنم المقصودة في النص ليست هي جهنم الموجودة في العالم الآخر، ولكن جهنم في النص تتعلق بمنطقة في بادية سرت بالذات. "فالذين يعرفونها يعرفون أن هناك منطقة بين شعابها أطلقت عليها الذاكرة الشعبية اسم جهنم، ربما بسبب القيظ الشديد، وعدائية أرضها القاحلة". وقد كان "للثورة"، حسب الفقيه، فضل في تغييرها. الفضل إذن يعود إلى "يد الثورة التي قادها معمر القذافي، والتي مسحت بأصابع الحنان على المناطق الصحراوية المجدبة فأحالتها إلى أرض خضراء، وقد وصلت أيضا إلى شعاب جهنم في بادية سرت، وغرست بها الأشجار، وزرعت النباتات، وأحالتها إلى واحة عامرة بالخضرة والظلال"10. تحولت إذن كل المناطق الصحراوية، ومنها جهنم في بادية سرت،  إلى أرض خضراء تكسوها النباتات والأشجار. وهو كلام إيديولوجي تخلل تلخيص المضمون. وقد اعتمد الكاتب،  حسب الناقد،  في القصتين معا على ""تقنية"واحدة في أسلوب السرد، هي ضمير المتكلم"11.

طابق الناقد بين المتكلم والسارد. وعلى هذا الأساس،  فالسارد في القصتين معا هو الكاتب أي معمر القذافي. في قصة "الفرار إلى جهنم" توجد ثنائية تتمثل في ضمير المتكلم من جهة، الذي يتوق إلى الانعزال، لذلك فر إلى جهنم بادية سرت بليبيا. وهو ليس "من سلالة ملكية، بل من سلالة بدوية" (ص47) من جهة، وضمير الجماعة من جهة أخرى من جهة أخرى. يجسد ضمير المتكلم في النص البطولة، وهو يخاصم من يعود عليهم ضمير الجماعة أي الشعب. فهو يعتقد أنهم شوهوا نفسه،  وأفسدوا طبعها الحميد كما قال. إذن هو نقي والآخرون ليسوا كذلك. ومن نقائه، حسب النص، أنه لا ينطق كلمة الأمريكان أو الأميركيين، بل ينطق كلمة "الميلكان". هذا التحريف في النطق يدل على أن له موقفا من الأمريكيين، هذا ما يوحي به النص القصصي. وهو يعتقد أن الذي اكتشف أمريكا ليس كولومبوس بل "أمير عربي"!.

ولأنه يتمتع ب"وعي" بينما الآخرون سذج،  لأنهم وقعوا فريسة الأكذوبة، فقد أحس بحالهم،  وسمع خطيب الجمعة يوجه  إليه الخطاب في المساجد، وليس في مسجد واحد فقط،  قائلا:"إن حالنا لا يخفى عليك، وعجزنا واضح بين يديك. . ولا ملجأ إلا إليك. . إليك. . إليك"12. الآخرون إذن عاجزون، أي الشعب، ولا ملجأ لهم إلا إلى هذا البطل. وتكرار كلمة إليك تأكيد على هذه البطولة الفردية. وعلى هذا الأساس، فهذه القصة القصيرة ذات صوت واحد مفرد هو صوت السارد الكاتب "القائد". هكذا تتعمق البطولة الفردية في هذا النص القصصي. فهذا البطل ملجأ الآخرين و"قائدهم". ولأن هناك مطابقة بين السارد والكاتب، فالبطولة هنا هي بطولة معمر القذافي. وعلى هذا الأساس، فالنص القصصي "الفرار إلى جهنم"يعظم الفرد، وهو بدوي،  ويحط من قيمة الآخرين:الشعب. والسؤال هو:هل البطولة التي من هذا النوع،  وسيادة الصوت الواحد،  وتقديم الآخرين في صورة الخانعين  والسذج،  تجعل نصا قصصيا قصيرا، تلك مقوماته،  ضمن الحداثة؟. وهل الحداثة تختزل،  في القصة القصيرة،  في استعمال ضمير المتكلم في السرد الذي يفتح المجال للتداعي الحر؟.

وإذا كان المتكلم في القصة القصيرة المعنونة ب"الفرار إلى جهنم" يتحدث عن نفسه، فإن القصة القصيرة الثانية "الموت"،  التي كانت موضوع تحليل من قبل أحمد إبراهيم الفقيه أيضا، يتحدث فيها السارد عن أبيه. بدأ النص بتساؤل مفاده هو هل الموت ذكر أم أنثى؟. وبعد سلسلة من الجمل السردية، تتعلق بالموت، التي يمكن اعتبارها مجرد تمهيد للموضوع الرئيس لهذه القصة القصيرة، ذكر السارد أباه وكيفية مواجهته للموت. المواجهة هنا مرتبطة بوالد السارد/الكاتب الذي جاهد ضد الاستعمار الإيطالي. يجسد الموت هنا الجنود الإيطاليون. وفي النص القصصي إشارات يبدو أن الهدف منها هو جعل القارئ يعتقد أنها تشكل فعلا جزء من تاريخ ليبيا الحديث، أي أن الأمر لا يتعلق بخيال فني قصصي،  ولكن بأحداث جرت الواقع زمن الاستعمار الإيطالي ليبيا. والنتيجة هي أن والد معمر القذافي، وهو عبد السلام أبو منيار، كان مجاهدا أثناء الاستعمار. يرسل النص القصصي القصير المقصود رسائل وإشارت لغوية تتعلق بتاريخ ليبيا في القرن العشرين. هذه الرسائل اللغوية والإشارات تركزت كلها حول والد السارد الذي توفي يوم 8 مايو 1985. لم يجاهد عبد السلام أبو منيار فقط ضد الاستعمار الإيطالي، ولكنه إضافة إلى ذلك، حارب ضد "عسكر السنوسي الموالي للطليان في سرت وإجدابيا"13، وبالضبط في معركة "قيافة"، حسبما هو موجود في النص القصصي.  إن ذكر هذا الوالد بالاسم،  وذكر تاريخ وفاته،  لايترك أي مجال للشك في وجود مطابقة بين السارد والكاتب، إنه معمر القذافي.  

قدم السارد/ الكاتب صورة مثالية جدا عن والده الذي كان يقارع الموت بشجاعة حسب النص. من ذلك أن الموت "دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع، وجاء إلى في حملة "مياني"إلى القرضابية، وتقمص أزياء الجنود الطليان والأرتريين. كل ذلك من أجل أن يقتل أبي، أبي الذي بدأ يقاومه بشراسة بعد أن قتل إخوتي. أبي قرر أن ينتقم من الموت، ومن أجل ذلك قتل العديد من جنود العقيد "مياني"الذين تقمص الموت ملابسهم، حتى أصبح كل واحد هو الموت ذاته"14. هكذا قدم هذا النص القصصي القصير المعنون ب"الموت"عبد السلام أبا منيار مقاوما للاستعمار الإيطالي بليبيا. وقدمه على اعتبار أنه في نفس منزلة عمر المختار. لكن عمر المختار استشهد أثناء الاستعمار، أما عبد السلام أبو منيار،  والد معمر القذافي،  فتوفي يوم 8 مايو 1985 حسبما هو موجود في النص القصصي ذاته. هل كان عبد السلام أبومنيار كذلك؟أي هل كان مقاوما للاستعمار أصلا؟وهل كان في نفس منزلة عمر المختار؟التاريخ وحده يمكن أن يقدم الجواب.

لكن المهم هو أن الكاتب معمر القذافي يقدم صورة إيجابية عن أبيه. وإذا كانت البطولة في هذا النص القصصي مرتبطة بعبد السلام أبي منيار فإن الضعف والمسكنة اقترنتا فيه بالسادات. وإذا كانت وظيفة الأغنية المصرية في هذا النص القصصي تتلخص في ممارسة التخدير فما هي وظيفة الأغاني التي يكون موضوعها "القائد" التي تبثها القناة الفضائية الليبية، حيث يتم تمجيده بل و"أسطرته"أي جعله إنسانا أسطوريا خارقا للعادة؟. ألا تعتبر الأغاني التي من هذا النوع تخديرا و"عبادة" للشخص؟. بناء على ما سبق، يتضح أن النص القصصي الأول ركز على البطولة الذاتية الفردية. أما النص القصصي الثاني فركز على بطولة الوالد الفردية. لذلك يمكن القول، إن القذافي استعمل القصة القصيرة وسيلة لتأصيل مجد، قد يكون مختلقا أو فيه نصيب من الاختلاق،  وتركيز قيادة، أي قيادته. وبعبارة أخرى، إنه استخدم القصة القصيرة لخدمة نفسه.

لماذا اختار أحمد إبراهيم الفقيه بالذات هذين النصين القصصيين القصيرين دون النصوص الأخرى للتحليل. يبدو أن سبب الاختيار يعود بالضبط إلى كون النصين معا يركزان، كل على حدة، على الابن وأبيه، حيث تم تقديمهما في صورة مخلصين ومنقذين للشعب الليبي. وهي الصورة التي يقدمها دائما المستبد عن نفسه. ولذلك فاختيار أحمد إبراهيم هذين النصين بالذات للتحليل لم يكن بريئا. لقد خدم بتحليله هذا المستبد. هذا الأخير يعتبر نفسه، ويفرض ذلك على الآخرين فرضا، بأنه شخصية استثنائية. لذلك قال الفقيه:"الكاتب هنا ليس كائنا عاديا، وإنما شخصية قيادية، يسهم في صناعة تاريخنا الحديث. لقد سقت هذه الملاحظة، وأنا أعرف أنني انتقلت من حديث النقد الذي يعتني بما يقوله النص، إلى حديث آخر من خارج النص. وهذا الانتقال استوجبه ظرف استثنائي، وهو أن الكاتب هنا أيضا شخصية استثنائية، ويكتب عن أحداث ووقائع لها مرجعيتها في الواقع، كما يتناول أسماء نعرفها جميعا من طرفة بن العبد ونزار قباني إلى عمر المختار وسعدون ومحمد أبو منيار"15.

أجل، إن معمر القذافي شخصية استثنائية، والمستبدون دائما أشخاص استثنائيون لعلل في شخصياتهم، من فرعون إلى نيرون إلى هتلر... فهاهو معمر القذافي يواجه شعبا ثائرا بالحديد والنار. ويتوعده بأنها ستكون حمراء، لأنه، كما قال، "أجدر بليبيا" من سواه، رغم أنه في خريف العمر !. وهي عبارة، وكل الخطاب السياسي عند معمر القذافي، تدل على أن فكره السياسي بعيد جدا عن الفكر السياسي المعاصر. ويقال إنه يستعين بالمرتزقة لقتل الشعب الثائر. فإذا صح هذا هل يجوز اعتبار  معمر القذافي وطنيا، لأنه يستعين اليوم بالأجنبي المسلح لقمع الشعب؟. والثابت أنه يعتمد في هذا القتل على أبنائه الذين يقودون كتائب أمنية. كل ذلك من أجل السلطة ومن أجل توريث السلطة وجعلها ملكا لأسرته. والمستبد دائما يتبرع على خدامه بمناصب ومواقع، يرى هو لا هم، بأنهم يمكن من خلالها أن يخدموا الاستبداد وجوهر الاستبداد. من تلك المناصب "مدير لإدارة الفنون والآداب"الذي كان يتولاه أحمد إبراهيم الفقيه مؤلف "فئران بلا جحور". إن إدارة الفنون والآداب لايمكن أن تكون إلا إيديولوجية وسياسية تتماشى مع إيديولوجية النظام الليبي وسياسته. ولما كان هذا النظام، بقيادة معمر القذافي، مستبدا فلا يمكن لهذه الإدارة إلا أن تكون خادمة للاستبداد.

أخيرا، إذا لم يتمكن المثقف العربي، لهذا السبب أو ذاك، من أن  يكون مثل هارولد بنتر (توفي يوم الخميس 24/12/2008) ، على سبيل المثال،  الذي عبر عن موقف معارض لتوني بيلير،  الذي انحاز لجورج بوش الابن حين غزو العراق،  وهاجم، أي هارولد بنتر،  الصحافة الرسمية، فعلى الأقل عليه أن يصون قلمه لكي لا يقدم صورة زائفة ومغلوطة عن المستبد والاستبداد. و الواقع يكشف أن الصورة التي قدمها أحمد إبراهيم الفقيه عن معمر القذافي، "الشخصية الاستثنائية"، كانت زائفة ومغلوطة. التاريخ ووقائع اليوم تكذبها. وهناك أشباه ونظائر لهذا النوع من المثقفين في العالم العربي. هذا النوع من المثقفين هم خدام الاستبداد.

باحث من المغرب 

هوامش:
1-كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد قراءة في نظام الآداب السلطانية"، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1999.
2 -عز الدين العلام ، الآداب السلطانية، عالم المعرفة، عدد 324 فبراير، 2006.
3-نفسه، ص/119.
4-عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد، منشورات الجمل، بغداد، العراق، 2006، ص/50.
5-ص/7.
6-في تشريح أصول الاستبداد،  ص/270.
7-معمر القذافي، القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء مع قصص أخرى، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1423م (حسب التقويم الليبي الآن).
8-نفسه، صص/132/133.
 9-نفسه، ص/134.
10-نفسه، ص/137.
11-نفسه، ص/141.
 12-نفسه، ص/53.
13-نفسه، ص/70.    
14-نفسه، ص/68.
15-نفسه، ص/143.