يتناول الباحث المغربي هنا أوجه التعالق بين الشعري والسياسي في الحركات الفكرية والعقائدية الأولى في الإسلام، ويكشف عن العلاقة بين طبيعة الرؤى والأفكار التي تنطوي عليها حركات ثلاث، هي الخوارج والشيعة والزبيريون، وبنية الأشعار التي صدرت عنها وعبرت عن رؤاها من حيث الشكل واللغة والقاموس والمضمون معا.

أوْجُـه التـعالق بين الشعـريّ والسـياسيّ على عهد بـني أمـية

فريد أمعضشو

 

إن ارتباط الشعر العربي بالسياسة، أو بالإيديولوجيا، يعود إلى زمن مبكر جدا في تاريخ الأدب العربي. وقد أطلق النقاد على هذا الضرب الشعري اصطلاح "الشعر السـياسي". والمُلاحَظ أن هذا الشعر برز بشكل لافت للنظر في عهد بني أُمية، الذي عَرف إلى جانب الحزب الأموي "الحاكم" ظهور مجموعة من "أحزاب المُعارَضة"، التي ناوَأت سياسة الأمويين، ورفضت توجهاتهم، ودخلت معهم في معارك شديدة قولاً وفعلاً. ولم تنحصر الحروب بين هذين القطبين فقط، بل إن حروباً كثيرة كانت تنشب فيما بين هذه الأحزب المعارضة نفسِها. ولا ريب في أن هذه الوقائع والحروب قد رافقها شعر غزيرٌ، كان يتفوَّه به الشعراء في الانتصار لأحزابهم، ومُهاجاة الأحزاب الأخرى ومعارضتها. وقد حفظت لنا المصادر ذخيرة مهمة من هذا الشعر، بالرغم من أن ما ضاع  منه قد يكون أكثر وأغْـزَر.

ويتفق الدارسون على أن الأحزاب الرئيـسة التي كانت تعارض الحُكم الأموي ثلاثة، وهي: الخَـوارج، والشيـعة، والزبيـريون. وستسعى هذه الورقة إلى الوقوف عند كل حزب على حدة؛ مبرزة مبادئه وأهمّ فرقه وظروف نشأته وامتداداته، ومبيِّنة الشعر المرافِق لكلٍّ منها ومميزاته وأهم رجالاته وما إلى ذلك، ومستفيدة، بالأساس، من جهود عددٍ من دارسينا الذين بحثوا في هذا المجال، ولا سيما الدكتور عباس الجراري؛ صاحب كتاب "في الشعر السياسي" الذي هو، في الأصل، مجموعة محاضرات كان قد ألقاها على طلاب السنة الأولى في شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بالرباط، خلال الموسم الجامعي 66/1967.

1- الخَــــوارج:
ظهر الخوارج مباشرة بعد مَوْقعة صِفّين الشهيرة (37هـ)، معلنين خروجَهم عن طاعة علي كرّم الله وجهه، الذي قبل ما يسمى "قضية التحكيم"، التي انتهت ـ كما هو معلوم ـ بانتصار معاوية رضي الله عنه، وتولّـيه الحكم… وكان يقودهم، إبّانئذٍ، زعيمُهم عبد الله بن وهب الراسبي. وتطلق على الخوارج عدة أسامٍ؛ مِنْ مثل "المُحكِّـمة" (سُمُّوا بذلك لرفضهم تحكيم البشر في قضية التحكيم المعروفة، وقولهم "لا حكم إلا الله")، و"الحَرُورية" (سموا بذلك نسبة إلى كورة "حرواء" القريبة من الكوفة، والتي توجّهوا إليها من فَوْر خروجهم عن علي)، و"الشُّـرَاة" (سموا بذلك لكونهم شروا (باعوا) أنفسَهم لله كما يقولون).

ولا شك في أن لكل حزب مبادئ وثوابتَ يؤمن بها، ويناضح عنها، ويقاتل في سبيلها. ومن هذا المُنطلق، حاول عباس الجراري، في كتابه المُومإ إليه قبْلاً، أن يرصد مبادئ الخوارج انطلاقاً من استقراء جملة من المَظانّ والأشكال الأدبية الخوارجية(1). وإنْ كان هو نفسُه يقرّ بصعوبة هذا الأمر(2). وأبرزُ هذه المبادئ ما يأتي:

* الإقرار بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان في سنـيّه الأولى خاصة، والإقرار أيضاً بصحة خلافة علي، غير أنهم يُخطِّـئونه لقبوله واقعة التحكيم، وإنْ كانت بعضُ المصادر تؤكد أن الخوارج هم الذين أرْغموا عليّاً على قبول هذه الواقعة!

* تكفير الحَكَـمين المُنصّـبيْن في واقعة التحكيم من قبل كل من علي ومعاوية، وهما أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص.

* الطعْـن في أصحاب الجَـمَل (طلحة والزبير وعائشة)، وتكفيرهم جميعاً.

* تكفير العـبّاسيين؛ لعدم صحة خلافتهم، والدعوة إلى محاربتهم.

* تكفير معاوية بن أبي سفيان والأمويين عامة، والدعوة إلى مـقاتلتهم.

* وجوب الخروج على الإمام الجائر، والقول بتساوي المسلمين بخصوص تولي الخلافة؛ بمعنى أن كل من توافرت فيه الشروط والمؤهّلات فهو أهْلٌ لهذه الخلافة، وإنْ لم يكن عربياً.

وقد اشتهر الخوارج بمجموعة من الأخلاق والصفات؛ مثل التعصُّب الشديد لعقيدتهم ، والإخلاص الصادق لمبادئهم. ولهذا رأى المستشرق نيكلسون أن الخوارج كانوا مَضربَ المَثل في الدفاع المُسْتميت عن معتقدهم السياسي وآرائهم. ومثل التمسك القوي بالقرآن وأحكامه، وعدم التساهل في أمور الدين. وقد انعكس هذا الأمر على حياتهم، وعلى أدبهم بصورة جليّة. ومن تلك الصفات أيضاً عدمُ التورُّع عن رمْي كل مخالِفِـيهم بالكفر، وتشديد التعامل معهم... إلخ. إن الخوارج ليسوا فرقة واحدة بل فرقاً متعددة. قال عبد القادر البغدادي (ت429هـ) : "... ثم اختلفت الخوارج بعد ذلك فيما بينها، فصارت مقدارَ عشرين فرقة، كلّ واحدة تكفّر سائرها".(3) ولعـل أهمها الفِرق الآتية:

* المحكّـمة الأولى: أي الخارجون الأُوَّل عن طاعة علي مباشرة بعد موقعة صفين.

* الأزارقـة: وهم أتباع نافع بن الأزرق الحَنَفي المُكنّى "أبا راشد"، والمتوفى سنة 65 للهجرة. ويعد الأزارقة أكثر فرق الخوارج عُدَّة وعدداً وسلطاناً من وجهة، وأكثرَهم تطرُّفاً من وجهة أخرى. لذا فقد حاربتهم الدولة الأموية بشكل أقوى وأعنف بالمقارنة مع الفرق الأخرى.

* النَّجَــدات: وهم أتباع نَجْدة بن عامر الحنفي. ومن مبادئ هذه الفرقة أنها تُجيز القعود عن القتال لغير القادرين عليه.

* الإباضــية: ورائدُها هو عبد الله بن إباض التميمي. وهي أقلُّ الفرق الخوارجية تطرُّفاً؛ لذلك، استطاعت أن تعيش طويلا، وتستمر في الحياة، بخلاف فرق الخوارج الأخرى، التي شُنَّتْ عليها حروبٌ مُبـيرة متوالية، من جهات متعددة.

* الصُّفْـرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر، ويقال لهم كذلك "الزيادية". وقد أطلق عليهم الاسم الأولُ؛ لصُفرة ألوانهم من كثرة الصيام والقيام، كما تذكر بعض المصادر ("رغبة الآمل" مثلاً).

  * العـجاردة: وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد.

تلكم، إذاً، فرقُ الخوارج الكبرى، وفي كل فرقة نجد مجموعة من الفرق الخوارجية الصغرى. فضمن العجاردة، مثلاً، عددٌ من الفرق؛ كالخازمية، والشعبية، والمعلومية، والمجهولية، والمعبدية، والرشيدية، والمكرمية، والحمزية، والإبراهيمية، والواقفة، والميمونية. لقد كان للمذهب الخوارجي امتداد وانتشارٌ خارج مركزه، إذ وصل إلى مناطق قصيّة جدا في الاتجاه الغربي. وقد توقف الجراري عند انتشار هذا المذهب في المغرب الأقصى بخاصة، فأشار إلى أنه قد وفدت على المنطقة فئات من الخوارج (الإباضية والصفرية) إثر انهزامهم في المشرق العربي. وتذكر المصادر القديمة أن هذا المذهب لقي تَرْحاباً كبيراً من قِبل البربر، لِما أَلْفَوْه فيه من" ديمقراطية" ومساواة طالما افتقدوها في كثير من الفاتِحين العرب.

ويؤكد الدارسون أن الخوارج كانوا كثيري الشعراء، غزيري الأشعار، وأن شعرهم رافقهم في حروبهم، وعبّر عن مبادئهم، وصوّر بطولاتهم، وأشاد برجالاتهم. وقد لاحظ الجراري أن هذا الشعر – على وفرته – يمتاز بجملة من الخصائص والمِيزات؛ بعضها شكلي، وبعضها موضوعي، وبعضها يتمحَّض للشكل والموضوع معاً. وكان يستدلّ بما يناسب من الشعر الخوارجي على كل خاصيةٍ خاصية. فمن خصائصه الشكلية أن جُله عبارة عن مقطَّعات و قصائد قصيرة، وأن كثيراً منه منظومٌ على نَوْل بحر الرَّجز. كما يتّسم بالوحدة الموضوعية، نتيجة سيطرة المضمون السياسي عليه، وتحلُّلها من المقدمات التقليدية المعهودة. ومن خصائصه الموضوعية الالتزام الكلي بالعقيدة والمبادئ الخوارجية، والتحلي بالصدق والإخلاص، والدعوة إلى الرفض والحثّ على الخروج، والزهد المطلق في جميع ملذات الدنيا ومُتعها، و بُروز نبرة الحزن والبكاء بقوة فيه، والإقبال على ساح الوَغى ببسالة منقطعة النظير، أمَلاً في الاستشهاد والظفَر بما أعدَّه الله للمُسْتشهِد في سبيله، ورسْم الصورة المثالية للإنسان الخوارجي، والتزام وحدة الموضوع، وبساطة الجانب المذهبي وعدم اللجوء إلى التأويل والاستنباط؛ نتيجة عدم تأثرهم بألوان الثقافة الجديدة ... إلخ.

إن الشعراء الذين كانوا يَنْضوُون تحت لواء حزب الخوارج من الكثرة بمكان. والمُلاحظ أن بعضهم مشهور، على حين أن عديدين منهم مغمورون لا يكاد يعرفهم إلا القليل من الناس. ومن أعلامهم عِمْرانُ بن حِطّان البكري الصُّفري، والطِّرِمَّاح بن حكيم الطائي الأزْرقي؛ الذي كان صديقا حميماً للكُمَيْت الشِّيعي، على الرغم من اختلاف مذهبَيْهما؛ كما يذكر ذلك صاحب "الأغاني". ومنهم أيضاً قَطَريّ بن الفُـجَاءَة الأزْرَقي (جعونة بن مازن)، الذي كان من أبرز قوّاد الخوارج وزعمائهم السياسيين... ومن يتصفح أشعار هؤلاء، يلمس – من كثبٍ – أنها مكرَّسة – في المحلّ الأول – لخدمة عقيدة الخوارج السياسية؛ من حيث كونُها تعبّر عن آرائهم في مختلِف الأمور، وتقف في وجه خصومهم، وتَشيد ببَسالة الرجل الخوارجي وإقدامه، وترثي قتْلاهم في الحروب، وتستنهض هِمَمَ الخوارج، وتستحثُّهم على الخروج...

2- الشيــعة.
يرى بعضهم أن الشيعة حزبٌ ظهرت نواتُه الأولى مباشرةً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف المسلمين حول مَنْ يخلفه. بحيث كانت هناك طائفة من الصحابة تؤمن بأحقّية عليّ في خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك استناداً إلى بعض الأحاديث وإلى كوْن الرسول قد أوْصى لعلي بالاستخلاف. والواقع أن الشيعة – بمعناها المذهبي المعروف – لم توجد إلا بعد وفاة علي كرم الله وجهه ... ويُعرَف الشيعة بأسماء أخراةٍ؛ كالعلويين، والطالبيّين، وآل البيت. وللحزب الشيعي مبادئ ينطلق منها، ويذود عنها. وهي تتفاوت بتفاوُت الفرق الشيعية نفسها. ولعل أبرزها ما يأتي:

* العِصْـمة: إذ إن الإمام – في نظر الشيعة – شخص مقدَّسٌ، معصوم من الخطإ، مُصيب في كل ما يصدُر عنه من قول أو فعل. والواقع أن هذا المبدأ دخيلٌ على الحزب الشيعي، تسرَّب إليه من المَوالي الفُرْس الذين كانوا يشكّلون نسبة مهمة داخل هذا الحزب. الأمرُ الذي دعا المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (R. Dozy) إلى اعتبار الشيعة حزبا فارسياً.

* المَهْــدَوية: ذلك بأن الشيعيّـين كانو يؤمنون بالمهدي؛ الإمام المُنتظَرِ الذي يأتي فيمْلأ الأرضَ عدْلاً، كما مُلئت ظلماً.

* الرَّجْـعة: ومعناها الأوْبـة إلى الدنيا بعد الممات. وقد اختلقها عبد الله بن سبإ(4) حين قال برجْعة محمد وعلي وغيرهما من الأئمة الشيعة، واستغرب كيف أن الناس يُصدقون رجوع عيسى عليه السلام، ويكذبون رجوع محمد وعلي وغيرهما. وزعم ابنُ سبإ وأتباعُه أن علياً حي لم يمت، وأنه يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوْطه، وأنه سينزل – بعد ذلك –  إلى الأرض، ليملأها عدلا، كما ملئت جوْراً.

* التقيّـــة: ويُقصد بها المُداراة، وإظهار غير الحقيقة. وقد أخذ بها الشيعة قولا وممارسة. وكانت تبيح للشيعي إخفاءَ عقيدته المذهبية، بل يمكن له أن يصل إلى حد إظهار الكفر ظاهرياً؛ اتقاءً للشر، ودفعاً للمَكاريه، وضماناً للتكسُّب؛ لا سيما إذا علمْنا أن شعراء الشيعة كانوا يرتزقون بسلوك مسلك التقية. ويرى المستشرق كولدزيهر أن الكميت هو أول من استعمل كلمة "التقية" بمعناها الاصطلاحي.

 وبمُكْـنَتنا أن نتحدث عن فريقين كبيرين داخل الحزب الشيعي، وهما:

* الإمامـية: وتقول هذه الفرقة بإمامة علي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأتي بنصوص عديدة لإثبات قولها وتعْضيده. كما أنها تتبرّأ من أبي بكر وعمر وعثمان، وتراهم غاصبين للخلافة. وتعتقد الإمامية أن الإمام إنسانٌ، ولكنه ينطوي على جوهر نوراني إلهي ولجه من طريق الحُلول الجزئي. والإمامية فرق عدة؛ أهمها "الإسماعيلية" (ساقوا الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل)، و"الاثنا عشرية" أو "القطعية" (ساقوا الإمامة من جعفر إلى ابنه موسى، وقطعوا بموسى، زاعمين أن الإمام بعده سبْط محمد بن الحسن، الذي هو سبط علي بن موسى الرّضا)، و"الكيـسانية" (يروْن أن محمداً بن الحنفية لم يمت، وأنه حي يقيم بجبل رَضْوَى في موضع محروس بعناية تامة. ويقولون إن الدين طاعة رجل، وإن الإمام ظِلُّ الله في أرضه؛ وهو بذلك، ليس كسائر البشر لِما فيه من قبَس إلهي يَعْصِمه ويجعله وارثَ علم الرسول؛ ظاهره وباطنِه).

* الزَّيْـدية: وهم أتباع زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ويعدّون أقرب الفرق إلى أهل السنة، وأكثرهم اعتدالاً. ولعل ذلك راجعٌ إلى تتلمُذ زعيمهم زيد لواصل بن عطاء المُعتزلي. ويمتازون من الفرق الشيعية الأخرى بعدم القول بأن النبي يورَث، وبعدم المغالاة في تقدير أئمتهم ؛ بل يرون أن الإمام رجل فاضل عالم زاهد سخي شجاع تجب طاعته، ومَنْ عاداه فهو مخلَّد في النار إلى أن يتوب. كما أنهم يُجوِّزون إمامة المفضول مع قيام الأفضل، ولا يقولون بالرَّجْعة، ولا بالتناسُـخ، ولا بزواج المتعة، ولا بشيوع الزواج، ولا بالمهدي المنتظر، ولا بالتقية... ومن فرق الزيدية "الجارودية"، و"السليمانية"، و"البُتْـرية"... إلخ.

ولم ينحصر المذهب الشيعي في الكوفة؛ حاضرة الشيعيين فقط، بل امتدّ إلى عدة مناطق كالمذهب الخوارجي. وقد وصل إلى بلاد المغرب، ووُجد له أنصار كُثرٌ فيه كانوا يُخلصون الحبَّ لآل البيت كافة. ولنا في الترحيب الذي خصّه المغاربة للمولى إدريس الأول، إثر فراره من المشرق سنة 169هـ على عهد الهادي العباسي، خير دليل على ذلك.

وإذا كان أكثر شعر الخوارج قد ضاع، فإن معظم شعر الشيعة - بالمقابل- قد وصلنا؛ سواء في مصنفات خاصة بهم أو موزَّعاً بين بطون بعض أمَّات كتب التراث الأدبي العربي. ذلك بأن الشعراء الشيعيين احتفظوا طَوَال عصر بني العباس (عصر التدوين) بكثير من قُواهم المادية والمعنوية؛ باتخاذهم مبدأَ التقية المذكور آنفاً، وبازْدِلافهم من الأمراء والسلاطين العباسيين. الشيء الذي ظاهَـر على حفظ أشعارهم، وروايتها، وتدْوينها. ويتسم الشعر الشيعي بعدة خصائص مضمونية وشكلية، منها:

* الالتزام بفـكرة الحزب: أي إن الشعر الشيعي يسير في اتجاه التعبير عن حب آل البيت بعمق وبصدْق، ويدافع عن مبادئ حزب الشيعة وعقيدته السياسية.

* القوة والحـماس: ذلك بأن القصيد الشيعي يَفيض قوة وحماسةً في الدفاع المُستميت عن مبادئ حزب الشيعة وتوجُّـهاته السياسية.

* الجدل والاحتـجاج: إذ إن كثيراً من شعر الشيعة يعـْمِد إلى المُحَاجَّة، ومقارَعة الخصوم باللجوء- أحياناً- إلى الفكر والمنطق، بعيداً عن المشاعر والعواطف.

* معارضة الحكم القائم، والنقـمة على خُصومهم.

* التأثر بالجانب الديـني: ويظهر ذلك – بصورة أجْلى – في تناصِّ الشعر الشيعي مع الآي القرآنية كثيراً.

* طغيان نبْرة الحزن والبكاء على زعمائهم الذين كانوا يسقطون الواحد تلوَ الآخر.

* جزالة الأسلوب، وسلاسته، ووضوحه، ونًُبُوُّه عن الصنعة والزخرفة اللفظية. ولا شك في أن تأثر شعر الشيعة بأسلوب القرآن الكريم كان له وقْعٌ بالغٌ في هذا الصدد.

* صِدق العاطفة ، وحرارتها: وفي ذلك تعبير صُراح عن الحب الخالص الذي يُكِنُّه الشيعة لآل البيت، وعن سُخطهم الحانق على خصومهم من الأمويين وغيرهم... إلخ.

إن شعراء الحزب الشيعي كثيرون؛ بحيث لا يمكننا، بأي حال، الإحاطة بهم جميعاً ها هنا، ولكن أشهرهم هؤلاء الثلاثة:

* الكُمَيْت بن زيد الأسدي (ت126هـ): وهو غزيرُ الشعر؛ بحيث بلغ مجموع أشعاره، حين مماته، تسعة وثمانين ومائتين وخمسة آلاف (5289) بيت(5). واشتهر الرجل بـ"هاشمياتـ"ـه؛ وهي قصائدُ مذهبية سياسية في الانتصار لبَني هاشم، والذَّوْد عن آراء الزيدية. وقد التجأ فيها إلى المنطق والجدل، دون الاكتفاء بالمشاعر. ويعد الكميت – في رأي أبي عثمان الجاحظ – فاتحَ باب الحِجاج بالشعـر للشيعـيين.

* السيد الحِمْـيَري (ت173هـ): وكان شيعيا كيسانياً، بالرُّغم من أن أبوَيْه كانا من الخوارج الإباضية(6). واشتهر بذكر فضائل علي وآل البيت في أشعاره.

* دِعْـبِل بن علي الخُـزاعي (ت220هـ): وكان- كما يقول ابن خِلِّكان- شاعرا هَجَّاءًََ، بذيءَ اللسان، وُلَـعَة بتتبُّع نواقص الناس وبالحَطّ من أقدارهم(7). وقد مدح كثيراً العباسيين تقية وتكسباً لا غيرُ.

3- الزُّبَــيْريون:
يذهب بعض المؤرِّخين إلى أن الحزب الزبيري عرف انطلاقته الفعلية عام 63 للهجرة، حين دعا عبد الله بن الزبير لنفسه. ويرغم آخرون أنه انطلق قبل ذلك، وبالضبط في أعقاب الثورة التي قامت ضد عثمان بن عفان. وكانت الحجاز مركز نشاطه، وعاصمةَ حُكمه. وتذكر بعض الكتابات أن أناساً كثيرين تعصّبوا، وقتذاك، لابن الزبير، ورأوا أنه أهْلٌ لقيادة المسلمين، لا سيما وأنه كان شجاعا مقداما، تقياً وَرعاً، يُطيل الصلاة، ويُكثر الصيام على حد قول عبد الملك بن مروان. يقول المستشرق كاتْرمـيرْ إنه لم يكن من بين العرب المتطلِّعين إلى الخلافة في القرن الهجري الأول، باستثناء علي، رجل اجتمعت له الحقوق والمؤهلات سوى شخص واحد؛ هو عبد الله بن الزبير. إن عمْر الحزب الزبيري قصير جدا إذا ما قارنّاه بالحزبين المتقدِّمين. ويعزى ذلك أساساً إلى أن هذا الحزبَ كان يواجه خصوماً عديدين، لم تكن له من القوة ما يَلزم لمواجهتهم جميعاً؛ لذا، كان طبيعياً أن يهزموه. ولهذه الهزيمة بُعْد سياسي عميق؛ إذ إنها "ليست هزيمة شخص أو حزب، ولكن هزيمة ذلك الإقليم الذي حمل لواءَ هذه النهضة مدة من الزمن"(8). و يذكر الجراري جملة من العوامل القابعة وراء فشل الحركة الزبيرية، منها:

* عدم لجوء ابن الزبير إلى الحيلة والمكيدة لاستغلال الظروف والفُرَص المُتاحة أحياناً.

* بُخله الشديد، في الوقت الذي كان خصومُه يُغْدِقون الآلاء والعطايا والأموال لكسْب العطف والتأييد.

ولم يكن الرجل يبخل على غيره فقط ، بل كان مقتراً أيضاً على نفسه وذَويه.

* سوء اختياره لعُمّاله ومُمَثـليه في الأقاليم، وبخاصة في أقالـيم العراق.

* اتخاذه الحجاز قاعدة لحزبه ولحكمه، وعدم خروجه إلى المناطق الأخرى.

* اعتمادُه على العنصر العربي فقط في تكوين حزبه، وإهماله المطلق للمَوالي الذين كانوا يشكلون الأغلبية من ساكنة العراق إبّانئذٍ.

* قوة بني أمية في إمْرَة عبد الملك بن مروان؛ بحيث كانت تفوق ـ بكثير ـ قوة الزبيريين، لا سيما وأن هؤلاء أنْهكتهم الحروب مع الخوارج والشـيعة.

ويقوم الحزب الزبيري على مجموعة من "المبادئ"، يمكن ذكر بعضها في النقط الآتي:

* التمسك ببقاء حاضرة الخلافة الإسلامية في منطقة الحجاز.

* ضرورة استمرار الخلافة في قريْــش، ومعها المُضَرية.

* مناهضة الأحزاب الأخرى، ومناصَبتُها العَداء. فالزبيريون يحاربون الأمويين؛ لخروجهم على نظام الشورى، وإقرارهم ولاية العهد، وتوْريثهم الخلافة، ونقلهم عاصمة الدولة الإسلامية من موطنها الأصلي (الحجاز) إلى الشام، وتقريبهم اليمَـنية، وتنكيلهم بالقرَشيّين وبالصحابة وأبنائهم. ويقاتل الزبيريون بني هاشم؛ لأنهم يرَوْن أنهم أحقّ بالخلافة من سوائهم. ويحاربون الخوارج؛ لأنهم يختلفون معهم في الرأي بشأن عثمان وطبيعة نظام الحُكم.

إن الشعر الذي واكب مسيرة الحزب الزبيري، وعبّر عن مبادئه السياسية ضَحْلٌ، ولا يكاد يقدِّم صورة شافية كافية عن هذا الحزب. ومردُّ هذه الضحالة – في المقام الأول – إلى بُخل زعيمه ابن الزبير، وعدم إغداقه المنح والعطايا على الشعراء الذين كانوا يقصدونهم، ولا سيما مَنْ كان معْدماً منهم. يقول عنه عباس الجراري: "الحق أنه لو كان كثير العطايا لالتفّ حوله الشعراء يمْدَحونه ويدْعون لفِكرته، بل إن الشعراء كانوا يقصِدونه ليمدَحُوه ويأخذوا منه، ولكنهم لا يلبثون أن يكتشفوا بُخـله فينصرفوا عنه"(9)؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى نابغة بني جعدة. ولعل الشاعر الوحيدَ الذي أخلص للزبيريين، وكرّس أشعاره للدفاع عن مبادئهم وعقيدتهم السياسية، أن يكون عبيد الله بن قيس الرّقيات؛ إذ إنه مدحهم، وروّج لأفكارهم حبّاً لهم، لا ارتزاقاً وطمعاً، بالرُّغم من فقره ووَضاعة حاله. ولكنه – بعد انقضاء الحركة الزبيرية وانتهائها – سيتصل بالحزب الأموي، ويمدح رجالاته على سبيل التكسُّب.

من الصعوبة بمكانٍ أن نتحدث عن خصائصَ مميِّزةٍ لشعر الزبيريين، وذلك لسببيْن اثنين على الأقلّ؛ فأما أولهما فيكمُن في أن مبادئ حزب الزبيريين لم يُتحْ لها التبلوُر حتى تنعكس في أشعارهم، وأما ثانيهما فيتجلى في قلة شعر الزبيريين وضآلته، إلى درجة أنه يكاد ينحصر في شاعر واحد (ابن قيس الرقيات). وعليه، فإن الحديثَ عن خصائص الشعر الزبيري لا يعني إلا الحديث عن خصائص شعر هذا الشاعر الذي جعل شعرَه وَقفاً على الزبيريين طَوالَ عُمر حزبهم. ومنها:

* يمتاز أسلوب ابن قيس الرقيات، في التعبير عن زُبَيْريته، بالخَطابية والمُـباشَرة. ويشيد فيه بابن الزبير، وبوَرَعه وتقواه وصلاحه، ويقْرنُه بأبي بكر وعمر وعثمان.

* يتعصّب للقرشـيين، ويتحمَّس لهم، ويُشفق عليهم من الفُرقة.  

* تظهر في شعره ملامح الحزن والبكاء، ولا سيما حين يرثي أو يصوّر ما حاق بقريش في الحجاز من مِحَن وإحَن على يد بني أمية.

* يحضُـر الجانب الديني، بقوة، في شعره؛ كالاقتباس من القرآن الكريم، وتواتر المفرَدات المنتمية إلى الحقل المعجمي الديني في قصائده.

* يلجأ  إلى التغزُّل بأزواج الأمويين؛ لإغاظتهم واستفزازهم وهَجْوهم. وتحسُن الإشارة إلى أن تغزله هذا لم يكن مُقذِعاً مُفحشاً، وإنما كان عفيفاً لا أذاة فيه للمتلقي. فقد كان الشاعر – كما يقول طه حسين (ت1973م) – "يتخذ النساء وسيلة إلى حرْب الرجال، فكان يحرص الحرصَ كلَّه على ألاّ يؤذيهنّ أو يُذيع بينهن الفاحشة كذِباً وزُوراً، بل كان يَمضي إلى أبعدَ من هذا، كان يريد أن يتملّق هؤلاء النساء وأن يرضيهن عن نفسه وأن يحبّب إليهن هذا الغزل الهجائي"(10).

* يتـصف أسلوبُه في الكتابة بالرقة، والجَزالة، والسلاسة، والبُعد عن التمحُّل والإغراب.

* يميل إلى استعمال البحور الشعرية الخفـيفة والمجزوءة... إلخ.

وفي ختام هذا المقال، لا بأس من أن نسجل بعض المُستخْلَصات والملاحظات التي اعتنّت لنا، ونحن نتصفح كتاب الجراري المَعنيّ بالعرْض والقراءة هنا:

* من الأكيد – إذاً – أن الشعر العربي على عهد الأمويين كان قويّ الارتباط بالسياسة وبالأحزاب السياسية، ولا سيما "أحزاب اليِسار" التي كانت تعارض الحُكم القائم، وتطعن في شرْعيته. وكان لكل حزب شعراؤه الذين يعبّرون عن مبادئه، ويَذودون عن عقيدته السياسية، ويتصدّون لخصومه. بمعنى أن الشعر كان لسانَ الحزب، وبُوقه في حاليِ الحرب والسلم معاً.

* خلّف شعراءُ الحزب الخوارجيّ شعراً غزيراً، ولكن ما وصلنا منه قليل جدا. ويعزى ذلك – بالأساس – إلى موقف الدولة العباسية منه، وإلى قيامها – عن قصْد – بتضْييعه وتجاهُله حين همّت بتدوين الشعر والآداب الأخرى، بدءاً من القرنين الثاني والثالث الهجرييْن. وقد دفع العباسيين إلى هذا الصَّـنيع ما كان يتضمّنه هذا الشعرُ من هجوم سافر وتكفير واضح لكل مَن ليس مِن حزب الخوارج. على حين أن أكثر شعر الشيعة حَظيَ بالتدوين والحفظ، فوصلنا منه الشيء الكثير. وكان لمبدإ التقية الذي أخذوا به قولاً وفعلاً أعظمُ الأثر في هذا الإطار. ولم يبلغْنا من شعر الزبيريين إلا النزْر اليسير؛ وذلك لقِصَر عُمْر حزبهم، وعدم احتفال زعمائهم (ابن الزبير خاصة) بالشعراء المتكسِّـبين.

* كرّس الشعراء الخوارجُ أشعارَهم كلَّها لخدمة حزبهم، والدفاع عنه. وكانوا مُخلِصين، أشدّ ما يكون الإخلاص، لمبادئهم وتوجُّهاتهم السياسية والفكرية؛ فعملوا – بتفانٍ ونُكران ذاتٍ – على تجسيدها وتحقيقها في الواقع العَمَلي. على حين أن الإخلاصَ والصدق كانا مُفتَقديْن لدى الشيعة إلى حدّ مّا. ذلك بأنهم لم يقفوا شعرَهم على حزبهم وحدَه، وكانوا شديدي التعلق بملذات الحياة الدنيا ومُتَعها الزائلة، ولم يكونوا يخوضون المعارك بأنفُسهم، واتخذوا أشعارَهم تُكَأةً إلى الارتزاق والاغتناء أخذاً بمبدإ التقية الذي كان يُبيح الأخذَ به أئمتُـهم.

* تنطوي مبادئ الخوارج على غير قليل من التطرُّف والغلوّ، ولا سيما في قضية التكفير. فمِنَ المعلوم أنهم كانوا يكفّرون كلَّ مَن ليس من حزبهم، بل إن كل فرقة خوارجية كانت ترى أنها في طريق الصواب والحقّ، وما عداها من الفرق الخارجية الأخرى على ضلال. وبهذا، صارت كل فرقة تكفر أختها. وفي مبادئ الشيعة وفِرقها، أيضاً، غلوّ وشعْبَذة، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة.

 

الإحـــالات:
1- الأصلُ في ياء النسب، كما يقول علماء اللغة العرب، أن تلحق المفرد لا المثنى والجمع. ولكنّا اصطنعْنا، هنا، النسبة إلى الجمع؛ درْءاً لأي لَبْس أو خلط أو فهم غير مقصود قد يتبادر إلى ذهن القارئ لو نسبْنا الكلمة إلى المفرد. وهذا الأمر صار الآن ممّا يجوز في العربية، لا سيما بعد أن أقرّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة ذلك.
2- د. عباس الجراري: في الشعر السياسي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط.1، 1974، ص65.
3- البغدادي: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط.1، 1973، ص20.
4- عبد الله بن سبإ من أصل يهودي.
5- أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني، 15/298.
6- نفســـه، 7/5.
7- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تح: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، د.ت، 2/34.
8- د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط.13، 1991، 1/338.
9- عباس الجراري: في الشعر السياسي، م.س، ص192.
10- طه حسين: حديث الأربعاء، دار المعارف، القاهرة، ط.15، 1998، 1/251.