يقدم الناقد العراقي المرموق هنا قراءة لواحدة من أهم الروايات التي صدرت عن الجزيرة العربية وكشفت عن طبيعة التحولات الدامية التي انتابتها في تحولها للوهابية، ووقوعها تحت سطوة الإمارة السياسية التي جاءت بها. قراءة تعتمد الجدل بين التخيل التاريخي وتفكيك الهوية الطبيعية في تلك الرواية الثرية.

التخيّل التاريخيّ وتفكيك الهُويّة الطبيعيّة

عبدالله إبراهيم


1. أخلاق الحرّيّة وأخلاق العبوديّة:
اقترحت الطبيعةُ، في رواية (ساق الغراب) لـ" يحيى اَمقاسم"، دينَ الحرّيّة، وعرضت الثقافة سلطة الاستبداد، فتوازى في السرد مفهومان متعارضان، نزع الأوّل إلى الالتصاق بالطبيعة والاشتياق إليها والاتّساق مع شروطها والمشاركة في الإفادة منها، وأراد الثاني قطع الصلة معها والإقلاع عن الانتماء إليها والأخذ بسياسة الامتثال لمعايير ثقافيّة جاهزة، وتعميم قيمها الدينيّة وجعل الإنسان موضوعًا لها، ثمّ كبح التفرّد، ومحو خصوصيّة الميراث الأسطوريّ، وإحلال نظام الطاعة والخوف محلّ الشراكة والانتماء. وأفضت هذه المنازعة إلى ظهور ضربين مختلفين من ضروب الأخلاق: أخلاق الحرّيّة، وأخلاق العبوديّة. سادت الأولى بالاختيار، وفُرضت الثانية بالإجبار. وقد شكّلت هذه الثنائيّة القاعدة الأخلاقيّة لأحداث الرواية من بدايتها إلى نهايتها، فكلّما حزمت "العشيرة" أمرها لتدبير شؤون حياتها في وادي "الحسينيّ"، دسّت "الإمارة" أتباعها لتفكيك أواصرها، وتشتيت شملها، وإعادة ربط ولائها بـأمير" صَبْياء".

استند مفهوم "العشيرة" إلى القرابة والمصاهرة والمخالطة والمصاحبة، فيما قام مفهوم "الإمارة" على السيطرة والقهر والشوكة والغلبة والطاعة. أرادت القبيلة ربط نفسها ومصيرها بالطبيعة إلى الأبد، فيما أرادت الإمارة بسط نفوذها بالقيم الدينيّة، لتلحق بها "مجتمع الطبيعة" طبقًا لرؤاها ومصالحها. وقع تجسيد هذا الصراع في مكان وزمان على سبيل الإيحاء مرّات، وعلى سبيل التأكيد مرّات أُخر. أمّا المكان المتخيّل فهو السلاسل الجبليّة الوعرة المعروفة باسم "ساق الغراب"، الممتدّة بين اليمن والسعوديّة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربيّة. وهي مرتفعات شاهقة تحيط بها عسير ونجران وتهامة من جهة السعوديّة، وصعدة وعمران وحجّة من جهة اليمن، وأمّا الزمان الافتراضيّ، فالعقود الأولى من القرن العشرين، حيث امتدّ نفوذ الإمارة السعودية إلى الجنوب الغربيّ لشبه الجزيرة، وتوسّع في تلك المنطقة، وأُخذت البيعة لها في "صبياء" في أوّل ثلاثينيّات ذلك القرن، وكانت القبائل في وقت سبق ذلك منهمكة في عقد الاتّفاقات والقواعد والمواثيق فيما بينها، وقد تضاربت ولاءاتها لليمن حينًا، وللإمارة السعوديّة حينًا آخر، إلى أن استوى الأمر للسعوديّة في نهاية المطاف. على أن التخيّل التاريخيّ الذي التزم بحدود المكان المتخيّل، لم يلتزم بتخوم الزمان المفترض، فكان يأتي على ذكر أحداث تعود إلى زمن أسبق من ذلك بكثير من أجل تأثيث خلفيّة أحداث الراوية.

يفيد تحديد الإطار المكانيّ والزمانيّ للأحداث في كشف طبيعة التحوّلات الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة التي وقعت لقبائل "وادي الحسينيّ"، كما عبّرت عنها مجازيًّا رواية (ساق الغراب)، وبخاصّة أهالي قرية "عُصيْرَة" في تحويلها الإجباريّ من الولاء للعشيرة ممثّلة بالمشيخة، إلى الولاء للدولة ممثّلة بالإمارة، وبالتالي انتزاعها من الأسطورة وإدراجها في التاريخ. إلى ذلك فهو مفيد في كشف طبيعة التخيّل التاريخيّ الذي رسم ملامح ذلك التحوّل، مازجًا بين السمة الأسطوريّة والخرافيّة والسحرّيّة لسلوك القبيلة وقيمها، وبين التقرير الواقعيّ القائم على رصد مباشر للتحوّلات التي فرضتها الإمارة، وهي تسعى لتكييف القبيلة في إطارها السياسيّ، فلا عجب أن ترتبط السمة الأسطوريّة بالقبيلة، وتتّصل السمة الواقعيّة بالإمارة، فلطالما رسمت متخيّلات الهُويّة حدود الأوطان، وزيّفت مشروعيّة تملّك الأرض، وتقرير مصير من يعيش عليها.

بُني مشروع الإمارة على خطاب وعظيّ عابر للحدود الجغرافيّة، أمّا القبيلة فجماعة من لحمة واحدة خلقت لنفسها نظامًا متلازمًا لا مكان للغرباء فيه، وأيّ انفتاح يفضي إلى انهيار الهرميّة الأخلاقيّة فيه، فتديم وجودها بممارسة الطقوس والإفراط في الفرح وتوسّل الطبيعة، وبمجرد أن أنتجت الإمارة خطابها الإرشاديّ وسَعت إلى تعميمه على الجميع، تكون قد شرعت في تأسيس سلطة خاصّة بها تشملهم كلّهم، وما أن يتحقّق ذلك حتّى تكون قد وضعت حدًّا يفصل القبيلة عن الطبيعة؛ فكلّ معتقد أو سلطة هو بشكل ما تجريد الطبيعة من قوتها الأسطوريّة، وإتلاف قيمتها الرمزيّة، وبحدوث ذلك ينتقل الإنسان إلى الثقافة التي لا يستقيم أمرها إن لم تتغيّر طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فتصبح الطبيعة موضوعًا للبحث والتجربة والبرهان، بعد أن كانت موضوعًا للاستلهام والتعايش والاعتبار، ويصبح الإنسان موضوعًا لممارسة السلطة.

لم يقتصر التنازع على مفهومي الطبيعة والثقافة، وأداتيهما القبيلة والإمارة، إنّما وجد حضوره بين أسلوبين: رمزيّ إيحائيّ وآخر دعويّ وعظيّ. فوقع تلازم لا يغفل بين القبيلة وطريقة التعبير عن نفسها عبر تصعيد التخيّل الأسطوريّ من جهة، وبين الإمارة وطريقة بسط نفوذها بالتذكير والقوّة من جهة أخرى. ولم يرتسم تكافل بين الأسلوبين؛ لأنّ التنافر ظلّ قائمًا بين القبيلة والإمارة إلى أن خمد ذكر القبيلة، وانطفأ مجدها، وتأتّى عن ذلك أن دمغ الأسلوب الأوّل القبيلةَ بطابعه، وكشف الثاني الرؤية الدينيّة للإمارة في تنفيذ خطّتها لتذويب الميراث الروحيّ والذهنيّ للقبيلة، ثم تسويغ وجودها سلطة وحيدة لا منافس لها في تلك الأنحاء، وقد تناوب الأسلوبان في العالم التخيّليّ للسرد، وكما اصطرعت القبيلة والإمارة فقد وقع تنازع بين الأسلوبين المذكورين.

ثم ينبغي الحديث عن الظفر، فقد انتصرت الإمارة  لأنّها اعتمدت مكرًا طويل النَفَس في اختراق بنية القبيلة وتخريب ركائزها بالوعظ والإرشاد، حينما أرسلت مُصلحًا تسلّح بالقرآن لضمّ القبيلة تحت جنح الإمارة، فجرى توسّع مفرط في ذكر القيم الدينيّة لأهل التوحيد في الإمارة، من أجل إقصاء الأعراف المتوارثة في القبيلة. وانتهى الأمر بأن ارتسم خلاف عميق بين العرف والعقيدة. وفيما عرضت القبيلة ذاتها في إطار أسطوريّ أشبه ما يكون بالأناشيد الكونيّة التضرعيّة لدوام الحال، ومنح الرفعة واستجلاب الخصب وحفظ النسب الشريف من الأجداد إلى الآباء فالأبناء، جعلت الإمارة من التاريخ السياسيّ إطارًا مُحكمًا لفرض سلطتها، فأعادت صوغ القبيلة في إطار مجتمعيّ هجين، مزج بين الترهيب والترغيب في سعي دنيويّ للسلطة دون الاهتمام بالقاعدة الشرعيّة الداعمة لها.

بدت القبيلة مستودعًا لذاكرة جماعيّة مملوءة بالأساطير والخرافات، فهي تحاول ربط ذاتها بنسب شريف تتواتر فيه مهابة الآباء وتقديس الطبيعة، لكنّها عجزت عن الانخراط في حراك تاريخيّ يعيد توزيع الأدوار بين أفرادها ويقبل بالمتغيّرات، وانتهى أمرها إلى جماعة تستعيد أمجاد الماضي بمقدار ما تعيد روايته لأبنائها. على أنّ القبيلة كانت تريد هُويّة ومشروعيّة، فيما تريد الإمارة سلطة وطاعة، فكانت تمنح رضاها بمقدار الولاء، وتنزعه في ضوء العداء، فلاذت القبيلة بالطبيعة خرافةً وسحرًا، واعتصمت الإمارة بالعقيدة وعظًا وإرشادًا. وعلى مستوى أعلى كانت القبيلة تصوغ هُويّتها بفكرة الانتماء لزمن سحريّ دائريّ، يهبها الخلود عبر قرابة الدم والمصاهرة والخوارق والشراكة، أمّا الإمارة فتسعى إلى تعميم سلطتها الدنيويّة بذريعة دينيّة تكبح فيها الممارسات البدائيّة عند القبيلة، وبها تستبدل يقينًا أسمى وانصياعًا أكمل، فكانت تتريّث في الإجهاز على القبيلة التي تماهت مع أساطيرها وتخيّلاتها، إلى أن تمكّنت الإمارة من صوغ أسطورتها الخاصّة بالتبشير الدينيّ والإغراء الماديّ، وتفكيك النواة الصلبة للقبيلة.

وارتسم الصراع بين القبيلة والإمارة على مستوى الطبيعة والأسطورة والتاريخ. تريد القبيلة أن تديم اتّصالها بالطبيعة على نحو لا فكاك فيه، وتريد أن تبلور هُويّتها بنسيج متضافر من المرويّات الأسطوريّة، وتريد أخيرًا أن تتبوّأ مكانة لا يضاهيها أحد في ذلك، ووسيلتها شرف الانتساب والمَنعة، أمّا الإمارة فتريد كبح السحر الأسطوريّ للطبيعة، فيكون التاريخ أرشيفًا للحكم وليس للمآثر، ووسيلتها لتحقيق ذلك المكر والدهاء من جانب، والموعظة والنصح من جانب آخر، ثمّ الأمر بهما معًا.

والحال هذه، فقد بدت القبيلة شديدة الاتّصال بالسماء رفعةً وعلوًّا، فهي تعتصم بقوّتها وحرّيّتها وميراثها، فيما ظهرت الإمارة مرتبطة بالأرض، فلا هدف غير بسط سلطتها، وبمقدار ما بدا طموح القبيلة رفيعًا في سموّه، ظهر تطلّع الإمارة دونيًّا في هدفه، ذلك أنّ إفراط الإمارة في الاستئثار بالقبيلة، أنتج الأفعال الشنيعة للقبيلة باعتبارها محاسن لصون تاريخها الأسطوريّ، وبإزاء تقريظ متحيّز في السرد لمصير القبيلة، قُدّمت صورة قاتمة للإمارة بوصفها سلطة أرضيّة جعلت من الوعظ ذريعة لبسط نفوذها. ولا يمكن على مستوى التأويل السرديّ إلاّ ترجيح الانحياز لجماعة غير تاريخيّة اعتصمت بالأساطير العمياء دفاعًا عن هُويّتها، وتخوم وطنها، ومجافاة جماعة تاريخيّة تذرّعت بالعقيدة بسطًا لنفوذ سياسيّ، فالصراع بين القبيلة والإمارة ارتفع إلى مستوى النزاع بين الأسطورة والدين، فكلّ منهما يريد الاستئثار بشرعيّة ما، فيفرط في تأويل الذخيرة الثقافيّة لديه، ليجعل منها المانح لمشروعيّة وجوده التاريخيّ.

تعوم أحداث الرواية على شبكة متداخلة من الأساطير والمعتقدات التي لها صلة بالدم والعهود والمواثيق والأفلاك والخصب والخوارق، فتركّب موروث القبيلة من ممارسات متّصلة بالطبيعة، ووجدت معتقداتها تعليلاً سحريًّا غامضًا في ظواهرها، فاتّخذت سمة الابتهالات الكونيّة، وتوسّل الطبيعة لجلب الرياح والأمطار والاحتماء بالجبال بها حصنًا يذود عن القبيلة التي تدين بالولاء للمشيخة الرفيعة المقام، فالأمّ "صادقيّة النّماري" من الأشراف، وزوجها وهو ابن عمها الشريف "مشاري" ينحدر من السلالة نفسها، وكذلك سيكون ابنه عيسى، وحفيده حمود، وجميعهم يصعدون بنسبهم إلى جابر بن خير الخير. تلوذ القبيلة بدم الانتساب للدفاع عن نفسها، وتشهر الإمارة سلاح العقيدة لبسط هيمنتها. استخلصت القبيلة هُويّتها من الأعراف وصلات القربى والعلاقة بالأرض والمواقع الرمزيّة للأفراد، فضلاً عن السلوك العامّ الذي يقوم على الشراكة والنخوة وطرائق التفكير المتماثلة والمصير المشترك، وصاغتها بتاريخ شفويّ حملته مرويّات أخذت القبيلة بها، وطبعته بطابعها، فعمّمته وصارت تعرّف به، وأصبحت تلك الهُويّة فاعلة حينما ارتسم تهديد خارجيّ ضد القبيلة مثّله "الآخر" القادم من الشمال، فلجأت إلى الاتكاء على أمجاد الماضي، وأصبحت الهُويّة ملاذًا تحتمي به من خطر الآخرين. لا تظهر الحاجة الفعليّة للهُويّة إلاّ حينما ينبثق خطر مفاجئ مصدره الآخر، أو أن يتضخّم شعور مَرَضيّ بالذات بسبب تراكم المرويّات المتخيّلة، فيصبح الشعور بالهُويّة هوَسًا يسري في أوصال الجماعة.

2. قوّة النبوءة وأسطورة المصيرّ:
بدأت أحداث رواية (ساق الغراب) بنبوءة توكيد، ثمّ نبوءة نقض. تنبّأ الشيخ "عيسى الخير" كبير القبيلة استنادًا لما روي له عن أبيه الشريف "مشاري"، بأنّ حاكمًا سوف يفد من مدينة تبدأ بحرف "ص"، فيغزو قرية "عُصيره"، فيكون إمّا من "صَبياء" أو "صَعدة" أو "صَنعاء"، وقد تحقّق ذلك من قبل بظهور الإدريسيّ القادم من اليمن، فأسّس إمارة مهابة الجانب بسطت هيمنتها على الوديان والجبال، أمّا الآن فقد أطلق الشيخ عيسى نداء الحرب ضد "الغرباء" القادمين من الشمال على جمالهم يغزون وادي "الحُسينيّ"، فينبغي إبعاد النساء والأطفال والشيوخ عن ميدانها، وترحيلهم إلى الجبال، ثم حشد الرجال كلّهم لخوضها حتى الموت، فهي حرب المصير ضد غرباء قدموا من الصحارى الشماليّة لا يلوون على شيء، غايتهم تكوين دولة تمحو كلّ التشكيلات القبليّة القائمة في "سوق الغراب" وسواها من المناطق، وتمحق الإرث المشترك لقبائل الجنوب قاطبة.

جرف نداء الحرب مشاعر الرجال إلى اختيار النزال أسلوبًا للذود عن بلاد ما عرفوا غيرها وطنًا لهم، فهبّوا غير عابئين بنتائجها، يريدون مواجهة الشماليّين الذين يوسّعون حكمهم عامًا بعد عام، ويطوون القبائل تحت أذرع إمارتهم الجديدة، فتكون نبوءة الابن قد استعادت معنى نبوءة الأب، وفيما مثّل الأدارسة تلك الإمارة القديمة، فإن "قوم الذلول" هم الممثّلون للإمارة الجديدة. ظلّت أطماع الآخرين بوادي "الحسينيّ" قائمة لا تتغيّر، تتوارى إمارة لتعقبها أخرى، وبما أنّ العنت والمنعة صفة ورثتها القبيلة في دمائها أبًا عن جدّ، فلا خيار سوى الحرب. وعلى هذا أطلق الشيخ صيحتها في أرجاء الوادي.

لكنّ الأمّ "صادقيّة" التي قادت القبيلة لأربعة عقود بعون من "قوم الجبال الخارقين"، والعارفة بالطوالع من أخوالها الجنّ، والمتنبّئة بالأحداث الآتية، وقفت أمام الكارثة الجديدة، فتدبّرت حكمتها الغامضة، وحدست النتائج قبل حدوثها، إذ أبصرت ما سوف يأتي في قادم الأيام، فحاولت أن تثني قومها عن قرار الحرب، لتصدّهم عن مغامرة غير مأمونة العواقب، ولذلك دعت إلى إبطال قرار الجلاء عن الوادي إلى ذرى الجبال وسفوحها، تقصد بذلك أن تردّ قومها إلى صوابهم، فخاطبت ابنها عيسى الخير: "لا تذلّ بلادك بحرب ما لها ذكر في كتاب عندي"(1). حاولت الأمّ كبح الغلوّ الحربيّ لقومها، وحذّرتهم ألاّ ينجرفوا وراء أهواء ابنها في نزال لا قبل لهم به، لكنّ موجة الانفعالات المتصاعدة بين الرجال كسحت في طريقها أيّ تحذير باعتبار أنّ عُصبة "عُصَيْرة" هي التي تمنح المشروعيّة لأيّ حكم في تلك المنطقة، فلا يتبوّأ أحد مقامًا إلاّ بأمرها وموافقتها. ولم يحدث أن حلّ غاز بأرضهم وانتزعها عنوة من قبل، فكيف سيكون أمر القبيلة وقد سلبت بلادها "بيد غرباء لا مكان لهم هنا بتاتًا؟"(2).

وفدَ "الغرباء" من الصحراء على إبلهم إلى هذه الجبال السامقة، والوهاد العميقة، ينشدون الحكم وبسط النفوذ، فهل ينبغي على القبيلة تسليم أمرها لهم أم مقاومتهم؟ لم يؤخذ برأي الأمّ العليمة، وما لبث أن جُرّد وادي "الحسينيّ" من النساء والأطفال والعجزة، خوفًا من وصول الغرباء ووقوع الحرب، فنزحوا لائذين بالجبال في قافلة قادتها الأمّ على غير رغبتها. وكلّف الصبيّ "حمود عيسى الخير" بالمشاركة في عمليّة الإجلاء إلى سفوح الجبال، وحُذّر ألاّ يترك مهمّته ويلتحق بالمقاتلين، فهو غير مختون، ولا يجوز له خوض الحرب، وواجبه أن يساعد الأمّ في إيصال نساء القبيلة وأطفالها إلى منطقة تكون فيها بمأمن من حرب الرجال. ولن تكون ذرى الجبال وسفوحها دون ما تنتظره قبيلة سحرت بالأعالي مجدًا وحياةً، فخيّمت هناك، وبدأت تبني عششها على حافة الجبال الشاهقة، فإذا كان لقبيلة "عصيرة" أن تحمي نفسها من الفناء الذي ارتسم في الأفق، فلتكن أعالي "ساق الغراب".

مضى يومان على انتظار القبيلة دون أن يظهر قوم "الذلول". وفي أوّل اليوم الثالث برزت قوافلهم قادمة ناحية الوادي، فلم تتح فرصة للتفاوض بين الطرفين، إذ بدأت الحرب برصاصة أطلقها محارب القبيلة "بِشَيبش" لأنّه تخفّى في خندق أماميّ يصدّ منه الأعداء، وبذلك تكون قد "رُفعت أوزار الحرب"، لكنّ قائد الحملة الشماليّة، الذي لا يعرف المكان ولا عدد الرجال المقاومين في الوادي، تمعّن في سوح الوغى وتضاريسها الوعرة، وخمّن أنّ قومه ربّما وقعوا في مصيدة لا فكاك منها، فعرض وقف إطلاق النار، ولأنّه لم يقدم إلى هذه البلاد إلاّ لإصلاحها فلا ضرورة للحرب مع أهلها، فطُرح مبدأ التفاوض بدل خوض قتال لا تعرف نتيجته، وانتهى الأمر بأن انعطفت حملته جانبًا متحاشية الوادي، وواصلت غزوها تفتح بلادًا مجاورة، فيما توهّم أهل "عصيرة" بأنّهم حقّقوا نصرًا أكيدًا على عدوّ مترحّل يفتح البلدان، وينصّب الأمراء، ويمضي ناشرًا عقيدته، وباسطًا سلطته في أرجاء شبه الجزيرة.

أُنذرت قبيلة "عُصيرة" بوجود خطر على مشارف أرضها، وخيّم الشعور بالخذلان على شيخها، لأنّ حَمْلة الشماليّين مرّت بجوارهم، فزعزعت أمرهم، ولا يقين بألا تنثني عليهم مرّة أخرى، وتأخذهم أخذ غافل، فأبقى رهط النساء والعجائز والأطفال مقيمًا في سفوح الجبال لا يستطيع عودة إلى الوادي مع احتمال ظهور الأعداء ثانية. كانت الأمّ قد حذّرت من النزوح عن القرية، فلم يؤخذ برأيها، وها هي الآن تعيد توطين القبيلة على شفا منحدر جبليّ شديد يدعى "القايم"، بعد أن عقدت اتّفاقًا مع أعيان تلك المنطقة "الذين رحّبوا بهم كما ينبغي لذوي المكانة والجاه العالي أمثالهم، وقد طمأنتهم أنّ الغزاة لا مكان لهم في ذاكرتها، ولم ينبئ أيّ كتاب من قبل بحرب كهذه"(3).

في هذه الليلة ولدت "شريفة" ابنة المحارب "بِشَيبش، وتوفيت أمّها في أثناء مخاضها؛ فحدث اتّفاق غريب، إذ كان أبوها قد ولد في يوم موت أمّه، وولدت ابنته في ليلة موت أمّها، فأمّه وأمّها ماتتا في حالة مخاض متعسّر، وكما ربّته خالته صادقيّة، فسوف تربّي ابنته شريفة. انطوت نبوءة الأمّ على تحذير واضح لقومها بألاّ سبيل لهم في اعتراض ظهور دولة جديدة يقيمها الشماليّون سوف تضمّ الجميع إليها، وسيلتحق بركبها أبناء القبيلة كلّهم، لكنّ تلك النبوءات لم تؤخذ مأخذ الجدّ من رجال غرقوا في أوهام المجد، فعادوا غير قادرين على معرفة موقعهم في التاريخ، وافتقدوا البصيرة النافذة التي تؤهّلهم لحماية القبيلة في مواجهة خطر راح يتعاظم أمره يومًا بعد آخر، إلى أن استقام قوّةً كبيرة التهمت القبيلة وأساطيرها.

أحدث انكفاء قوم الذلول إلى مناطق أخرى، والتحاق عصبة "عصيره" بالنازحين إلى صدر جبال "ساق الغراب"، تغييرًا في موقع القبيلة، فقد تخلخلت علاقتها بوادي الحسينيّ، فثمّة قوّة جديدة طرأت، فهزّت اليقين الراسخ لديها بأنّها في منأى عن أن تكون تابعة لسواها. وفيما التحق الرجال بالنساء اللائذات بالجبال، رابط المحارب "بشيبش" عينًا راصدة لكلّ طارئ، خوفًا من أن يعود قوم الذلول فيغدروا بهم. أقسم بألاّ يلتحق بقومه إلاّ بعد أن يأمن شرّ الخطر الذي يهدّدهم، فلم يكن يعرف أنّ زوجته قضت في مخاضها العسير، وأنه أصبح أبًا لطفلة يتيمة. وبإحجام الطرفين عن المنازلة الفاصلة أسرفت السماء بمطر غزير، فاعتكف "بِشَيبش" على نفسه في كهف يحميه من السيول، يستعيد مجد قبيلته، "كان يجوب سنوات عمره ذات العقود القليلة، فلا يقف على منقصة واحدة لحقت ببلاده، ولا يتذكّر مغرمًا تمنّوه لم يحقّقوه أو عجزوا عنه، وما كان لهم هذه الحياة الطولى إلاّ بقوّة لا مثيل لها، كانت لهم ويقسم أن يبقوا عليها". لأنّه أخذ بمبدأ القوّة التي اعتبرها حقًّا مطلقًا "فلا مبرّر لهم في العيش كلّ هذه القرون إلاّ بالقوّة التي وهبتهم حقًّا بالمطلق"(4). فبقوّتهم الغاشمة حازوا أرض غيرهم، وحجزوا مياه الأمطار دون سواهم، ودكّوا حصون الأعداء، وبتلك القوّة العمياء أخذوا في بناء قبيلتهم. وقد أصبحت كلّ تلك الأمجاد موضع شكّ بعد أن نزحوا عن ديارهم واحتموا بالجبال. استعاد المحارب تاريخ قبيلته في تلك الليلة الممطرة، وقلّبه على وجوه الاحتمالات كافّة، فارتسم أمامه أفق مظلم، إذ لم تبق بلاده موطنًا للرجال في ظلّ تهديد الغرباء وتعاظم قوتهم، ثم تذكّر زوجته "مريم" وهي في آخر أيام حملها قبل النزوح إلى الجبال. ولم يعرف أنّها ستصبح ذكرى أليمة. وحينما بلغه نبأ موتها انبتّ جزء أصيل من صلته بوادي الحسينيّ، فقدَ رفيقته وحدس بأنّه سيفقد بلده؛ فغيابُ خليلةٍ قد يفضي إلى فقدان وطن.

أكدت الأمّ العمياء صادقيّة أنّ الانتماء للأرض هو فعل أصيل لا يجوز للقبيلة تخريبه والتلاعب به، وبنزوحها عن الوادي تكون قد أخلّت بميثاق وجودها وميراثها وهيبتها. فكان ابنها "عيسى الخير" الذي أصدر أمره بذلك هو موضوع لومها وعتبها. انتزعت الأمّ مكانة رفيعة الشأن في قومها، فمعرفتها بمواقع النجوم وأحوال الطقس والأسرار الخبيئة والتوفيق بين عشائر القبيلة، "جعلتها ذات مكانة مرموقة وشخصيّة مطاعة". وقد أشيع عنها أنّها اكتسبت قوّتها الروحيّة من "أخوالها الجنّ"(5). فكانت تدبّر أمر قومها في محنة النزوح، وتقوم بتنظيم العمل في الحقول، ولمّا كان الرجال قد انصرفوا إلى الاستعداد للحرب، فقد تولّت النساء شؤون الحياة بإشرافها.

3. ختين القبيلة: الاعتراف وطقس الدم:
لم يكن قرار الغرباء الاستيلاء على أرض القبيلة وحده ما كدّر عيشها، فما ضامها هو منع "طريقتهم في الختان"، فذلك مساس بالرجال حال دون تفاخرهم بأبناء يشدّون من أزرهم، ويذودون عن قبيلتهم، كما أنّه أفرغ قلوب الأمّهات من بهجة رؤية أولادهنّ يعتلون رتبة الرجال، فتكون الإمارة بذلك قد بدأت بتشتيت "مباهجهم العظيمة" حينما أرسلت رجالاً يطوفون في القرى، فيقومون "بختن كلّ من يجدونه دون ختان، وكان في هذه الطريقة من الذلّ البالغ ما لا يمكن وصفه لدى القبائل"(6). وكلّ من رفض الانصياع لهذا الأمر، فقد وضع نفسه في عداء صريح مع الإمارة، ومع الشريعة. فيما كان الشيخ "عيسى الخير" مشغولاً بالحال الجديدة التي أصبحت عليها قبيلته، محاولاً تحاشي مواجهة الإمارة التي كشفت عن ذراع قوّتها بضروب كثيرة من الأفعال، كان ابنه "حَمُود" يكبر تحت رعاية جدّته "صادقيّة"، فلا يكفيه أنّه قد تعرّف تقاليد أهله من جدّته فحسب، إنّما وجب إعداده للقيادة في المستقبل. ومن أجل أن يؤهّل لذلك، فلا بدَّ أن يختن، فذلك هو الاعتراف به رجلاً. حينما ولد "حمود" حملت غجريّة راحلة حبله السرّيّ معها تيمّنًا بنسله الشريف، لذلك تنبّأت له جدّته بأنّه "سيقضي عمره باحثًا عن حبله السرّيّ في سُرر النساء العابرات". وكانت تتمنى لو دفن حبله في بلادهم.

لم يكن "حمود" وحده بانتظار الختان، بل "شريفة" أيضًا التي سبقته إلى ذلك حينما كشط الجزء العلويّ من بظرها وهي صغيرة. وكما سيكون هو وريث أبيه عيسى في القبيلة، ستكون هي وريثة الأمّ صادقيّة، لكنّها وراثة أفضت إلى نتيجتين مختلفين، ففيما فشل هو في المضيّ بمسار الأب إلى النهاية، فأنهى بذلك دور السلالة الشريفة بضعفه وشغفه بالملذّات والمتع، مضت هي في الائتمان على تركة السلالة كما حلمت بها الجدّة، فأصبحت جزءًا لصيقًا بذرى الجبال في دلالة رمزيّة على أنها انتشلت السلالة من كبوتها التاريخيّة، وارتقت بها رمزيًّا إلى مستوى الأسطورة. لعبتْ طقوس الختان ودفن حبل السرّة، دورًا كبيرًا في تحديد مصائر الشخصيّات رجالاً ونساءً في رواية (ساق الغراب). يحفظ الختان للمرأة عفافها حسب الأعراف السائدة، ويضفي على الذكر رجولته، وحيثما يدفن الحبل السرّيّ فسيكون همّ صاحبه. وغالبًا ما يطمر حبل النساء تحت أرضيّة البيت، ليبقين على عصمة الشرف يلازمهنّ طوال الحياة، أمّا الرجال فتدفن حبالهم السرّيّة خارج البيت، "لينالوا من صروف الزمن عند كبرهم أشدّها امتحانًا لرجولتهم وبأسهم على الحياة"(7). ولكنّ الحبلين السرّيّين لحمود وشريفة لم يدفنا في المكان الذي ينبغي أن يكونا فيه؛ فقد راحت الغجريّة بحبل حمود، أمّا حبل شريفة فدفن جزء منه في بيت الشيخ، ودفن الجزء الآخر في مكان مجهول من أجل أن تظلّ شريفة "تقتفي حبل سرّها حيث يكون فلا تبارح مكان دفنه مطلقًا"(8). وكانت صادقيّة تخطّط من أجل أن تكون شريفة زوجة لحفيدها حمود، كي تنعقد أواصر اللُّحمة مرّة أخرى، بعد أن تهرّأ نسيجها بسبب التهديد الخارجيّ، وعجز جيل الآباء عن القيام بمهمّة الحفاظ على كيان السلالة.

أمضت القبيلة نحو سنة عند منابت الجبال بعيدًا عن قريتها، وشيئًا فشيئًا تضاءل خطر "قوم الذلول"، فكان أن تزوّج الشيخ عيسى بـ"هديّة" جميلة القبيلة في عرس بهيج، ولكنّه لم يتمكّن منها، فمرر خدعة افتضاضها، وبقي ذلك سرًّا إلى أن كشفت "هديّة" أمره لأبيها في لحظات احتضاره، إذ كان قد أوصاها بالحفاظ على بكارتها، فأسرّته أنّها لم تفرّط بعذريّتها، فحافظت على بيت أبيها "كما أوصاها ليلة زواجها، فما زالت بكارتها على رباطها، وما نشر للنساء من دم بالشرشف في اليوم التالي على الزواج، كان دم الجارية "زهرة" التي جرحت قدمها عمدًا، وذلك حفاظًا من الأمّ على ماء وجه ابنها الشيخ الذي قضى يومه التالي هائمًا بحرقته في الخلاء، ثمّ شهدا حياتهما لمدة تقارب عقدًا من الزمان دون أن يطّلع على هذا السرّ أحد، ما عدا الأمّ والجارية والشيخ"(9).

حينما عادت القبيلة إلى موطنها بعد عام قضته معلّقة في سفوح الجبال، كان "حمود" قد أصبح في السادسة عشرة من عمره دون أن يختن. يقتضي العرف أن يكون الختان في نحو العشرين من العمر. لم تكتمل رجولة الفتى، وثمّة شيء جوهريّ ينقصه، فلكي يعترف به رجلاً في معترك القوم، فلا بدَّ من ختان مشهود. بدأ الضغط عليه من محيطه العائليّ، ومن نفسه التي تريده رجلاً، وصار يغالب حرجًا بين الإقدام على الختان أو انتظار الموعد الذي فرضته عادة القبيلة. ثمّ اندلع الشكّ برجولته حينما عايره "بشيبش" بأنّه غير مؤهّل للبتّ في أمر ملكيّة "شريفة" ابنة السادسة في أرض منحتها جدّته "صادقيّة" للطفلة التي تربّت في كنفها، فيما لم يعترف "بشيبش" بأبوّته لها ولم يقرّبها إليه. فكانت تلك الواقعة بداية انشقاق في صلب القبيلة، أدّت إلى هجرته للديار في اليوم الذي ختن فيه حمود نفسه، ففقدت القبيلة محاربها، واكتسبت رجلاً جديدًا أخطأ في بتر غُرلته.

استجاب "حمود" للاستفزاز بطريقة متهوّرة، فتوارى عن الأنظار وختن نفسه، وبذلك يكون قد خرج على أعراف القبيلة وقوانين الإمارة. وجرت وقائع الختان بالطريقة الآتية: "أمسك بفأس، لنصلها وميض خاطف وهو يقتعد قطعة خشب كبيرة داخل الأحراش عاريًا وواضعًا ذَكَره على حجر صوان يلمع أمامه كسطح غَيْل ساكن، وذلك استعدادًا لعمليّة الختان، دون اكتراثه للمرحلة الأولى من هذه العمليّة، إذ يلزمه ابتداء إدخال بعرة من بعير من خلال قَلَفته دافعًا بها الحشفة إلى أقصى حدّ لتحمي ذَكَره من أيّ خطأ محتمل، وليأتي النصل على كامل القَلَفة دون سواها، إلاّ أنّه اكتفى بسبابته عوضا عن البعرة، حيث غرس أصبعه للداخل، حاشرة حشفته إلى منبت قضيبه، ثم عند الحدّ الفاصل بين ظفر إصبعه ورأس ذَكَره ضغط بنصل الفأس، وعندما اطمانّ أنّه خلص إلى بغيته أخرج إصبعه، لتتمدّد القَلَفَة على الحجر كجزء من خرقة قماش بالية، وعليه أن يجزّها سريعًا ثمّ يُكمل ختانه عندما يسلخ الجلد من عانته وحول ذَكَره وباطن فخذيه، محقّقًا بذلك عادة أجداده في الختان. فيما هو في حالة تأهّب سمع من خلال الأحراش، وبعيدا عن نظره لهاث رجل يحمل سوءًا لا يعلمه، ولكنّه لن يردعه عمّا سيفعله شيء كما قرّر، ولن ينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم، رغم العقاب الذي سنّوه لمن يقوم بختان نفسه. هذا ما عزّزه بداخله قائلاً لنفسه: "يقتلونني .. لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي وأنا ابْن عُصيْرة"(10). وشرع يكرّر نداءه وحيدًا ليتقوّى به على الموقف الذي كان فيه، "وعندما صرخ بأنّه ابن تلك القرية استحثّ من أعماقه مواقد الإقدام، وأشعل في شخصه فتيل الشجاعة، ليتدفّق الدم إلى أعلى رأسه حاضًّا حماسه لإنهاء الأمر، ولم يتبدّد صمت الأحراش في تلك الظهيرة من صراخه بتلك العبارة، ولم تفرّ الطيور من بين الأغصان الكثيفة، إلاّ وقد رفعت يده الحجر الآخر وهوت به دون هوادة على رأس الفأس الذي نفذ نصله لملامسة الحجر الأملس، باترًا بذلك قَلَفته التي قفزت على التراب، وشخب الدمُ سريعًا مبهورًا بمخرجه. وقع الفأس بمحاذاة الحجر المدمّى، وهو يستبشر فخرًا بما فعل، لكنّه أدرك خطأ فادحًا ارتكبه إذ تشكلت الدماء من حوله بشكل مخيف لم يسبق له أن سمع بحالة مماثلة له! تمعّن جيّدًا وشعر بوخز مريع، ثم وجد أنّه قد بخس حشفته تكوّرها البيضاويّ بمزقٍ نال من طرفها الأيمن، وترك هذا المنظر الغريب في نفسه شيئًا من الرهبة، فعدل عن إكماله سلخ جلد عانته وباطن فخذيه، كما كان يجب عليه تحقيقًا لتمام العمليّة، وعدلاً لعادتهم في الختان.

فكّر في والده الشيخ "عيسى الخير" الذي سيعالج الأمر لا محالة، وبهلّ في التراب المعجون بالدماء حتّى وجد ضالّته الضئيلة من الحشفة، وأسرع في تفقّد منافذ الأحراش وأيّ طريق سيكون سلكه آمنًا من أعين تتربّص به لوشاية ما تدسّها بأذن أمير "صَبْيَاء"، فأعداء والده كُثر ولا بدَّ أنّ تطهيره لنفسه سيكون نكاية بأبيه من قبلهم، لدى الأمير الذي يُحذّر من اقتراف هذا الفعل، وإنّ القصاص ممّن يرتكبه سيكون قاسيًا. برغم وصوله خِفية إلى البيت إلاّ أنّ أعين الظلام في القرية لا يمكن مغافلتها، هذا في تقدير أهله الذين من فورهم تيقّنوا تمامًا للخطر المحدق، فأسرع والده في إخفاء ابنه عن الأنظار، ورتّب مع نفر من خاصته تطبيب الجرح، ثم تدبّرت الأمّ مع الجارية "زهْرَة " دفن الجزء المبتور من حشفة الصبيّ"(11). دُفن الجزء المبتور من الحشفة تحت شجرة السدر، وعُرف حمود إثر هذه الحادثة بكنية لها صلة بالأمر، هي "أبو حشفة".

أصبح مصير القبيلة في مهبّ الريح، فلم يقتصر الأمر على خطر خارجيّ يهدّدها مثل تأسيس قوم الذلول إمارة لهم في "صبياء"، إنّما تزعزع حالها من الداخل، فقد بدا الأب معطّلاً من الناحية الجنسيّة غير قادر على التعبير عن ذكورة يقتضيها دوره في عالم مملوء بالنساء، فكان لا بدَّ من إخفاء عُنّته، فلا يعرفها غير أمّه وزوجته وجاريته، وها هو وريثه يخطئ فيبتر جزءًا من ذَكَره في حالة هياج عابر. وبغمز "بشيبش" من رجولة حمود فقد اقترف خطأ جسيمًا، إذ لم يكتف بتشويه ذكورته، إنّما خالف قرار الإمارة التي كانت أصدرت أمرها بمنع هذا النوع من الختان، وراحت "تنشر لجانًا في المنطقة تسير بين القرى وتقوم بختان البالغين، وذلك لإنهاء طقوس الناس في هذا الأمر، التي ما زالت تقام سرًّا، وبشكل متكرّر، خلافًا للأوامر المسنونة في ذلك، وبحسب ما أشيع في الناحية، فإنّ القتل سيكون عقابًا لمن يقوم بعمليّة الختان لنفسه، أو لمن يقوم بها عنه، فتلك الطريقة محرّمة كما وصفها رجل الدين والمفتى في دار الإمارة حينئذ، ووفق رأيه الذي تناقله الناس فإنّه عمل خارق لتعاليم الدين"(12).

لم ينفرد حمود بالخطأ، فقد سبقه "ابن شامي" قبل عقود حين وقع في خطأ مماثل، فعلى إثر ختانه راح الرجال يسخرون منه بسوء ختانه، وتشوّه ذكره، فتوارى عن الناس في يومه ذاك وقد حمل سكينًا وصفت بأنّ لها "نصلاً يقطع الريح وغدا يسلخ بها جلد العانة إلى أن سحل كامل الجلد المحيط بذكره، وعاد يسير في أزقّة القرية عاريًا يتباهى بفعلته، وملجمًا كلّ لسان يعرّض رجولته بالنقصان".

وضع ختن حمود لنفسه أباه الشيخ وجدّته صادقيّة في خوف، فهم يعطون للإمارة ذريعة للعقاب بعد امتداد نفوذها إلى معظم المناطق المجاورة لهم، فراح الشيخ يتحسّر على قومه الذين كانوا "أولو باس" فأتى عليهم زمان بقوا فيه "مكتوفي الأيدي أمام قوم لا يعرفونهم ولا ينتمون لبلادهم بأيّ صلة". إنّه لوضع مذلّ لا يمكن أن يتصالح معه. واتّضح له أنّ عصبته المشهورة بقوّة شوكتها، سوف تنزف كلّ "مفاخرها وأمجادها أمام حكم جديد وسطوة غريبة"(13). وكان لا بدَّ من ممارسة الخديعة، إذ ينبغي إجراء مراسم ختان مزيّفة تخفي ختان حمود لنفسه، وعلى هذا أعلن عن المناسبة، ودعيت القبائل، بل دعي أمير "صبياء" لحضور حفل الختان، لكنّه أرسل نائبًا عنه. وجرت طقوس الختان بدمويّة لا تقلّ شأنًا عمّا قام به حمود من قبل، فمن أجل إشهار ذكورة، فلا بدَّ من سيل دماء، إذ "أمسك الختّان بالقضيب الجريح، وسحبه إليه بشدّة بالغة، و"حمود" انتصب كجذع شجرة عتيق، يرنو إلى السماء بنظرة حادّة لا يتزحزح من مكانه متمسّكًا بطرفي عصًا غليظة مُدّت على كتفيه من خلف رقبته، وقد نثروا على قدميه الحافيتين رملاً لو تساقط فسيعرفون أنّه اهتزّ، ممّا يعني أنّه خائر مهزوم، وتأكيدًا لرجولته التي هي بذرة رجال أفذاذ سبقوا، وقف عمّه "سُبَيع" و" بِشَيبش" خلف الختّان في مقابلته يصوبان بندقيتيهما إليه، وقد أقسما له فجرًا أنّه لو رمش جفنٌ منه فإنّ الرصاص سيُغادر ظهره مغبّرًا بدمائه بعد أن يخترق صدره الصغير. بسكين كالوميض شرع الختّان في سلخ ما تبقى من جلد قليل عند منبت ذَكَره وأسفله، فختانه لنفسه لم يُبقِ شيئًا كثيرًا من جلد عضوه، لذا انتهى منه سريعًا، وهو ما زال يثقب السماء الصافية بنظرته الحارقة، والنساء ينفضن الصباح بزغاريد حارّة ومتواصلة. واستعرض الشيخ أمامهم بافتنان وابتهاج مهرولاً، وعبرته مسكوبة فخرًا...ثم "انتدب" الابن الفارس الجديد، يعدّ درجات دمه، أبًا عن جدّ، قائلاً: "أنا ابْن الخير عُصيْرَة..حَمُود ابن عيسى ابن مِشَاري ابن جابر ابن خير الخير"، فارتجّ المكان كما شعرت قلوب الحاضرين، فاليوم يكتب ميلاده الآخر بعد أن كان غرًّا في رعاية الأمّهات، إذ صار رجلاً حقيقيًّا، ينافح عن "عُصيْرَة " كلّ المكربات القادمة.

وعندما أكمل اعتزازه بقريته ونسبه أخذ سكّين الختّان، وبدأ يمزّق من عانته قطعًا صغيرة هي "صوائِب" لوالده ولعمّه ولـ"بِشيبش"، ثم لـ" الهبّاش" كما وعده، وبعد ذلك هبّ صاحبا البندقيّتين المصوّبتين إلى صدره، مغمورين بفخر كبير لحمله ومعالجة جراحه الكثيرة، بشجر "السلع " وضماده من نباتات مختلفة: هذا بعد أن شرّف أهله وواديه جميعًا، وأبكى برجولته والده، الذي لم يتوقّف عن العرض أمام الموجودين، حتّى حمل "حمود" من على الأرض جسدًا مقدودًا من حجر، لا ينعطف له مفصل أبدًا ودماؤه تتقاطر من بين فخذيه، قاطعًا بشجاعته تلك كلّ شكّ في انهياره وتزحزحه خوفًا ورعبًا. ولو أنّه جَبُن في موقفه ذاك فإنّ عارًا فادحًا لا ينسى سيسحقه وسينال من أهله قاطبة، وسيلتصق بهم الذلّ ما بقوا في الدنيا، ولن يخفّف عنهم قتله، إلاّ أنّ يوم "عُلاه" صار علامة فارقة في مفاخرهم العظيمة. من فورهم حملوه وعالجوا جراحه المقزّزة بربط رأس ذَكَره بحبلَي "المَعَابِل" المشدودين إلى حبل خصره وبذلك يستقيم ذَكَره فلا يتدلّى ويحتكّ بفخذيه"(14).

استُخدمت كلمة "عتق" في سياق الرواية للدلالة على تحرير الصبيّ من طفولته، والتحاقه برتبة الرجال، فالعتيق جاء مرادفًا للختين؛ لأنّ النساء يعتقنه من رعايتهنّ، فيصبح معتوقًا كالحرّ بعد عبوديّة الطفولة، فيمارس دور الحامي بعد أن كان محميًّا، إلى ذلك فالمختون هو "عتيقة" لأنّه" أعتق من رقابتهنّ ورعايتهنّ، حيث صار قادرًا على مشاقّ الحياة وحمل الملمّات فيها عنهنّ". وحينما يختن الصبيّ، فهو" يتعلّى" أي "يرتقي إلى درجة أعلى بعد ركب النساء اللاتي منهن الأمّ والمرضعة والمربية والراعية، فقد صار فتى قادرًا على حمل البندقيّة والسيف، فوجب انتقاله إلى ركب الرجال، وارتقاء منزلة الكبار"(15). ولهذا يغمر الاعتراف به بضروب من المظاهر الدالّة على ذلك، فيلبس أزهى الثياب، ويتوّج رأسه بإكليل من النباتات العطريّة، ويتمنطق بخنجر ثمين، تتقدّمه فرقة من الرجال تطلق الرصاص. نهلت مشاهد ختان حمود عناصرها الأساسيّة من طقوس الختان الشائعة في جبال ساق الغراب، وجميعها تدرج في سياق الأعراف القبليّة التي تشجّع المفاخرة والمباهاة، فيكون الختان اعترافًا بأنّ صاحبه صار مؤهّلاً للمشاركة في كلّ ما تقتضيه حال القبيلة، فإذا ما انثنى وأبدى خوفًا، وهو يرى جسده يتعرّض للتمزيق، فلن يكون مؤهّلاً لمواجهة الخطوب في المستقبل. وإن خالجه ضعف في أثنائه فسيلحقه العار إلى الأبد، وسوف تعزف نساء القبيلة عن الزواج منه. ويغلب أن يكون الضعفاء من رجال القبائل، هم من أولئك الذين خانتهم شجاعتهم، لسبب أو لآخر، في تحمّل آلام الختان، فدفعوا ثمن ذلك طوال حياتهم.

لا يقصد بالختان، في جنوب غرب شبه الجزيرة العربيّة، التخلّص من قلفة نبذ الإسلام وجودها، إنّما هو طقس احتفاليّ عامّ للإعلان عن الرجولة، والاعتراف بأنّ صاحبها غادر مرحلة من حياته إلى أخرى، وقد أظهر جَلدًا في الاختبار، لذا كانت تُدعى القبائل وتُلقى الأشعار وتحلّ الوفود في حمى القبيلة للتهنئة في هذا الحدث الفاصل. وفي إطار هذا الطقس ينبغي على المختون أن يظهر صلابة تؤهّله لأن يكون رجلاً ذا شأن بين قومه، وينبغي أن يكون طقس العبور معمّدًا بالدم، ومعلنًا على الملأ، ويصاحب ذلك افتخار المختون بأهله وقبيلته، رافعًا خنجرًا محدّبًا يطعن به الهواء في كناية رمزيّة موازية لذكره الأجرد الذي سيكون فعله موازيًا لخنجره في افتراع العذارى. وقد اختلفت المذاهب الإسلاميّة في تحديد سنّ المختون، فذهب بعضها إلى أنّه لا يجوز قبل البلوغ من أجل إظهار صلابة الفتى وقدرته على تحمّل الألم، والاعتراف بأنّه أصبح مكلّفًا، فيما ذهبت أخرى إلى أنّه يستحبّ في الصغر رأفة بقطع جزء من جسده. على أنّها جميعًا اتّفقت على ضرورة إشهاره.

ومن الواضح أنّ التقاليد الاجتماعيّة كانت تعيد إنتاج الآراء الفقهيّة حسب شروطها، وتحرّف فيها بما يوافق بيئتها، فيقع إسراف في تطبيق طقس الختان بين منطقة وأخرى، ففي المناطق التي وقعت فيها الأحداث المجازيّة لرواية "ساق الغراب"، تدخّلت الأعراف القبليّة في اعتبار الختان طقس عبور من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، وليس استجابة لأمر دينيّ، وبالنظر لأهمّيّة هذا العبور، وما يترتّب عليه من دور اجتماعيّ، فقد بولغ في طقوس الختان، إذ كان يصاحبه حلق الرأس، وسلخ جلد العانة إلى قرب نقطة السرّة، فضلاً عن جوانب الفخذين، وتؤخذ تلك المزق الجلديّة "الصوائب"، وترمى بدمها إلى الحضور، وكلّما كانت تلك المزق أكبر حجمًا، وأكثر عددًا، جرى الاعتراف بأنّ صاحبها أمضى جَلَدًا في رجولته، لكونه أظهر جراءة في نزع الأجزاء الحسّاسة من جسده دونما تخاذل، وبسبب كون العمليّة تقتضي صبرًا على الألم لا يستطيعه الصبيّ، فقد جرى تجاوز السنّ الذي حدّدته المذاهب الشرعيّة للختان، فأصبح يتمّ في سن العشرين تقريبًا، حيث يكون المختون قادرًا على إظهار صلابته في تحمّل الألم خوفًا على كرامته الشخصيّة وكرامة قومه، فتكون قيمته مكافئة للألم الذي تجرّع مرارته. وغالبًا ما كان طقس الختان يجري في مكان عامّ يشهده المدعوّون، تنحر فيه الذبائح، فتجري الدماء من جسد الختين ومن أجساد الأنعام الذبيحة، فوفرة الدم ترسم علامة كرم وشجاعة، وكلّما أسرفت عائلة المختون في نحر الذبائح، كانت أكثر كرمًا للوفود التي قدمت للتهنئة، وقد درجت العادة أن يستمرّ نحر الذبائح إلى أن يتدخّل أحد كبار الضيوف فيوقفه. وخلال ذلك يقف المختون مفتخرًا بنسبه وحسبه، ملقيًا مقطّعات شعريّة حماسيّة حفظها، وتدرّب على إلقائها، وفيها يستعيد مآثر قومه، مركّزًا على صحّة نسبه وموقع قبيلته، طالبًا من الجميع الاعتراف به رجلاً شجاعًا في قبيلته، وقد يلمح من طرف خفيّ إلى المرأة التي ستكون زوجته في المستقبل.

على أنّ كلّ ذلك الطقس يمكن أن ينهار ويفسد هدفه، إذا أبدى المختون ضعفًا، أو أظهر توجّعًا، فينبغي عليه المضيّ في صلابته إلى آخر العمليّة، وإلاّ لحقه وقبيلته العار، وبعد الانتهاء من بتر غرلته، ونزع أجزاء كبيرة من جلد بطنه وفخذيه، يؤخذ إلى مكان خاصّ به، فيفرد وحيدًا لمداواة جرحه بالأعشاب والأدوية، وقد يستغرق ذلك عدة أشهر بسبب الجراح البليغة، والطعنات العميقة التي أصيب بها في وسطه جراء حالة العنف والزهو التي رافقت الختان، وربّما تتعفّن الجروح، ويتشوّه الذكر، وتلحق العنّة بالمختون، وقد يؤدّي ذلك إلى وفاته في حال عدم مداواة الجروح بطريقة سليمة؛ فتكون طقوس العلاج أكثر أهمّيّة من طقوس الختان. دفع الختان الثاني بخطأ الختان الأوّل إلى نهايته القصوى، فارتقى إلى درجة الخطيئة، وإذا كان الأوّل نزوة فتى شذّت عن الإجماع القبليّ، وخرجت على شرائع الإمارة، فقد كان الثاني ممارسة خداع للأمير نفسه، الذي دعي إلى حفل وهميّ يغطّي ختانًا حقيقيًّا سبقه. ولأنّه عرف بالأوّل فلم يلبّ حضور الثاني، إنّما أناب عنه مساعده ليقطف الثمرة الناضجة، فأصبح الخطأ غير خاصّ بالابن، إنّما أصبح خطأ أبيه الشيخ، الذي خدع الأمير متستّرًا على الختان الأول، بل وخطأ القبيلة التي أرادت أن توهم الإمارة بختان زائف.

4. انتقام مريع ورحيل نهائيّ:
أسرفت قبيلة "عصيرة" في الاحتفاء بطقس ختان حمود لتخفي الخطأ الذي اقترفه عن الإمارة التي لا تقبل ختانًا يُمزّق فيه الجسد بدل الاكتفاء ببتر قطعة جلديّة خاملة، لكنّ الأسرة كانت تريد أيضًا وقف الانحدار الذي خيّم على السلالة بتأهيل الابن بعد أن انحسر دور الأب، وبموازاة ذلك أُعدّت شريفة لتحلّ محلّ الأمّ صادقيّة، فكلّ من حمود وشريفة يمكن أن يستأنفا دور عيسى الخير وأمّه، ولكنّ الظروف الحاضنة للأبناء جاءت مختلفة عن ظروف الآباء والأجداد، فقد كان خطأ حمود نذير شؤم بأنّه غير مؤهّل للنهوض بأمر قومه، فانزلق إلى متع سريعة حالت دون أن يكون رجلاً قادرًا على وقف التدهور العامّ في المشيخة والقبيلة. حضر نائب الأمير الطقوس المزيّفة للختان، ومعه حضر الغرباء بهيئة قارئي القرآن يرتدون ثيابًا بيضًا، وقد هذّبوا لحاهم، فلم يصافحوا أحدًا، ولم يباركوا، إنّما اكتفوا بالسلام عند وصولهم، وركنوا إلى مكان يتيح لهم المراقبة، فكأنّهم قدموا بمهمّة خاصّة، وليس المشاركة في حفل عامّ. ثمّ انطلقوا قبل الغروب إلى المسجد لصلاة الجماعة، واختاروا إمامهم من بينهم رافضين أداء الصلاة وراء غيره، فأطالوا في الركوع والسجود على غير ما اعتادته القبيلة، ولم يتردّدوا في إظهار الاستياء من بعض المصلّين من أهل القرية الذين "أسبلوا أياديهم" في أثناء الصلاة. كانوا جماعة متلازمة حضروا إلى القرية عابسين، وغادروها تاركين الناس في شبه حيرة من أمرهم.

ولم يعلم أحد إلاّ "بشيبش" بأنّ الإمارة قد عرفت بخدعة الختان، لكنّها أرادت تصنّع الجهل لتضع القبيلة في موقف حرج في قابل الأيام. عرف ذلك لأنّه داوم في اقتفاء أثر أحد الوشاة من "بني هايم"، فتأكّد أنّه يشارك نهارًا في حفل الختان، ويتوجّه ليلاً يسرّ الأمير بما يعرف من تضليل الإمارة بأنّه ختان صحيح، فتعقّب أثره، ووجده يقضي ليله في مسجد الإمارة، فأيقظه من نومه كيلا يأخذه على غرّة، "وربط عنقه إلى البندقيّة وشدّها من طرفها إلى سقف المسجد، وتركه يتدلّى كفتيل يشحذ ألسنة اللهب فوقه، واعتلى المسجد بعد أن سدّ الباب الوحيد بجريد الأثل اليابس وأغرقه بالزيت من جميع الجهات وأضرم فيه النار"(16). حدث الانتقام المريع بعد أن تتبّع "بشيبش" رجل "بني هايم" لأربعة أيام متتالية، فكان يمضي نهاره مختلطًا بالأهالي، وهي تحتفل بختان حمود، ويتجه ليلاً إلى صبياء يفضي للأمير بما شاهد، فقرّر قتل الواشي في مسجد الغرباء بجوار دار الإمارة، ليثبت للجميع أنّه وضيع ومتواطئ، فلا سبيل لأحد المطالبة بدمه، فالمسجد الذي اختاره للاغتيال خاصّ بقوم الذلول، لا يرتاده أحد سواهم، ومَنْ يقتل فيه فلا بدَّ أن يكون موضوع شبهة.

وطوال الأيام التي راقب فيها ضحيّته كان قد احتمل غضبًا مدمدمًا قبل أن يتفجّر حقدًا أتى على كلّ شيء، حين أعلن قراره بالهجرة، فتذكّرت "صادقيّة" أنّ حبله السرّيّ قد دفن في قاع الوادي "ممّا يعني أنّ أوّل سيل عقب ولادته قد جرف معه ذلك الحبل، وهذا ما ينازع حاجتهم في بقائه بينهم للأبد، فهو سيرحل باحثًا على مستقرّ حبله السرّيّ"، ولسوف "يغادر القرية مهاجرًا إذا اشتدّ عوده"(17). لكنّ وجعًا مسرفًا في تأثيره ظلّ يمزّقه، فقد أبقى بندقيّته مع القتيل إذ جعلها صليبًا له، فتذكّر قول الشيخ "مشاري" بأنّ "البنادق تموت مع أصحابها، ومَنْ يعود لحياضه بلا بندقيّة، فكانّما عاد بلا ذَكَر، فيقضي الحياة ذليلاً، وكلّ بندقيّة مات صاحبها عنها فإنّ لها الجبين الأعلى بالدار، فتعلّق في ناصية البيت إلى الأبد"(18). ظلّ هاجس ترك "وادي الحسينيّ" إلى جهة مجهولة يتردّد في خواطر "بشيبش"، منذ بلغه نبأ وفاة زوجته في مخاضها ليلة ولادة "شريفة"، فانكفأ على نفسه، وأهمل علاقته بالآخرين، وصار يتخفّى، ثم تخلّى عن دوره بوصفه محارب القبيلة وعينها وحاميها، فلم يبادر إلى عمل إلاّ بدفع من الأمّ أو الشيخ، لكنّ قراره اتّخذ صيغة التطبيق بعد أن ختن حمود نفسه، وبعد أن حلّ رجال الإمارة في الوادي، وبعد أن فتك بالواشي قتلاً وحرقًا في المسجد، فأعلن للأمّ وللشيخ أنّ ليلته هذه ستكون آخر لياليه معهم، فذكّراه بالنسل الشجاع الذي ينحدر منه، وبأنّه في بيته وأرضه، فلم ينثن عن قراره.

رجح لهم أنّ رجال الإمارة لن يتفوّهوا بشيء حول حادث القتل في مسجدهم، فسكوتهم "لا يمكن أن يكون هوانًا من الرجال الغرباء، فهذا الاعتقاد لا يتطامن له أحد، إلاّ من يقلّل من أمر الدولة لكيان شامل له عتاده وقوّته". وبما أنّه يعرف أنّ الإمارة تركن إلى قوّة جبّارة، فلن يكون سكوتها على حادثة القتل غير"حجر سيضعه الغرباء أمام "عصيرة" ذات يوم، لتعود ورجالها حيث تبتغي الإمارة". لن تنازع الإمارة قبيلة شديدة البأس على دم واشٍ، إنّما هي تتأهّب لمستقبل أبعد في تحقيق أهدافها، حيث تترك للقبيلة أن تسقط بيدها من تلقاء نفسها، فرجال الإمارة "يتحرّكون بخطّة بعيدة المدى" وتعاملهم الغامض مع الحدث الجلل، عزّز قناعة "بشيبش" بأنّهم يبيّتون أمرًا عظيمًا يساس ضدّ القبيلة سيظهر في وقت لاحق. في اليوم الذي اختُتم فيه حفل الختان المزيّف وصلت رسالة من أمير "صبياء"، يطلب فيها من القوم أن يستمعوا لمُقرئ يدعى "محمّد المصلح"، فاتفق على استقباله من أجل تبديد القلق الذي كان يخيّم عليهم. وحالما وطئ "المقرئ" أرضهم شرع في فرض شروطه؛ فلا يمكن له أن يكون في مجلس تحضره امرأة، فكان أن توارت الأمّ صادقيّة جانبًا تسمع ولا ترى. فجأة جرى استبعاد السيّدة الجليلة التي تأتمر القبيلة بإمرتها منذ أربعين عامًا. ثم بدأ المقرئ وعظًا حول عمل النساء في الحرث والرعي والأفراح، فذلك ممّا لا تجوّزه الشريعة، فمكانهنّ هو المنزل، ثمّ انتهى إلى تأكيد لا يخامره شكّ على أنّ صلة النساء بالشيطان لا تحتاج إلى برهان. وقد أشاعت الإمارة أنّهم أهل بدع وشرك، فتريد أن تصيّرهم تابعين لها بادّعاء إنقاذهم من الضلال، لكنّ رد "بشيبش" كان حاسمًا، إذ طلب من المقرئ الكفّ عن ثرثرته والرحيل فورًا، فقد رآه رسولاً خبيثًا للإمارة وليس واعظًا محسنًا. أيقن المقرئ أنّه خذل في مهمّته الإصلاحيّة، "لأن أدوات درسه أقلّ بكثير من عنت هؤلاء القوم"، ورأى أنّ "الزمن كفيل بمعالجة هذا مع تفكيك إتقانهم للعنت". لم ييأس، إذ ادّخر جهده ليوم آخر يذبل فيه عناد القبيلة.

زادت توجّسات رجال القبيلة، فقد كانوا "يتوقّعون رجلاً يكاشفهم في حادثة الحريق والقتل، لكنّ الأمير قلب كافّة التوقّعات وأوصل إليهم رسالة أخرى أكثر عمقًا وخطورة، "حينما أرسل لهم مرشدًا، فقد نظر إليهم بوصفهم خارجين عن سُنن الدين ومنخرطين في سنن الطبيعة. وانتهى "بشيبش" إلى النتيجة الآتية: "هذا القادم لم يكن إلاّ حقيقة سياستهم في المنطقة، إنّ هؤلاء الغزاة أصبحوا لا تُعجزهم قوّة، فَهُم ذوو بأس شديد يأتي من جهات كثيرة، كما أنّ مسألة المسجد لا تعني لهم خسارة كبيرة، مثله مثل مقتل ذلك الرجل الذي سيُعدّ مجرد رقم في قائمة القاضين، وكلّ هذه الخسارات لا تعتبر شيئًا في سير الدول، حين تقوم أو تقضّ عروشها"(19) وأيقن أنّ الإمارة ماضية في مسعى طويل الأمد، فهي تريد توطين رؤى جديدة لنمط حياة توافق معطيات هؤلاء القادمين من الشمال، "فهي لا تخوض حربًا ضدّ قوم إلاّ إذا صلّوا غير صلاة أتباعها، ودعوا إلى ربَّ غير ربّهم، ولقد ارتسم فارق بين أهل عصيبة، والغرباء في صبياء، فأولئك "ثلّة من المارقين على الله وشرعته"، وهؤلاء هم حملة راية الله.

حينما قرب موعد رحيل "بشيبش" استدعته صادقيّة، ونقدته عشرين قطعة ذهبيّة، ثم أخطرت شريفة بقرار أبيها، الذي طلب إليها ألاّ تبحث عنه حينما تكبر، ثم لعق رجليها "جريًا على عادة كلّ راحل لا يريد أن يفقد ولده، معتقدين أن لعق أقدام الأطفال يلهيهم عن تذكّر والدهم ولا يشعرون بفقده حين غيابه". ثم فُكّ وثاقه من سرير الأمّ التي كانت تداوم على ربطه به خشية هروبه، وتوارى عن القرية مهاجرًا يحثّ خطاه إلى "بلاد الشمال البعيدة والمخيفة في آن واحد". وبذلك فرض الانتقام من القاتل هروبًا واقعيًّا، لكنّ الأسطورة عرضت سببًا خاصًّا بحبله السرّيّ الذي جرفته مياه الوادي، فلا سبيل لاستيطان صاحبه هذه الديار، وبدل أن يتتبّع مجرى الوادي حيث ينتهي في البحار البعيدة يمّم وجهه شطر خصومه الشماليّين، فباحتلالهم لبلاده لم يبق له مكان فيها، فهام على وجهه ناحيتهم، كأنّه يستعيض بالمكان عن إحساسه بعدم القدرة على البقاء فيه، إذ لم يكبح في نفسه الرفض الأبديّ للغرباء وعدم قدرته على التصالح معهم.

خلخلت هجرة "بشيبش" سكون القبيلة، فأصبحت مهوى السائلين، إذ "لم يسبق لأيّ من عرقهم الخروج من بلادهم هكذا". فقد شقّ عليه البقاء في أرض أصبحت لغير أهلها. فأراد أن "يصنع لنفسه وطنًا آمنًا لا يطّلع على تضاريسه أحد أيًّا كان". وما لبث أن تقدّم "هبّاش الأعمى" يطلب إلى الشيخ أن يسمح له بالموت، فأذن له، وقضى بعد يومين. وبعد نحو شهر قضى "ابن شامي" نحبه بعد أن طلب من الشيخ الإذن بالموت، وتبعه "الساحليّ" الذي أراد الالتحاق بالآخرين؛ فبدا للشيخ أنّ العارفين من قبيلته اختاروا الهجرة أو الموت، لأنّهم غير قادرين على أن يتحكّم الغرباء بهم فـ"بات تحت وابل من نصال الألم"، وتفكّكت حلقات قوّته بعد رحيل بشيبش، وقتل أخوه "سبيع" في نزوة عشق ليليّة، ثم التمثيل بجسده بعد تقطيع عورته وتعليقها برقبته على سفوح الجبال. وفيما لاح التفكّك في بنيان القبيلة، أمعنت الإمارة في إظهار قوّتها الكامنة، فقد دعت الشيخ وقبيلته لحضور صلاة الجمعة في مسجدها الجديد في "صبياء"، فتريّث وبدل أن يلبّي الاشتراك في صلاة الجماعة في يوم تراه الإمارة مهمًّا في افتتاح مسجدها، ذهب يوم الثلاثاء على جري عادته، فلمّا قابل الأمير لمسه "يكابر على نيّات شريرة تكاد تفلت من بين كلمة وأخرى". فقد رآه ممتنعًا عن دعوة اتّخذت صيغة لا يجوز ردّها، ثم رمت الإمارة خطوتها الأخرى، فحين احتبست القبيلة مياه الأمطار في الوادي ضمن أراضيها، جاء قادم من الإمارة يتحرّى عن إجابة من الشيخ حول سبب منع المياه عن أراضي القرى الأخرى. كانت قوّة الإمارة تترسّخ على الأرض يومًا بعد آخر.

كان الغرباء في أوّل أمرهم مثار سخط جميع القبائل في الوادي والجبال، لكنّ سياسات التطويع الهادئة والبطيئة ذوّبت مقاومتهم، وانتهى الأمر بأن شتّت قوّتهم، و"قهروا إلى الأرذلين"، فمنهم من هجر بلاده، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من صمت، ومنهم من والى الغرباء، وحينما بلغت شريفة مبلغ النساء، أرادت إحياء سنن القبيلة وأمجادها، كما فعلت صادقيّة منذ نحو نصف قرن، ومع أنّ الغرباء من خلال توجيهات "المقرئ" قد شذّبوا عمل النساء خارج المنزل، بما يعدّ نكوصًا عن عادات القبيلة وقيمها، فإنّ شريفة مضت في نهج الأمّ الكبرى، فتولّت إدارة الأراضي، ودفعت النساء إلى العمل، وسعت إلى تخزين الحبوب لوقت الحاجة، وفيما انخرطت شريفة تحمي قبيلتها، كان حمود يلهو دونما حرص منه على وقف التدهور الذي اقتلع جذورها. مُنحت الأمّ قدرة خارقة على استباق الأحداث، وتدبّر عواقبها لمعرفة الاحتمالات الممكنة منها في المستقبل، فشرعت تكثر من وصاياها، وتلحّ في ترهيب قومها "من فواجع الأيّام التي لم يلقوا منها شيئًا، بل ماجت حياتهم إلى شكل يحسبونه طبيعيًّا، وأكثر فرصة للخلاص من شقاء السنوات الآفلة؛ هذا الخلاص الذي قدم به رجال يفدون على بلادهم في كلّ عام؛ ليغدقوا في رسم الأمنيات لهم، ويهبونهم مرتعًا لأحلامهم، ومستقبلاً زاهرًا ينتظرهم في الشمال، ويغرونهم بالمال للحاق بجيش الإمارة، فكانوا يعدونهم بما لم يسمعوا به من قبل، ولم يحلموا به قطّ"(20).

عاشت القبيلة طوال تاريخها حالة أقرب ما تكون إلى "المشاعيّة" في كلّ شيء، فقد كانت الأمّ تشرف على تنظيم العمل ودفع الأجور ومتابعة شؤون الرعي، واعتاد الناس على نمط شبه جماعيّ من علاقات العمل والملكيّة والادّخار وكانت هي حريصة على ادّخار جزء من المال الفائض، تغدقه على طالبيه وقت حاجتهم، ولم يخمّن أحد مقدار ما كنزته من ثروة، وما شكّ امرؤ قطّ في أنّها كانت تبذّر مال الناس المدّخر لديها، فهي حافظة له، "إذ لم يُذكر في يوم من الأيّام أنّ شخصًا وقف بباب الأمّ سائلاً مالاً وردّته خائبًا، بحجّة انقضاء ما للقبيلة من مال في حوزتها"(21). وقد ورثت شريفة هذا الدور، فطوّرت أسباب العمل وموارد الإنتاج، وأصبح "عهدها" استئنافًا جديدًا لعهد الأمّ وتطويرًا له. ثم حدث أن أصبح نفوذ الإمارة مباشرًا في شؤون القبيلة، فلطالما تمنّع الشيخ في قبول دعوة الأمير له، فتجري لقاءاتهم في سوق الثلاثاء في "صبياء"، فتبدو كأنّها عارضة فرضتها الصدف، لكنّها كانت مقصودة ومرتّبة. لا يريد الشيخ أن يظهر مجافيًا للأمير، ولا يريد الأمير قطف ثمرة الدهاء قبل أوانها، فكان يتحلّى بالصبر، مراقبًا الاندثار التدريجيّ لسلطة الشيخ.

وبمرور الوقت بدأت تتّضح مطالب الإمارة، وحينما التقيا في آخر ثلاثاء، عاد الشيخ مكلّلاً بالصمت فاعتكف في بيته، وهو "يفرط في أمر يرمض قلبه، فقد كواه الأمير من حيث لا يتململ من جرح ظاهر، عندما بيّن له أنّ اليد الطولى صارت للإمارة، وما يبق في وسع أهل "عُصيرة" أن يتحكّموا في مقدّرات الطبيعة، ولا يمكنهم أن يحكموا بأعرافهم وقوانينهم، وشدّد على أن ظلّ تنظيمات الإمارة سيكون وارفًا على الجميع ومنصفًا لهم، وأنّهم سيخضعون دون تفرقة لقراراتها، وأنّ عليهم عدم حبس مياه السيول بوادي "الحسينيّ" لأكثر من يومين، ووجوب الرجوع للإمارة في شؤون إدارة الأراضي الزراعية. ولم يتوقّف عند ذلك الحدّ؛ بل أضاف الأمير أنّ الإمارة سترسل جماعة من المقرئين يفقّهون الناس في الدين، ويقيمون فيهم الصراط الذي يرونه صالحًا"(22). كانت دعوى الأمير واضحة: ينبغي فكّ عقدهم الاجتماعيّ الموروث، وتعطيل أعرافهم القبليّة النافذة، فلا يجوز التصرّف في المياه حسب حاجتهم فقط، إنّما حسب حاجتهم وحاجة الآخرين لها، وإذا كانت ملكيّة الأراضي الزراعيّة حكرًا عليهم، فصار ينبغي الآن التخلّي عن ذلك، وبما أنّهم جاهلون بالشرائع، فقد صدر القرار بإرسال جماعة من المقرئين تقودهم إلى طريق الحقّ، وتعلّمهم الدين الصحيح كما تراه الإمارة. فهزّ كلّ ذلك القواعد المتوارثة لديهم، وانكفأ الشيخ على نفسه قلقًا من هذا العرض الصريح لسلطة الإمارة عليهم، أمّا الأمير نفسه، فقد أعلن حالما خلا إلى مجلسه الخاصّ، أنّه "لا خلاص من تعنّت "عصيرة" إلاّ بواسطة رجل مخلص للإمارة يستوطن حياتهم، وأنّه لن توكّل هذه المهمّة الشاقّة إلاّ لمن يخترقهم من ناحية لا يستطيعون معها ممانعة بأيّ شكل من الأشكال"، فاقتضى ذلك إعادة المقرئ "محمّد المصلح" مرّة ثانية إليهم، بعد أن أخفق في مهمّته الأولى، وبخاصّة أنّ تابعه "ولد الهيجة" قد "تمكّن من قلوب أهل القرية"، وتغلغل "في شعاب أرواحهم جميعًا"، بل إنّه انتزع حظوة نادرة في بيت الشيخ نفسه. لم يجد المقرئ ممانعة كبيرة هذه المرّة، فقد "بدت الأمّ غافلة عمّا يدور، ولم تعر اهتمامًا لوجود ذلك الرجل في واديهم. وقد نزل الجميع عند صمتها ورغبتها في إهمال ذلك، فلم يثرهم أن يقيم المقرئ شعائرَ وطقوسًا دينيّة ما عرفوها من قبل"، فاستفحل شأنه وحلّ مكان الشيخ في النظر بالمشكلات التي تواجه القبيلة، وما لبث أن "صار واليًا دينيًّا، ومقرّبًا إلى الله، بعد أن كان شيخهم صاحب الولاية والقربى المطلقتين"(23).

وسرعان ما ظهر أمر لافت، فكلّما انحسرت سلطة المشيخة نشطت المرويّات التي تذكّر بأمجاد القبيلة، وكلّما خبا بريق الأفعال، توهّج فتيل الأقوال، فكانت المرويّات توهم قلة من الناس أنّ عهد المجد سوف يعود مرّة أخرى. وكلّما دهم القبيلة خطب أفسح السرد للمتعة واللذّة والأحاديث المكشوفة بين الأمّ صادقيّة وسلالتها، مكانًا واضحًا، فجلّ ما روي منها جاء عقب كروب وأخطار، وكلّما ارتسم تهديد مبطّن أو معلن للقبيلة ارتفعت معالم الفرح وشراكة النساء للرجال في كلّ شيء، فيخفي الإسراف في الفرح والفحش يأسًا مضمرًا ونكوصًا متواصلاً، فهو طقس للمتعة الجماعيّة يستنفد طاقته ليتجدّد مرّة أخرى في حركة دائبة.

ضرب التحلّل نسيج القبيلة، فلم يبق مخلص فيها إلاّ مَنْ كان من سلالة الشيخ نفسه، "حيث انكفأت بقيّة العشائر على مقدّراتها، وذلك منذ موت كبرائهم، فتفرّقوا شِيعًا لا يمتّون بصلة لتلك الولاية العظيمة، إلاّ بجهة الإقامة وهي وادي "الحسينيّ"، فلم يبق هنالك ما يقرّبهم كدم واحد وروح واحدة، فتنازعتهم مغريات الإمارة، إلى أن استطاعت أن تصهرهم في دواليب مشروعاتها، وذلك بتعيين عدد كبير منهم أدلاّء، و"أخْوِيا" أو معاونين، وإلحاق بعضهم بالجيش الذي طالما رفض الشيخ أن يلتحق به أيّ منهم"(24). منذ أن اختفى كبراء القبيلة بالموت أو القتل أو الهجرة، لم "تبق في قلب الشيخ وأمّه بارقة أنّ كتاب الأقدار باق لهم وحدهم، وأنّه لا يحمل لغيرهم أيّ نصر في الآفاق، إذ صار يحمل طيفًا آخر لا ينتمي إلى ترابهم". وبتقدّم عمر الأمّ ومرض ابنها، انحسر نفوذهما من حياة الأتباع، وبرز دور "المقرئ" الذي جاء ممثّلاً لسياسة الإمارة في إدارة شؤون القبيلة، وتقديم يد العون للمحتاجين من أجل كسب ودّهم، فما يبق أحد يقف بباب المشيخة، إنّما تزاحموا على باب الإمارة التي اتّخذت سياستها وجوهًا ثلاثة: إغراء بالمال والعمل في جند الأمير، ووعظ يقوم على الإرشاد وبيان عيوب المعتقدات للقبيلة، وممارسة ترهيب ثلمَ هيبة المشيخة، وقوّض مكانتها الرمزيّة.

وقد اجتمعت تلك الأسباب معًا، فكان أن "تنامت في القرية خلال فترة زمنيّة قصيرة النقمة، وارتفعت معدّلات الريبة بين الناس، هذا وهُمْ ينسلخون تمامًا عن فسيح أمسهم التليد، ولم يبق من سلفهم سوى ذكريات ماضية" فأصبح المقرئ هو صاحب الحلّ والعقد، وراح يغري الرجال بعدم السماح لنسائهم بمغادرة المنازل صونًا لأعراضهنّ، فإذا خرجن لحاجة ماسّة، فـ"عليهنّ بالحجاب فهو أطهر لهنّ وأكثر أمانًا". وينبغي أن يقَرن في بيوتهنّ خوفًا، "بعدما أشيع أنّ غريبًا يتربّص بالنساء، وأنّه يختطف مهجة كلّ فتاة وحيدة، فيصيبها مصاب يحرمها من الزواج طوال عمرها". فلم تمرّ سوى أيام حتى جلّل السواد نساء القرية جميعًا، أمّا شريفة ومزارعاتها فقد مضين على "سنّة الأوّلين في شؤون الحياة"، ولذلك أشيع" أنهنّ يخرجن عن تعاليم الدين، لأنهنّ يرفضن وضع الخمار الأسود على وجوهنّ"(25).

نجحت الإمارة في تقويض القبيلة، فلم تبق أمجادها غير ذكريات مطمورة في بطون المرويّات، وتفرّق شملها وفقدت هيبتها، وأصبحت تابعة للإمارة، ولا سبيل أمامها غير الرضوخ. انهارت الآمال المعقودة على"حمود"، فما استطاع إعادة هيبة المشيخة، وتخلّى عن كلّ وعد سابق، وصار حِمى القبيلة مستوطنة للوافدين الغرباء، يمارسون فيها الحكم والوعظ، فسيطروا على المجال العامّ، وجعلوا نساء القبيلة خليلات شرعيّات بأدلّة الدين، وأصبحت لهم اليد العليا في تنظيم العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وأصبح من غير المتاح لأحد أن يحتجّ على المصير الذي آل إليه أمر القبيلة، فقد اتّبع المقرئ منهج تكفير كلّ عمل لا يتوافق مع مصلحة الإمارة، فما رآه مخالفًا كان ينسخه بآية أو بحديث، ثم صار يبشّر بأنّ الإمارة مؤيَّدة من الله، ولا يجوز عصيانها أو مخالفة أيّ أمر تصدره.

5. نجدة القوم الخارقين:
ثمّ مضت الأمّ في مناجاة الجبال للإبقاء على أرث قبيلتها واستمراره، وصارت تناشد القوم الخارقين في أعالي "ساق الغراب"، للوفاء بعهدهم القديم في الدفاع عن أهل الوادي بعد أن انحدرت بهم الحال إلى الحضيض، ثمّ إنّها كانت تناشد السماء من أجل "أن تبعث برسل ما نزلوا من قبل، رسل لا تردعهم عن مهمّتهم رأفة أو شفقة، تمزّق الشعاب والأودية بسيوفها، وتقطع الجبال ببروقها". وأولئك هم رسل الجبال الذين تعاقدت معهم منذ أربعين سنة على ميثاق واضح: يدفن زوجها الشريف مشاري الخير في وادي الحسينيّ، مقابل أن يذهب ببصرها، وتعيش إلى نهاية العمر عمياء "لا ترى إلاّ بهم ومنهم". وينبغي عليهم فضلاً عن ذلك رعاية نسلها، وتمكينها من القوّة لرعاية قومها وولايتهم. قايضت صادقيّة ببصرها تاريخ قبيلتها في عصيرة، شرط ألاّ تتخذ قرارًا إلاّ برأي رسل الجبال، أو بعد مشاورتهم. وعلى الرغم من محاولات صادقيّة وشريفة إعادة الاعتبار لمكانة القبيلة، فإنّ الانقسام نخر روحها، ففي مقابل جيل عظيم توارى، ظهر جيل جديد بدّد ميراث الأجداد بلا تدبير، سعيًا وراء نزواته، فأصبحت الأمجاد القديمة غمامة من ذكريات تستعاد في وقت الضنك، وتروى في ليالي السمر. ولهذا أخذت الأمّ تعدّ العدّة لترسل ابنها عيسى إلى الآخرة، لأنّ تاريخ قبيلته كان في طريقه للاندثار والتلاشي، فلا يليق به البقاء حيًّا بعد أن أصبحت القبيلة تحت جنح الإمارة.

في لحظات من التراجع الشامل الذي ضرب القبيلة في صميمها، استغاثت صادقيّة بالقوم الخارقين من أهل ذُرى الجبال، طالبة إعادة بصرها مقابل نقل جثّة الشيخ إلى أعلى الجبل، لتتمكّن في آخر أيّامها أن ترى "ولد الهيجة" الذي يذكّرها بعشيق تولّهت به في زمن مضى، هو "ابن حسينة"، فهذا وذاك كانا نتاجًا لهياج جمع عاشقين قبل زواجهما الشرعيّ، فأصبح لهما شأن لأنّهما من نتاج الرغبة الخالدة، وكلّ من جاء عن" دفقة مشروعة بالعشق" فسبق وجوده قران والديه، فإنّه محلّ تقدير وتبجيل في القبيلة. أرادت صادقيّة إعادة تجديد عهدها مع قوم الجبال بمنحهم جسد الشيخ ليدفنوه في أعالي الجبال، فتحتفل مبصرة بموته، لأنّه "لم يخضع للإمارة قطّ". وكان هو قد رأى عدم جدوى حياة ذليلة في ظلّ إمارة دفعت بأمجاد سلالته إلى طيّ النسيان، فقد أصبح حكم الغرباء نافذًا على الأرض والرجال، ثمّ إنّهم أفرطوا في الاستبداد إذ جعلوا أنفسهم سدنة للدين، لا ينازعهم في ذلك أحد، وإلا عدّ "خصمًا مباشرًا لله". وفي لحظاته الأخيرة استعاد الشيخ طرفًا من ذكرياته مع أمّه، منذ كان فتى يافعًا في الرابعة عشرة من عمره إلى أن بلغ الخمسين، فلم يكن حزينًا لأنّه شارف على النهاية، إنّما لحقه الكرب العميق لأنّ "نهايته ستطوي محفلاً عظيمًا، قوامه ما يفوق مئتي عام وهم أمّة ممكّنة في الأرض، إن غادرها سيّد رحيم، أتاها سيّد أرحم، هذا وفي صحف سابقة من تاريخهم مئات السنين انقضت لسادة الوادي، وهم يشيّدون على الأرض وطنًا منيعًا"(26).

ما أن انطفأ بريق الحياة في عيني الشيخ، حتّى ظهر قوم الجبال عارضين على الأمّ حمل جثّته لدفنها في الأعالي، "وستنال حقًّا عظيمًا تنازلت عنه طوال عقود من الزمان خلت". وحينما وقع الاتّفاق "تقدّم من الجثمان عدد من خلق لا شبيه لقوّتهم، ولا لجمال طلعتهم، يرتدون حُللاً خضرًا برّاقة، ومعهم آلة من لوح متين، فحملوا الشيخ عليها، وخرجوا في حركة خاطفة، ثمّ اقتحموا الليل فابتلعتهم عتمته المطبقة". وبوفاة الشيخ صار من اللازم أن يتبدّد شمل السلالة، فقد توفي كبارها، ورحلت الزوجة التي احتملت عمرها عذراء لم يقترب منها أحد، ثمّ إنّ رجال الإمارة أغرقوا الابن حمود في متع جسديّة كان يلهث وراءها، فتمكّنوا منه، لم يستفق من ذلك إلاّ بعد فوات الأوان. وكان أن أنزلت الأمّ لعنتها على رجال القرية بأجمعهم، لأنّهم قتلوا "ولد الهيجة" في ليلة ظلماء، فأخمدت فيهم حسّ الحياة، وأصبحوا عاجزين بعنّة لا شفاء منها، فيما نشطت نساؤهم بشبق مفضوح لا يشبعه رجال عاجزون، فوجدن بغيتهنّ في رجال الإمارة.

كانت الأمّ قد تخلّت عن بصرها لقاء حكم السلالة للوادي، ودفن جثمان زوجها الشريف" مشاري" فيه، وها هي الآن تعقد اتّفاقًا جديدًا، إذ "تأمر ابنها بالموت لتقايض بجثمانه نظير عودة بصرها". لكنّ كتاب الأقدار الذي كان طوع بنانها خبّأ عنها ما كانت تريده، ففي الوقت الذي استعادت فيه ماء عينيها، كان أهل قريتها قد نكلوا بـ"ولد الهيجة" تقتيلاً، إذ كانت ترغب في أن تراه امتدادًا لذكرى "ابن حسينة" الذي خلب لبّها في شبابها، فخسرت ولدها وشبيه معشوقها، فما عاد في عالمها شيء يستحقّ أن تقع عيناها عليه. استعادت الأمّ بصرها دون أن تخبر أحدًا، فبدأت ترى الأشخاص الذين كانت تعرفهم من قبل بأصواتهم وروائحهم، فأعادت اكتشاف العالم المحيط بها من جديد، وهو في حالة من زوال. لم تخبر أحدًا ببصرها المستعاد، فمضى الآخرون يتصرّفون معها باعتبارها عمياء، وهكذا رأت جثّة "ولد الهيجة" مسجّاة وسط القرية، ثم لمستها "تحقيقًا لرغبة خمدت إلى الأبد"، وأمرت بدفنها إلى جوار ابنها، فكانت بذلك "تؤسّس منبرًا رفيعًا، يظلّ في العالمين من بعدها مقدّسًا، ومهوى الطامحين إلى الزهو والسمة العالية"(27). وحدها شريفة تمكّنت من معرفة أنّ الأمّ استردّت بصرها بعد أربعة عقود من ظلام الحكمة.

لمست شريفة تراجع مكانة السلالة، فنشطت فيها رغبة جامحة لأن تتبوّأ مكانًا ساميًا يجعلها في "عِلية العليّين" في سائر وادي الحسينيّ وساق الغراب، فراحت تحلم بظهور "مملكة عظمى تكون أسيرة حنكتها في الزمن القادم، وكان ذلك المرام الشاهق ينزعها إلى الصمود دائمًا، وعدم التواكل في الأعمال، أو الانكسار أمام عقبات صارت تتكاثر عليها، منذ أن توسّعت الإمارة في مكائدها لهم، بيد ذلك المُقرئ "الملعون". ولم يكن ذلك مجرد ادّعاء فرضه اعتدادها بنفسها الذي ورثته عن أبيها، "إنّما هو حقيقة النهايات، فلا زمن بعد اليوم سيكتب لأولئك الرجال، ولا حظّ حسن يُمكن لرعيل ينحدر من دمائهم العريقة، فستغدو لها القوامة الفريدة على الزمن، ولها التصرّف المطلق في حذافير الوقت، وتصريف نوائب الدهر أو مباهجه، وبالطريقة التي ترغبها، وأنَّى تشاء، هذا نياط داخلها وصوت عمقها".

أخذت الأمّ شريفةَ من يدها وأمرتها بأن تخرج إلى أعالي الجبال، ما دامت نساء القرية تحت الغرباء، ورجالها يخدمونهم، فكان أن هبّت العاصفة المنتظرة التي يقودها "غُبري الليل"، وحينما لاذت شريفة بالأمّ على مرتفع من الأرض، والتحم جسداهما، شقّت العاصفة العاتية قبرًا، وفصلت بينهما، وحملت الريح جسد الأمّ بتؤدة ووضعته في الشقّ، فرأت شريفة "ملابسها تبدّلت إلى بياض مشعّ، ثمّ علا في المرتفع صوت صلاة، تتالت طقوسها من خلال آلاف الحلل البيضاء تراءت لـ"شريفة" أنّها لأشخاص يصطفّون أسفل التل في الصلاة على المتوفّاة، وبعد ذلك انحدر النعش مضيئًا في هدوء حتى استوى في القرار، وصار المثوى النهائيّ عندما شاهدت "غبري الليل" يسوّي التراب على القبر، ويغرس من فوقه شتلة سَمُر موهوبة الحياة"(28). فقد حضر القوم الخارقون دفنها.

حينما انكشفت القرية عن عواصف الرمال والأمطار، أشاع الرجال العاجزون أنّ ذلك كان "كرامة أُولى للمؤيّدين بنصر الله على الأمّ، فحين غادرتهم إلى الأبد، انجلى عن القرية خبثها"، وبذلك استطاع "المقرئ" أن يعود مع حشد من أعوانه، فدخلوا القرية "متخلّقين بروح الفاتحين الرحيمين، لا يتوقف دورهم عند حدود الدعوة والوقوف على حاجات الأرض والممتلكات، بل حتى عند حاجات أجساد النساء". وحينما بلغهم نبأ عُنّة الرجال وشبق النساء، "اصطفى كلّ رجل من أعوان المقرئ لفراشه أربعًا من النساء، يعلمهنّ أنّ في المطارحة توثيقًا أكبر لصلتهنّ بالسماء، وأنّ خضوعهنّ لهم هو مرضاة الله أوّلاً وأخيرًا، فخنعن لهم في يسر تامّ، وملنَ إلى شراك القادمين بهدايتهنّ وعتقهنّ من نار جهنّم، وكان في كلّ هذا دليل قاطع على قبول الله لصلاتهنّ المشتركة تلك، وليبقين صادقات في توبتهنّ انصرفن عن كلّ شؤون الحياة، قارّات في البيوت، تنفيذًا لهدي المقرئ وأعوانه"(29).

انتهى أمر قبيلة "عُصَيرة" كالآتي: النساء يتهافتن تحت الغرباء مرضاة لله، والرجال يكدحون في الحقول ليخرجوا الزكاة والصدقات التي تدفع لأعوان المقرئ، عسى الله أن يخلّصهم من عجزهم، أمّا حرث نسائهم فتولاّه الغرباء، فهم "الأصلح والأجدر". وتنفيذًا لوصيّة الأمّ رحلت شريفة إلى الجبل خالية من كلّ شيء "عدا حمل روحها من النشوة، حتى استوت على قمته، ثم مدّدت قامتها الممشوقة عليه، وراحت تقلّب جسدها على جلموده الضخم، الذي ينبسط منذ آلاف السنين، لا يقارعه في الصمود شيء، ولا ينازعه في المكان مخلوق، وهي الآن تبدأ مناصبته الخلود، وتخترق مملكته الأبديّة، فتشقّ من تاجه عرشًا لها، وتخترق تحصيناته، فتلك بلادها من تحتها، تراها قبضة من ماء وطين ستعيد تشكيلهما كما تريد". ومن مكانها على القمة نظرت إلى بلادها المتناثرة التي "تقاسمتها أيادٍ منكرة"، وراحت تبحث عن طريقة مبتكرة للخلود، فرأت أمامها عريشًا فخمًا شعرت أنّه من صنيع الأمّ، وحينما دخلته وجدته خاليًا إلاّ من سقف متين من السعف، ثم "راعها حبل يتدلّى من علٍ، وأسفله أرضيّة مستوية كأنّها قدّت من ظهر الجبل وعليها كرسيّ خشبيّ، فارتجّت روحها برعب هائل، حيث شعرت أنّ الأمّ تحيط بها من كلّ جانب، إنّها تدعوها حقًّا للموت، وللخلاص قبل أن تقبض على جسدها حاجة قذرة لا يقضيها لها سوى الغرباء".

ارتقت شريفة الكرسيّ، وشدّت الحبل حول عنقها، ثم أفلتت جسدها في الهواء، فإذا بجزء من السقف ينهار عن كنز من المال مخبّأ في جلد جمل تناثر في أرض العريش، إنها تلك الثروة التي جمعتها الأمّ بتدبيرها طوال عقود لتحمي بها عشيرتها وقت الحاجة، وكان عيسى الخير قد أرسلها سرًّا إلى الجبل قبل موته، فأقلعت عن فكرة الموت معتقدة بأنّ حياتها ستكون مصونة في كنف الأمن، وأنّها بهذه الثروة المدّخرة سوف تواجه "القوى الدخيلة وتقف في نحورهم، تناهض إدارتهم التي تستخفّ بأعرافهم وتقاليدهم". فسارعت إلى إخفاء المال، وطمس أيّة دلالة عليه، ولاحظت مذهولة أن صرّة من حبوب كانت تظهر في المخبأ الجبليّ كلّ يوم لا يعرف مصدرها، فتحملها شريفة وتبذرها في طريق خفيّ يصل بين عريشها في الجبل وبيتها في القرية، "كأنّها تخلق بحبل سرّيّ قوامه الحياة علاقة بين الجبل والقرية، إذ يربو أمامها كلّ نهار ذلك النبت، فلا يطّلع على نضده الأخضر أحد سواها"(30). بعد شهر على ارتيادها اليوميّ لذروة الجبل، وعودتها إلى بيتها الذي أصبحت وحيدة فيه، فوجئت يومًا بـ"حمود الخير" معلّقًا في المكان الذي أرادت أن تنهي حياتها فيه، امتثالاً لوصية أبيه حينما طلب إليه أن يضع حدًّا لحياته في هذا المكان، إذا ما لمس نبذًا له في القرية، فرأته شريفة يفني حياته أمامها من غير تدخّل منها، فكان بذلك آخر سلالة شيوخ وادي الحسينيّ. لم تمدّ له يد المساعدة لتثنيه عن الانتحار "لأنه رجل سوء، لا مثيل له سوى رجال القرية الذين أدّوا الزكاة للغرباء بأجساد نسائهم، آملاً في الغفران"(31). ثم جلست تنظر من شاهق الجبال إلى قريتها، وقد فاحت رائحة زكيّة من أسفل جسدها، كانت هي رائحة أرضها، ورائحة الرجال الأوائل الذي صانوا حياضها مدّة قرنين، وارتسم أمام نظرها الدرب الأخضر لبذورها النابتة يصل بين الجبل والقرية في أعماق الوادي.

6. مصائر وأدوار:
اقترن التخيّل التاريخيّ في رواية (ساق الغراب) بتحوّل كامل في المصائر، فقد رسّخ الغرباء الشماليّون من وجودهم في الوادي، وعمّموا ثقافتهم الوعظيّة، فجعلوا من رجال القبيلة أتباعًا، ومن نسائها عشيقات، وفيما انحسر دور القبيلة وتلاشى، سطع نجم الإمارة، وبدل الشبكة الأسطوريّة للمرويّات والأناشيد ظهرت المواعظ والفتاوى، وشهد الثابت الوحيد في السلالة تغييرًا حاسمًا، فقد انهارت الذكورة التي عبّرت عن نفسها طوال الرواية بصلة الدم، وانتهى آخر رموزها منتحرًا، فتولّت "شريفة" دور الأنثى المباركة التي ورثت الأمّ "صادقيّة"، حينما نثرت في الطريق الرابط بين الوادي والجبل بذور الأمل.

وقد جاء السرد أمواجًا مركّبة من الأحداث التي كشفت الصراع الأوليّ بين القبيلة والإمارة، ثم أفول القبيلة، واستئثار الإمارة بكلّ شيء. وكان الزوال البطيء للقبيلة اختبارًا مريرًا تضافر فيه الدهاء مع القوّة، وقد جرى الاحتفاء بالختان علامة على الذكورة، وأشيد بمحاربي القبيلة وذكر أساطيرها بكثير من التقريظ، لكنّها كانت تضمر في بنيتها عوامل فنائها، فقد وضعت نفسها في عناد غامض تجاه الإمارة، ولم تقابل مكرها بدهاء مرن يحفظ لها وجودها، وكان عاهلها الأكبر فاقد الذكورة، فأسلم قيادة العشيرة لأمّه، التي رهنت ذاتها لإرادة قوم رمزيّين جاؤوا من الأعالي لحماية القبيلة. ولم يفلح الشيخ في توريث ابنه دور الأجداد العظام الذين رفعوا شأن القبيلة، وانزلق الابن إلى طيش الشباب في لهفة مفرطة، وكأنّه يعوّض عن ثلم ذكَره بمزيد من المتع الجسديّة، فلم يتأهّل لحمل مسؤوليّة التركة الكبيرة التي ورثها عن عائلته، فختم حياته بانتحار شنيع، لكنّ الإمارة نهجت أسلوبًا ماكرًا في تفكيك بنية القبيلة، فقد طوّقتها بالقوّة دون أن تصطدم بها، وأظهرتها على أنّها جماعة مغلقة على تقاليد وأعراف شبه وثنيّة، فغزتها بثقافة وعظيّة شلّت تماسكها الموروث، وجعلتها موئلاً للمرشدين والدعاة المتعطّشين لكلّ شيء.

وانتهى الأمر بأن عرضت ثقافة القبيلة على شاشة الإمارة بوصفها ثقافة طبيعيّة لا تفي بالحاجات الإنسانيّة، وينبغي أن تزول، فتلك حقبة ملتبسة ينبغي عدم وجودها في ظلّ الدولة. وكان المقترح الذي وضعته الإمارة يقوم على احتواء القبيلة، وحبسها في إطار يدرجها في تبعيّة للإمارة، بعد أن تفرّدت بالسيادة مدّة قرنين، ونتج عن ذلك ثلم متدرّج لكلّ قيم الاعتداد بالنفس والكبرياء والعناد، التي كانت تشكل البطانة الداخليّة لفكرة الانتماء والهُويّة، فتفكّك التاريخ السحريّ للقبيلة، وحلّ مكانه تاريخ دينيّ خاضع لتفسير لاهوتيّ شبه مغلق للعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حمله الشماليّون معهم في حملاتهم الحربيّة في أقاصي الجنوب.

الهوامش
يحيى آمقاسم، ساق الغراب، بيروت، دار الآداب، 2008، ص2.

1.                   م.ن.ص23.

2.                   م.ن. ص35.

3.                   م.ن. ص 46 و 47.

4.                   م.ن. ص53.

5.                   م.ن. ص244

6.                   م.ن. ص62

7.                   م.ن.ص61.

8.                   م.ن. ص193

10. م.ن. ص11-12

11. م.ن. ص12-13-14

12. م.ن.ص102-103.

13. م.ن.ص114.

14. م.ن. ص160-161-162

15. م.ن.ص108 وقد استفادت الرواية من طقوس الختان السائدة في جنوب شبه الجزيرة العربية، فإلى الشمال قليلا من ساق الغراب، وفي عمق جبال السراة، حيث موطن قبلتي غامد وزهران، أورد شاهد عيان هو السيد علي بن محمد بن معيض بن سدران الزهراني في مؤلفه "بطون قبيلة زهران" وصفا لطقوس الختان، ومما جاء فيه: كانت العادة في أغلب قبائل زهران وغيرها من القبائل العربية الأخرى ألا يتطهّر الطفل إلا بعد بلوغه سنّ العاشرة تقريبا، وهي السنّ التي يحتزم فيها بالجنبية (=نوع من الخناجر) على حدّ قولهم. بمعنى أنه يستطيع في هذه السن القيام بما يفعله الكبار من أبناء قبيلته، ويجتمع أولئك الأغرال في احتفال بهيج يقيمه أبناء القرية احتفاء بهم، ويأتون بالمطهّر وفي يمينه الموسى، ويقدّم إليه الصبيان الواحد تلو الآخر لختانهم، والويل ثم الويل لمن يرمش منهم أو يتأوّه فإنه إن فعل ذلك لاقى الضرب الشديد من أبيه وأعمامه وأخواله، وعُيّر بذلك مدى حياته، فكان الصبي منهم يقف أمام المطهّر وإلى جانبيه أبوه وعمه وخاله ويرفع ثوبه ثم يقول: أنا فلان ابن فلان، عمي فلان، وأخوالي آل فلان، ويرتجز قائلا:

اقطعْ  اقطعْ  ياقطّاع

اقطعْ  اقطعْ لا ترتاع

تراني جبل ما ينزاع

ومن الرجز الذي يقوله المتطهّر عند تطهيره أيضا:

                                   الصبر صبر ساعة

                                   ولا ضحك الجماعة

ثم يلتفت إلى المطهّر ويقول بصوت عال بعد تطهيره، وهو يهدر كالجمل الهائج مظهرا شجاعته "برّها يا مطهّر برّها"(=استأصل ما تبّقى من القلفة) وبعد أن ينتهي المطهّر من عمله يقدّم هؤلاء المتطهرون العرضة (=رقصة حربية شائعة في شبه الجزيرة يؤدّيها الرجال مشهرين السيوف) بعد أن يكسوا ثيابا وعمائم، ويدار بهم – تحت وابل من الرصاص - على القرية ودماؤهم تقطر على أقدامهم غير مبالين بالألم، وحالما ينتهي هذا الاستعراض يعود كلّ صبي إلى بيته صحبة أقاربه المسرورين بشجاعته وصبره على الألم، ويبدأون في ذبح الذبائح وإظهار الفرح بجرأة وشجاعة وصبر هذا الفتى الذي رفع رأس أبيه وأعمامه وأخواله أمام رجال القبيلة وضيوفها وتنهال عليه العطايا والهبات. وتنصب الراية البيضاء صباح يوم ختان الصبي على منزل أهله، وتستمر عالية خفاقة لمدة أسبوع". علي بن محمد بن معيض بن سدران الزهراني، بطون قبيلة زهران: شيوخها، أسواقها، شدّاتها" الدمّام، مطبعة الشاطئ الحديثة، 1428هـ، ص121-123

وأورد الرحالة "ولفريد ثيسيغر" في كتابه "الرمال العربية" بعضا من ضروب الختان في جنوبي شبه الجزيرة من الشرق إلى الغرب، وشاهد طقوسها في أربعينيات القرن العشرين، وغالبا ما كان يؤخّر الختان إلى ما بعد الخامسة عشرة، وفي بعض أطراف عُمان يقص شعر رأس الفتى على هيئة عرف الديك "إشارة إلى أنه لم يختن بعد". أما في جبال الحجاز، فلا تزال "القبائل تقوم بالختان السلخي، الذي يؤجّل أحيانا إلى أن يتزوج الرجل وينجب أطفالا. وفي هذه الطريقة يسلخ الجلد من السرّة حتى الفخذين. وقد منع ابن سعود هذا الختان. وأعلن أنه عادة همجية، ولكن الشبان كانوا يفضلون أن يتعرّضوا لأقسى أنواع العقوبات على أن يتخلّوا عن هذا الشرف العظيم". وقدّم ثيسيغر على لسان مرافقه "ابن قبينة" وصفا مفصلا لكيفية ختانه حينما رآه هزيلا عليلا "ختنت منذ ثلاثة أشهر، وأصابني نزيف خيّل إلى الكثيرين أني متّ. كنا ثمانية، وقد أجرى لنا الختان أحد شيوخ بيت "خوار" في وادي "كيديوت". وكان هنالك رجل ذو لحية من المناهل بيننا، أما الباقون فكانوا من "خوار" وكانوا أكبر منّي. وقبل العملية دهن أهلنا أجسادنا بالزبدة والزعفران. ثم أجريت لنا عملية الختان ونحن جالسون على صخرة. وقد بدأ الرجل بي، لأني كنت الأصغر، وبعد أن ربط القسم الأمامي بواسطة خيط، تركه. يالله كم تألمت. وقد ارتحت تقريبا عندما قطع اللحمة الزائدة، مع أن سيكنه لم يكن حادا. وبعد القطع وضع على الجرح مزيجا من الملح والرماد وروث الجمال المدقوق، فأحسست بلسع كما تلسع النار. وفي الليل أخذ جرحي ينزف. وفيما كنت نائما أفقت لأشعر برطوبة ساخنة على فخذي. كان الجلد الذي نمت عليه منقوعا بالدم. وكان الظلام حالكا، فلم أر شيئا حتى أشعلت والدتي النار". وحينما سأله "ثسيغر" لماذا انتظر أهلك حتى كبرت ليجروا العملية؟" قال: "هذه عاداتنا". وأضاف بابتسام "إن بعض أبناء "المهرة" ينتظرون حتى ليلة زفافهم". وشهد "ثيسيغر" في "تهامة" طقوس الختان لفتيان بشعورهم الطويلة. وقدم لها وصفا شائقا حيث يطوفون في القرى إلى أن يسمح الشيوخ لهم بالختان في ضوء موقع القمر والنجوم في السماء، وانتهى بالآتي" وقف كل منهم ورجلاه متباعدتان ويداه ممسكتان بشعره، يحدق بجمود دون أن ترمش عيناه في الحجر المغروز أمامه، بينما أمسك عبدٌ بعضوه وسلخه. وعندما انتهى العبد من عمله وانتحى جانبا، قفز الفتى إلى الأمام وأخذ يرقص بجنون على دقات الطبول الإيقاعية، أمام الجمهور المتشوّق، قافزا، صارخا، بينما الدماء تجري على رجليه". انظر: ولفريد ثيسيغر، رمال العرب، تعريب نجدة هاجر، وإبراهيم عبد الستار، لندن، بيت الوراق، 2009، ص 70،92،93،94

16. ساق الغراب، ص137

17. م.ن. ص 140و 185

18. م.ن. ص142-143.

19. م.ن.ص 171.

20. م.ن. ص234

21. م.ن.ص235

22. م.ن.ص237-238

23. م.ن.ص239 .

24. م.ن.ص240.

25. م.ن.ص260

26. م.ن.ص336

27. م.ن. ص358

28.م.ن. ص367

29. م.ن.ص 370

30.م.ن.ص377

31. م.ن.ص380