في نصه الروائي "متشرداً في باريس ولندن" (Down and Out in Paris and London، ترجمة الشاعر سعدي يوسف، الصادر عن دار المدى بسوريا 1997)، يناقش جورج أورويل الدلالات الإنسانية، والجمالية، والثقافية الملازمة لتجربة التشرد في المجتمعات المدنية الراقية من خلال تداعيات النماذج الشخصية الفريدة للمتشردين، والقوى المتضادة التي تتنازعها؛ مثل الحتميات الشمولية المحددة للوضع الاجتماعي، والبحث المستمر عن وجود إنساني فردي من داخل فضاءات تشبه الجحيم، دون أن يلجأ أورويل لاستبطان المتشرد من الداخل، أو يحيل القارئ إلى حالات الكآبة، أو الحزن، أو الصمت؛ فقد حرص على الاحتفاء بالحياة الإنسانية بحد ذاتها في المتشرد، وفي أساليبه الحياتية، وقدرته على الأداء الديناميكي في التعامل مع مشكلات الجوع، والعمل، وأماكن السكن، والنظافة، ونقص الملابس، أو تشوهها، وغير ذلك.
لقد ارتكز جورج أورويل على الجمع بين وهج الاكتشاف الإبداعي المتجدد لعوالم المتشرد، والسلبية الآلية الدائرية التي وضع فيها بصورة قهرية؛ نتيجة لفقدان العمل، أو انعدام المواءمة بين اتجاهه الذاتي، والسياق الواقعي، وغيرها؛ ومن ثم فالنموذج الذي يقدمه أورويل للقارئ لا يحول تجربة التشرد إلى عنف مضاد للمجتمع، ولكنه الشخص المتحضر الذي يكتشف نفسه دون أن يخرج من السلبية القهرية من جهة، ولا يستسلم لمشاعر الكآبة، وإغواء الموت، والانهزامية من جهة أخرى؛ ومن ثم فقد غلبت على السارد وظيفة اكتشاف العوالم الفريدة للشخوص، كما سمحت بمناقشاته العقلانية لماهية المتشرد، ومطالبه الإنسانية المحدودة في الثقافة المعاصرة.
وأرى أن النزعة الإبداعية الإنسانية العامة هي ما يميز فكر أورويل في هذا العمل؛ إذ يقدم اقتراحاته الفلسفية من داخل النموذج الشخصي لتلك التجارب التي تقع على هامش الحضارات القوية، ولا يفرض حلولاً من الخارج، أو من خطابات سياسية بعينها، وكأنه يقف عند مستوى نقد أسبقية الوضع الاجتماعي على الفرد، وكذلك هيمنته الكلية على سلوكه، وحريته.
وقد بنى أورويل نصه الروائي على ثلاثة محاور رئيسية؛ هي:
الأول: اكتشاف حالات التشرد، وجمالياتها من خلال تجربة البطل في باريس، وتتمركز حول خبرات البحث عن العمل، والجوع، ورهن الملابس، وغسل الصحون، وغيرها.
الثاني: تجربة التشرد في لندن، ويعاين فيها البطل تواتر أزمة المبيت، وتفاصيل الازدحام، والقهر، وإلحاح الأزمات الحتمية في النوم، والنظافة، والطعام، وغيرها.
الثالث: الأنساق التأويلية، والفكرية التي يثيرها السارد حول شخصية المتشرد، وحقه في الحد الأدني للحياة من خلال كسر حاجز العزلة الذي يقصيه عن الفئات الأخرى من المجتمع.
ويمكننا رصد أربع تيمات فنية في النص؛ هي:
أولاً: بين السلبية الدائرية، وديناميكية الأداء.
ثانياً: دلالات ثقافية لتجربة المتشرد.
ثالثاً: انتشار الشخصيات الفريدة.
رابعاً: دلالات استعارية للفضاء.
أولاً: بين السلبية الدائرية، وديناميكية الأداء
ينتقل البطل في نص أورويل – بصورة دائرية – بين البحث عن عمل، والجوع، والآثار المضادة للإنسانية في أماكن المبيت الفقيرة، وميكانيكية الأعمال الهامشية؛ مثل غسل الصحون، أو التشرد مع قبول الإحسان المشروط، وغيرها من المراحل التي تؤدي إحداها إلى الأخرى على هامش حضارة إنسانية قوية، ولكنها تكشف عن إرتجاعات تنبع من بنيتها التي لم ترمم الثغرات بين المراكز، والهوامش انطلاقاً من أصالة الروح الفردية الخفية، والكامنة في شخصية المتشرد كما يصفها النص، ويحرص على إقصائها عن نموذج المجرم الذي يقاوم التهميش بإيجابية مضادة للمنطق الحضاري للإنسان؛ إذ يتسم المتشرد هنا بقبول السلبية الدائرية، ويعيد اكتشافها من خلال استجاباته العقلانية الآلية التي تلتحم بالخواص الفريدة، والإبداعية لذلك العالم، دون أي إشارات لمشاعر الحزن، أو الارتكاز على النزعات العبثية، إنه اكتشاف مستمر لأصالة الفرد الذي يعيد تكوين سلبيته من داخلها.
في سياق تجدد بحث البطل عن عمل يذهب إلى صديقه الروسي/ بوريس، فيجده في حالة جوع شديد، ويقدم له رغيفا، يجهز عليه الأخير بقوة، ويطلب منه الحذاء كي يقتل بقات على مقربة منه، ويخبره بأنه يمكن الحصول على عمل في مطعم روسي سيفتح خلال أيام.
إننا أمام مجموعة من الوحدات السردية التي تؤكد نشاطا فارغا من الناتج، أو القيمة؛ لأنه يبدأ، وينتهي في سلبية دائرية. و تبدو الوحدات السردية في اتجاه السلب في أحداث (بحث البطل عن عمل مع هيمنة الفقدان، وجوع بوريس، واقتراب البق منه).
أما مجموعة الأداء الميكانيكي فتبدو في (التهام بوريس للرغيف، وقتل البق بوصفه نوعا من الإساءة المولدة من السياق السلبي، وتجدد الأمل في البحث عن عمل).
ثمة اتصال داخلي في النص بين النزعة العملية في شخصية البطل، وبحثه المستمر عن الجانب الذاتي في الآخر؛ مثل بوريس، وغيره، وتتواتر الخبرات الإبداعية حول التجربة الذاتية للمتشرد انطلاقاً من إيجابيته الفارغة التي لا تخلو أبداً من الأمل المتجدد في الإمساك بلحظة الحضور بقوة أعلى من جهة، والاكتشاف المستمر لحكمة الوجود المؤقت، واحتمالية تجدده غير المؤكدة من جهة أخرى، إنه يقظ وإيجابي باتجاه العدم، ويعاينه دون خوف.
وقد تجلت ديناميكية الأداء كرؤية مؤولة للوجود الذاتي من خلال أحلام اليقظة التي تعيد تشكيل التجربة وفق لغة تجريبية فريدة تكشف عن الطبقات العميقة للتداخل بين لحظتي الحضور الصاخب للحياة، والإقصاء الآلي المنظم لاستقلالية الصوت الإنساني من خلال تجريد الحتميات وعزلها عن الضمير الجمعي.
وقد بدت أحلام اليقظة واضحة في ثلاث مستويات من النص؛ هي المستوى الاستعاري، ومستوى الحكي، والمستوى الثقافي للصورة.
يقوم المستوى الأول من الأحلام على المماثلة الاستعارية لتجربة الجوع؛ وفيها ينقل السارد التجربة إلى صورة بديلة تجمع بين الفراغ، والوهج، والتحول أو الطيران بحيث يفكك –بصورة غير مباشرة– المركزية الحتمية للجوع؛ فالبطل يؤول نفسه، وحالته العضوية انطلاقا من نشاط الوعي الإبداعي، واستعاراته؛ فهو يشبه الرخويات، أو تم استبدال دمه بماء دافئ، أو يشبه طائر الكوكو في كثرة البصاق الأبيض، وغيرها.
وربما اختار المحار؛ لفقدان الصلابة، والكوكو لهجرانه المستمر لبيضه، ولكنه ينقل خبرة التشرد أيضا لوهج الحياة مرة أخرى في تلك الصور، ويوحي بأنه يعاين نوعاً من أخيلة الخفة من داخل الخمود، وكأنه يوشك أن يخرج من الآلية من داخل مفرداتها.
و قد يؤدي مستوى الحكي إلى تجاوز خبرات التشرد من داخل دائريتها، وكأن السرد يقاوم أي استمرارية ممكنة للمعاناة، أو الإشباع؛ فقد تجرد من الجذر الواقعي، وصار بحد ذاته مصدراً تخيلياً متجدداً للذة المحتملة؛ فقد قص شارلي/ أحد أصدقاء البطل في باريس أنه تغلب على الجوع بحيلة ذكية؛ إذ دفع بفتاته/ إيفون إلى إحدى المستشفيات، وادعت أنها حامل كي تحصل على غذاء مجاني، وقد دامت الحيلة حتى وجد مخرجاً للأزمة.
لقد حضرت القصة هنا عقب انتهاء المعاناة؛ فأصبحت ملهمة للأمل في تحقيق لحظات أخرى من ذلك الوجود المؤقت القوي الذي يقبض عليه المتشردون في لذة تتخاوز القلق بمدلوله التقليدي. وقد تتحول المفردات الثقافية للتجربة إلى صور تأويلية يعبر من خلالها الوعي عن استجاباته الخاصة، دون أن يخرج من سطوتها السلبية؛ فقد وصف السارد صخب التراكم البشري المضاد للهوية الفردية من خلال عملية الاستحمام في أحد النزل الرخيصة بلندن؛ إذ يستحم عدد كبير من الرجال في الماء القذر نفسه مع إصرار البواب على ذلك، وكأننا نعاين لحظة ثقافية تصويرية للعزل الاجتماعي لشخصية المتشرد من جهة، وكذلك تواتر الصخب، والتراكم في تجربته؛ فهو يعاين الأشياء دائما في حالة تطرف؛ فالروائح قوية، والأصوات عالية، ومختلطة، والحشرات تهجم عليه بكميات كبيرة، والقذارة تلازمه في اللحظة التي يحاول فيها التطهر، ويعاين خوفاً صاخباً في عيون الآخرين، ولكن أورويل ينقل تلك الحالات في مواجهة ضمير إنساني صاف ساقته الحياة إلى التشرد؛ مما يعزز من أصالة التعارض، والاختلاف في بنيته.
ثانياً: دلالات ثقافية لتجربة المتشرد
تشكل الدلالات الثقافية في نص أورويل جزءا رئيسياً في نسيج النص، وكذلك فهي محور تأويلي تنبع منه شخصية المتشرد، وتنتج نموذجاً إبداعياً ذا تأويلات ثقافية جديدة تمثل الانشقاق بين الروح الإنسانية المميزة للإنسان المتحضر، وما يفرضه عليه المجتمع من قهر، وعزل، وآلية عبثية، وقد حرص أورويل على سرد مقاطع تحليلية طويلة لتلك الشخصية، وتفاصيل حياتها، ووضعيتها الطبقية في المجتمع الحديث؛ كي يكشف عن نزوعها للكرامة، مع قدرتها على تحويل الآلية إلى رؤى فلسفية، أو فنية، أو طاقة إيجابية.
يعاتب بوريس البطل عندما يحاول أن يخبر إدارة الفندق الذي يعمل به بأنه قد يترك العمل بعد شهر، ويذكره بأن شخصية غاسل الصحون لا تملك ترف الإحساس بالشرف.
لقد تولد خطاب بوريس من الوضع الاجتماعي الهامشي الدائري لغاسل الصحون؛ فحاجاته الضرورية لا تتفق مع القيم الإنسانية في ذلك السياق الثقافي، بينما يجسد خطاب البطل الأصالة المميزة لغاسل الصحون قبل أن يتلوث بالنسق المفروض عليه سلفا، وتتواتر تلك اللحظات التي يشعر فيها البطل بالغربة، والاختلاف من منظور الآخر مع احتفاظه بالروح الإنسانية؛ فقد تغيرت نظرة الناس إليه عقب رهن ملابسه، واستبدالها بأخرى قديمة، ومشوهة، بينما ظل ضميره الحضاري صافياً أثناء الحكي، وكأن الصراع بين القيم الثقافية في المجتمع قد تفجر – بدرجة أكبر – بداخله.
ويصف السارد تفاصيل عمل غاسل الصحون؛ إذ تتميز بالتراكم، والسرعة، وإنجاز أعمال كثيرة بطريقة أفقية، أي في وقت واحد، وهو الوقت الذي يسبق تقديم الطعام، وفي هذه الأثناء يكثر اللوم، والشتائم بين العاملين في المطبخ كجزء من آليات العمل السريع، كما يصف غربة الطاهي عن الوجبة التي يقدمها، وانشغاله بجمال الشكل، دون أن يهتم بالهدف الرئيسي، وهو تقديمها للأكل، وأن درجة تلوث الطعام بالعرق، وغيره تزيد في الفنادق الفخمة.
إن آلية العمل في المطبخ هنا تتميز بالسرعة، والتوسع الأفقي في لحظة الحضور؛ ومن ثم فهي تنقل الإنسان من النظر إلى عالمه الداخلي، وهويته الذاتية، إلى خارج محض؛ ولهذا تكثر ألفاظ اللوم، والسباب؛ كي يقتل السلوك الأفقي أي لحظة تصرف الشخص عن اندماجه في الفعل المكرر، وكأنه طاقة مجردة للأداء السلبي، وهو العنصر الثقافي الثاني للعمل في المطبخ؛ فالوجبة تتميز بالجمال، وتنشق – من منظور العامل – عن بنية الأكل، وكأن السارد يشير إلى فراغ السلع، في سياق المركزية الرأسمالية، من المعنى في الفنادق الكبرى؛ فالجمال الشكلي هنا لا يقترن بالتحويل الفني للواقع كما هو في رؤى ما بعد الحداثة، ولكنه يشير إلى تواتر القهر الداخلي للمعنى الإنساني عند كل من العامل، والمستهلك الذي يدخل بشكل غير مباشر سياق الآلية الأفقية الحاجبة للهوية في تناوله السريع لوجبة مشوهة.
ويشير أورويل في النص إلى غلبة المنطق الذكوري على شخصية المتشرد؛ إذ تعلو نسب المتشردين من الرجال، ثم يحاول إيجاد مخرج للمشكلة من داخل السياق الحضاري المنتج للتشرد؛ مثل تحسين بعض الخدمات، وإمكانية الاستعانة بهم في رصف الطرق، والزراعة كبديل عن تفريغ حياتهم من المعنى.
إن ملمح ذكوية التشرد يوحي بتخييل شكل معين من السياق الثقافي المولد عن منطق القوة الخفي في الحضارة الحديثة، وإقصائه المضاعف للرجل غير المتوائم مع علاقات الصراع، في السياقات السياسية، والاقتصادية، وتعلو درجة التهميش هنا عن وضعية المرأة في المجتمع نفسه؛ فهي في أسوأ الحالات تابع ثقافي، أما الرجل الذي يقع خارج المسار الشمولي فيعاني من سلبية مطلقة، وجبرية، رغم صفائه الإنساني.
ومن الشخصيات الفريدة المؤولة لوضعية المتشرد فنان الرصيف/ بوزو الذي يرى أصالة القسوة على الأرض؛ لأنها كوكب فقير، ولكنها أفضل من المريخ الذي يشوى الإنسان فيه حياً.
وأرى أن سرد أورويل لآراء بوزو يوحي بدلالات ثقافية عميقة، ومتباينة عن أصل التشرد؛ فنعاين في النص العبودية التي تخلفها الحضارة الحديثة، وانهيار العنصر الإنساني في الشموليات المختلفة، ونزوع المتشرد إلى نمط قهري مختلف من الحياة، ثم تعيدنا كلمات بوزو إلى دلالات الخطيئة في سفر التكوين، وما فيه من حياة شاقة يواجهها الرجل في عمله على الأرض، وكذلك حتمية الموت، وقسوة الأرض، وغيرها، وكأن دلالة التشرد تكمن في الأرض نفسها، وفي العالم الكوني كذلك بدرجات أكبر، وهو ما يمنح دلالات الأزمة أبعاداً جديدة، ورؤى تقوم على القبول، والنزوع الإيجابي الذي يساعد المتشرد على إنجاز أكبر قدر من الأعمال الآلية، دون أن يسقط في الحزن الداخلي.
ثالثاً: انتشار الشخصيات الفريدة
يقاوم أورويل في نصه ذلك الرعب المتولد عن اختلاف المتشرد عن طبقات المجتمع الأخرى؛ إنه اختلاف جمالي، وفريد يميز مساراً للحياة يقوم على التعايش مع البؤس، وإدراك حكمته الخفية، وتكشف تفاصيل تلك الحياة عن تجربة عميقة من الاندماج في الآلية، ورفضها في آن؛ فالانقسام بين التلوث الجبري، والأصالة الجمالية للتكوين الفردي هو ما يميزها، ويمنحها حضوراً فنياً متجدداً في النص، والبنى الاجتماعية.
ويصف أورويل مجموعة كبيرة من المتشردين في درب الديك الذهبي في باريس انطلاقاً من التعارضات بين الجمال، والبؤس؛ فهنري يجمع بين الرومنتيكية، والعمل بالمجاري، وإيجابية الحب لفتاة تخونه، والانهيار الداخلي معاً.أما آل روجيه الزوجان القزمان فيرتزقان من بيع بطاقات بريدية، ويعانيان الجوع دائماً، وتنتشر الرائحة النتنة من غرفتهما، وقد انصرفا عن الاستحمام أربع سنوات، ثم يبدأ بمعاينة التجربة من الداخل، فيقصي رعب الاختلاف، ويتحدث عن لذة غياب المستقبل، ومن ثم القلق لدى المتشرد، وكذلك اتساع لحظة الحضور بما فيها من استجابات تجمع بين الميكانيكية، والجمال الإبداعي.
إن أورويل يكشف عن التداعيات النصية، والاجتماعية للتشرد بحيث يبدو التلوث غريباً عن ذلك الحضور الإنساني الذي يلازمه بصورة دائرية عبثية، ولكنها تعزز من وجود مسار مختلف بدلاً من القضاء عن تلك الأصالة الإنسانية الخفية.
رابعاً: دلالات استعارية للفضاء
توحي معايشة السارد للمكان بأنه قد خرج من بنيته، والتحم بجحيم استعاري يعبر عن النزعة الكلية الآلية في المجتمع من جهة، والطرق الإيجابية التي يكتشف فيها المتشرد وهج الحياة داخل ذلك الجحيم الاستعاري من جهة أخرى.
ويذكرنا توجه أورويل الجمالي – فيما يخص المكان – بحديث هربرت ماركيوز عن تطرف السيطرة في المجتمع المعاصر، وإقصائها لفاعلها نفسه؛ إذ يرى أن العالم يتجه إلى أن يصير مادة لإدارة كلية يخضع لها المديرون أيضا حين اندمجت بسياق العقل، وهو ما يشكل نوعاً من الدوامة الحتمية (راجع/ هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، تر: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص193).
إن المكان في النص يفرز نوعاً من الهيمنة الشكلية المطلقة التي تشبه الموت، دون أن تبلغه، ولكنها انفلتت من الحدود الحضارية العقلانية، أو دمجت العقلانية الحديثة بالعبث، ولكن السارد يعيد اكتشافها من خلال غربتها عن ضمير المتكلم، وكذلك ما فيها من موت تمثيلي لا يصل إلى الصمت المطلق.
يصف السارد المطبخ بالقبو، ثم يتحدث في جزء آخر عن التابوت كمكان للمبيت، يقول:
"في التابوت، أنت تنام في صندوق خشبي، يغطيك قماش مشمع.التابوت بارد، وأسوأ ما فيه البق، إذ لا منجاة لك منه مادمت مغلقاً عليك في صندوق".
لقد افتتح السارد وحداته بتكوين الجحيم المجازي، ولكنه توسع في وحدات التكيف، والاكتشاف لجماليات الفضاء الخفية، ولم تقع الوحدات في إغواء الموت المحتمل؛ لأن أورويل يحرص على بقاء الهوية الذاتية بصورة دائرية مع جحيم التشرد دون انفصال لأحدهما عن الآخر.
باحث من مصر