يتناول الباحث المصري هنا بمنهجية قرائية جديدة الطرفة التراثية القديمة أو المُلحة الذكية باعتبارها شكلا فينا متميزا له خصوصيه وبنيته السردية، ويكشف لنا عبر قراءته لشفرات تلك البنية عن تعدد النوازع النصية المولدة للفكاهة، ويتعرف في سعيه للرهان على جمالياتها السردية على كيفية توليدها لبؤرة المتعة في النص.

جماليات الفكاهة في القصة التراثية

قـراءة في الدور الوظيفي للطـرفة في أخبار الطفيلييـن

علاء عبد المنعم إبراهيم

أمَّا قبل
تعرض التراث الإبداعي العربي القديم إلى ظلم بيِّن عندما تم التعامل معه بوصفه تراثًا شعريًا كاملاً، مما صدر إحساس للعديد من المتعاطين معه أن العربي القديم قد وجه كامل طاقته صوب المنجز الشعري، وهو ما يخالف الواقع، حيث إن مقاربتنا ـ المتواضعة ـ لتراثنا العربي تثبت ما وصل إليه المبدع العربي القديم من وعي لا محدود بأصول المُمارسات القصصية، بما ولَّد لدينا إيمانًا راسخًا بأن العربي القديم قد أبدع أشكالاً قصصية ذات نكهة مميزة، جديرة بأن تُعاد مساءلتها نقديًا بوصفها قصصًا قصيرة ـ وفي بعض الأحيان شديدة القصر ـ فمفهوم القصة القصيرة أرحب من اختزاله في جملة مقولات مُجرَّدة تعمل بوصفها معايير مُتعالية على مفهوم التطور، تنفي حق الباحث في إخضاعها للمقاربة النقدية المُستجِيبة للتبدُّلات في المواقف الجمالية تجاه هذا الفن.

فعلينا أن نتعامل مع قصصنا التراثية بوصفها إنتاجًا إبداعيًا يحمل قيمًا تتفق مع القيم الجمالية للقصة القصيرة المعاصرة في بعض جوانبها، وتفارقها في جوانب أخرى ـ كحال القصة القصيرة نفسها في مراحل تطورها المتعددة ـ دون أن تتخلى عن انتمائها المفهومي لها، لتغدو هذه الأخبار التراثية إحدى حلقات الفن القصصي ـ الحاضر بحضور الإنسان الساعي إلى التعبير عن ذاته والتواصل مع الآخر والتأثير فيه ـ التي تمد الحيوية في شرايين هذا الفن وتحفظ له شبابه الدائم.

أخبار الطفيليين
تُعد "أخبار الطفيليين" من أكثر المواد القصصية تواترًا في متون كتب التراث العربي وهو ما يؤشر لما تنطوي عليه هذه الأخبار من قيم معرفية وجمالية وأيديولوجية حفزتْ الإخباريَّ القديم لجمعها في مصنفه، فقد حظيتْ أخبار الطُفيليين باهتمام مُصنفي كُتب الأخبار العربية القديمة، فأفردوا لها المساحات التي يمكن تلمس حدودها بمُقاربة كُتب "الأغاني" للأصفهاني، و"نشوار المُحاضرة" و"المُستجاد من فِعلات الأجواد" للقاضي التنوخيّ، و"زهر الآداب وثمر الألباب" للحصري القيروانيّ، و"البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيديّ، و"الأذكياء" لابن الجوزي، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري، فضلاً عن كتاب التطفيل ـ للخطيب البغداديّ ـ الذي أولى عنايته الكاملة لجمع حكايات الطُفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم.

وتنتمي أخبار الطفيليين من حيث الشكل الفني إلى أحد أهم الأشكال القصصية التراثية، وهو فن الخبر القصصي، المُؤسَّس على سرد حكاية قصيرة من خلال تتابع عدد من الأفعال ذات الإيقاع السريع، وهو ما يشف عن علاقة التواصل التي تجمع هذا الفن التراثي بالقصة القصيرة ـ في مفهومها المعاصر ـ في بعض تجلياتها، وبدرجات متفاوتة بلا شك.

       الطفيلي المُحتال

الطُفيليّ هو الداخل على القوم من غير أن يُدعى(1)، مأخوذ من "الطَّفَل" وهو إقبال الليل على النهار بظلمته(2)، لأن أمره يظلم على القوم فلا يعرفون من دعاه، ولا كيف دخل إليهم، ويُنسب الطُفيليون إلى رجل من الكوفة يُدعى "طُفيل العرائس"(3)، كان يأتي الولائم دون أن يُدعى إليها.

ونلاحظ أن الشخصية في أخبار التطفيل ذات طابع نمطي، بمعنى أنها عملية ترميز تضع صفة ما بطريقة مكثفة في هيئة إنسانية أي أن عين الراوي تتحول إلى عدسة تسلط الضوء على خطوط محددة في ملامح ذات فتبرزها كما يحدث في فن "الكاريكاتير" المرتبط بمصطلح الشخصية(4)، ويبدو طبيعيًّا تجلي الطفيلي في أفق المجال المفهومي لنموذج المحتال ـ مع ملاحظة أن "البحث عن النموذج الإنساني يعني أن السرد العربي قد وصل إلى مرحلة عالية يستطيع القص فيها أن يشكل شخصياته لتعانق التصور الذهني للمتلقي في عصره وفي كل العصور"(5) ـ ويصير استقطاب قطب الضحية للشخصية التي تتعرض للخداع من قِبل الطفيلي أمرًا متسقًا مع الطبيعة البنائية للنصوص، وهو ما يعني أن نصوص أخبار الطفيليين تجعلنا ـ بوصفنا متلقين ـ في مواجهة قرائية مع بنية حكائية تتأسس روافدها الدرامية على الصراع الذهني بين هذين القطبين، أو بالأحرى تستند كفاءتها السردية إلى المواجهة بين الخصوبة الذهنية الاحتيالية لشخصية الطفيلي والممارسات الدفاعية الارتدادية للشخصية المُستقبِلة لحيل الطفيلي.

تطرح شخصية الطفيلي نفسها ـ داخل نصوص أخبار الطفيليين ـ بوصفها شخصية مُلتبسة، ويتأسس هذا الطابع الالتباسي عندما يجد المتلقي نفسه مضطرًا إلى عقد مقارنة بين المساحة التي تشغلها الشخصية داخل النص السردي والمساحة التي تشغلها داخل وعي السياق المُحتضن لها على المستوى المرجعي، فإذا كان الطفيلي حاضرًا في وعي جماعته الإنسانية بوصفه شخصية هامشية يتم التعامل معها عبر منظور استعلائي تسليبي ـ والتسليب "عمل ذهني قوامه رفض قضية أو فكرة"(6) ـ فإن الأمر يتباين على مستوى وعي النص الإبداعي ـ الأكثر بقاء وخلودًا ـ الذي يمنح الطفيلي الأفضلية النصية لكي يغازل وعي المتلقي وينتهك بسلاسة الرؤية النمطية النافية له، والمُتعامِلة معه بدونية لا تتوازى مع إمكاناته المميزة وقدراته الحقيقية، فالإشكالية هنا تتبدى "بالمطابقة بين الشخصية التي هي كائن اجتماعي يتمتع بوجود واقعي، وبين الشخصية بما هي تشييد نصي أو بنية جزئية ضمن مكونات البنية الكلية للخطاب"(7) ويرتهن تلاشي هذه الإشكالية الالتباسية بممارساتنا التشريحية التي تقرّبنا من "شخصية الطفيلي" مما يسهم في الكشف عن تواطؤ النصوص معها، وعن تعمد السارد تفعيل هذا التباين/ المُفارقة بين مظهري حضور الشخصية على المستويين الواقعي والمتخيل، بغية إحداث خلخلة في مرتكزات الوعي المُستقبِل كخطوة مهمة في سبيل تصدير رؤاه الأيديولوجية عبر شفرات إبداعية تنطوي على مؤشرات دلالية ذات أبعاد منفتحة تحقق هذا التماس بين المرجعي والفني دون أن تتخلى عن دورها في إعادة تشكيل وعي جماعتها «فتحويل الحكايات المتداولة ذات الأصل الواقعي حينًا والمتخيل حينًا آخر إلى تشكيل مُمعن في مفارقته للتجربة المباشرة أدخل في الميثولوجيا والوعي الجماعي المتوارث»(8)، ومن ثم ينبغي التعامل مع هذه الصورة المُفارقة للشخصية الطفيلية باعتبارها صورة مُفعمة بالخصوبة الدلالية الكاشفة عن مُعطيات المنظور الأيديولوجي للنص «ويمثل هذا المنظور بناء القيم التحتي الشامل للعمل الأدبي الذي يبرز من خلال مستويات القيم المختلفة التي تطرح فيه»(9) .

وعندما نتعامل مع الطفيلي بوصفه شخصية محتالة فإن هذا التعامل يكتسب مشروعيته التداولية من الاتساع الدلالي لمفهوم الاحتيال المُستقطِب للعديد من ممارسات الطفيلي، هذه الممارسات المُنبثِقة من بؤرة مفهومية ثابتة وإن تباينتْ مظاهر حضورها، فالطفيلي قد يحتال بغرض الدخول إلى البيت أو بغرض الاستزادة في الطعام أو بغرض الاستطالة في مدة الإقامة أو غيرها من الأغراض التي ينتظمها خيط تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية والنفسية على حساب الآخر، يتم ذلك عبر ممارساته الاحتيالية المتعددة، ومن ثم يمكن القول إن شخصية الطفيلي تحركها في الفعل الدرامي "الرغبة في اختبار العالم وقراءته"(10)  وذلك على نحو يقارب بين فن الخبر والقصة القصيرة المعاصرة.

الفكاهة في خدمة الحيلة
ينفتح فعل الاحتيال على العديد من الأفعال التي تدخل معه في إطار علاقة إدماجية منضبطة، ومن أهم هذه الأفعال فعل "الضحك" الناتج عن توافر الحس الفكاهي(11)  داخل نصوص التطفيل، والفكاهة هي «تلك الصفة في العمل أو في الكلام أو في الموقف أو في الكتابة التي تثير الضحك لدى النظَّارة»(12)، وتتماس الفكاهة مع الحيلة في كثير من الأحيان حيث «ترتبط الفكاهة بشكل شائع بالحيلة»(13)، بما يجعل تحقيق بُعد الاحتيال قيمه الوظيفية الكاملة مرتبطًا بحضور عنصر الفكاهة الذي يكتسب كينونته ـ بدوره ـ من اتساقه وتناغمه مع عنصر الحيلة، هذا الاتساق الذي ينتقل بعنصر الفكاهة من دوره الاستتباعي؛ بوصفه أحد استجابات فعل الاحتيال، إلى دوره الاستبدالي؛ باعتباره فعلاً موازيًا لفعل الاحتيال على الآخر. وتقدم النصوص برهانًا على وعي الطفيلي الكامل بحدود هذه العلاقة بين الحيلة والفكاهة ـ فضلاً عن تمتعه بملكة الفكاهة(14) ـ هذا الإدراك الذي يتم ترجمته على المستوى النصي عندما نلفي الطفيلي ينسج خيوط حيلته بمساعدة العون الفكاهي الحاضر بقوة داخل نصوص أخبار الطفيليين، ونمثِّل بالنص التالي:

«حدثني محمد بن علي الجلاب قال: جاء طفيليٌّ إلى عُرس فمُنع من الدخول، وكان يعرف أن أخًا للعروس غائب، فذهب فأخذ ورقة وطواها وسحَّاها، وختمها، وليس في بطنها شيء، وجعل العنوان من الأخ إلى العروس، وجاء فقال: معي كتاب من أخي العروس إليها، فأُذن له، فدخل ودفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان ليس عليه اسم أحد، فقال: والأعجب من هذا أنه ليس في بطن الكتاب ولا حرفٍ واحد، لأنه كان مستعجلاً، فضحكوا منه وعرفوا أنه احتال لدخوله فقبلوه»(15)

يبدو النص مفعمًا بالحس الفكاهي ـ الذي هو «استجابة معقدة لا يمكن اختزال مسبباتها بسهولة لتكون سمة واحدة أو مجموعة صغيرة من السمات»(16) ـ الناتج عن الحالة الانفراجية التي تطرح نفسها على النص كفعل ختامي لحالة التوتر الدرامي الناتجة عن تباين مصالح الشخصيات الحكائية وتعارضها، فالفكاهة تتولد من «حالة التوتر في الموقف الهزلي التي عادة تتصاعد حتى تنفرج فجأة عن طريق الانفجار، مصحوبة بالضحك بصفة عامة»(17)  فالطفيلي الذي يتغيّا دخولَ البيت بغية إشباع رغبته في تناول الطعام يجد نفسه في مواجهة صراعية مع أصحاب البيت الرافضين لحضوره، هذا الصراع الذي يسهم في «تكوُّن الموقف الدرامي الناضج الذي يمثل أعلى درجات الارتفاع البياني في خطابنا القصصي العربي التراثي»(18)، ويتعقد الموقف الدرامي باندفاع الطفيلي باتجاه محاولة إنهاء هذا الصراع من خلال الاحتيال عليهم، وبقدر ما يرتفع المؤشر الدرامي الناتج عن حالة التوتر الاستقبالي ـ بالنسبة للمتلقي ـ لتبعات هذه الممارسة الاحتيالية، وترقب مدى نجاحها أو فشلها بقدر ما يتضاعف الحسُ الفكاهي بانتهاء الأزمة بانتصار الطفيلي ونجاحِه في مجاوزة عتبة الدار والدخول إلى العُرس كخطوة مهمة لتحقيق هدفه الرئيس، غير أن الطفيلي يدمج في مواجهة صراعية ثانية تزداد جلبتها الدرامية بانكشاف الحيلة السابقة، هذا الانكشاف الذي يولِّد حالة انفراجية جديدة تعيد الإيقاع الدرامي إلى استقراره، وتمنح الطفيلي درجة النجاح الكاملة التي اعتاد عليها في نصوص الطفيليين؛ فالفكاهة تمتاح هنا من حالة التوتر التي تسبق اللحظة الانفراجية؛ حيث إنه «قد يساعدنا استغراق سيكولوجي معين مع شيء ما في توليد التوتر الذي ينفرج بعد ذلك من خلال إحدى النكات»(19)، فحالة الضحك التي يستقبل بها أصحاب البيت حيلة الطفيلي المُنكشِفة تقدِّم مؤشرات لإمكانية التعامل معها من زاويتين متباينتين؛ الأولى اعتبار أن الضحك هو نتاج مباشر لفشل حيلة الطفيلي في تحقيق أهدافها؛ ومن ثم يغدو الضحك هنا فعلاً عقابيًا يتم عبره الانتقام المعنوي من الطفيلي بالسخرية منه، أما الزاوية الثانية ـ وهي الزاوية الأكثر عمقًا من وجهة نظرنا ـ فإنها تنظر إلى الطرفة التي ألقاها الطفيلي وأسهمت في فضح حيلته (فقال: والأعجب من هذا أنه ليس في بطن الكتاب ولا حرفٍ واحد، لأنه كان مستعجلاً) بوصفها حيلةً بديلة يلجأ إليها الطفيلي للوصول إلى هدفه، وهو ما يتسق مع تعريف الطرفة بوصفها «القول البليغ المثير للانتباه الذي يتميز بالجدة والطرافة، وإظهار البراعة في التفكير والقدرة على تسلية القارئ أو السامع».(20) فالطرفة هي البديل الاستراتيجي الذي يستعين به الطفيلي عندما يتبدّى له عجز حيلته التقليدية عن تحقيق غايته أو عندما يدرك أن فاعلية حيلته لا يمكن أن تتمدد لتحقق له مآربه الخاصة، بما يجعل الطرفة تتماس مع الحيلة، ولكنها حيلة غير مباشرة، ومن ثم تصير الطرفة ـ وفق هذه القراءة التحليلية ـ إحدى تنويعات الممارسة الاحتيالية للطفيلي، ويعضد من اعتمادنا هذه الرؤية التفسيرية امتياحُ فعل الانكشاف ـ انكشاف الحيلة ـ من الطفيلي نفسه، حيث إن الطفيلي نفسه هو الذي يبدأ في كشف حيلته وفق صيغة بالغة الطرافة (والأعجب من هذا أنه ليس في بطن الكتاب ولا حرف واحد، لأنه كان مستعجلاً) تتأسس على التبرير غير المنطقي، فكشف الطفيلي حيلته بنفسه يؤشر إلى استراتيجيته الاحتيالية الجديدة التي يمثل هذا الكشف أحد مراحلها.

ويتمثل جوهر الفاعلية الوظيفية لما يمكن أن نطلق عليه "التفكه السادي" في توافر ضحية لفعل الخداع، فالتفكه السادي هو المرتبط بالحصول على المتعة النفسية من خلال معاناة الآخرين، ومن ثم فكل هزيمة للآخر تدخل ضمن حدود هذا المفهوم الذي يمكن للقارئ أن يطبع به جميع الحوادث المتعاقبة المنطوية على توافر ضحية داخل النص سواء أكانت هذه الضحية الآخر صاحب البيت أم الطفيلي ـ في مرحلة أولية كما في الحيلة المركبة ـ وبالطبع فإن الطرفة الاحتيالية ـ بوصفها إحدى تجليات الحيلة الاستبدالية ـ تسهم في استدعاء هذا النمط التفكهي إلى المتن الحكائي من خلال دورها في تصدير الإحساس الاستعلائي للآخر باعتباره الشخصية الأقوى، ومن ثم بأنه المانح وذلك في توازٍ مع نظرة الآخر للطفيلي ـ وهي نظرة سطحية ـ بوصفه الشخصية الأضعف الممنوحة، فالطفيلي ـ الخبير بالطبائع البشرية ـ يدرك طبيعة الذات البشرية، ومن ثم يبدأ في مغازلة أوجه ضعفها ومنها الرغبة في الشعور بالاستعلاء في مواجهة الآخرين، هذا الاستعلاء الذي يعد الضحك أبرز معالمه ـ حتى وإن لم يكن هذا الراغب مالكًا للمقومات العقلية التي تخول له هذا التعامل الفوقي مع الآخر ـ وهنا يبدأ الطفيلي ـ المرفود برغبته النفعية المباشرة ـ في تهيئة الجو النفسي للآخر من أجل استقبال هذا الإحساس الفوقي، وذلك عبر قيام الطفيلي بتدنية موقفية ذاتيه لنفسه بجعلها مادة خصبة لضحك الآخرين بمظهرة نفسه بمظهر الذات الخاملة الفاشلة بدعوى انكشاف حيلته ـ التي تصير حيلة أولية يدرك بالطبع مداها الوقتي المحدود ـ حيث إن «حالة المتعة الناتجة عن حل أحد الألغاز أو فهم ما يكتنفها من غموض ترجع إلى ما يمنحه ذلك للمستمع من إحساس بالقوة والغلبة»(21)، هذا الانكشاف الذي نعده هنا انكشافًا وهميًا خادعًا، يلقيه الطفيلي للآخر ليغريه بالاستغراق فيه، فلا يفطن للحيلة الأخرى ـ وهي الحيلة الرئيسة ـ التي يصل عبرها إلى هدفه الرئيس، وهو ما ينجح فيه الطفيلي هنا (فضحكوا منه وعرفوا أنه احتال لدخوله فقبلوه) إن فعل الضحك المنطلق من لدن الآخرين تجاه الطفيلي وأفعاله يمكن أن ينظر إليه من وجهة نظر تركِّز على شخصية الطفيلي، فالطفيلي هنا نموذج للذات الواعية القادرة على سبر أغوار النفس البشرية والعزف على مواطن الضعف فيها، عبر منح الآخر صك القوة الزائفة والارتقاء الوهمي على حساب الآخر الممثل هنا في الطفيلي، والحقيقة أن الطفيلي وهو يفعل ذلك يقوم بفعل مضاد يعلو من خلاله على مستوى الرغبات الإنسانية ويتخلص من أسرها الأليف ويجاوزها وصولاً إلى حد الذات الفلسفية التي تحرم ذاتها التقديرَ الظاهر والإطراءَ المباشر لتمنحها علوًا فوقيًا يتم إدراكه لاحقًا من قبل المتلقي، ويتم الإعلان عنه على المستوى النصي بنجاح الذات في الحيازة، فالطفيلي عندما يجعل الآخرين يضحكون عليه ويسخرون من حيلته المنكشفة فهو في الحقيقة يشاركهم الضحك بصوت خافت وبنبرة نصية زاعقة، ولكنه ضحك مرفود بالسخرية من توهمهم بالانتصار المزيف «فإذا كانت الشخصية تثير الدهشة والفكاهة والتأمل فإن المُمارِس يهدف من خلالها إلى تحقيق أهداف أخرى بعيدة تتمثل في الكشف عن الذات الجماعية، لهذا يمكن القول إن مفارقة الشخصية جهل للذات وكشف للذات»(22)  وبهذا يتحول التفكه السادي من كونه ممارسةً فاعلها صاحب الوليمة إلى كونه ممارسة فاعلها الحقيقي الطفيليون الذين «يتغلبون على ضعفهم بتجسيد ضعف الآخرين حتي يكون لديهم الإحساس بالتوازن، وبالتالي يستطيعون أن يمارسوا وجودهم الإنساني والاجتماعي دون أن يواجههم أحد بالسخرية أو الانتقاد»(23) .

إن عنصر السخرية يتوافر نصيًا عندما يحافظ الطفيلي بصورة منتظمة على انتصاره شبه الدائم عبر توظيفه لطرفته الاحتيالية، هذه الطرفة التي تعلن صراحة حصول الطفيلي على غايته وضمنًا تفكهه على الآخر وسخريته منه، متناغمة ـ أي الطرفة ـ مع مفهوم التفكه السادي المؤسس على الشعور بمتعة وضع الآخر في أزمة والاستمتاع بمحنته، وهو يتمثل هنا ـ وفي حكايات الطفيليين معظمها ـ في رد فعل صاحب البيت عندما يكتشف وقوعه ضحية لحيلة الطفيلي، وذلك في النص المسكوت عنه، والمكمل لبنية النصية الماثلة بامتداداتها الدلالية الموجهة، فالحكاية بأكملها تعكس درجة عالية من القلق يستمتع بها القارئ باعتباره تفكهًا ساديًا.

ويبدو التفكه السادي حاضرًا بقوة في حالة الحيلة المركبة وما يرتبط بها من تبدل في الأدوار(24) «فالبناء الذي ذكرناه يحمل في طياته عنصرًا فاعلاً من الفكاهة، وهذا العنصر من الفكاهة نابع أولاً وقبل كل شيء من التحول في الأدوار، وهو الأمر الذي يشكل قلبًا للتوقعات والذي يعتبر وسيلة معروضة لإحداث الفكاهة»(25) فالمتعة التي يستشعرها المتلقي تبدو متعالقة بحالة البؤس التي تصيب صاحب البيت جراء فشل حيلته في خداع الطفيلي ليواجه حيلة أشد مكرًا وأكثر إحكامًا «وتزداد حدة عدم تعاطفنا معه نتيجة للحقيقة بأن البؤس الذي يشعر به كان مستحدثًا ذاتيًا»(26) أي كان ناتجًا عن ممارسة ذاتية ـ تتمثل في الحيلة المعدة من قِبله ـ يقع ضحية لها، حيث يتضخم حجم السخرية بما يصيب هذه الحيلة من تبدل على مستوى الأهداف عندما تنتقل من حدودها الذهنية الاختمارية إلى حدودها الواقعية التنفيذية، فتتحول هذه الحيلة من كونها أداة مساعدة لصاحب البيت إلى أداة معارضة له ومتسببة في هزيمته وإقصائه بعيدًا عن أهدافه، ومن ثم يستمتع القارئ بخداع الطفيلي للرجل بصورة مضاعفة، فهو استمتاع بهزيمة صاحب البيت نتيجة انكشاف حيلته، واستمتاع بخداع الطفيلي له عبر استغلاله لحيلة صاحب البيت، مما يضاعف من حالة الفشل الخاصة بصاحب البيت «وهذا يضعه في مجال نزعة وصفها بيرجسون بأنها امتداد لمبدأ الانعكاس تصبح بها حالة أي شخص يعاني من شيء يكون نتيجة خطئه هو، حالة مضحكة»(27) .

إن الطرفة بهذا تؤدي دورين، مباشر وغير مباشر؛ المباشر هو تأطير الحكاية بالجو الفكاهي المُغازل للمُتطلبات الجمالية التي يفرضها توجيه الخطاب السردي إلى متلق يشكّل المستوى الفكاهي الجمالي أحد أهم مستويات خلفيته الثقافية، أما الدور غير المباشر فيتمثّل في تذرع الطرفة بالطابع النفعي المخادع كأحد مظاهر الحيلة التي تمكِّن الطفيلي من تحقيق هدفه عبر التوسل بها مما يدعم العلاقة بين «الفكاهة وبين سرعة البديهة والابتكار الذكي الذي يعتمد أصلاً على قدرة ذهنية بحتة»(28)،  وهو ما يجعل المتلقي الحاضر خارج النص متماهيًا مع شخصية الآخر المخدوع القابع داخل حدود السرد، فهو في البداية يستشعر الفكاهة نتيجة انكشاف حيلة الطفيلي في تواز مع شعور الآخر، وإن كان المتلقي يستشعرها استشعارًا قبليًا بفضل وضعيته الاستباقية الخارجية، غير أنه يقع في الشرك ذاته الذي تقع فيه شخصية الآخر الضحية، قبل أن يدرك تخوم الخدعة الكبرى التي حاكها الطفيلي ببراعة بفضل متابعته للنص.

وتعضد الكثير من النصوص هذا التعالق الحيوي بين الحيلة والفكاهة حتى إن حدود كل منهما تتشظى لتذوب في الأخرى ليصيرا كائنًا عضويًا واحدًا يصعب فصله، فتتحول الطرفة إلى حيلة وتصير الحيلة هي ذاتها الطرفة، ونمثل بالنصين التاليين:

«مرَّ طفيليٌّ بقوم يتغدّون فقال: سلام عليكم معشر اللئام، فقالوا: لا والله بل كرام، فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبين»(29)

«حدثني محمد بن الحسن بن عبيد الله البزاز أن طفيليًّا دخل على قوم، فقالوا له: ما دعاك أحد، قال: إذا لم تدعوني ولم أجئ أنا وقعتْ وحشة، فضحكوا منه وقرَّبوه»(30)

فالفكاهة تتبدى هنا عبر حضور نوازع نصية مُولِّدة لها، وأهم هذه النوازع قدرة الطرفة على تشكيل بؤرة للمتعة، وفي الوقت ذاته قدرتها على أن تكون سبيلاً لحل المعضلة الحكائية وتخليص الشخصية من ورطتها التي تدفع النص باتجاه الإثارة التَرقُبية، وذلك في أثناء انتظارنا لمتابعة كيفية نجاح الطفيلي في تحقيق غاياته، فالانعطافات الدرامية التي يتم تغذية النص بها تثمر عن ظهور الفكاهة التي تعزى هنا إلى الطبيعة التركيبية المورفولوجية للحكايتين، فالطفيلي هنا يعزف على البعد النفسي للآخر عندما يحقق له الاستثارة الانفعالية في النص الأول عبر استرتيجية الهجوم اللفظي (فقال: سلام عليكم معشر اللئام) وما ينطوي عليه من مُخبرات يدرك عدم صحتها وإن استخدمها لاستفزاز المنظومة القيمية للآخر/ الجماعة ـ هذه المنظومة التي تعادي البخل وتشجع على الكرم ـ الذي يجد ذاته يقدم ردًا عفويًا يتحقق من خلاله الالتزام بالسماح الكامل للطفيلي بالمشاركة في تناول الطعام، فالطفيلي في هذا النص ينفي فكرة الرفض التي ستنتج ـ بشكل بدهي ـ إذا قام بفرض نفسه وحضوره على الآخر/ الجماعة بآلية تقليدية، فينتقل بالموقف إلى حدود عالم البرهنة، ليصير السماح له بتناول الطعام هو البرهان العملي على العبارة التي تلفظوا بها وهم يصفون أنفسهم (فقالوا: لا والله بل كرام) مما يجعل الخبر نموذجًا للمُلحة الذكية وهي «منطوقة قصيرة جدًا تنتهي بفكرة طريفة ذكية»(31) .

وفي النص الثاني يقدم الطفيلي تفسيرًا ـ للسؤال المطروح من قبل الآخر ـ لا يتسق مع المقتضيات المنطقية وإن تناغم معها على المستوى العميق (إذا لم تدعوني ولم أجئ أنا وقعتْ وحشة) هذا التناغم الحادث من خلال الانتقال بالموقف من ثنائية المُهاجِم والمُهاجَم، إلى ثنائية المُتظارِف ومُستقبِل هذا التظارف «فمن الممكن للمعالجة الذكية المتطورة بالقدر الكافي أن تثمر عن الفكاهة من أكثر الموضوعات قتامة، ومن الناحية الأخرى، لن تكون هناك حاجة إلى قدر كبير من المهارة لكي يتم إخصاء الفكاهة من الموضوعات التي تكتسي جيدًا بطابع الفكاهة»(32) وهو ما يمكن الطفيلي من الوصول لهدفه (فضحكوا منه وقرَّبوه).

ونلاحظ أن السارد هنا يواصل ضغطه على متلقيه عندما يغازل المرتكزات الفكاهية الكامنة بداخله؛ وذلك عندما يقدم دليلاً عمليًا على نتيجة الاستقبال الإيجابي للطرفة المقدمة عبر الحكاية، هذا الدليل المُمثَّل في فعل الضحك المنطلق من لدن الآخر «فضحكوا منه وعرفوا أنه احتال لدخوله فقبلوه»(33)، «قال: إذا لم تدعوني ولم أجئ أنا وقعتْ وحشة، فضحكوا منه وقرَّبوه»(34)، وكأن السارد يسعى إلى فرض النتيجة على المتلقي بوصف الوعي الجمعي قد تعاطى مع نتيجة الحيلة الفكاهية بشكل إيجابي، ومن ثم فعلى المتلقي أن يلتزم بما التزم به الوعي الجمعي المتواتر على استقبال الفكاهة بالضحك. وبخاصة عندما يأتي الضحك من قبل الضحية. بما يضاعف من تعاطينا الإيجابي مع موضوع الفكاهة، فعلينا أن نضحك عندما نلفي الضحية تضحك بما لها من حضور ذهني وحقيقي وكأن السارد «يستحثنا بطريقتين؛ إنه يقلل من القيود التي تمنعنا من الضحك، فهو يضحك من طرافة الموقف..ويذكرنا بالأسباب التي تجعلنا نجد أن هذا الموقف ظريف ومضحك»(35) .

كما أن مركزية الشخصية الطفيلية تسهم في تنامي البعد الفكاهي داخل النصوص، وذلك باعتبار أن هذه السمة المركزية ـ باستتباعاتها ـ تحرم الآخر فرصة الحضور المُكثّف الذي قد يؤسس حالة من التعاطف بين هذا الآخر والمتلقي، فالسارد يسعى إلى نفي أي حس تعاطفي يمكن أن ينشأ من تعامل المتلقي بشكل مستمر مع نمط شخصية الآخر الذي يقع دائمًا ضحية للطفيلي المُحتال، حيث إن هناك علاقة عكسية بين التعاطف والضحك مما يمثل محورًا سيكولوجيًا لافتًا «يتمثل في عدم وجود تعاطف معين مع الموضوع، فلا يحتاج الأمر إلى القول بأن التعاطف الشديد مع الشخصية يجعل من الصعب بالنسبة لنا أن نضحك على مصائبها»(36). إذا كان الطفيلي في النصوص السابقة يفيد من الطرفة في تحقيق أهدافه بوصفها البديل الاستراتيجي للحيلة، فإن هذه الطرفة وما تولده من حس فكاهي تغدو في نصوص أخرى هي الآلية القادرة على الانتقال بالموقف من طابعه المأسوي إلى بعده الطبيعيّ الهادئ ونمثل بالنص التالي:

«نظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فرأى لهم هيئة حسنة وثيابًا نقيّة، فظنهم يُدْعون إلى وليمة، فتلطَّف حتى دخل في لفيفهم، وصار واحدًا منهم، فلما بلغ صاحبَ الشرطة قال: أصلحك الله، لستُ والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتُهم يدْعون إلى صنيع فتلطفتُ فدخلتُ في جملتهم، فقال: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقَه، فقال: أصلحك الله إن كنتَ ولابد فاعلاً فأمر السيّاف أن يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورّطني هذه الورطة، فضحك صاحبُ الشرطة وكشف عنه، فأُخبر أنه طفيلي معروف، فخلَّى سبيله»(37) .

يتعرض الطفيلي هنا إلى موقف بالغ التعقيد عندما يلفى نفسه في مواجهة عقابية مع الموت، وتزداد الجلبة الدرامية عندما يكون العقاب نتيجة ممارسات افتراضية لم تقم بها الذات وإنما اكتسبتها بفعل انتمائها الوهمي لفئة مارستْ سلوكًا مُعارضًا، وتتضاعف حدود هذا التوتر الدرامي عندما تكون الذاتُ هي التي اختارتْ أن تضع نفسها في هذا الموقف الإشكالي مدفوعة برغبتها المباشرة في إشباع حاجتها الاستمتاعية، فالتناقض بين الرغبة في الاستمتاع الوقتي ونتيجتها المفضية إلى الهلاك يحول الحكاية إلى نص مأسوي تعتمد دراميته على المفارقة التي تصل إلى حد التناقض بين المتغيّا والواقعي، هذا التناقض الذي يؤسس لبنية ثنائية ـ تتوازى مع بنية بساطة الرغبة وخطورة تبعاتها ـ هي الضحك في مقابل الموت، فالعبارة الأخيرة التي ينطق بها الطفيلي والتي تتسم بالاقتضاب والتكثيف (أصلحك الله إن كنتَ ولابد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة) تكون هي الوسيلة الناجعة لتحقيق الحالة الانفراجية المزيلة للتوتر، والتي تتيح للطفيلي فرصة النجاة من الموت القريب. وكأن «الضحك لا يحقق النجاة إلا في حالة الخطر الحقيقي فقط ... وبهذا الشكل ظلت جميع الخطوط الرئيسة للفكاهة تتردد من خلال هذه العبارة الواحدة»(38) .

فالسارد هنا يستغل العلاقة الطردية بين التوتر والانفراج، فكلما تضاعف الإحساس بالتوتر نتيجة ما يحيط بالشخصية من خطر كانت الحالة الانفراجية التابعة لحالة التوتر هذه ذات تأثير فعّال على مستوى استقبال المتلقي لها كأحد حوافز الضحك «فكلما ازدادت المؤثرات الميكانيكية، وازداد عدد الترابطات الثنائية وتعقدها، وازداد قدر الاقتصاد والتكثيف في تقديمهما، وازداد قدر الدهشة..كانت الفكاهة أفضل وبالمثل»(39) فالسارد يستغل ضحك الطرف الآخر في تصدير هذه الحال الفكاهية إلى المتلقي الخارجي فعبارة من نوعية (فضحك صاحبُ الشرطة وكشف عنه، فأُخبر أنه طفيلي معروف، فخلَّى سبيله) تؤدي إلى حدوث انفراج في الأزمة التي يتعرض لها الطفيلي، والتي تراكبت على مدار سرد الخبر، والتي ازدادت حدتها بفضل انكشاف حيلة الطفيلي «ومن ثم فالعبارة تثير الضحك وتخلق توترات جديدة، أو تقوم بتحويل التوترات الموجودة فعلاً، وترجع قدرة هذه العبارة الواحدة في تحقيق هذا إلى عنصر الاقتصاد والإيجاز فيها وإلى التناقض الدرامي الذي سبقها»(40) .

ونلاحظ أن السارد يسعى إلى تضخيم القيمة الوظيفية للطرفة عندما ينفي أية مُسببات أخرى قد ترد على ذهن المتلقي بوصفها عوامل مساعدة تحقق للطفيلي النجاة عبر توسله بها، ويتبدى هذا بوضوح في رد فعل صاحب الشرطة على اعتراف الطفيلي بعدم انتمائه لجماعة الزنادقة وأن غايته الرئيسة هي الحيازة المرفودة بخبرة الظن الخاطئ (قال: أصلحك الله، لستُ والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتُهم يدْعون إلى صنيع فتلطفتُ فدخلتُ في جملتهم) إن هذا الاعتراف لم يثن صاحب الشرطة عن عزمه على قتل الطفيلي (فقال: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقَه) ومن ثم لا يصير أمام الطفيلي سوى تأطير الحدث المأسوي بالحس الفكاهي الساخر، هذا الحس الذي يلقى قبولاً من صاحب الشرطة، هذا القبول الذي يخرجه من حالته الانفعالية عبر فعل الضحك الانفراجي، فيتحرى الدقة من خلال السؤال (فضحك صاحبُ الشرطة وكشف عنه) مما يكون سببًا في نجاة الطفيلي، إن صاحب الشرطة لا يسأل عن حقيقة شخصية الطفيلي سوى بعد أن يلقي الطفيلي بحيلته الطريفة وكان من الطبيعيّ أن يكون هذا السؤال تاليًا لاعتراف الطفيلي، وهو ما يمكن تفسيره بأنه أحد استتباعات رغبة السارد في التركيز على الدور المحوري للطرفة بوصفها فعلاً منتجًا، مما جعله يؤخِّر الاستعلام إلى ما بعد ظهور الطرفة لتغدو هي الحافز إلى السؤال ومن ثم هي السبيل إلى اكتشاف الحقيقة ومن ثم هي طوق النجاة للطفيلي، فالضحك الناتج عن طرفة الطفيلي يحقق التناغم بين المأسوي والفكاهي «إذ من خلاله تدمج المأساة بالملهاة ويحدث انقلاب في الدلالة، وتؤدى هذه المفارقات دورًا بالغ الأهمية على صعيد جماليات التلقي وتجسيد رؤية الرواية»(41) .

وهكذا يتبين لنا النضج الفني الذي وصل إليه السارد العربي القديم، وعيه شبه الكامل بمقتضيات فعل السرد ومفرداته مما مكنه من توظيف الطرفة في نصوصه بهذا الشكل البارع الذي يؤكد أن تراثنا الأدبي عليه أن يتباهى بمنجزه السردي قدر تباهيه بمنجزه الشعري.

 

مدرس الأدب والنقد بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس

 

الإحالات والهوامش
(1) "والتَّطْفيلُ من كلام العرب: أن يأتيَ الرَّجلُ وليمةً أوصَنيعًا لم يُدْع إليه، فَكُلُّ من فَعَل فِعْلَهُ نُسِبَ إليه، وقيل: طُفَيليٌّ" العين: الخليل ابن أحمد الفراهيدي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003م، مادة طفل،"وقال ابن السكيت: في قولهم فلانٌ طفيليُّ للذي يدخل المآدب لم يُدع إليها" تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1964م، مادة طفل،"وقولهم: طُفَيْلِيٌّ، للذي يدخل وليمةً ولم يُدْعَ إليها، وقد تَطَفَّلَ" الصحاح: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1979م، مادة طفل.

(2) "وأخبرني المنذري عن أبي طالب في قولهم: الطفيليُّ هو الذي يدخل على القوم من غير أن يدعوه، مأخوذٌ من الطَّفَل، وهو إقبال الليل على النهار بظلمته" تهذيب اللغة، ، مادة طفل. "وتَطْفيلُ الشمس: ميلُها للغروب، وقد طَفَّلَ الليل، إذا أقبل ظلامُه، والطَّفَلُ بالتحريك: بعد العصر، إذا طَفَّلَت الشمس للغروب" الصحاح، مادة طفل. "وطفل الليل: أقبل وأظل، وطفل علينا وتطفل، وهو طفيلي" أساس البلاغة: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1985م، مادة طفل. "وقال أَبو طالب قولهم الطُّفَيْليُّ: قال الأَصمعي: هو الذي يدخل على القوم من غير أَن يَدْعُوه، مأْخوذ من الطَّفَل وهو إِقبال الليل على النهار بظلمته" لسان العرب: ابن منظور الأفريقي المصري، تحقيق: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، د.ت، مادة طفل.

(3) "وهو منسوب إلى طُفيل؛ رجل من بني عبد الله بن غطفان من أهل الكوفة، وكان يأتي الولائم دون أن يُدعى  إليها، وكان يقال له: طُفيل الأعراس أوالعرائس" تهذيب اللغة، مادة طفل. "وتقول: مازال يطفل على الناس، حتى نسخ طُفيل الأعراس؛ وهو رجل من الكوفة نسب إليه أهل التطفيل" أساس البلاغة، مادة طفل، وطفيل العرائس هو الذي قيل فيه المثل "أطمع من  طُفيل هو رجل من أهل الكوفة مشهور بالطمع  وإليه ينتسب الطفيليون" مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1959م،  الجزء 1 ص441. وانظر ترجمة "طفيل العرائس" وبعض أخباره في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: المحسن بن علي التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1973م،  الجزء7، ج7، ص147-149، وفي العقد الفريد: ابن عبد ربه،  تحقيق أحمد أمين، وإبراهيم الإبياري، وعبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983م، الجزء 6، ص204.

(4) انظر "Character" في: Dictionary Of Literary Terms Coles Editorial Board – Rama Brothers – India- P. 39

(5) بناء الشخصية في القص التراثي: د/ سيد محمد السيد قطب، ود/ عبد المعطي صالح، ود/جلال أبو زيد، ود/ عيسى مرسي سليم، كليوباترا للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م، ص96.

(6) معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة: مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية، 1984م، ص385.

(7)  حي بن يقظان ـ تحليل بنيوي ـ ص189.

(8) الرواية الجديدة: د/ صلاح فضل، الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م، ص87.

(9) بناء الرواية ـ دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ـ: د/سيزا قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2004م  ص188.

(10) الذات والعالم – دراسات في القصة والرواية-: د/ صلاح السروي، سلسلة كتابات نقدية، العدد 126، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م، ص129.

(11) لا بد من الاعتراف بوجود شح في الدراسات النقدية التي تتعرض إلى دراسة عنصر الفكاهة في النصوص التراثية، تقول فدوى مالطي دوجلاس "حتى وقتنا لم تحظ الفكاهة، وبصفة خاصة الأساليب الفنية لتوليد الفكاهة، في الأدب الإسلامي الوسيط بالأهمية والجدية الكافية" بناء النص التراثي ص30.

(12) معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة ص276.

(13)  بناء النص التراثي ص46.

(14) ملكة الفكاهة هي"ملكة يدرك بها الإنسان ما يثير الضحك والابتسام، أو القدرة على التعبير عما يثير الضحك تعبيرًا أخاذَا" معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة ص385.

(15) كتاب التطفيل ص131.

(16)  بناء النص التراثي ص37.

(17)  بناء النص التراثي  ص32.

(18) بناء الشخصية في القص التراثي ص7.

(19) بناء النص التراثي ص41.

(20) معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة ص383.

(21) بناء النص التراثي ص34.

(22) أنماط الرواية العربية الجديدة ص31.

(23) بناء الشخصية في القص التراثي ص107.

(24) انظر ص 19 من هذه الدراسة.

(25) بناء النص التراثي ص114.

(26) السابق  ص53.

(27)  بناء النص التراثي  ص45.

(28) معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة ص385.

(29) العقد الفريد ج6، ص211.

(30) كتاب التطفيل ص127 والحكاية في نهاية الأرب في فنون الأدب: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، د.ت، ج3 ص328.

(31) معجم المصطلحات العربية في الأدب واللغة ص383.

(32) بناء النص التراثي ص42.

(33) كتاب التطفيل ص131.

(34) كتاب التطفيل ص127، والحكاية في نهاية الأرب ج3 ص328.

(35) بناء النص التراثي ص51.

(36) السابق ص41.

(37) العقد الفريد  ج6، ص212، وفي نهاية الأرب ج3، ص329.

(38)  بناء النص التراثي ص52.

(39) بناء النص الترثي  ص42.

(40) بناء النص التراثي  ص50.

(41) أنماط الرواية العربية الجديدة ص34.