بداءة لابد من التوجه بالشكر للقراء الآعزاء والمثقفين والأصدقاء الذين اهتموا بـ(الكلمة) وآزروها منذ أيامها الأولى. فقد كشف اهتمامهم الكريم أن (الكلمة) جاءت تعبيرا عن شوق حقيقي لمنبر يعيد الأمل للعقل العربي بعدما طوقه اليأس من كل جانب. وعن حاجة حقيقية لمنبر مغاير وخطاب ثقافي جاد بديل، وهذا التعبير هو سر تلك الاستجابة الواسعة لها والاهتمام الحفيّ بها. أو كما عبر أحد القراء في رسالة جميلة للمجلة بأنها كانت نوعا من الاستجابة لضراعاته غير المنطوقة، ولأمانيه التي لم يبح بها لأحد. ولبحثه الدائب عن ثقافة رصينة وإبداع جديد بين المواقع المختلفة، دون أن يجده أبدا في موقع واحد. فقد جاءت مبلورة لكثير مما كان يبحث عنه في شبكة المعلومات طويلا من زاد ثقافي حقيقي، لم يعثر عليه من قبل مجموعا في موقع واحد. بينما نوه قارئ آخر "بحجم المعرفة والثقافة والإبداع الذي تنقله مجلتكم برصانة وجدّة وجديّة، الأمر الذي يشي بمدى احترامكم لمسؤولية الكلمة وقدسيّتها. أتمنى أن تظل (الكلمة) عنوانا يجمع المثقفين الحقيقيين، ويرمّم بعض انهياراتنا الأخرى." وهذا ما عبر عنه قارئ آخر عنما قال إن "المجلة مع الكلمة الجادة المبدعة من كل الاجيال. وفي دراساتها النقدية امتازت بعمق وجدية جعلتها تختلف عن الكثير من المواقع الثقافية التي يغلب على موادها الخفة التي لا تحتمل غالبا." وطلبت أكثر من رسالة المزيد من (الكلمة) باقتراح أن تكون المجلة أسبوعية أو نصف شهرية، وهو أمر أكبر من طاقتنا التي يعد الإصدار الشهري أكثر ما تستطيع انجازه. وكان من ردود الأفعال الجميلة التي أثلجت صدور العاملين في (الكلمة) وفريقها أن أكثر من تعليق وجد (الكلمة) أقرب الى المجلة المقروءة أو المطبوعة منها إلى المواقع الأليكترونية المعروفة.
واعتبر أن هذا التعليق الأخير ـ برغم ما يضمره من نقد لعدم استجابة الكلمة لكل إمكانيات شبكة المعلومات الحركية والبصرية ـ ينطوي على كثير من التقريظ. لأنه كغيره من التعليقات يعبر عن حقيقة توجه (الكلمة) ويجسد بعض صبواتها ومطامحها. لأن طموح (الكلمة) هو أن تقدم أفضل ما في جعبة الثقافة العربية الراهنة، وأبهى ما يمكن أن تقدمه المجلة المطبوعة من مادة فكرية وأدبية رصينة، وأن تستفيد في الوقت نفسه من قدرة شبكة المعلومات الالكترونية على تجاوز الحدود والسدود التي تقام في وجه المطبوعات العربية، وعلى التغلب على كثير من تكلفة المجلة المطبوعة وبطء انتاجها. ناهيك عن أنها لاتستهلك ورقا يستهلك بدوره أشجارا نحن في أمس الحاجة إلى الحفاظ عليها في زمن تتنامي فيه عواقب التلوث وقطع الأشجار على التوازن الطبيعي للكرة الأرضية. وقد أكدت الأرقام حقيقة هذه المشاعر التي تلقاها تحرير (الكلمة) منذ الأيام الأولى. فقد وصلتني أرقام عدد زوار الموقع وخريطة اهتماماتهم في نفس الوقت الذي تلقيت فيه خبر إغلاق مجلة (الكرمل) وهي المجلة المهمة التي كان يحررها محمود درويش لسنوات وعقود، وخلق لها مذاقها المتميز وموقفها الثقافي الفريد. وتوشك (الكرمل) أن تكون الحلقة الأخيرة في مسلسل إغلاق المجلات الثقافية العربية المتميزة الذي بدأ منذ عدة عقود مع استيلاء السادات على السلطة في مصر في مطالع سبعينات القرن الماضي، واستمرت فصوله الكئيبة حتى اليوم. فقد بدأ السادات عصره ـ عصر فتح الأبواب أما جحافل الظلام والتبعية والتردي ـ بإغلاق المجلات الثقافية العشر التي كانت تصدرها مصر وقتها، مثل (المجلة) و(الفكر المعاصر) و(المسرح) و(القصة) و(الشعر) و(الفنون الشعبية) و(عالم الكتاب) وغيرها. واستبدل بها جميعا مجلة تافهة هي (الجديد).
وبدأت فصول تغيير السياسة الثقافية للدولة في مصر، والتي بلغت ذروتها الآن في عصر تغييب العقل واحتواء المثقفين وتحويل الثقافة إلى كرنفالات سياحية خاوية. وتبعتها في ذلك دول كثيرة أخرى في المنطقة العربية لاتملك إلا أن تعيد انتاج التوجهات المصرية مهما كان خطلها. واستتبعت هذه السياسة التي رافقها خلق مناخ طارد للفكر والثقافة والكتاب عمليات حصار المجلات الثقافية الباقية في العالم العربي بوضع الحدود والسدود الرقابية والجغرافية وحتى الجمركية أمامها حتى اختنقت مجلات كثيرة. كما تكفلت الحرب الأهلية اللبنانية بإغلاق عدد المجلات الثقافية العربية التي كانت تصدر في بيروت. بينما تلقت مجلة (الآداب) منذ ذلك الحين ضربة مصمية لم تفق من عواقبها حتى اليوم. أما مجلة (مواقف) فقد توقفت تماما مع حرب الخليج الأولى، ولم تفلح خليفتها (أبواب) في القيام بدورها المفقود، كما توقفت مجلة (الفكر العربي المعاصر) أيضا في الوقت نفسه. أما المجلات العراقية المهمة (آفاق عربية) و(الأقلام) فقد أجهزت عليها الحروب وخنقها الحصار، ثم تحولت حسب تعبير على بدر إلى "مكب نفايات". والغريب أيضا أن الفترة نفسها شهدت إغلاق مجلات مغربية متميزة من (الثقافة الجديدة) إلى (آفاق) و(بيت الحكمة) و(عيون المقالات) وغيرها ولأسباب مختلفة عن إغلاق مجلات المشرق. وهكذا اختفت من الفاعلية في الحياة الثقافية العربية المجلة الثقافية الجادة بالتدريج. ولم تفلح المطبوعات الباذحة الصقيلة التي تنفق عليها الدول النفطية بسخاء في سد الحاجة إلى مجلة ثقافية عربية جادة، بسبب ما تنطوي عليها توجهاتها من عداء مضمر لحرية العقل وانطلاقة الفكر. مما أتاح المجال أمام تيارات الظلام واللاعقلانية للتنامي والتعملق. ومما أفسح الطريق أمام سياسات ثقافية خرقاء تدور في غياب العقل والرقابة النقدية للثقافة.
وكانت (الكرمل) واحدة من آخر معاقل الاستنارة والثقافة العقلانية الحرة التي تسقط. وكان ما جعل وقع هذه المفاجأة السيئة مؤلما هو أنني سمعت أن سبب إغلاق (الكرمل) هو تدني توزيعها إلى الحد الذي لا يباع منها أكثر من مئة نسخة كل عدد، وهو أمر مؤسف لو صح، وشديد الدلالة. لكن ما خفف وقع هذه المفاجأة السيئة علي هو أنني في الوقت نفسه تلقيت مفاجأة طيبة في المجال نفسه، وهي أن عدد زوار موقع مجلة (الكلمة) قد تجاوز 37 ألفا في الشهر الأول (شهر يناير) من صدورها، بينما أخفق أكثر من ثلاثة آلاف في الدخول إلى موقعها، لأن عدد محاولات الدخول تجاوز الأربعين ألف محاولة، كانت منها 37174 محاولة ناجحة. سبعة وثلاثون ألفا بالرغم من أنه لم يصاحب إصدار (الكلمة) أي حملة إعلانية، ولم ننفق مليما واحدا على الدعاية لها. فهي مجلة مستقلة وفقيرة ماديا، وإن كانت غنية بمادتها النقدية والإبداعية. فقد كان يمكن لمعظم ما نشر فيها أن ينشر في مجلة (الكرمل) مع اختلافات طفيفة، فقد نشرت شخصيا، ونشر عدد من كتاب (الكلمة) أعمالهم في (الكرمل) أكثر من مرة. وقد دعتني المفارقة التي تنطوي عليها المفاجأتان إلى التفكير في دلالات هذه المسألة. فلماذا أقبل القراء على (الكلمة) بينما ينصرفون عن كثير من المجلات الأدبية والفكرية المطبوعة كانت (الكرمل) آخرها؟ هل تغير القارئ؟ بالقطع لا. ولكن تغيرت ظروف كثيرة طوال العقود الثلاثة الماضية التي تخلق فيها مناخ طارد للثقافة الحقيقية لحساب الأصولية الغيبية، مهمش للمثقف يعريه من المصداقية بالاحتواء أو الإفقار، ومشتت للقارئ.
هذا المناخ الطارد للثقافة ـ والذي تكرس له المؤسسة العربية كل سياساتها الثقافية المدعومة بميزانيات باذخة تنفق على احتفالات ومهرجانات ومعارض كرنفالية على امتداد الساحة من القاهرة وحتى الجنادرية تساهم في تعزيز ثقافة الفرجة السلبية، وخلق صورة كرنفالية مبهرة لمؤسسة السلطة بعدما عرتها ممارساتها المخزية من الاحترام والمصداقية ـ هو السياسة الثقافية الوحيدة الطبيعية والمتناغمة مع توجه هذه المؤسسة العربية وتركيبتها البنيوية الراهنة. بعدما احدثت ممارسات المؤسسات السياسية القمعية والتسلطية ـ كما يقول الصديق محمد برادة في مقاله المهم بهذا العدد ـ انفصاما عميقا بين الثقافي والسياسي. وحالت دون الطرح النقدي المستمر لأسس الفكر السياسي، أي التفكير في دور الدولة والقانون والعدالة وأسس الحكم، والأمة، على ضوء الممارسة والتطبيق. وهذا الطرح النقدي الفعال هو ما يحمي الدول التي أنجزت مشروعاتها التحديثية من الانتكاس والنكوص، والذي تفتقد له المؤسسة العربية بنيويا وجوهريا. ودون إرهاف دور العقل النقدي الذي تلعب المؤسستان الثقافية والجامعية دورا بارزا فيه، تتفاقم الأخطاء، ويتراجع الواقع برمته إلى مباءات الاستبداد والفساد الذي تتجلى صوره في كل مناحي عالمنا العربي المريض. وليس غريبا أن يصاحب تدني الممارسات العقلية النقدية في الثقافة وغيابها تدهور المؤسسة الجامعية نفسها في كثير من البلدان العربية. فلم تظهر جامعة عربية واحدة في التصنيف الدولي لأهم مئة جامعة في العالم في مجالات المعرفة وحقولها الثلاثة: العلوم البحتة، والإنسانيات، والعلوم الاجتماعية. بينما ظهرت فيه جامعات لبلدان لم يكن لها وجود على الخريطة قبل مايقرب من نصف قرن مثل سنغافورة وماليزيا والدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة.
إن دراسة محمد برادة، ورواية على بدر الجديدة في هذا العدد أيضا تطرحان معا هذه القضية البنيوية الجوهرية المهمة عما آل إليه حال مجتمعاتنا العربية في مرحلة ما بعد الثورة، وكيف عادت إلى حظيرة الهوان والتبعية التي كان مفروضا أن تحررها منها مرحلة التحرر والثورة، وأن تنطلق بها من ظلمات التخلف والبغي والجمود إلى أنوار التحرر والعقل والعدل والتقدم. وليس المثقف ببريء من الضلوع في هذا التردي ـ خاصة المثقف التابع الذي يتمرغ في فراديس الاحتواء ونعمه الزائفة، ويستمد سلطته من لعب دور كلب الحراسة لمؤسسة سياسية كانت أبرز انجازاتها على مد العقود الثلاثة الأخيرة هي العودة بالمنطقة إلى حظيرة الاستعمار الكريه بعدما تحررت من أمراسه القديمة. لقد تآكل العقد الاجتماعي القديم، الذي كان يتيح نوعا من مشروعية السلطة، ويتيح قدرا من الحرية النقدية للمثقف الحر، وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وحل مكانه فراغ مهول ومخيف جرد كل مؤسسات الحكم العربية بمختلف نظمها وأسس السلطة فيها من كل مشروعية. وهو الأمر الذي يفسر كثيرا من سلبيات الواقع العربي اليوم، من تدهور العقل إلى غياب القانون. فليست كل تجليات الانتحارات العقلية المتتالية التي بلغت ذروتها في الجنون الذي يتحكم في الشارعين اللبناني والفلسطيني في الأسابيع الأخيرة ـ بعدما كانا ببسالتهما النادرة أمل المقاومة الأخير ـ إلا الدليل الراسخ على تأصله في واقعنا الفاسد. والواقع أن الوعي بافتقاد مؤسسات السلطة في واقعنا العربي للشرعية والمصداقية، لم يعد قاصرا على المفكرين السياسيين أو المثقفين، وإنما تغلغل في وعي الشارع العربي الذي يصيبه الإحباط اليومي وهي يعيش ممارسات هذه المؤسسات جميعا في عالم يحكمه قانون الغابة بدلا من القانون الوضعي، تعمل فيه السلطات العربية حسابا لإرادات العدوين الأمريكي والصهيوني وتصوراتهما أكبر كثيرا من حساباتها لإرادات شعوبها أو تصورات مثقفيها.
هذا المناخ الخانق الذي تخلق على مدى العقود الثلاثة الماضية، واستحكمت الآن حلقاته، لم يسلم منه قراء الآدب والفكر والثقافة. فقد كانت الشريحة العريضة من القراء من أبناء الطبقة الوسطى، وهي مستودع القيم الوطنية والأخلاقية والثقافية معا. وقد عانت هذه الطبقة طوال العقود الماضية من ضربات اقتصادية قاصمة، لا تتجلى فحسب في انتشار البطالة بين المتعلمين، أو انسداد الأفق أمام الشباب، أو عجز الدخل ـ لو وجد العمل ـ عن سد الحاجات الأساسية، واضطرار الكثيرين إلى القيام بأكثر من عمل، وغير ذلك من تفاصيل التطورات الاقتصادية التي نعرفها جميعا، والتي نجم عنها نقص دخل هذه الطبقة، وتقلص الوقت الذي كان متاحا لها للقراءة. وتسعير السلع الثقافية من كتاب أو دورية بطريقة تضعها خارج إمكانيات شباب القراء، وهم عادة أكثر القراء نهما. في وقت سعت المؤسسة إلى شغل الناس بمظاهر الفرجة الفارغة، لا في التليفزيون الأبله الضحل وحده، وإنما في تحول الثقافة إلى كرنفالات ومهرجانات لا قيمة لها ولا مردود، كان آخرها في مصر هذا المهرجان الغريب عن الشعر العربي وجائزته الخرقاء التي منحتها لجنة تفتقر مثل المؤسسة التي عينتها للمصداقية، والذي ننشر هنا تحليل الشاعر عبدالمنعم رمضان المستبصر له.
وهناك بالإضافة إلى هذه كله ظاهرة الخروج العربي الكبير إلى المنافي، وهي الوجه الآخر لليأس من قيام المؤسسات بدورها النهضوي في تطوير بلدانها، أو التقدم بواقعها، أو خلق أفق مفتوح أمام مواطنيها، يشعرون فيه بأن لهم مستقبل في بلدهم. لقد خلق الفساد المستحكم أو بالأحرى الفساد البنيوي الذي تنهض عليه المؤسسة العربية الراهنة مناخا طاردا دفع كثيرا من المواطنين إلى المخاطرة بحياتهم للهرب من جحيم أفقه المسدود. فلم يعرف العالم العربي من قبل ظاهرة من يعرضون حياتهم للموت في قوارب الموت التي ترحل بهم من جحيم أوطانهم المكلومة، إلى جحيم الهجرة غير الشرعية في المنافي. ولم يعرف العالم العربي فترة كان فيها عدد كبير من قرائه ومثقفيه ومبدعيه في المنافي العربي والأوروبية وحتى الأفريقية والآسيوية والأمريكية كما هي الحال اليوم. فقد تلقت المجلة رسائل من عدد من القراء من تلك المهاجر الغربية والآسيوية المختلفة. وهذا التشتت الجغرافي للقراء يتطلب من المجلة الثقافية أن تجد وسيلة جديدة للوصول لهم، وأن تعبر هذه الحدود الجغرافية كي تتوجه إلى قارئها العربي في منافيه، وفي سائر أرجاء الوطن العربي معا.
فقد ظلت هناك مع هذا المناخ السياسي والاقتصادي، وبالرغم من آلياته الخانقة، ظلت هناك طبقة واسعة من القراء والشباب منهم خاصة حريصة على القراءة وإن كانت غير قادرة على شراء ما تحتاج قراءته من كتب أو دوريات. وقد ساهمت آلات التصوير ومطبوعات الماستر الرخيصة في السبعينات في مصر، في حل بعض مشاكل الشباب في هذا المجال وإن بصورة جزئية أو مؤقته. لكن الانترنيت أو شبكة المعلومات الدولية كانت هي الحل الأمثل في هذا المجال. ونحن نعرف كيف كانت تنفد طبعات الكتب الجيدة الرخيصة التي كانت تصدرها هيئة قصور الثقافة في مصر، وقبل أن يعصف بها الوزير بعد أزمة الروايات الثلاث الشهيرة. ونعرف أيضا كيف كان القراء يتخاطفون الأعمال الجيدة الرخيصة في كل البلدان العربية. وها هو إقبال القراء على مجلة (الكلمة) الأليكترونية التي تتوفر له مجانا على شبكة المعلومات يؤكد أن شعبنا العربي بخير. وأن هذه الخطة الجهنمية التي استأصلت منابره العقلية واحدا وراء الآخر، وسعرت ما بقي منها خارج إمكانيات القارئ، وحرمت الكتاب من أي عائد مجز للعمل الثقافي الجاد ـ في زمن تتسارع فيه معدلات التضخم وارتفاع الأسعار في شتى مجالات الحياة، ماعدا مردود العمل الأدبي والثقافي الذي يتآكل ويتناقص باستمرار ـ هي التي أدت إلى موت المجلات والمنابر الثقافية العقلية المستنيرة. لكن الثقافة الجادة تجد دائما وسيلتها الخاصة في خلق منابر بديلة قادرة على تلبية حاجة القارئ دون أن ترهق جيبه، كما أن القارئ نفسه سرعان ما وجد في الانترنيت بديلا يبحث فيها عما يروي عطشه لثقافة جادة تفتح أمامه الأفق الذي انسد بفساد المؤسسة وسياساتها الخرقاء.
إذن فقد برهنت الأرقام صدق حدوس المبادرة بهذا المشروع والتي كانت بنت وعي بحاجة الواقع الثقافي العربي إلى منبر جديد وثقافة بديلة تعيد تأسيس مصداقية الكلمة وفاعليتها. وهو الوعي الذي عبرت عنه افتتاحية العدد الأول من (الكلمة) وبلورته في "لماذا هذه المجلة؟". وجاءت ردود الفعل على هذه المبادرة الجديدة لتؤكد لي أن ما شعرت به يتجاوب مع حاجة حقيقية، بل ملحة، يشعر بها عدد كبير من القراء والمثقفين العرب من مختلف الأقطار والأجيال. فقد أثلج صدري ردود الفعل الفورية التي تلاحقت بعد أيام من ظهورها، والتي استمرت في التنامي ـ دون توقف ـ حتى اليوم. فبالرغم من أننا طرحنا المجلة على القارئ دون أيّ دعاية لها، ودون حملة منظمة من الأخبار عنها قبل صدورها كما تفعل كثير من المنابر والمؤسسات. ولم يكن لدينا حتى ما ندفعه لجوجولGoogle كي يضعها في الصفحة الأولى لمن يبحث فيه عن عنوانها، وأخفاها في الصفحات الداخلية البعيدة، إلا أن القراء والمواقع الثقافية العربية المختلفة نشرت أخبارها، وكتب كثير منهم لنا برأيهم وتشجيعهم، وبعث إلينا كثير من الكتاب والمثقفين بانتاجهم. وهو الأمر الذي نحمده لهم، وندعوهم معه لمواصلة دعمهم للكلمة ونشر أخبارها بين أصدقائهم، والدعوة لها بين كل من يهمهم أمرها. لأننا نعتمد على استجابة القراء والمثقفين وعلى تزكيتهم لها بين القراء الآخرين. فهم أمل (الكلمة) التي صدرت من أجلهم، وبهم تواصل مسيرتها، وبدعمهم وتشجيعهم يتحقق دورها، وينمو نفوذها.
كما أننا نعتمد كذلك على دعم الكتاب والمثقفين من شتى أرجاء الوطن العربي ممن يشاركون (الكلمة) الرأي والتوجه. كي تعبر هذه المجلة بحق عن ضمير الثقافة العربية الحر، وتلعب دورها في تشخيص الداء العربي، ورسم سبل الشفاء منه. فهي ـ ومنذ عددها الأول ـ تسعى لأن تكون مجلة الثقافة العربية كلها من المحيط إلى الخليج. وهي لذلك مفتوحة لكل إسهاماتها الإبداعية والنقدية على السواء. ويسعدنا أننا استطعنا حتى الآن أن ننشر لكتاب أو عن أعمال من عدد كبير من البلدان العربية، برغم عمر المجلة القصير، من سوريا حتى اليمن، ومن العراق حتى المغرب، ولن تمض عدة شهور حتى لا يكون ثمة بلد عربي واحد لم ننشر منه أو عنه. لأن (الكلمة) تنطلق من وعي عميق بوحدة الثقافة العربية ووحدة الضمير والوجدان العربيين معا، وهي الوحدة التي تمهد السبيل لانقاذ الواقع العربي من عوادي التردي والهوان، التي اصبح معها عالمنا العربي كما ذكرت في افتتاحية العدد الأول رجل العالم المريض في مطالع القرن الحادي والعشرين، يحتاج من كل أبنائه المخلصين تشخيص أدوائه وتوفير سبل العلاج له.
ص. ح.