يطرح سؤال الباحث الفلسطيني المرموق هنا أسئلة كثيرة أخرى: أولها هل يكفي أن تصل الجماعة الثورية إلى السلطة حتى نقول إنها انتصرت؟ ومن خلال تحليل لتاريخ وصول الجماعات الثورية للسلطة منذ الثورة الاشتراكية وحتى الثورة الإيرانية وحماس، يكشف لنا عن أن تجاهل القاعدة الجماهيرية هو السر في انهزام الثورة حتى لو بقي أصحابها في السلطة.

متى تنتصر الثورات ومتى تنهزم؟

محمد شاويش

1-طرح المسألة:
هل يكفي أن تصل الجماعة الثورية إلى السلطة حتى نقول إنها انتصرت؟ كان هذا هو اعتقاد الثوريين في العالم وكان اعتقاد الثوريين عندنا أيضاً حتى العقد الأخير من القرن العشرين على الأقل. انتصر ماو مع طرد اليابانيين إلى خارج الصين وطرد تشين كاي شيك "الكومينتانغ" إلى تايوان وقيام جمهورية الصين الشعبية وانتصر كاسترو حين دخل هافانا مع قواته الثورية منتزعاً السلطة من باتيستا وقبلهما انتصر لينين مع سقوط السلطة بيد انتفاضة البلاشفة المسلحة في تشرين الأول ـ أكتوبر (تشرين الثاني ـ نوفمبر) 1917. وعندنا انتصرت ثورة الجزائر مع استلام جبهة التحرير للسلطة في البلد وخروج السلطة الاستعمارية عام 1962. وهذه الرؤية تنتج أولاً من الاعتقاد بالدور المهيمن للمستوى السياسي من مستويات المجتمع، فمن يسيطر على الفعل في هذا المستوى يسيطر على الفعل في المستويات الأخرى كلها و "يقود المجتمع" حيث يشاء (هو لا المجتمع! وإن كان الثوريون يحاججون طبعاً أنهم في عملهم يمثلون أكثرية المجتمع).

وهي تنتج ثانياً من تفاؤل تاريخي بالعصر و "طبيعته"، فهو عصر "الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية" وهذا التفاؤل نجده منذ صدور كتاب لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" عام 1916 وفيه أعلن أن "الإمبريالية هي عشية الثورة الاشتراكية" وقد اعتقد الشيوعيون من الخط السوفيتي أن وصولهم إلى السلطة ما هو إلا نتيجة حتمية لهذا "الطابع الموضوعي" للعصر و "للتطور التاريخي". وهذه النظرة لم تقتصر عندنا على الشيوعيين واليسار فقط بل شملت الجميع من قوميين وإسلامانيين، فالنهاية السعيدة للمجتمع و "الحل" ليست شيئاً يتحقق تدريجياً مثلاً بل له موعد محدد يتحقق في يوم واحد هو يوم الوصول إلى السلطة. ومن كان يبشر بتغير تدريجي نال لعنة الثوريين كما هو معلوم، وعند اليسار تحديداً كانت كلمة "الإصلاحي" (وتعني من يؤمن بإصلاحات تدريجية في النظام تقود إلى تغييره) تعادل كلمة "الانتهازي".

ولكن ما جرى في نهاية القرن العشرين كان انهيار "الأنظمة الاشتراكية" وارتداد بلدانها إلى الرأسمالية، مما يعني أن البقاء في السلطة ولو لمدة طويلة لا يعني أن "الثورة قد انتصرت"، ومع تكون "النظام العالمي الجديد" ظهرت أشكال جديدة من إسقاط أنظمة جذرية التوجه، فهذه الأنظمة لا تسقط بفعل داخلي متوازن مع ضغط خارجي كما جرى مع الاتحاد السوفيتي والبلاد الدائرة في فلكه بل هي تسقط بفعل حصار دولي خانق تفرضه القوة الكبرى الوحيدة باستعمال الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقوتها الخاصة وقوة تأثيرها على حلفائها وأتباعها في العالم. هكذا مثل سقط الساندينيون في نيكاراغوا في انتخابات حرة بسبب خوف الشعب من التهديد الأمريكي بالحصار. وهكذا سقطت التجربة التصنيعية في العراق البعثية تحت نار حصار وحشي ثم حرب شعواء.

وثمة لدينا تجربة صغيرة محزنة هي تجربة حماس في غزة التي سارت وفق المعتقد السائد للتغيير عبر استلام السلطة فتعرضت رغم بطولة مقاتليها المشهودة لحصار لا إنساني جعلها تسير في طريق التنازلات السياسية ولو أن الابتزاز الأمريكي الصهيوني إلى الآن لم يجعله يقبل بأي تنازل عن موقفه حتى اعتصار التنازل الأخير. بعد كل هذه التجارب التي اتضح فيها جلياً أن الوصول إلى السلطة ليس هو اللحظة التي يمكن فيها إعلان انتصار الثورة صار من الواجب علينا أن نطرح السؤال: متى تنتصر الثورات حقاً؟ 

2 ـ متى يبدأ السقوط؟ التجربة السوفييتية
ريتشارد كروسمان، البرلماني البريطاني و رجل الدولة، والمشتغل المهم في مجال الدعاية الحكومية ضد خصوم بريطانيا، ضد النازية و "الشيوعية" (أي الستالينية)، والصهيوني المتحمس أيضاً، عام 1949، أي في ذروة الحرب الباردة، حرر كتاباً بعنوان "الإله الذي هوى" The God that failed وقد نشرت له ترجمة عربية في الستينات صدرت في السعودية بعنوان "الصنم الذي هوى"، وفي نظري يعد هذا الكتاب بحق أذكى كتاب ظهر في الدعاية المغرضة المنحازة المعادية للشيوعية، بل لعلي مضطر أن أقول آسفاً إنه يستحق القراءة بالفعل، خلافاً للموقف المنتظر الذي يجب أن يقفه المرء من كتب هذا توجهها! وتميُّز الكتاب يكمن في أنه، خلافاً للدعاية الرخيصة ضد الشيوعية (الاتحاد السوفيتي في المرحلة الستالينية والأحزاب الشيوعية في العالم المناصرة له) التي كنت تراها في كل مكان وبالجملة في بلادنا، لجأ المحرر المذكور أعلاه إلى تضمين كتابه مقالات لستة من الكتاب الأوروبيين المهمين، ومنهم كتاب مستقلون ذوو مصداقية عالية جداً في العالم، مثل أندريه جيد الفرنسي، ومثل كاتب مناضل عنيد لا يساوم ضد العنصرية هو الكاتب الأسود الأمريكي الشهير ريتشارد رايت.

روى الكتاب تجربتهم في أحزاب شيوعية غربية ومعاناتهم مع العقلية الاستبدادية الستالينية بضيق أفقها الذي لا يصدق ونزعتها التسلطية التي لا تطاق، مثلاً رايت وصف تجربته في الحزب الشيوعي الأمريكي في مدينة شيكاغو، وآرثر كوستلر وصف تجربته في الحزب الشيوعي الألماني، وإلى آخره.. ولكني هنا أريد أن أستشهد تحديداً بمقال في الكتاب هو مقال أندريه جيد.

والمقال فيه تجربة كاتب مستقل هو أندريه جيد أيّد التجربة السوفيتية عن بعد واعتبر من واجبه الأخلاقي أن يعلن تأييده لهذه التجربة التي بشرت بآفاق إنسانية جديدة، وعلى إثر هذا التأييد رأت السلطة الستالينية أن من المفيد لها دعائياً أن تدعوه لزيارة الاتحاد السوفيتي، وهناك رتب له برنامج زيارة "مناسب" حيث قصد منه أن يرى ما يجب رؤيته، أما ما "لا تجب رؤيته" فقد اجتهدوا في حجبه عنه، ولكن دون نجاح تام كما نرى في مقاله في الكتاب الذي حرره كروسمان، وهو أثناء وصفه لرحلته هذه، والتي آتت عكس ثمارها التي ارتجاها النظام الستاليني، ينقد التجربة السوفيتية نقداً مهماً. وأدعو القارئ للعودة للكتاب ليرى في مقاله أبعاداً مفيدة للغاية لمن يريد نقد التجربة السوفيتية على أرضية إنسانية حقيقية (لا إنسانوية زائفة). و خصوم الشيوعية إلى الآن لا يذكرون هذه الأبعاد، وليس بالصدفة، لأن نقد الشيوعية لم يتم على الغالب على أرضية إنسانية، بل تم على أرضية تتضمن قدراً مماثلاً من اللاإنسانية هي تجربة الرأسمالية الغربية وعملائها في العالم.

لفت انتباه جيد واستغرابه في زيارته أن رجال النظام الذين رافقوه كانوا يحرصون على إخفاء مظاهر الفقر في روسيا وكأنها عار وعيب، ويبدو لي أن جيد لم يستطع أن يفهم ذلك، ولكن ملاحظته هذه هي التي أريد أن أنطلق منها في مقالي هذا لأقول: من هناك بدأت الهزيمة في الثورة الروسية! وبصيغة أخرى: انطلاقاً من هذه الملاحظة كان بإمكان جيد مثلا أن يقول إن الثورة الروسية رغم أن جزءا من رجالها لا زال في السلطة، بل لا زالت عنده السلطة المطلقة التي لم يحلم بها أي قيصر روسي من قبل، هي ثورة "لم تنتصر"، بل هي بالأحرى "ثورة هزمت".

لم يستطع جيد على ما يبدو فهم هذه الظاهرة التي هي الخجل من فقر روسيا لأنه نسي فلسفة النظام الأصلية: أعلن ستالين في مطلع الثلاثينات أن روسيا "قد بنت فعلاً الاشتراكية وأزالت الطبقات"، ولكن هذا وفقاً للمفهوم الماركسي السوفيتي كان يعني التفوق المادي على الرأسمالية الغربية في غزارة الإنتاج وبالجملة في رفاهية المواطنين. لقد وضع النظام نفسه في "مسابقة" مع الرأسمالية (وفي عهد خروتشوف كما نعلم تحول هذا إلى شعار رسمي وهو "المسابقة السلمية بين الرأسمالية والاشتراكية")، ولكن الواقع الظاهر للعيان كان أن هذه المسابقة هي لغير صالح الاتحاد السوفيتي. لقد وضعت الحالة الغربية مقاسة بهذا المعيار الاقتصادي الصرف كمثل يجب تجاوزه، وحين لم يتم تجاوزه، وكل ما تم هو السير وراءه بمسافة مهمة، سقط النظام في عين مواطنيه وصارت أمنية الغالبية هي "التحرر" منه والانتقال إلى النمط الغربي! 

3 ـ ما هو معنى "تحقق هدف الثورة"؟
لأقل الآن إن هذه هي الفكرة المركزية في مقالي هذا: إن الثورات الجماهيرية تنتصر حين تحقق الهدف الذي وضعته الطليعة مؤيدة من قبل الجماهير في البداية لنفسها، وتكون نتيجة نصرها استقرار النظام لأن الجماهير مقتنعة به لأنه ناجح وفقاً للمعيار الذي وضعه المجتمع للنجاح، والثورات تنهزم حتى لو بقي رجالها في السلطة مؤقتاً حين تخفق الثورة في تحقيق الهدف الذي وضعته الطليعة وأيده المجتمع وصار هدفاً له مستقراً في الوعي الجماعي. وحين تنهزم الثورة يبقى سقوط سلطتها "مسألة وقت" كما يقال. لنلاحظ هنا أن الثورات الحقيقية (التي نعرّفها بأنها بنت سلطتها بتأييد شعبي كاسح) تتميز بتناغم عميق في الوعي بينها وبين مجتمعها، أي أن الوعي الظاهر واللاشعور أيضاً في النخبة الحاكمة متناغمان مع نظيريهما في الشعب.

ما هي محتويات هذين المستويين من الوعي؟

لنأخذ مثال الثورة الروسية: في الوعي الظاهر للنخبة كما للناس كان الهدف من الثورة بناء نظام اجتماعي متحرر من الطبقات وبالذات من استغلال الطبقات المالكة للطبقات المحرومة من الملكية (العمال والفلاحين والفقراء عموماً)، وفي اللاشعور (عند النخبة الحاكمة أولاً ثم لاحقاً عند المواطن السوفييتي) كان الهدف تجاوز النظام الرأسمالي انطلاقاً من معايير اقتصادية بحتة هي معايير الرفاه للجميع. هنا في اللاشعور اختفى شعار إزالة الطبقات والشعارات السياسية المختلفة التي كان يرفعها النظام وبقي هدف الرفاه الاقتصادي المادي بالمعيار الاستهلاكي الغربي عينه، وقد أثبت تطور الأحداث أن هذا اللاشعور تحديداً هو الفاعل على المدى البعيد.

ولا شك أن الشعار الاشتراكي كان في مطلع القرن العشرين يشكل تهديداً حقيقياً للنظام الرأسمالي الغربي، بل كان ذوو الحدس والبصيرة يرون هذا التهديد حتى في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، وأذكّر هنا بالتشخيص الدقيق الذي ورد في "البيان الشيوعي" الذي أصدره ماركس وإنجلز عام 1848 وتكلما في مطلعه عن "الشبح الذي اتحدت قوى أوروبا العجوز لمحاربته" وهو الشبح الشيوعي.

ولكن التجربة الثورية الملموسة في السلطة في روسيا جاءت على غير ما كان الثوريون وأنصارهم في القاعدة الاجتماعية يرجونه، إذ "النظام الاشتراكي" الذي بناه ستالين لم يحقق لا أهدافه الواعية ولا اللاشعورية، فبدلاً من إزالة الطبقات ظهر نظام طبقي من نوع جديد قريب عمليا من وضع النظام الاستعبادي ليس فيه حتى الحريات المحدودة التي كانت الطبقات الكادحة الأوروبية قد حصلت عليها بعد نضال طويل، وبدلاً من الرفاه العام بقي المواطن السوفيتي في حالة من الحرمان كانت تعززها مقارنته الدائمة لحاله مع حال المواطن الغربي. وقد كان الأذكياء عندنا في السبعينات يقولون للشيوعيين العرب (وهؤلاء كانوا ينكرون طبعاً) أن المواطن السوفيتي الذي يجعل من امتلاك بنطال جينز هدفاً كبيراً ومن امتلاك جهاز فيديو هدفاً قريباً من عالم الأحلام هو مواطن منهزم في المعركة مع الغرب سلفاً. 

4 ـ حالة الثورة الإيرانية ومستقبل التيار الإسلاماني:
سأنتقل الآن إلى الموضوع الجوهري الذي يهمني حقاً وكان هو سبب هذا الاستدعاء للتاريخ، ألا وهو حالة الثورة الإسلامية الإيرانية في مرحلة دخولها في منعرج سيقودها في اعتقادي حتماً إلى "ثورة مخملية" (أي ثورة مضادة للثورة)، ومن هذا الموضوع سأنتقل إلى الشيء الذي أفترض في إخواننا من الإسلامانيين العرب أن يأخذوه بعين الاعتبار ويتخذوا منه عبرة. كانت الثورة الإسلامية في إيران نتاج انتفاض الغالبية من الشعب الإيراني ضد سياسة إبعاد وإقصاء قام بها نظام مستغرب تابع، والخميني مثّل للناس عودة احترام الهوية واحترام الذات بعد المرحلة التي انتهكت فيها كرامة الشعب عبر انتهاك هويته في التحديث القمعي القسري المترافق مع فوارق طبقية هائلة واستهتار للأقلية المتحكمة بمشاعر الأغلبية ومقدساتها.

ولكن هذا الجيل الذي ثار نشأ من ورائه جيل لم يعرف هذا التناقض القديم، بل هو على العكس أصابه ما أصاب الشعب السوفييتي من قبله، فتحت نار القصف الدعائي الغربي المتواصل الذي يروج للقيم الغربية و "الحرية" الغربية، علاوة على الرفاهية الغربية المفقودة، صار الانطباع عند هذا الجيل أن الهوية المحلية التي تحرسها السلطة هي العائق أمام الاتصال مع الجنة الغربية، ومن هنا انتشر عند هذا الجيل الكراهية لكل ما يربط الإيرانيين بهويتهم، والاتجاه العام (وليس هو بالضبط الواقع الحالي بل التوجه والمسار) هو "الاتجاه المخملي"، ولعلنا نعود في وقت قريب للحديث عن هذا التوجه العالمي لقطاعات كبيرة من سكان البلاد التي لم تقم حكوماتها لأسباب مختلفة علاقة ودية مع الغرب، وهو في إيران يتمثل في الاستياء من العلاقة مع العرب وقضاياهم والدعوة إلى العودة إلى المودة مع أمريكا (بل ضمناً مع الكيان الصهيوني أيضاً) ورفع الأحكام الثورية من نوع حجاب المرأة، والهدف النهائي في اعتقادي في إيران عند هؤلاء هو تحطيم "ولاية الفقيه" كما كان الهدف النهائي في "البلاد الاشتراكية" عند "الإصلاحيين" ثم ورثتهم "المخمليين" هو تحطيم سيطرة الحزب الشيوعي.

المسألة بتعبير آخر هي أن هناك سيطرة غربية نفسية متمثلة في تلك الظاهرة المهمة التي أسميها "الاستلاب للغرب". هذه السيطرة النفسية موجودة عند قطاعات اجتماعية مهمة في إيران كما كانت موجودة عند قطاعات اجتماعية مهمة في "البلدان الاشتراكية" قبل عام 1990 (عام سقوط "الاشتراكية" هناك).

لنأت الآن إلى الحالة الإسلامانية عندنا. لا شك أن الإسلامانيين يحوزون على تعاطف جزء مهم من السكان في البلاد التي لم يستلموا فيها السلطة، ولكن المشاهد المدقق سيرى أن الاستلاب الذي تكلمنا عنه موجود أيضاً عند غالبية "المتدينين الجدد" الذين يشكلون القاعدة الشعبية للإسلامانية الحديثة. أسميت هؤلاء باسم "المتدينين الجدد" لأفرقهم عن المتدين الأصلي القديم الذي كان ورث التدين عن أسلافه ولم يكن يخطر له على بال أن يحول هذا التدين التلقائي إلى برنامج سياسي خاص له طبيعة تحزبية وفئوية، وأهم ما كان يميز المتدين القديم كان شعوره المطمئن أنه يعيش في بلده ومجتمعه وليس هناك خطر عليه من جهة ما تريد أن تقتلعه من جذوره، ولم يكن التدين بالنسبة إليه شيئاً مكتسباً يجيئه من "دعاة" معينين، ولم يكن يعتقد أنه بهذا التدين اكتسب صفة الحكم والقاضي الذي عليه أن يحكم على بقية أفراد المجتمع ويقولبهم وفقاً "للصحيح". لقد كان التدين الأصلي مثل الثياب الوطنية الأصلية يرتديها ابن البلد دون أن يحس بأنه يقوم بطاعة شاقة يثاب عليها لأنها شاقة!، خلافاً للمتدين الجديد الذي تدينه هو بالنسبة إليه طاعة شاقة مثل ثيابه التي يقتضيها منه الشرع في رأيه وتتضمن تضحية من قبله (مثلاً حالة المرأة المحجبة التي لديها هذا الإحساس بالتضحية وأنها تخالف اعتبارات "الزي الجميل" طاعة لله، أما جداتنا وأمهاتنا فقد كن يرتدين زيهن الوطني وهن يعتقدن أنه زي جميل ولم يكن يعتقدن أن في ارتدائهن لهذا الزي تضحية من قبلهن ولم يكن ينتظرن بالتالي الثواب على هذا!).

المتدين الأصلي كان لا يرى الغرب فوقه ولا دونه في الأهمية أما المتدين الجديد فهو لا ينفك يتجادل مع هذا الغرب بينه وبين نفسه، وهو في هذا السبيل يستبطن اعتقاداً خفياً بأن هذا الغرب هو النموذج الأعلى.

ألم تر كيف يحرص أكثر المتدينين تشدداً في الظاهر وهم متدينو أهل الخليج على الألقاب العلمية الغربية؟ ألم يكن اللقب الإسلامي الأصلي الذي هو "العالم" كافياً دون حاجة للقب "الدكتور" المنتشر بين "الدعاة" ويحرصون على امتلاكه لو كان هؤلاء غير مستلبين من أعماقهم للنموذج الغربي؟ (من المفيد أن نلاحظ كيف تسلل النظام التعليمي المستورد من الغرب إلى ما هو الأكثر خصوصية عندنا وهو التعليم الشرعي، وهو انقلاب في المنظومة التعليمية الإسلامية التاريخية الأكثر انفتاحاً بكثير على المجتمع وأكثر مقدرة على تعليم الكبار والتي تجعل المجتمع قادراً على تحديد أهمية ومكانة العلماء انطلاقا من ممارستهم العلمية وممارستهم الاجتماعية في الوقت نفسه). ولو عدنا إلى مثال المرأة المتدينة الجديدة لرأينا أن "الموضة العالمية" هي بالنسبة إليهن أيضاً المثل الأعلى للزي الجميل، وهي التي يرتدينها مع أزواجهن بتشجيع من الفقهاء و "الدعاة" ويرتدينها في حفلاتهن المغلقة الخاصة، ولربما ارتدينها في البلاد التي ترتدي نساؤها العباء تحت العباءة.

والثورة الإيرانية حاولت أن تقيم شكلاً مبتكراً للنظام السياسي يجمع بين عناصر إسلامية مثل ولاية الفقيه التي هي اجتهاد في الفقه الشيعي ظل حتى انتصار الثورة لا تتبناه إلا أقلية المراجع العلمية الشيعية و "مجلس الخبراء" من جهة وبين الأشكال الغربية المعتادة كالبرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، وقد سمي النظام باسم غربي هو اسم "الجمهورية". ولعل هذا المزج الذي لا يخلو من إبداع في اعتقادي كان السبب الذي حفظ الدولة الثورية من الانهيار النهائي في الجماهيرية إذ حافظ النظام على حد أدنى من "الحريات" المألوفة في الغرب، أي تمكنت الدولة إلى الآن من استيعاب الميول الغربية القوية في شرائح مهمة من السكان، والدولة في عهد نجاد وضعت لنفسها عملياً معياراً للمقارنة مع الغرب هو معيار التكنولوجيا وهي تحقق فيه إلى الآن بعض النجاح ولكن المعايير القيمية الأخرى لا زالت متفوقة في السيكولوجيا الاجتماعية عند المنبهرين بالغرب وهي التي تجعلنا لا نتفاءل بانتصار "المحافظين" في الصراع القائم في إيران لأن "الإصلاحيين" يشكلون في إيران في اعتقادي نظيراً لنقابة "تضامن" البولونية في السبعينات التي مرت بمراحل انحنت فيها أمام العاصفة لكنها عادت وقضت على "الاشتراكية" بعد سنين معدودة.

وما يثير الاستغراب هو استمرار الأوهام في بلادنا عن تحقيق انقلاب اجتماعي شامل يتم عبر الوصول إلى السلطة وفرض "الحل الإسلامي" بالقوة. ولكننا في المقابل نجد بعض أذكياء المفكرين من نوع راشد الغنوشي في تونس وأحمد الريسوني في المغرب الذين توصلوا بالتجربة إلى أن شرط استمرارية أي سلطة بديلة (وهو الذي سماه هذا المقال: "انتصار الثورة") هو شعور شعبها أنه حر لا تفرض عليه السلطة نظاماً بل هو يختار النظام بملء إرادته. لا يمكن الاعتماد على حماس مؤقت للجماهير بل يجب أن "تشعر الجماهير بالأناقة" لانتمائها للنظام الجديد (والتعبير هو لذلك المفكر الذكي الكبير المقروء قليلاً الذي هو مالك بن نبي). ومعنى هذا أن الجماهير يجب أن تحس أن هذا النظام هو حقاً "متفوق".

وتجاهل القاعدة الجماهيرية وتغيرات سيكولوجيتها هو الصفة الأعم للسياسة الثورية عندنا، وقد آن الأوان لتغيير هذا الخلل الخطير في فهم الواقع