هذه شهادة عن فصل النزوح في الثورات العربية الدامية، وعن بنية المشاعر العربية الفطرية السليمة، التي تجعل الشعوب العربية تتنادى في أوقات المحن. فقد أدت وحشية قمع نظام القذافي لشعبه، ودك مدنه براجمات الصواريخ، إلى نزوح شعبي لم تعرفه أي من الثورات العربية الأخرى، يصبح الكاتب أحد ضحاياه.

لو يعلم شكسبير وأمين الريحاني

محمد الأصفر

لو يعلم شكسبير بكرم مصر
في لحظات تحولت كلمة ثورة التي كانت مقترنة بتاريخ الفاتح من سبتمبر 1969م لتنقذ نفسها من الزيف ومن السجن ومن القالب المؤدلج الذي وضعها القذافي فيه خلال 41 سنة اعتبارا من عام 1969م، العام الذي شهد الانقلاب العسكري لملازم المخابرة معمر القذافي صحبة مجموعة من العسكريين أسماهم الضباط الوحدويين الأحرار، وهم من الحرية براءة، براءة الذئب المظلوم من دم يوسف، لتنزرع هذه الكلمة في مكانها اللائق أمام يوم 17 فبراير 2011م اليوم الذي تفجرت فيه ثورة الشباب الليبية .. وفي لحظة منيرة تغير وعي الناس وصارت كلمة ثورة ما عادت تعني الفاتح من سبتمبر1969 م لا من قريب ولا من بعيد، وإنما تعني 17 فبراير 2011م. صار شهر الفاتح هو شهر الانقلاب الدكتاتوري الذي وضع ليبيا في سجن مظلم طيلة 41 سنة وسبب لها الكثير من المشاكل على الصعيد المحلي والعربي والأفريقي والدولي. وورطها في حروب وفي عمليات إرهابية، وفي حوادث خطف وذبح وتغييب قسري واغتيالات، وإسقاط طائرات مدنية آمنة، وتدبير انقلابات في دول أفريقية، وغيرها من دول العالم الثالث وفي كثير من العمليات الاستخباراتية الأخرى القذرة وغير القانونية، والتي سيكشف عنها التاريخ كعادته فور غرق النظام إلى شفشوفته نهائيا.

لقد انتزعنا كلمة ثورة من الفاتح بفضل شجاعتنا وحبنا للحرية وتضحياتنا، وزرعناها في حديقة يوم انتفاضتنا في 17 فبراير، لتتألق أكثر وتتعالى وتسمو وتجعل حياتها وحياتنا أكثر جمالا وسلاما .. وككل دكتاتور كشف الشعب تفاهته فصار لا يصدق أنه قد فقد جبروته وأن السلطة قد تسربت من يده .. وأن قبضته ما كانت تقبض إلا على سراب هش .. وما كانت تسيطر إلا على وهم، وعلى كومة من رمال، وليس على شعب ليبي حر أبيّ حي لا يرضى أن يضعه كائن من كان تحت تصرف بنانه القذر .. فما كان من هذا الدكتاتور إلا أن أطلق نيرانه الحارقة على الشعب الأعزل المطالب بحقه في الحرية كبقية الشعوب الحرّة .. أطلق باروده على الشعب، لا يفرق بين شاب أو طفل أو عجوز، أو حتى شاة ضأن أو ماعز أو جمل أو قط أليف .. لقد أطلق ناره لتدمر وتحرق وتغتصب هذا الشعب الذي رفضه وأخرجه من رأسه نهائيا، وأراد أن يكون حرا .. قصف المدن والقرى والمصانع والمساجد والكنائس والمخابز ومحطات الوقود وأبراج الكهرباء والموانئ والمطارات والمزارع والحدائق وحقول النفط .. حجب خدمة الهواتف والنت ومحطات التلفزيون .. قطع عن الناس في المدن الثائرة الماء والكهرباء، قتل الجرحى على أسرة المستشفيات، ونبش القبور لخطف جثث الشعب الثائر ليستخدمها في أغراضه الدنيئة .. فكلما تم قصف هدف عسكري من قوات التحالف المناصرة لقضية الحرية أخرج هذه الجثث وصرح إعلامه الكذاب بأن هناك ضحايا مدنيين .. فعل كل ما في وسعه من قمع، وقهر وتدنيس للمقدسات .. مارس بكل صفاقة سياسة الأرض المحروقة ليجعل الناس تترك بيوتها وتفر ناجية بما تبقى لها من حياة، خائفة على شرفها العفيف، وشرف بناتها من مرتزقته الحشاشين والسكارى والمجرمين، ليصل بعض أولئك الفارين من القصف ومن جرائم القذافي وانتهاكاته السخيفة إلى عدة مدن حدودية في تونس ومصر والجزائر، وحتى إلى مالطا وإيطاليا. ولقد عايشت أثناء رحلة قصيرة إلى مصر عبر الحدود البرية ما يعانيه هؤلاء الناس النازحين، من مدن اجدابيا والبريقة ورأس لانوف ومصراتة والواحات وأطراف بنغازي وغيرها من المدن التي شهدت القصف الوحشي المجنون من كتائب القذافي، من شعور بالألم والحزن للذي يحدث في ليبيا بسبب رعونة وجبن وعنجهية القذافي وزمرته المجرمة، الذين يصرون على أن يحكموا شعبا لا يحبهم ولا يريدهم ولا يستطيع هضم تخلفهم ودكتاتوريتهم وجهلهم ولو تجرع معهم مصنعا من الكوكا كولا، يصرون على أن يجثموا فوقه، ويركبوا فوقه، ويسرقوا مقدراته، ويستغلوا كامل حياته ويحكموه بقبضة من حديد ونار أو يقتلوه فردا فردا فردا.

مشاهد كثيرة عايشتها صحبة هؤلاء النازحين وحكايات بشعة سمعتها منهم يندي لها الجبين.. وفي الوقت نفسه سمعت منهم ثناء وشكرا ودعاء من القلب لأهالي مطروح الكرماء الذين احتضنوا هذه الحالات الإنسانية وأشعروهم أنهم في بيوتهم وبين أسرهم فمنحوهم السكن المجاني والغذاء والرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية ووفروا لهم كل الخدمات التي لن توفرها بصورة حميمية أي منظمة إنسانية معروفة كالمنظمات التي نجدها بخيامها منتشرة على الحدود.

الآن السفر من بنغازي إلى مصر صار رحلة ممتعة، يمكنك أن تقوم بالرحلة في أمان، سيارات الأجرة تجدها في المحطة القريبة من الفندق البلدي .. وكالات كثيرة تستقبلك بود وتوفر لك السيارة المناسبة التي تقلك إلى طبرق أو مساعد أو مصر بكل مدنها، وبالطبع حسب ظروفك وإمكانياتك الاقتصادية، فبأي سعر يمكنك أن تتحصل على وسيلة مواصلات، وبعد ثورة 17 فبراير عادت الرحمة والمودة إلى مدينتي. فيمكنك أن تجد سيارة تنقلك مجانا إن كنت محتاجا ولا تملك مالا حاضرا الآن، تجد وكالات كثيرة، منها وكالة المقعم، ووكالة الخشمي، التي دائما أتعامل معها في إرسال الكتب واستلامها من أصدقائي الأدباء في مدن ليبيا .. تركب السيارة أنت وأسرتك في أمان .. ليس الطريق إلى مصر محفوفا بالمخاطر كأيام القذافي الله لا تعيدها .. الآن ينعشك منظر علم الاستقلال الجميل بنجمته المتألقة .. البوابات كلها محترمة .. لا رشى ولا مضايقات .. ولا قف وترجل .. لا كلام بذئ أو أنزل من غير نقاش .. يحترمون العائلات وكأنها أسرهم هم .. الطريق سرعان ما تنطوي .. وكلما يقف السائق على استراحة ينزل الركاب ويشاهدون نشرة الأخبار ليطمئنوا على الثوار في كل مدن ليبيا الشامخة. الإجراءات في الحدود الليبية المصرية سريعة .. المصريون رائعون .. يقدمون لليبيين كل التسهيلات .. ليس ضروريا أن يكون معك جواز سفر .. فحتى البطاقة الشخصية يتم قبولها .. وحتى كتيب العائلة يتم قبوله .. يستقبلك الجيش المصري البطل بحب .. وضابط الجوازات يسجل أوراقك على الحاسوب ويختم لك .. أنت ليس معك سيارة .. إذن ما عليك إلا أن تمشي خطوات قليلة على الطريق المؤدي إلى هضبة السلوم .. لن تمر دقائق حتى تتوقف عليك سيارة من سيارات قبائل أولاد علي .. وغالبا ما تكون سيارة نصف نقل .. يخاطبك السائق بلهجة ليبية بدوية شبيهة بلهجة أبناء طبرق الرائعين، محطمي أنصاب الكتاب الأخضر في أول أيام الثورة، تفضل انوصلوك تحت (إلى قرية السلوم أسفل الهضبة حيث محطة السيارات والاتوبيسات العامة)، كان في السيارة كرسيا واحدا أمامي يحمل السائق ونفرين معه، وكنت وزوجتي وابني جبير وابنتي مهجة، نزلا الراكبان اللذان إلى جانب السائق وقفزا في الصندوق الخلفي للسيارة مع البضائع، أخذا مني حقيبتنا وحقيبة الطفلين إلى صندوق السيارة وركبنا أربعتنا إلى جنب السائق. كان الوقت ليلا وكان الجو باردا، وصلت بنا السيارة سريعا إلى تحت، هناك رأينا خيمة كبيرة، ما إن نزلنا حتى ركض نحونا بدوي شاب قفز إلى الصندوق وأنزل حقيبتينا قائلا: "تفضلوا ورائي"، تبعناه فأدخلنا إلى غرفة كبيرة مفرشة بالأكاليم تنتشر في أرجائها عدة طاولات أكل منخفضة (تسمى طبلية) وكل طاولة إلى جانبها علبة محارم ورق وقنينة ملطف جو .. وفوق الأكاليم تناثرت بنظام طنافس مستطيلة من الإسفنج وإلى جانبها عدة بطاطين دافئة من التي نسميها في ليبيا بطاطين نمر.

غاب البدوي قليلا وعاد داخلا علينا بسفرة عليها علب تن وجبن وزيتون وحلوى طحينية وطماطم أخضر وخيار وفلفل وعصائر ومياه غازية وماء معدني. جلسنا حول السفرة وأكلنا من زاد الكرماء حتى شبعنا، وجلب لنا البدوي براد شاي ساخن، ومعه طاسات زجاج صغيرة شربنا منه حتى اعتدل مزاجنا، والصغيران امتصا من العصير حتى ارتويا، أما بقية الطعام فجمعناه في كيس كي نأخذه معنا تقليصا للنفقات .. لا ندري من القائم بهذا العمل الخيري النبيل، لكن لمحت على الجدار ورقة دعائية لعمل الخير تابعة لجمعية خيرية مسجل عليها عدة أرقام هواتف وعناوين .

جمعيات خيرية من جمعيات المجتمع المدني تنتشر في كل بقاع الأرض لتقدم خدماتها للملهوفين والمتضررين زمن الحرب والنكبات والكوارث وزمن السلم تقوم بدورها الطبيعي المؤسسة من أجله في نشر الديمقراطية وإصلاح المجتمع وزرع الخير بكل أنواعه في ربوعه، كل دول العالم بها جمعيات خيرية تلبي النداء وقت الشدائد، عربيا قطر والإمارات والكويت ومصر رغم قلة إمكانياتها، وعالميا لا يمكننا أن نغفل دور بريطانيا التي هي على الرغم من قلة إمكانياتها مقارنة بباقي دول العالم أثبتت أنها بالفعل بلد شعبه كريم، يدفع ضرائب بسخاء وصدقات من أجل إنفاقها في الأعمال الخيرية. شعب يحب ويمارس النشاط الخيري كوجبة يومية، لا يمكنه أن يستمتع بشاي المساء والبسكويت دون أن يكون قد أرضى ضميره وساهم في رفع معاناة محتاج أو خائف أو جائع أو أمي في كل بقاع الأرض دون تمييز أو عنصرية، بل جمعياته تمتد لتقديم يد العون لغير الإنسان، أي لكائنات حية أخرى كالحيوانات والنباتات، بعكس دول أخرى تتمتعان بمعدلات نمو اقتصادي عالية كالصين والهند لكنها دائما في مجال الأعمال الخيرية نجدها في أسفل القائمة.

مصر رغم ما يعانيه اقتصادها من أزمات إلا أنها من أوائل الدول التي أغاثت الشعب الليبي إبان ثورته الحرّة. وكرمها سبق مشاكلها ووصل قلوبنا منعشا سخيا ليبعث فيها الاطمئنان والسكينة، قلت للبدوي ورفاقه نريد أن نواصل طريقنا إلى مطروح أو الإسكندرية، أحتاج إلى وسيلة مواصلات أكتريها إلى هناك، ألح علينا البدوي أن نبيتوا الليلة في السلوم، فتوجد أغطية وفرش وطعام وحمامات والصباح رباح، لكن أصررنا على مواصلة الطريق فنصحني البدوي آنذاك أن أذهب إلى مطروح. وزودني برقم هاتف للجنة إغاثة توفر لليبيين خاصة العائلات سكنا مجانيا، جاءت حافلة صغيرة فركبنا فيها وانطلقت بنا إلى مطروح .. كانت عيوننا تدمع عندما استقبلنا البدوي فور وصولنا إلى السلوم، واحتفى بنا وضيفنا ووقف قرب الباب ليكون رهن إشارتنا كي يخدمنا .. وزادت دموعنا أكثر عندما وصلنا إلى مطروح واستقبلتنا اللجنة بحفاوة وود وكرم قائلا أحدهم ونحن ندخل العمارة الأنيقة القريبة من البحر في منطقة علم الروم التي بها الشقة التي خصصت لنا: "ولا يهمكم بكل.. نحن خوت.. أي شيء ينقصك مااديرش غيبة (لا تجعل بيننا أي كلفة أو خجل أي اطلب كل ما تحتاجه).. نحن هلك.. نحن شعب حر واحد" .. شكرت أعضاء اللجنة ودخلنا الشقة .. غرف نظيفة.. صالة واسعة .. تلفاز مع منظومة بث .. فرن كهربائي .. ثلاجة .. حمام صحي به مياه ساخنة .. أغطية نظيفة .. شرفة واسعة تطل على البحر.

بعد قليل أحضروا لنا بعض السلع التموينية والماء والخبز والطماطم الأخضر والبصل والحليب والمربى والجبن وعلب الفول المدمس وقطع شوكلاتة للأطفال وكيس بالونات .. كنا منهكين قليلا من السفر .. نمنا ليلتنا.. وفي الصباح استيقظت وذهبت إلى دكان قريب اشتريت منه كبريت وبعض الأشياء الناقصة .. وعندما خرجت من جديد كي أذهب لوسط المدينة القريب من أجل الجرائد والنت وبعض المستلزمات للمدام والعيال، وجدت عضو لجنة الإغاثة أسفل العمارة سألته أين يمكنني أن أصرف خمسين دينار ليبيا، قال لي: "خلي افلوسك في جيبك".. وأخرج من جيبه ربطة مال عد لي عدة أوراق حوالي 100 جنيه مصري.. قال : "خذها وعندما تحتاج إلى نقود كلمني" .. اعتذرت عن قبولها، لكنه ألح كثيرا فقبلتها بود وشكرته كثيرا، ثم ذهبت إلى المدينة في سيارة أجرة بيضاء ذات رفارف زرقاء، في الطريق تجاذبت مع سائق الأجرة أطراف الحديث عن أحوال الحياة وخاصة الوضع في ليبيا .. وكان من المناصرين لثورة شباب ليبيا، أوصلني إلى الشارع الرئيسي في مطروح واسمه شارع الإسكندرية، ورفض أن يتقاضى الأجرة .. بل عرض علي أن يوصلني لأي مشوار مجانا ومدني برقم هاتفه.

مطروح كلها مع الثورة الليبية على الرغم من التحفظ الحالي بخصوص الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي رسميا من قبل الدولة .. علم الاستقلال الليبي تجده مرفرفا أمام الكثير من الدكاكين أو ملصوقا على زجاج وأبواب السيارات المصرية .. تراه يرفرف من الشرفات .. تراه وكل ملحقاته التذكارية من قبعات وميداليات وتي شرتات مرسوم عليها علم ليبيا وأعلام صغيرة وأوسمة (بروشات) معروضا للبيع والإهداء في الميادين، الكل يشتري من علم الأستقلال الليبي وملحقاته، الكل يقتنيه بحب ولا يفاصل البائع في الثمن فالسلعة هي الحرية، هي علم الاستقلال الليبي وزيناته وبهاراته الثورية .. فالسلعة هي علم الثورة المصري في 25 يناير.. هي علم الثورة التونسية .. علم الثورة اليمنية، الثورة السورية، الجزائرية، الموريتانية، ثورات كل شباب الوطن العربي .. تجد أيضا الكثير من الأعلام والتذكارات المزدوجة .. وجه لعلم الاستقلال الليبي ووجه لعلم الثورة المصرية. مطروح كلها مع ثوار ليبيا .. لا ترى في الشوارع إلا أعلام الاستقلال الليبية .. كما قلت في واجهات الدكاكين.. في المطاعم.. في المقاهى.. في شرفات شقق العمارات.. في سوق الخضراوات.. ودائما ما تجد سيارات مصرية ملصق عليها صورة لعلم الاستقلال الليبي وصورة لعمر المختار.. وفي أغلب المحلات والشوارع تجد ملصقا جميلا مكتوب عليه بخط أنيق : "اللهم سلم ليبيا وأهلها".

تجد أيضا في بعض المطاعم والدكاكين والأسواق ملصقات أخرى تدعو إلى التبرع من أجل إغاثة إخواننا الليبيين .. وللتاريخ هناك تجاوب كبير من قبل أهل الخير .. فالتبرعات لا تتوقف .. وليس بالضرورة مال .. أحيانا خضروات .. أحيانا دجاج .. أحيانا ملابس .. أحذية .. أي شيء يصل إلى اللجنة يتم تقسيمه على المحتاجين له .. الليبيون أيضا لا يقبلون إلا ما يحتاجون إليه فعلا بصورة ملحة. أهل مطروح أراهم بفعلهم هذا وقد تحولوا إلى متبرعين كبار، قد تحولوا إلى أغنياء، فما نقص مال من صدقة، كما جاء في أدبيات الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الآن أهل مطروح أراهم وكأنهم الرجل النبيل الأمريكي وارين بوفيت، أغنى رجل في العالم والمشهور بكرمه وحبه الشديد للنشاط الخيري، ذاك الرجل الذي بدأ حياته كادحا مثابرا في طفولته لم يستسلم للكسل والخمول، خرج إلى الشارع وبدأ في بيع المستيكة والكوكا كولا والطوابع والمجلات وغيرها من الخردوات ليبارك له الرب في تجارته الشريفة ويرتقي إلى فوق حيث الثراء الذي لم يقتل قلبه أو يجعله ناسيا للمحتاجين والفقراء والمنكوبين. فمثلما أعطته الحياة ها هو يعطيها ولا يبخل عليها ويقدم المساعدات والعطايا دون توقف ليحي كل مريض أو فقير أو متألم أو منكوب وبفعله هذا يحضرني القول الذي يقول ومن أحيا نفسا فكأنه أحيا الناس جميعا، فالكرم قيمة أممية، قيمة إنسانية، تمنح القائم بها سعادة لا توصف وتجعل الحب كبيرا جدا ومضيئا بين البشر جميعهم .. كما لا ننسى المهندس بيل جيتس وكرمه. هذا الرجل المعروف الذي جمع ثروته بكفاحه ونبوغه وجهده المتواصل في مجال الكومبيوتر والبرمجيات وهناك الكثير من الشخصيات الكريمة في هذه الحياة، لكن ذهني هذه اللحظة قدم لي إثنين فلن أطالبه بالمزيد.

الكرم قيمة إنسانية عالمية لا ينبغي أن ترتبط بالمال والغنى. فحتى الفقير يمكنه أن يكون كريما، فالابتسامة فقط تعتبر كرما، ما أجمل أن يبتسم في وجهك إنسان ويعانقك لتشعر أنك ملكت الدنيا .. كثير من الكرماء الكبار الذين اشتهروا على مر التاريخ مثل حاتم الطائي العربي المسلم الذي ذبح فرسه لضيفه حاجب قيصر الروم النصراني عندما لم يجد قرب خيمته شاة أو ماعز أو جمل، والطريف أن الحاجب قد أرسله القيصر إلى حاتم الطائي من أجل طلب هذه الفرس التي ذاعت شهرتها حيث أن حاتم شهامة وكرما منه سيهبها للطالب فورا دون ثمن، أدباء كثيرين تحدثوا عن الكرم وأسبغوه بنكهة فكرية فلسفية منهم:

- جبران خليل جبران الذي قال: الكرم الحقيقي هو أن تعطي أكثر من قدرتك على العطاء مع أخذ أقل ما يمكن من عزة النفس.

ومنهم وليم شكسبير الذي قال عنه ذات يوم الدكتاتور والفاهم في كل شيء معمر القذافي أن أصله عربي وأسمه الشيخ الزبير حيث قال شكسبير عن قيمة الكرم :

حتى الهدايا الثمينة والغالية تفقد قيمتها إذا كان العاطي قليل الرحمة قليل الشفقة

وهناك الكثير من المقولات حول الكرم، لكن دعونا نعود إلى الواقع، إلى حيث أنا الآن، إلى مطروح البهيّة الأبية الناصرة للحرية الناصرة للثورة الليبية لنواصل الحكاية .. الكل في مطروح يتابع التلفاز خاصة نشرات الأخبار وعندما تهل المتابعة الخاصة بليبيا الجميع في المقهى يصمت ويستمع لآخر الأخبار. ويمكنك أن تلاحظ علامات الارتياح والفرح والحبور إن كانت الأخبار تصب في مصلحة الثوار، وإن كان الثوار قد تراجعوا بسبب القصف فتلحظ بوضوح علامات الحزن وترتفع الأيادي فورا بالأدعية النابعة من القلب لنصرة ثورة الشباب المجيدة.. التلفزيون لا تتغير قنواته عن الجزيرة والعربية والقنوات المصرية الإخبارية إلا إن كانت هناك مباراة كرة قدم مهمة في الدوري المصري أو العالمي لكن بعد انتهاء المباراة يعود التلفاز لقناة الجزيرة لمتابعة آخر تطورات الثورة الليبية وبقية الثورات المجيدة في بلاد العرب.

الناس في مطروح يتابعون الأخبار بعاطفة قوية يتأثرون من الهزيمة ويفرحون بالنصر .. تشعر أن الثورة الليبية ثورتهم ربما أكثر من الليبيين .. أحيانا يعانقك مطروحي عناقا حارا ويطلب لك قهوة أو عصيرا لأن الثوار دمروا بعض الآليات في الزنتان أو مصراتة أو البريقة .. كل أهل مطروح تشعر أنهم يقاتلون معنا ببنادق القلب وصواريخ الروح ومدافع الإيمان الراسخ في وجدانهم .. تشعر أن القضية قضيتهم .. وأن القذافي وزمرته أعدائهم .. وبالمناسبة لم أر في مطروح أي علم أخضر خاص بالقذافي حتى الآن .. علم الاستقلال بألوانه الثلاثة أحمر أسود أخضر وبنجمته وهلاله الأبيض «واكل الجو» .. يلاقيك في معظم الشوارع والميادين .. يلاقيك ليحييك .. ويرفرف لك مواسيا واعدك بنصر مبين قريب .. فغيابه أكثر من 41 سنة ليس مشكلة .. كان يثق في ليبيا وشبابها الذين دفعوا دمائهم رخيصة كي يعود مرفرفا في كل العالم.

ترى أناس مطروح منصتين مركزين وكأنهم يتابعون مباراة لكرة القدم شبابا وشيبا .. وفي كل الحالات يمكنك أن تلاحظ تفاؤلهم بالنصر الوشيك على المجرم القذافي باديا على الوجوه الملتحية وعلى الجباه المشرقة، والحقيقة أن أهل مطروح وكل أهل مصر موقفهم مشرف من ثورة الشباب في 17 فبراير فمنذ تفجرها ظهر انحيازهم للثورة معتبرين الثورة الليبية مكملة للثورة المصرية في 25 يناير، فلم يقفلوا الحدود، وأرسلوا إلى ليبيا الأطباء والأدوية والمواد الغذائية والخضروات والفواكه، وكونوا لجان إغاثة للشعب الليبي الثائر في معظم مدن مصر، رأيت أحدها في الإسكندرية بجانب مسجد القائد إبراهيم قرب محطة الرمل .. سرادق به مكتب ولجنة متواجدة وأمامه ملصقات تعرض الجرائم التي ارتكبها القذافي في حق الشعب الليبي وحق شعوب العالم .. صور لأشلاء ممزقة ومتفحمة .. صور لبقايا من طائرة بان أميركا التي فجرتها مخابراته فوق بلدة لوكربي صور للشرطية الانجليزية (إيفون فلتشر) التي قتلتها رصاصات بندقية غادرة منطلقة من السفارة الليبية بلندن من قبل أحد الإرهابيين، صور لقتلى شباب في عمر الزهور، صور ضحايا من كل أنحاء العالم .. صور أسر هذه الضحايا وهم يحتجون ويبكون ويطلبون من الله ومن العالم القصاص من سفاح البشرية القذافي.

وبالمناسبة الثورة الليبية محظوظة جدا جغرافيا .. حيث سبقتها ثورة تونس ثم ثورة مصر.. والمعروف تاريخيا أن الثوار ينحازون للثوار .. ولو بدأ الليبيون ثورتهم قبل تونس ومصر ما حققت كل هذه النجاحات .. فبكل تأكيد سيضغط نظام الدكتاتور زين العابدين ونظام الدكتاتور حسني مبارك على ثوار ليبيا ويساهمون في وأد ثورتهم بقفلهم الحدود وتقديمهم للإمدادات .. فالآن ثغرة النظام الفاشي الدكتاتوري في ليبيا من جهة الجزائر .. وهذه الثغرة سيقفلها ثوار الجزائر قريبا أو تقتنع السلطات في الجزائر من جراء الضغوط الدولية أنه لا جدوى من الوقوف مع الإرهابيين والطغاة: القذافي وزمرته. وأن الوقوف مع الشعب الليبي الثائر أشرف لبلد المليون شهيد .. الذي شاركته أناس ليبيا إبان ثورته في الستينيات من القرن العشرين كفاحه ومدته بكل ما تملك من عتاد وسلاح ومال على الرغم مما تعانيه من فقر.. فتحرير بلد ونيل حريته هو الواجب المقدس لكل الشعوب الحية.

في مطروح تلمح في بعض الميادين مدرعات وعربات للجيش المصري .. الجيش العظيم الذي كسب ثقة شعبه واحترام العالم .. الجيش الشبيه بالجيش التونسي المنحاز لثورة الشعب والمتخلي عن الدكتاتور الذي أمره بذبح الشعب المسالم الأعزل، تحي الضباط والجنود الواقفين يحيونك بابتسامة، ويعرضون خدماتهم عليك.. لا مشاكل في مطروح من قبل النازحين الليبيين .. حوادث طفيفة جدا غير مؤثرة .. يتم التعامل معها من قبل لجنة الإغاثة بحكمة،معللين سببها بسبب الظروف التي يعيشها النازح الليبي والتي أجبرته على مغادرة بيته .. أهل مطروح يحترمون ويقدرون الليبيين .. ولا يمكن أن يجد الإحسان غير الإحسان مهما كانت نفس الإنسان سيئة .. حوادث طفيفة جدا تنتهي في وقتها ويتم احتواؤها من قبل حكماء مطروح وليبيا من أساتذة وأدباء ورجال دين أفاضل، حفاظا على مشهد التلاحم الجميل بين الشعب الواحد في مصر وليبيا وقت الشدة، الحقيقة أننا في مطروح لم نشعر إطلاقا أننا نازحين، شعرنا أننا ضيوف أعزاء مكرمين مرحب بهم جدا جدا جدا.

لم تقتصر مساعدات أهالي مطروح ومحافظتها النبيلة للنازحين من ليبيا على عملية الإيواء والتغذية والعلاج، إنما تجاوزتها لتشمل جوانب إنسانية أخرى.. عند الأصيل تطرق فتاة شابة الشقة ومعها طفلين صغيرين.. تزور العائلة وتسجل احتياجاتها في ورقة.. في اليوم الثاني تعود ومعها بعض الملابس للأطفال وبعض الألعاب، وقطن نسائي .. وملابس داخلية نسائية .. وحذاء .. تسأل عن الزوج ماذا يحتاج .. تقول لدينا بدل عربية جلابيب فتعتذر الزوجة وتشكرها فزوجها يلبس الجنز والملابس الأفرنجية .. فتتفضل الفتاة بإحضار ملابس داخلية للزوج وجوارب ومنشف ومعجون أسنان ومعجون حلاقة وشامبو .. تقول نحن أهلكم ولا يمكنكم أن تشعروا بيننا بأي احتياج .. نقطع لحمنا ونمنحكم .. تصرفات كريمة تحدثها اللجنة النسائية المحتشمة وهي تزور شقق الليبيين عارضة ما تيسر من خدمات. في يوم آخر يحضرون حافلة ويأخذون كل أطفال الليبيين وأمهاتهم إلى منتزه به ألعاب أطفال، وبعد قضاء وقت ممتع يعيدونهم إلى الشقق. أحيانا يرنون جرس الشقة ويقدمون لك كيس بطاطس أكثر من 5 كيلو .. الشقة امتلأت بقناني الزيت وبرطمانات الطماطم المعجون وعلب الجبن المالح والمربى وأكياس الأرز والمكرونة والسكر وعلب الحلوة المعجونة حتى يمكن للنازح أن يبيع من هذه المواد الغذائية الفائضة للدكاكين من أجل توفير سيولة يشتري بها بعض الكماليات التي يخجل أن يطلبها من أهالي مطروح الذين سيلبون طلبه ويحضرونها على الفور. تريد أن تملأ رصيد هاتف، صاحب محل الهاتف يمتنع عن تقاضي ثمن الرصيد.

كي تدفع عليك أن لا تتكلم .. عليك أن لا تفصح على أنك ليبي .. صديقي مرض ابنه فجاءته سيارة وحملته إلى مستشفى مطروح العام، عولج مجانا ثم منح قائمة الدواء الذي عليه أن يشتريه له من الصيدلية، عضو اللجنة الذي حمله للمستشفى أخذ منه الروشيتا واشترى له الدواء وأعاده إلى الشقة بكل حب ورحابة صدر. وعندما أخذت زوجتي للعلاج في عيادة خاصة دفعنا 40 دينار ثمن الكشف لكن بعد أن عالجها الطبيب وكتب لها قسيمة الدواء وخرجنا من غرفته نادت الممرضة المختمرة زوجتي وأعادت لها الأربعين دينار.

أشياء جميلة ونبيلة حدثت في مطروح امرأة ليبية جاءها المخاض فتم حملها إلى المستشفى لتولد بعملية قيصرية وبعد العملية لقت الرعاية الشاملة من نسوة مطروح العفيفات، لم ينقصها شيء، قماميط وقطن وبودرة وبخور وحليب وماء غريب وألحفة للطفل، شوربة ساخنة باللحم الضأني نقيع حلبة تمر عسل زيت زيتون، فواكه خضروات مكسرات حلويات كعك غريبة مقروظ، لقد شعرت هذه المرأة وكأن أمها معها أو أختها أو كل أسرتها، لم تشعر بالغربة أو الحزن فالخدمات كانت تقدم لها من القلب، ونسوة مطروح تتسابقن على خدمتها وقد يحدث شجار بينهن بسبب رغبتهم الجامحة في فعل الخير.

فتاتان ليبيتان بيتهما تحطم من قصف كتائب القذافي، وأسرتهما استشهدت. حضرتا مع عائلة إلى مدينة مطروح، لم تمض أيام حتى تم خطبتهما وتزوجتا من شابين من مطروح، وأقيم لهما عرسا بهيجا زاخر بالزغاريد، عرس الكل ساهم فيه بالطعام والكساء والمأوى والفرح، أشياء جميلة وأفاعيل نبيلة تحدث كل يوم في مطروح، بل كل ساعة، بصراحة هناك كرم غير عادي وأخوة رائعة تجاوزت المتعارف عليه. في يوم جمعة تمت دعوة العائلات الليبية إلى حضور حفل ترحيب نظمته لجان الإغاثة في مسجد الفتح والوقت بعد صلاة المغرب، جاءتنا حافلة نقلتنا إلى مكان الاحتفال المنظم تحت شعار من أجل شد أواصر المحبة والود مع أشقائنا الليبيين. كان هناك في المسجد مكانا مخصصا للنساء والأطفال، ومكانا للرجال وبعد صلاة المغرب بدأ الحفل وألقيت الكلمات المناصرة لثورة الشباب في ليبيا من قبل شيخ جليل اسمه "فرج العبد" حيث دعى إلى نصرة إخواننا الليبيين. وتحدث عن الظروف التي يعاني منها الشعب الليبي طيلة 42 سنة بسبب حكم القذافي القمعي وما يرتكبه من جرائم يومية في حق الشعب الليبي والدين. بعدها التقى الحضور بالشيخ الشاعر البدوي الكبير عبدالكريم بوجديدة الذي ألقى عدة قصائد شعبية باللهجة البدوية، وهي لهجة ليبية مفهومة، تتحدث عن كفاح الشعب الليبي وتدين نظام القذافي وتنادي بشد أواصر الأخوة والصداقة بين الأشقاء في ليبيا ومصر. وقد اكتست قصائده الجميلة بنفحة من السخرية البليغة التي جعلت الجمهور في المسجد يبتسم بين الحين والآخر .. وحان موعد صلاة العشاء .. وصلى الجميع صلاة العشاء ودعوا جميعا إلى نصرة الشعب الليبي في ثورته .. أدعو لإخوانكم في ليبيا .. ويرتفع الدعاء صافيا شفافا مضيئا للروح باعثا فيها الاطمئنان والسكينة .. وبعد صلاة العشاء تواصلت القصائد وتواصل الحفل ووزعت المرطبات والحلويات، ولقد كان المسجد المتكون من عدة طوابق مكتظا بالمناصرين وبالليبيين وبالمصلين وفي نهاية الحفل عادت الحافلات بالعائلات الليبية إلى شققها معززة مكرمة وقد ارتفعت معنوياتها عاليا وشعرت أنها لم تغادر وطنها المناضل من أجل الحرية.. فأهل مطروح .. ما خلوا ليبي مجروح.. والآن عندما نقول أن مصر هي امتداد لليبيا لا نخطئ.. وعندما نقول أن مصر وليبيا شعب واحد لا نخطئ .. ونتوقع بعد هزيمة القذافي وقيام دولة الثورة الجديدة أن تكون هناك وحدة حقيقية بين الشعبين الليبي والمصري.. وحدة قلب قبل أن تكون وحدة سياسة.. وحدة لا تجارة ولا أغراض سياسية فيها.. وحدة ثوار.. وحدة بين ميدان التحرير في كل مدن مصر وميدان التحرير في كل مدن ليبييا.. شكرا مطروح.. شكرا مصر العظيمة.

أمين الريحاني  يزورني في ليبيا
عندما كان الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911 م  لإستعمارها وليس لتحريرها من العثمانيين الأتراك، كان الأديب الكبير أمين الريحاني قد أصدر روايته الجميلة  المشتملة لرؤية حداثية  للعصر الجديد (خالد)، وفي عام 2011 قامت في ليبيا ثورة شبابية رحبت بها كل البلاد وكل العالم، في عام 11 من كل قرن هناك أحداث حدثت، ليس بالضرورة أن نربط بينها، لكن يمكننا أن نتناول منها ما يخصنا، والاستعمار الإيطالي هنا لليبيا عام 1911 م ككاتب لا يهمني كثيرا فإيطاليا التي زمان ليست إيطاليا الآن، والفاشية وحليفتها النازية ولت إلى غير رجعة، لكن ما يهمني هو أمين الريحاني الروائي والقاص والفنان التشكيلي والرحالة والقارئ والشاعر والفيلسوف والدبلوماسي .. الكاتب الشامل متعدد المواهب، والإنسان المناضل طيلة سنين عمره من أجل الحرية .. الإنسان الذي لم يذهب إلى العالم المضيء قبل أن يترك لنا مكتبة كبيرة، وقبل أن يجعل كل الإنسانية فخورة بمنجزه الإبداعي، نحن سعداء في ليبيا لأن ثورتنا قامت عام 2011 م وسعداء جدا أن يحتفي العالم بثورتنا وتؤيدنا كل المؤسسات الدولية وكل شعوب العالم، وسعداء جدا أن يكون هذا العام عام مبارك، عام ثقافي يحتفل فيه العالم بمئوية كتاب عزيز على كل القراء والأدباء هو (رواية خالد) للأديب أمين الريحاني، الأديب الأممي الذي يتكلم ويكتب بعدة لغات منها العربية والإنجليزية والفرنسية لغته الثانية بعد العربية، اللغة الأم .

وسعادتنا بالريحاني ليس بسبب الأدب فقط، لكن بسبب انحيازه الواضح في كل منجزاته الإبداعية والفكرية وأيضا تحركات حياته لقضية الحرية، ولنصرته للشعوب الضعيفة المغلوبة على أمرها .. فلنأخذ مثلا بسيطا :

يقول في وصيته :

أوصى إليكم إخواني في الإنسانية : البيض والصفر والسود على السواء شرقا وغربا:
إن حق الشعب في تقرير مصيره لحق مقدس، فأوصيكم بالجهاد في سبيله، أينما كان.
إن الأمة الصغيرة وهي على حق لأعظم من الأمة الكبيرة وهي على باطل.
إن الأمة القوية الحرة لا تستحق حريتها وقوتها  و مازال في العالم أمم مستضعفة مقيدة.

ويقول في إحدى مدوناته الأخرى :

أريد أن أرتفع دون أن أدوس من هم دوني أو أحسد من هم فوقي-القوة للحق والحق لايموت".

والحقيقة أن الريحاني كان حاضرا في بيتي  ببنغازي وقريبا جدا من أفكاري ومعتقداتي في الحياة، خاصة المتعلقة بالمساواة بين البشر .. بيض سود صفر .. ونضاله من أجل أن تتحصل كل شعوب الأرض على حريتها .. دافعا بكلمته المهمة التي يعاتب فيها العالم الحر أو الدول الكبرى معتبرا إياها أنها لا تستحق حريتها ما دامت في الودود أمم مستضعفة مقيدة مغلوبة على أمرها .. ولعل كلمة الريحاني الخالدة هذه هي من جعلت العالم الحر في العالم متمثلا في فرنسا وأمريكا وبريطانيا وبقية دول الإتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا واليابان وغيرها من الدول أن تقف وقفة شرف وبطولة حيال ثورة الشعب الليبي الشابة التي بدأت شرارتها ببعض الشباب العزل والذين تم معاملتهم من قبل الدكتاتور الأرعن معمر القذافي وكأنهم حشرات  وقوارض ضارة بمبيدات نارية وصواريخ ودبابات وقنابل عنقودية وقصف جوي بشع من أجل إسكاتهم ووأد ثورتهم الشريفة الشجاعة النظيفة التي أعلنوا فيها عشقهم للحرية ورفضهم للعبودية التي كبلتهم أكثر من أربعين عاما .

أمين الريحاني كان حاضرا في بيتي .. في مكتبتي .. مع رفاقه من أدباء المهجر جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إيليا أبوماضي .. ومع أدباء العالم .. أبى العلاء المعري .. ابن رشد .. المتنبي .. ابن خلدون .. أبي القاسم الشابي ..  شكسبير ..فولتير .. وايت مان .. ديوستوفسكي .. جان جينيه .. همنجواي .. فوكنر .. تشاينبك .. فيكتور هيجو .. دانتي ..  جوته .. صامويل بكت .. ميلان كونديرا .. امبرتو ايكو .. و ج . د. سالنجر وغيرهم .. الكتب في مكتبتي مكومة فوق بعضها .. لا أحب الفهرسة والتنظيم .. أحاول أن أجعل كل الكتب تعيش في خليط .. حرة .. لا حاكم يفهرسها .. عندما أحتاج إلى جرعة حب أعرف كتابي .. وعندما أحتاج إلى جرعة جنون أعرف كتابي .. وأيضا حرية أعرف كتابي .. كل الكتاب في مكتبتي أصدقائي .. أحبهم كثيرا .. ذات ليلة اقتحمت المخابرات الليبية بيتي .. قلبته رأسا على عقب .. بحثا عن سلاح أو كتب ممنوعة .. بعد عودتي للبيت بعد شهور من الاختفاء وجدت الكتب كلها .. بعضها ممزق .. بعضها مداس بحذاء عسكري .. بعضها يبكي .. بعضها خائف .. بعضها حزين .. بعضها مبتهج بعضها منتصب .. بعضها عنين .. بعضها يرقص .. بعضها يتغوط .. بعضها يحتسي الفودكا والجن .. الكتب كالبشر لكل كتاب إحساسه ومزاجه .. كتاب الريحاني " خالد " خاطبني آنذاك بدبلوماسية مطلقا آهة لا مبالاة ولا اكتراث .. رفعته من على الأرض لأسمع منه الحكاية .. قال لي شيئا ما .. وأوصاني أن يكون سرا .. كل من يريد كشف السر أو معرفته، عليه بقراءة أي كتاب للريحاني وربما سوف يجده .. وربما سوف يواصل القراءة لمدة طويلة .. نسيت هذا السر .. سمعي ضعيف .. كنت أتأمل الريحاني وهو يخاطبني ولا أسمعه .. صرت كبقية الناس التائقين لكشف السر، قررت أن أواصل القراءة إلى الأبد .. كتب الريحاني .. وكتب غيره من المبدعين .

هؤلاء الأدباء الذين تتلمذنا على لغتهم وعلى أفكارهم وفلسفاتهم النيرة، خاصة الأدباء من بني جلدتنا نحن العرب والذين دخلوا لأمريكا ليقولوا كلمتهم المبدعة، وليساهموا مع بقية الشعب الأمريكي المختلط من عدة جنسيات حرة في بناء دولة القانون وفي إرساء دعائم الديمقراطية والثقافة الحرة التي لم تتركنا نحن العزل نهبا و فريسة لأنياب دكتاتور دموي وناصرتنا لأنها رأت نفسها فينا، متدخلة في الوقت المناسب تحت مظلة الأمم المتحدة، ورأت أن هؤلاء الشباب الليبي هم شباب أحرار مثلهم ومن حقهم أن ينعموا ويتمتعوا بالحرية كما قال الرئيس باراك أوباما في إحدى كلماته عن الثورة الليبية .

أمين الريحاني كان في بيتي وروايته " خالد " الصادرة عام 1911 م كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، ومازال الشاب خالد المهاجر إلى نيويورك من بعلبك بلبنان  الذي حكى مغامرته الجميلة في العالم الجديد عنه جغرافيا وثقافيا غائصا في مجتمع أمريكا خاصة المجتمع السفلي في منهاتن بنيويورك متألقا في وجداني، فما زالت المدينة التي حاول أن يزاوج فيها بين العقل المعبر عن المجتمع المادي الأمريكي والإيمان المعبر عن المجتمع الشرقي الروحاني والمؤمن بالمعتقدات والتي لا تشبه المدينة الفلسفية الفاضلة لإفلاطون تتلألأ في مخيلتي، قائلة لي أن لكل إنسان مدينة خاصة في قلبه، لا يصنعها له غيره .. مدينة يشيدها بدقات قلبه وباختلاجات روحه .. وبآماله المشروعة .. وبجنونه الخلاق .. هذه المدينة التي شيدها خالد في أعماقه .. أحس أنها بنغازي .. المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة الليبية الشابة .. أو بالأحرى .. المدينة التي يقصدها خالد .. شخصية الريحاني الافتراضية .. هي الحرية .

والحرية لا تتم بالمادة فقط إنما بالروح، فالروح الشرقية والإيمان بالحرية هو الذي أخرج الفتية العزل هزيلي الأجساد في بنغازي ليهتفوا ثائرين ضد الطاغية، ليس مطالبين بحريتهم إنما منتزعين حريتهم بأظافرهم وآهاتهم من أنياب الوحش، لكن ما كانت لهذه الثورة أن تنجح لو أنها اعتمدت على القيم والمبادئ النبيلة والفن والأدب والرومانسية والأحلام والتي هي أحسن، لابد أن يأتي الجناح الآخر لطائر الحرية كي يحلق الطائر لأعلى وهو جناح المادة، انتزع الشباب الأسلحة من الثكنات ومن مراكز الشرطة ومقار البصاصين والمخابرات وطردوا الدكتاتورية من مدينتهم شر طردة،  لتستشرى النار في بقية مدن ليبيا شرقها غربها شمالها جنوبها وتشتعل في خيمة وفي عباءة الطاغية القذافي الذي حاول أن يطفئ هذه النار بأموال قارون التي نهبها طيلة فترة حكمه وكنزها تحت الأرض وفوقها فما فلح، فنار الحرية لا يطفئها ماء المال .. نار الحرية خلقت كي تظل مشتعلة تضيء النفوس طوال الزمن .. وتحرق مؤخرة كل طاغوت .

لقد سبق أمين الريحاني كل المهاجرين الذين تكون منهم المجتمع الأمريكي من إيرلنديين وطليان وأسيويين وألمان وزنوج ولاتينيين وعرب وغيرهم في تناول موضوع الهجرة روائيا، فكتبه كتجربة إبداعية، محاولا أن يغوص في أعماق الإنسان الذي يركب البحر ليعبر المحيط نحو المجهول مغامرا في هذه الحياة، مسجلا أحاسيسه ورؤيته خلال المشاهد التي يعيشها، يعود إلى طفولته لينهل منها ويسافر في أحلامه ليتأمل ما جمع من حطب الفن، ثم يقفز في واقعه المعاش الملموس ليقول كلمته فيه .. لقد صدرت رواية خالد عام 1911 .. وها هو العالم المثقف من خلال مكتبة الكونجرس الأمريكي لا يهمل هذه الذكرى ويطلق احتفالية كبرى احتفاء بهذه الرواية العظيمة التي قدمت الإنسان العربي كشخصية حضارية سمحة مستنيرة مساهمة في رقي العالم وسعادته وسلامه داحضة كل المزاعم التي أطلقتها رؤى لم تصب كما يجب مثل تصادم الحضارات أو أن المجتمع الشرقي مجتمع إرهابي .. فالإرهاب لا ينتج الإبداع كما أن منتجي النار لا ينتجون الحدائق .

كتبت صحيفة الدايلي تلغراف في  غرب فرجينيا أخيراً أن سنة  2011 تسجل أحداثاً  ثقافية ثلاثة  مهمة:

" مرور 400 سنة على نسخة كينغ جايمس للكتاب المقدس

 مئة عام على تأسيس مؤسسة شكسبير الملكية

 المئوية الأولى لكتاب "خالد" لأمين الريحاني."

وأحب أن أضيف وشهد عام 2011 م  حدثا ثقافيا آخرا وهو انطلاق الثورات الشبابية في العالم العربي .. ثورة تونس .. ثورة مصر .. ثورة ليبيا .. ثورة اليمن .. ثورة سوريا .. ثورة البحرين .. والحبل على الجرار .. فهذه الثورات هي أقرب للثقافة من السياسة .

الثورة طهرت حياتنا .. شوارعنا في بنغازي انتعشت .. صارت نظيفة .. لا أوساخ على الأرصفة .. لا بالوعات فائضة .. لا أحد يرمي كوب قهوة أو منديل ورق في الشارع .. تظل في يده النفاية حتى يجد سلة مهملات .. لا أحد يراقب هذا المواطن .. لكنها الثورة جعلته إنسانا راقيا .. يرفض أن يرمي عقب سيجارة على الرصيف ويسحقه بقدمه .. أو يبصق .. أو يلوث الشارع بأي ملوث بيئي آخر .

شوارعنا ثارت .. تحولت إلى أحجار في أيدينا .. ندفع بها نحو جماجم الدكتاتورية .. نرشق بها صورتها على الشاشات .. ما عادت تريد أن تدوسها أحذية عسكرية قذرة .. تقتل الناس .. تخطف المعبرين عن رأيهم .. تعيث في البلاد فسادا .. من الشرفات يمكنك أن تلاحظ أن الفل والياسمين وكل أنواع الأزهار قد أينعت .. زال عنها ذبولها المزمن .. أشرقت بعطرها الملون البهيج .. وفي الحدائق يمكنك أن تجلس على عشب شفاف وكأنه سجادة .. كل شيء سبحان الله تغير في لحظة .. الثورة شيء لا يمكن شرحه أو وصفه .. شيء يدخل الروح والقلب والنفس .. يدخل الأعماق فيجعلها حرة .

أبحث عن خوف الآن .. جائع إلى وجبة خوف .. أذهب إلى الجبهة حيث المعارك العنيفة فلا أخاف من القذائف ولا صواريخ الجراد .. ألعن الدكتاتور والطاغية وكل زمرته فلا أشعر بأي خوف .. جائع إلى رعدة في البدن .. أيتها الثورة أحتاج إلى بعض الخوف .. هذا السلام  وهذه السكينة والطمأنينة لم أتعود عليها .. طيلة 42 عاما من حكم القذافي وأنا أرتعد .. وأنا نائم على بطني والدكتاتور فرسمه على رقبتي ..  أنا مدمن خوف .. ولا يمكن أن تفعلي في أيتها الثورة فعلك هكذا بهذه السرعة .. على الأقل بالتدريج .. سأموت الآن يا ناس  .. أحتاج إلى خوف .. سألعن المجلس الوطني الانتقالي الليبي  .. سألعن الثورة نفسها .. سألعن الثوار الليبيين .. سألعن الشهداء الذين يسقطون في جبهات القتال .. سألعن ليبيا الحرة .. سألعن وانتقد في وسط ميدان الاعتصام  على شاطئ البحر .. فعلت ذلك الآن .. لعنت حتى شبعت ..  لكن لا أحد يقبض علي .. لا أشعر بأي خوف .. فالثورة بها قانون .. سيتم سؤالي بتقدير واحترام .. لن يقفزوا في بيتي ساعة الفجر ويرعبون أسرتي ويسرقون ممتلكاتي وقد يغتصبون أخواتي أو زوجتي .. الآن في عصر الثورة سأعامل بتقدير واحترام .. ستتلى علي حقوقي قبل القبض علي .. سيبرزون هوياتهم و  أمر النيابة .. سيسألوني إن كان مكان التوقيف غير لائق ببني آدم مكرم مثلك  ولديك رغبة في تغييره .. سيقولون لي في التحقيق بإمكانك الصمت حتى حضور محاميك .. سأعامل كأنسان وليس كجرد أو صرصور على رأي القذافي .

المدينة عادت لأصحابها .. البلاد عادت لأصحابها .. الثورة قالت كلمتها .. شباب أشعلوها بصرخة واحدة الشعب يريد إسقاط النظام  وكهول شرفاء داخل البلاد وخارجها  نفخوا نارها بأرواحهم وعالم حر ناصرها و  نشر نورها ليصل إلى كل البقاع والأصقاع .

استيقظ  كل يوم بعد سويعات قليلة .. استيقظ  مبتسما  وكأني طفل رضيع .. أستيقظ آمنا لست خائفا من شيء .. خاصة من الاعتقال .. الآن كما قلت سابقا  يوجد قانون .. توجد عدالة .. توجد محكمة نزيهة .. يوجد محامي شريف لا يكترث بأي توجيهات فوقية .. الفوق تمزق .. صار واطيا .. صار حضيضا مختبئا في أسفل ظلام خلقه الرب .. قلبي انتظمت دقاته .. لا ترتفع دقاته إلا نتيجة فرحة .. أو شعور بهيج داخل ميدان التحرير في بنغازي .. حيث جماهير الشعب الحر تهتف أو تصلي أو تغني أو تهاجم فلول الدكتاتورية داخل قلوبها .. في يوم الجمعة تحس كأنك في مكة المكرمة أو في الفاتيكان إن كنت مسيحيا .. جو روحاني مؤثر .. شارع أحمد رفيق المهدوي من الميناء حتى منارة سيدي خريبيش فائض بالمصلين، أناس لم ترهم منذ زمن تتفاجأ أنهم جالسون إلى جانبك .. تأخذهم بالأحضان .. قبل الثورة قد يصافحونك فلا تعرفهم .. قد يمرون إلى جانبك فلا تكترث لهم .. الآن الشعب صار أسرة واحدة .. قلب واحد .. حتى من زج بهم القذافي لحربنا عندما نأسرهم نقول لهم أنتم ليبيون ونحن ليبيون .. أنتم في بيتكم وبين أهلكم  .. نتفهم ظروفكم وأنكم مغلوبون على أمركم ولدى الثوار لن تظلموا أبدا  .. وسننتصر معا قريبا .. وننصهر في حرية نعيشها جميعا ..  لا أحد يسيء إليهم .. يعاملون معاملة إنسانية غير مهينة .. طعام دواء غطاء ظروف صلاة ترفيه  كل شيء، على الرغم من أنهم أسرى وشارعون في قتل الثورة وهي في مهدها .

الآن استطعم الأدب .. كل شيء أقرأه أحس به ..

منذ الصغر تسحرني الكلمة البليغة والمعبرة والتي تقول شيئا عن الحرية والمساواة والحب والسلام، خاصة إن جاءت من أديب أو فيلسوف أو مفكر أو فنان حيث يكون أثر تلقيها أنقى وأبدع، فالكلمات التي يبدعها الأدباء والفلاسفة والمفكرين والفنانين نابعة من أعماقهم ونقية من أي غرض أو مطلب، أي أنها ولدت كما هي، مع تحفظي على بعض الأدباء والمفكرين والفلاسفة والفنانين المرتزقة الذين يبيعون ذهنهم لمن يدفع أكثر، لكن الكلمات البليغة والمعبرة التي يكتبها أو يخطب بها الساسة من ملوك وزعماء ورؤساء وأمراء ووزراء وغيرهم لا تسحرني، بل أنا من يسحرها حيث أحولها إلى سراب أرميه في أول مكب .. وبالطبع مع احترامي لبعض الساسة الشرفاء كنلسون مانديلا وغاندي وتشرشل وغيرهم .

قد تكون هناك كلمات أخرى تسحرني جاءت على لسان أنبياء أو قديسين، كلمات تقدم درسا بليغا يستفاد منه في هذه الحياة المعقدة، لكن هذه الكلمات لا تؤثر في بالدرجة القوية التي تؤثر في كلمات المبدعين : أدباء .. فلاسفة .. مفكرين .. فنانين .. والسبب حسب وجهة نظري هو مساعدة العامل الديني أو الوحي الإلهي أو الاستغراق الصوفي لهؤلاء البشر ذوي الصبغة الدينية في إبداع كلماتهم وانتشارها في فضاء زمني ومكاني شاسع .

 

روائي ليبي