الإهداء
إلى ذكرى الدماء التي عطّرت البحر الأبيض المتوسط، وتلك الآلام التي حملتها الأمواج، وهي تتلاطم حول سفائن الحرية، في طريقها إلى غزّة.
1
لفت انتباهي، وأنا أصعد درج مقهى الكوكب، تآكل درجاته وعتامتها. بدت كلّ درجة منخفضة عند الوسط مثل فمّ تندلق شفته السفلى. في الزوايا تكتّل الغبار الرطب، وظهرت بقع من اللون الأخضر، كتلك التي نراها في حفاف البرك الجافة، وحول الصخور في فصل الربيع. أذكر أن عددها سبع وعشرون درجة. رحت أعدّها: واحدة، اثنتان، ثلاث، أربع. توقفت عن العد عندما سمعت وقع أقدام قادمة. رفعت رأسي. زادت قتامة ِالمكان. رجل أسمر البشرة، طويل القامة، عريض المنكبين يحمل رأساً كصخرة صغيرة، يتناثر فوقه شعر كثيف مثل غابة لم يطأها بشر، وخلت وجهه الذي ينتهي بلحية مدببة حبة بلوط ناضجة. عندما اقتربت منه فاحت رائحة عطر حادّة، لا أدري كيف تبادر إلى ذهني ذلك العطر الذي كانت تبيعه منشم لأبناء قبيلتيّ عبس وذبيان ليكفنّوا به قتلاهم في حرب داحس والغبراء. لا أذكر أن المقهى كان يرتاده رجل كهذا. استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وترحّمت على الإنسان الأول.
في نهاية الدرج فاجأني باب. لا أذكر أنّ لمقهى الكوكب باباً، أو ربّما كان له باب ولم أنتبه إليه في ذلك الوقت، أو ربّما لم يكن له باب في الأصل، وهو ما أميل إلى تخيّله الآن. باب من الخشب الرقيق، لُطّخ باللون الأصفر، دفعته، فاندفع مصدراً لحناً طويلاً مملاً . انفتح على رؤوس كثيرة معظمها منحنية إلى طاولات قصيرة أو إلى ما أمامها من أراجيل، وقليل منها يحدّق إلى التلفزيون، المعلّق على الحائط على يمين الباب. دخان السجائر والأراجيل يتجمّع في الأعلى، فيضعف أنوار المصابيح المصطفّة في طابور على السقف، أو تلك المنتصبة على الأعمدة، يتخلّله ضجيج لاعبي الورق والزهر، وحركة الطاولات والكراسي، وصوت أحد العاملين، وهو يلبّي طلبات الزبائن. سمعتهم ينادونه بدلع:
ـ يا عدولة ولعة.
ـ يا عدولة واحد شاي.
ـ يا عدولة هات الشدّة.
كان يتحرّك هنا وهناك في نشاط وحيويّة، لكن قسمات وجهه بدت قاسية، أين منها قسمات وجه الحاج جابر؟ ذلك النادل الذي عرفه المقهى في ثمانينيّات القرن الماضي. كان رحمه الله ـ قرأت في إحدى الصحف الأسبوعيّة منذ شهرين عن وفاته بالسرطان ـ مرحاً، كنّا نضحك عليه ببنطاله الساحل، ولحيته القصيرة، وأسنانه المهترئة، يحتجّ:
ـ جيل! اللهم استر! اضحكوا، سوف نراكم بعد التخرج، لن تجدوا عملاً حتّى في مسلخ البلديّة .
كيف يمكن أن أرى صديقي بين هذا الحشد الذي يغرق في الدخان والضجيج؟ وقفت أمام الباب أتطلّع إلى الرؤوس، أين بشير العايد؟ هل يمكن أن يكون بين هذا الموج البشرى ولا أراه؟ هل يمكن أن تغيب عنّي صورته؟ في آخر صورة أرسلها إليّ لم تتغير ملامحه كثيراً، كسا الشيب بعض رأسه، وزحفت بعض التجاعيد إلى وجهه، ولكنه ظلّ بديناًً، حاد النظرات، قوي البنية، بشرته بيضاء أو ربما ازدادت بياضاً لامتزاجه بالجو أو بالجنس الأمريكي. بقيت واقفاً، أدير عينيّ، أنتظر أنّ يراني. ينهض من مكان ما، ناشراً ذراعيه:
ـ أين يا رجل؟ ما زلت على قيد الحياة؟
لم أره. لم يأت قبل الموعد. لم تقع عيناي على إنسان أعرفه. لم يرق للنادل عادل أو عدولة أن أظل واقفاً ، فأشار إلى كرسيّ حول طاولة بالقرب من النافذة. كان يجلس إليها رجلان، يقابل كل منهما الآخر. جلست كأنّ الأشباح تتربّص بي، نزعت معطفي، هممت بإلقائه على مسند الكرسيّ. نبّهني بلطف أحد الرجلين:
ـ هناك علاّقة.
وأشار إلى علاّقة خشبيّة على عمود خلفه، كيف لم أرها؟ أفضل ما عمله أصحاب المقهى هذه العلاّقات الموضوعة هنا وهناك. علّق الرجل الآخر:
ـ الجو بارد في الخارج، علينا الحيطة عندما نخرج.
نظرت إلى ساعتي، ظننت أنّي تأخّرت عن الموعد، التاسعة والنصف. جئت في الوقت المناسب. الحمد لله! لم أتأخّر على الرغم من أنّ المواصلات كانت صعبة، على غير العادة، فنحن لسنا في نهاية الأسبوع. دُخت وأنا أنتظر سيّارة أجرة. جاءت سيارة خاصة، وقفت بجانبي:
_ اركب يا أخ.
ركبت. سألني:
ـ أين؟
ـ وسط البلد.
ـ لا نريد أن نفشلك رغم أنّ داخل البلد مفقود والخارج مولود.
ـ يا ساتر!
ـ السيّارات في طابور طويل يسير ببطء، تحرق البنزين والكاوتشوك، وأنت مكانك سر.
جاء النادل الآخر، ربما استهلك ثلاثين سنة أو أكثر بقليل من عمره، يميل إلى البدانة، خمّنت أنّه ابن صاحب المقهى ، أو أنّه قريبه، فكانت ترتسم في عينيه العسليتين، ووجنتيه المتورّدتين سيماء النعمة والتعجرف. سألني:
ـ شو تشرب؟
أجبته بضجر:
ـ أنتظر صديقي..
تجاهل أنّه سمعني:
ـ شاي. قهوة. زهورات؟؟
ـ لا بأس من فنجان قهوة مرّة.
سمعتهم ينادونه إبراهيم، دون دلع كما ينادون عادل. قبل أن يأتي بالقهوة، استأذن الرجلان بالانصراف. قال الرجل الأول:
ـ سنذهب قبل أن يشتد المطر أو تثلج الدنيا.
انتقلت إلى الكرسي الذي بجانب النافذة، نافذة قديمة، إطارها من الخشب، قبل مجيء الألومينيوم، فتحتها قليلاً، اندفع الهواء البارد، وعويل الرياح ممتزجاً بهدير الباصات الذاهبة إلى صويلح والسلط، وأصوات أصحاب سيارات الأجرة، وهم ينادون الركاب، الذاهبين إلى العبدلي أو دوّار الداخلية، أو مجمّع النقابات. لم تعد عمّان تنام مبكرة في الشتاء، قبل ثلاثين سنة كنت أعود من الجامعة في بعض الأيام، عند المساء تكون الحركة خفيفة، والناس يهرعون إلى بيوتهم، وما إن تغدو الساعة الثامنة حتّى يذهبوا في نوم عميق.
شعرت بلذة والهواء على برودته يصافح وجنتي، نهضت أنظر إلى الخارج، اصطدمت عيناي ببناية حديثة لا يفصلها عن المقهى غير ممرّ ضيّق، على جانبه المقابل محال صاغة وملابس، كانت مضاءة يتضاعف نورها ببريق المعدن الأصفر، ولكن لم يكن بها رواد كثيرون. احتجّ الرجل الذي يجلس خلفي على أنّي أحاول قتله من البرد، لم أقل له ليقتلنا البرد على أن نظلّ في طنجرة ضغط ، وأقفلت النافذة وأنا أعتذر:
ـ معك حق!
جاء النادل إبراهيم بالقهوة ، رحت أتفقّد المكان كما هو، وكما في عقلي؛ الجدران لمّا تزل عارية، داكنة، الغبار اللزج يطغى على الدّهان، غير أنّ هنالك جهاز التلفزيون، يعلو الجدار كضيف مهم. يشاهده بعض الرواد بشغف، وهو يعرض مسلسل" باب الحارة" في جزئه الرابع، الذي عرض في رمضان الماضي، أذكر أنّ موضوعه حصار المستعمرين الفرنسيين حارة الضبع، وأحداثه تشير إلى ما يجري لغزة هذي الأيام. وبخاصة تهريب الطعام والدواء عن طريق الأنفاق. في الجهة الأخرى تنتصب طاولة عريضة وقديمة، ربّما هي نفسها التي كان يجلس خلفها العم أبو خليل في ذلك الزمان الذي كنّا فيه نأتي المقهى. كان أمامه المذياع الكبير ذو الأذنين يصدح بآخر أغنيات المرحومة أمّ كلثوم .
الآن، أرى خلف الطاولة صاحب المقهى الجديد، طويل، بدين، متكرّش، منحسر شعره إلى الخلف، امتدّ شارباه الأسودان إلى طرفي فمه بانسجام مع بذلته الرمادية، أمامه جهاز الهاتف، وجهاز حاسوب، لا يبدو أنّ جهاز الحاسوب صالح أو يستخدم لشيء، فقد تراكم عليه الغبار والإهمال. كان يدخّن النارجيلة، وهو يشاهد التلفزيون ويتلذذ باستنشاق الدخان ونفثه إلى الأعلى، ويقف أحياناً ليصيح بالعاملين:
ـ شوف الجماعة هناك، يا إبراهيم.
ـ تحرّك يا عدولة.
رحم الله أبا خليل كان إذا جلس إلى الطاولة يسحب كرسياً من كراسي المقهى، ويجمع حوله جماعة من رفاقه في العمر: الحاج عباس، والحاج أيوب، والشيخ عبد الخالق، كان في معظم الأوقات يدور بين الطاولات يتفقد الزبائن، ويمازحهم، وهو يردد مع المذياع أغاني أمّ كلثوم، وقد يشارك الزبائن في لعب الورق، الشدّة.
أمّا الكراسي فلم يُؤت بغيرها وربما زيد عددها، بعضها بهت لونه، ودبّ الوهن في مفاصله، وتآكلت أرجله من الأسفل، وبدت مقعداتها سلسلة ملساء تحت تأثير الزمان ومؤخرات الزبائن، أمّا الطاولات فكانت أسطحها من الرخام المرقّط تحملها أرجل من الحديد.
في الزاوية التي على يمين التلفزيون، لم يكن مجلسنا منعقداً، كنا ونحن ندرس في الجامعة الأردنية، وحتّى بعد تخرجنا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي نأتي المكان نتناول الأخبار، وكان ينضم إلينا في كثير من اللقاءات الشاعر نسيم السخل، يقرأ علينا من قصائده، ويحدّثنا عن مغامراته النسائيّة وفتوحاته الإبداعيّة، توفي ـ رحمه الله ـ وهو يعدّ نفسه من الشعراء الكبار الذين لم تلتفت إليهم أكاديميّة نوبل، وتخلّت عنه لصالح الشعراء الغربيّين. لم أجد في المكان ملامح الثقافة والإبداع، لم أتبيّن غير قليل من الوجوه المخمليّة، وكثير من الوجوه التي تحمل سيماء البؤس والشقاء، ومعظم الرواد من كبار السنّ الذين أرهقهم الزمن، ولعب الورق، ورمي الزهر، وقرقرة النارجيلة.
2
طرقت أذني أصوات الطبيعة، صفعت زخات المطر زجاج النافذة، وأرعدت السّماء، تسلل هواء بارد من الشقوق الخشبيّة. انقبضت نفسي. شعرت أنّي وحيد ومهدّد من قوى خفيّة. تأخّر بشير، صارت الساعة العاشرة، عادته أن يتأخر، لم تغيّره الحياة في أمريكا. أذكر ونحن بالجامعة في السنة النهائيّة تأخّر عن أحد الامتحانات، سألناه، أجابنا ببرود: نسيت. هل نسي موعدنا؟ بحثت عن رقمه في جهازي الخلوي.
ـ أين يا رجل؟
لم أستطع أن أسمع ردّه، اتجهت ناحية البلكونة، لم يكن فيها غير طاولة ملتصقة ببابها الحديدي المغلق، يجلس إليها رجل عجوز ملتح. وضح صوته :
_ أنا في الطريق، السيّارة تسير حبّة حبّة، الدنيا زحاليق.
ضحكت من لهجته في نطق كلمة "زحاليق"، وتعبيره عن بطء السير بحبّة حبّة.
_ على مهل؛ فأنت لست في نيويورك.
تمنيّت لو أقف بالبلكونة. لا أستطيع أن أطلب من النادل أو صاحب المقهى أن يفتح الباب، فتحه يعني دخول شياطين الطبيعة لتعيث في المكان، وتسرق دفأه. مرّ بعقلي كيف كنت أجلس في بعض الأماسي وحيداً، مثل هذا الرجل، أشبك قدميّ على سور البلكونة أراقب الشارع الرئيسيّ، لم أعد أتذكّر اسمه الآن شارع السلط أم شارع الملك فيصل. الكبر عبر، وقد تمتدّ نظراتي إلى المنازل المقابلة، فأرى ظلال النساء، وهي تتحرك خلف الستائر، أحسّ كأنّي ألامس امرأة، وتذهب بي الخيالات إلى نشوة عارمة. أدفع عمري لو أستعيدها لحظة.
انتبهت. الصمت يخيّم فجأة، الرؤوس مرفوعة وسط الصالة مصوّبة إلى التلفزيون، هنالك بث حيّ ومباشر لما يجرى على معبر رفح، تظاهرات في الجانب الفلسطيني، شباب يقذفون الجنود المصريّين بالحجارة، لمنعهم النائب البريطاني جورج غالاوي وقافلته شريان الحياة من كسر الحصار عن غزّة، وللاحتجاج على بناء الجدار الفولاذي بين مصر وفلسطين، وإغلاق معبر رفح. تطور الموقف، انطلق الرصاص، تتابعت الصور، سيّارات إسعاف تنقل المصابين، إلى المشافي، ثم أعلن مراسل فضائية الجزيرة عن قتل جندي مصريّ، وجرح كثير من الفلسطينيين.
انتصب شاب مصري أمام التلفزيون، وراح يصرخ :
ـ دي مش مصر. والله يا جماعة مش مصر اللي بنعرفها!
هبّ آخر لعله سوري:
- حكومة مصر نايمة، أين الشعب المصري، شعب عبد الناصر وأبطال العبور؟!
وقام رجل ربما كان من معارف صاحب المقهى:
- توكّلوا على الله، العرب لن يسكتوا عن هذي الحال.
قال آخر :
ـ يا عمّي حكومة مصر لها حكمة في ذلك.
تعجّب آخر:
-حكمة!
ـ طبعاً تريد أن تختبر إسرائيل. هل هي حقاً تريد السلام.
قال آخر:
ـ إسرائيل دولة تعيش على الدماء دماء العرب طبعاً.
استهزأ رجل، وهو يغلق طاولة الزهر:
ـ العرب! قال العرب!؟ اقرأوا الفاتحة.
يبنما صاح شيخ كان واقفاً بالباب:
ـ صح النوم. الأحداث اليوم، انسوا شريان الحياة وجدار الفولاذ. الفيضانات والسيول تجتاح غزّة، إسرائيل تريد إغراق القطاع بمياه السدود، كلّ مصائب العرب يا عمّي من إسرائيل.
انتقل بثّ الفضائيّة إلى نقل التظاهرات أمام السفارات المصريّة في سوريا وتركيّا وبريطانيا، وهي تحتجّ على ما جرى لقافلة شريان الحياة، وتهتف: "لا للحصار على غزّة أرض العزّة"، توقّعت أن يضجّ المقهى بالهتاف، وتنطلق تظاهرة أقوى من تظاهرة الطبيعة. عاد الجميع إلى أماكنهم، وعاد الهدوء الذي لم يعكّره إلاّ زمجرة الرياح، وارتجاف السماء في الخارج.
3
انضمّ إلى طاولتي رجلان، دخلا يفرك كل منهما يديه بعضهما ببعض، يشكوان من شدّة البرد، وعصف الرياح، عرّفاني إلى نفسيهما، علمت من حديثهما أنّهما جاءا من قرية في جنوب الأردن طلبًا للرزق، يقيمان معاً في غرفة على سطح بناية أسفل جبل الجوفة، يأتيان إلى المقهى كلّ ليلة هرباً من البيت، الذي ملّ منهما في هذا الفصل البارد الطويل. إياد أكثر شقاء من صاحبه وائل، فقد ارتسمت التجاعيد على وجهه، وغزا الشيب جوانب رأسه، جاء النادل إبراهيم، توجّهت إليهما، أدعوهما إلى مشاركتي شرب الشاي، قبلا بامتنان مشوب بالخجل، ثم قال إياد بعد ذهاب النادل:
ـ واجبك علينا، يا عم.
تجاهلت مجاملته، فإذا كان هنالك شكر فللظروف التي جمعتنا في هذا المكان، ظروف ربما مبعثها الخوف مما تفعله الطبيعة في الخارج، أو ما يخبئه المستقبل، ظروف تجبر الإنسان على أن يتفاعل مع الآخرين بحميمية لذيذة، وبرغبة في الاندغام بهذا الفضاء الذي تنفتح فيه الأفواه، ويتطاير منها الكلام مع دخان السجائر والأراجيل.
لمع البرق، ونفذ بريقه إلى الداخل، جفل وائل الجالس قبالتي، ثم مطّ جسمه نحوي وقال:
ـ الحمد لله! هذا عام خير، ليس مثل الأعوام الماضية؛ قحط، وعطش، وجوع.
قال اياد:
ـ ماذا نستفيد من المطر؟ العمل واقف، والحال مايل.
عرفت أنّهما بلا عمل منذ شهر، ولا يستطيعان العودة إلى قريتهما. قال وائل:
ـ ماذا نقول للأهل، جئنا عمان وضعنا في جبالها وشوارعها وأنفاقها الكثيرة، صرنا مثل مصيّفة الغور. لا صيف صيفت ولا عرضها صانت.
ثم جاء النادل بالشاي، رشفت رشفة. وضعت الكأس أمامي، وقلت:
ـ لو تجدان وظيفة أفضل من هذا العمل المتعب .
قال إياد تخنقه الحسرة:
ـ من أين يا عم هذي الوظيفة التي تقول عنها ، ونحن لا شهادات ولا خبرة؟ لا نحسن غير استعمال المتر والشاكوش.
بينما قال وائل:
ـ عندما رأيتك، قلت لإياد هذا الرجل وجه خير، فإذا كان عندك واسطة لوظيفة عامل نظافة، مراسل في شركة، أو دائرة حكوميّة، أو أي عمل حتّى العتالة. نتمنّى عليك مساعدتنا، وأجرك عند الله كبير.
حسباني من أثرياء البلد أو من زعمائه. قلت:
ـ والله، يا ابني لا أملك عملاً، كما أنّي لا أعمل. أنا متقاعد منذ مدّة.
لم أشأ أن أخبرهما أنّي لست متقاعداً بالمعنى المعروف؛ أي لا أجد ما أعمله؛ فأنا ما زلت أحلم ، وأتخيّل، وأضع أحلامي وخيالاتي في الكتابة. أكتب الرواية. لكن ماذا يهمهما من شأن الرواية أو الكتابة؛ فهما ـ كما يبدو ـ أميّان لا يعرفان إلاّ الطوبار والمسامير.
قال إياد:
ـ كنا نظنّ أنّك رجل أعمال أو موظف كبير في الدولة، فعدم المؤاخذة، أمثالك لا نراهم في هذا المقهى، والزبائن ـ كما ترى ـ معظمهم عمال مطاعم، وباعة بقالات، وملابس قديمة، أو مثلنا عاطلين عن العمل، من بلاد العرب الواسعة، من سوريا ومصر والسودان.
لا أدري كيف اندفعت في الحديث:
ـ فعلاً لم آتِ إلى هذا المقهى، ربما منذ خمس عشرة أو عشرين سنة. المكان عزيز عليّ يحمل ذكريات الشباب، كنّا نتردد إلى هنا، ونحن طلبة في الجامعة، كنّا نجلس طويلاً على البلكونة، نتحدث عن الأدب والثقافة، وأحياناً عندما تكتمل شلتنا نلعب الورق، كانت شلتنا من أربعة أنا، وبشير الذي جئت هنا لأراه، واثنين آخرين علمت باستشهادهما في تفجيرات الفنادق الثلاثة التي حصلت بعمان عام 2005، وبعد تخرجنا أخذتنا الحياة وافترقنا. هأنا الليلة أزور المكان لأستقبل صديقي الذي لم أره منذ مدة طويلة.
شعرت بحزن الاثنين، وأنا أبوح لهما ببعض شقائي، وما جرى لأصحابي في الأيام الخوالي.
اشتد ضرب المطر على زجاج النافذة، استأذن الاثنان بمغادرة المقهى، لكنّهما عادا بعد دقائق مسرعين. قال إياد:
ـ يبدو أننا سنبيت هنا الليلة. حاصرنا المطر والبرد.
قال وائل:
ـ لا فرق بين هذا المكان وغرفتنا. بل أكثر راحة منها. الحمد لله لا ولد ينتظرنا، ولا زوجة تصيح في وجهنا.
لأول مرّة أدرك أنّي محاصر، ولا أملك حريتي، لا أقدر على مغادرة المكان، المطر شديد في الخارج، والرياح يصل تهديدها إلى الداخل، مثل تهديد بوش، بعد حوادث أيلول عام 2001، وصديقي في طريقه إلى المقهى وعليّ انتظاره. تخيّلت ما جرى لقافلة شريان الحياة، وعذابات غالاوي؛ فقلت في نفسي: "أين أنا من حصار غزّة؟"
4
بدأ رواد المقهى بالتناقص. نهضت إلى دورة المياه التي بالقرب من الباب. سمعت صاحب المقهى يقول للنادل إبراهيم ِإنّه سيغادر إلى البيت قبل أن يزداد الجو سوءاً، ويطلب منه أن ينتبه إلى الزبائن، وأن يأمر عادل بتنظيف المقهى في نهاية العمل. يبدو أن لإبراهيم هذا أهميّة خاصّة في إدارة المقهى؛ فكان يناديه بكنيته: "أعتمد عليك يا "أبو يوسف" فيرد عليه: "الاعتماد على الله يا معلم".
لم تكن دورة المياه غير مرحاض أرضي وحنفيه ينزّ منها الماء، وليس هنالك مغسلة، أو سلة لرمي النفايات والمحارم الورقية. أمّا الباب فلوح رقيق من التنك، يُرى من في الداخل من خلال فتحة الزرفيل الذي لم يوضع بعد. عدت إلى مكاني. كان الرجلان غارقين في حديث عن هموم قريتهم وأهلهم، لم يأت صديقي. ماذا أفعل؟ اتصلت به. كان الجواب الآلي : "الهاتف المتنقل المطلوب لا يمكن الاتصال به حالياً" سأنتظر نصف ساعة أخرى وأخرج، لا يمكن أن أمضي الليل هنا. ربما يشتدّ المطر أو تتساقط الثلوج فلا أجد وسيلة تقلني إلى البيت.
سرحت وأنا أتأمّل الكراسي الخالية. لم تكن غير أجساد فقدت أرواحها، رأيت أحدها معزولاً في لوحة فنان معاصر، لا أذكر من هو، ولا من أي بلد: أمن إيران أم تركيا أم أفغانستان. كانت اللوحة لمنزل شعبي، ذي فناء واسع، مسقوف بألواح من الخشب، له باب أعلاه ثابت وعلى شكل قوس، وترك مفتوحاً على مصراعيه، كان الكرسيّ بجانب باب غرفة مغلقة، يتسلل إليه ضوء الشمس من باب الفناء، ويرتمي بين أرجله، كما كان بعض الضوء يهبط من شقوق ألواح السقف ليرسم بقعاً ذهبيّة على الحائط بالقرب من إطار باب الغرفة العلوي.
استأذنت من رفيقيّ بأن أفتح النافذة، لم يبد أنّهما سمعا قولي. فأبحت لنفسي فتحها قليلاً. المطر خفّ نزوله، ولكن الرياح ما زالت تزمجر، وتختلط بأصوات البشر، وأبواق السيارات في الخارج. أغلقت النافذة. تخيّلت نفسي أجلس على ذلك الكرسي الذي رأيته في اللوحة، بعيداً عن هذا المكان حيث الشمس والأمن.
5
رنّ جهازي الخلوي. هتف قلبي: صديقي بشير. لم يكن صديقي بل ابنتي ربى، كانت قلقة على تأخري، رجتني أن أعود إلى البيت بسرعة، فالجو بارد، وهدّدت أنّها لن تنام هي وزوجها والأولاد حتّى يطمئنوا على عودتي. قلت لها ألاّ تنتظرني، فقد يطول غيابي في انتظار صديقي بشير، وأن تترك الأولاد يذهبون إلى فراشهم فجدّهم لا خوف عليه؛ فهو ليس في أفغانستان أو العراق، إنّه في عمّان، وسط البلد.
مسكينة ابنتي، منذ قتلت أمّها وهي تحمل همّي، تلاحقها وصيّة أمّها: انتبهي إلى أبيكِ فليس لبنت أب مثله، لكنّي لا أثقل عليها، فعادتي إذا خرجت من البيت لا أتأخر. أعود في الوقت المناسب، أفتح باب شقّتي في الطابق الأول، وأتسلل بهدوء، لكن سرعان ما أسمع حركتها، وهي تنزل الدرج، ثم تخاطبني: جئت؟ قلقنا عليك. أين كنت؟ لماذا تأخرت في هذا الليل؟
الأسئلة نفسها التي كانت تلقيها عليّ أمّها، ثم تدعوني إلى تناول الطعام، أقول لها إنّي لا أتعشى، تجلس معي قليلاً، ثم تتركني لأكتب، أو أقرأ، أو أتذكّر أمّها. الليلة قبل أن أخرج إلى المقهى. تفقّدت حجرتها، فتحت خزانة ملابسها. تأمّلت ذلك المعطف الذي ارتدته عندما كنّا في زيارة سوريا في شتاء عام 2000، ضممته إلى صدري. ارتجفت أمام ذلك الفستان الذي كان يزهو عليها في الليلة التي سبقت رحيلها، تناولت الكتاب الذي ظل بجانب سريرها، تصفحته، سخرت من عنوانه "ارتقاء الإنسان" هل حقاً ارتقى الإنسان أم بقي في مرحلة البدائية. جلست إلى جهاز حاسوبها الخاص، عرضت صور حياتها: هذه صورتها، وهي طالبة في المرحلة الإعدادية، تلك وهي في الجامعة تتدفق حيوية وأنوثة، وهنالك صورة لها، وهي تتسلم الشهادة من رئيس الجامعة. هنالك صور مرّرت بها، وهي حامل ببنتنا ربى، زاد ألمي عندما وقعت عيناي على صورتها وهي تودّعني، التقطت لنا ربى هذه الصورة في الشارع أمام البيت.
رجوتها في ذلك اليوم ألاّ تذهب، وأن تنتظر حتّى نهاية الأسبوع فنذهب معاً . شعرت برغبتها في الذهاب وحدها، ترى شقيقتها ساعات ثم تعود في اليوم نفسه، اتصلت بها بعد الظهر، أجابت إنّها سعيدة في إربد، واستأذنت لتمضي الليل عند شقيقتها جمانة.
ـ لكنّي لا أقدر على فراقك..!
ـ حاول يا طفلي المدلل.
ـ حرام عليك، يا قاسية.
ـ ألا تصبر ليلة واحدة؟
ابتسمت وأنا أسترجع الحوار. انتبه إليّ إياد. قال لزميله:
ـ صاحبنا مبسوط.
لم أستطع أن أحوّل أفكاري عن ذكراها، لملمت أطراف الذكرى، ورحت أصوغ في مخيّلتي ما حدث:
في عصر اليوم التالي، الهواء بارد قليلاً، وطريق إربد جرش تتلوى في مواضع كثيرة، وتنحدر في مواضع أخرى، الأشجار والأعشاب تزين قمم الجبال، وأطراف الوديان. تدير جهاز التسجيل الذي في السيّارة. يصدح بأغنية فيروز:
نسم علينا الهوا من مفرق الوادي
يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي
يا هوا يا هوا يللي طاير بالهوا
تنحدر من جبال عجلون، تقترب من مدينة جرش، قبل مدخل المدينة، هناك منحدر في نهايته جسر، على الجسر شرطي مرور، يرفع لافتة حمراء مكتوب عليها" قف"، أطفأت جهاز التسجيل، وقللت من السرعة، ثم توقفت، وهي تتمتم: من أين خرج هذا؟ مدّ رأسه من النافذة، طلب منها رخصة القيادة وأوراق السيارة، أخرجت ما طلبه من حقيبة السيارة التي على يمينها، نظر فيها ثم رفع رأسه:
ـ أين ذاهبة؟
أجابته ساخرة:
ـ عمّان..
ـ لماذا هذي السرعة؟ هل ستطير عمّان؟!
ـ سرعة! لم تتجاوز الستين.
في هذه اللحظة يطلّ رجل وامرأة من تحت الجسر. المرأة غارقة في السواد، والرّجل شاب في الثلاثين أو أكثر قليلاً. وقفا بجانب الشرطي. سأل الرجل عن وجهتهما . أجابه:
ـ إلى صويلح.
التفت نحوها، وقال وهو يمدّ الأوراق إليها:
ـ هذه المرّة نسامحك، لكن خذي في طريقك هذا الرجل وزوجته.
قبل أن تتفوّه بكلمة، اندفع الرجل إلى السيّارة، وفتح الباب الأمامي، أفسح للمرأة الدخول، ثم فتح الباب الخلفي، وألقى بجسمه في المقعد. تحرّكت السيّارة. تبيّنت وسن ملامح الرجل في المرآة: عيناه كعيني الذئب، لحيته قصيرة، أنفه مدبّب فيه طول واضح، وعلى صفحة وجهه آثار جرّة موسى أو سكين. كان يراقبها بتوتّر. ارتجف قلبها، سألت المرأة التي بجانبها:
ـ هذا ابنك، يا حاجة؟
لم تجب، ظنّت أنّها لم تسمع، فأعادت السؤال، لم تردّ، وبدت منشغلة بالنظر من النافذة، ازداد خوفها. يا لها من ورطة! متى تصل إلى عمّان فتتخلص من هذين المخلوقين. رنّ جهازها الخلوي وضعته على أذنها. كنت أنا الذي يكلّمها:
ـ أين وصلت.
ـ اقترب من البقعة.
كان في صوتها رجفة . سألتها:
ـ هل هنالك مشكلة؟
أحسّت بانتباه المرأة، واضطراب الرجل، كما فضحته المرآة. أجابت بحذر:
ـ لا. سأتوقف في صويلح لينزل من معي، رجل وزوجته طلب مني الشرطيّ على مدخل مدينة جرش أن أقلّهما.
توجّست خيفة. لكن فكري لم يذهب إلى أن يتخيّل ما حدث بعد ذلك، فوسن اعتادت أن تعمل المعروف مع كثير من الفقراء والعجزة ، ثم إنّ الشرطيّ هو من أشار عليها باصطحاب الراكبين، لعلّه يعرفهما، وربما من أقاربه أو أهله.
قبل مدينة صويلح، وهي تصعد إلى تلّتها، وخزها الرجل في كتفها، جفلت، نظرت في المرآة، طلب إليها بحزم أن تتجه بالسيّارة إلى اليمين. انتبهت. هناك طريق ضيّق، يخترق جبل عال، في البدء ظننته نفقاً، فالظلام يتكاثف فيه. لم تكترث لأمره، توقفت، التفتت إلى المرأة التي بجوارها، وقالت:
ـ قولي لزوجك أو قريبك هذا أنّي لست أجيرة عنده، فلا يجعلني أندم على المعروف الذي صنعته معه. باستطاعتكما النزول هنا، والسير على الأقدام إلى حيث تريدان.
المرأة لم ترد، فالتفتت إلى الرجل بغضب:
ـ لن أتحرّك من هنا!
لم يدر الرجل ما يفعل. خشي أن تنتبه إليهم بعض السيّارات المارّة، فقال برقّة مصطنعة:
ـ يا أخت، أرجوك أن تكملي معروفك معنا. المرأة مريضة لا تقدر على المشي. تقدّمي بالسيارة إلى نهاية هذي الطريق، خطوات ونكون في بيتنا.
داعب قوله قلبها، فانصاعت إلى عواطفها، تحرّكت بالسيّارة، انتهت الطريق الضيّقة، انكشف أمامها فضاء واسع، وضاعت علامات الطريق، انتابها الرعب، وهي تنظر إلى الجانب الأيمن، هنالك انحدار ساحق ينتهي بوادي عميق. ولا أثر للحياة البشرية في المكان، والشمس توشك على الغياب. أوقفت السيارة.
ـ إلى هنا. لن أتحرك ولو خطوة واحدة.
انتفضت المرأة، ألقت العباءة والنقاب على المقعد الخلفي، تكشّفت عن رجل بيده سكين، عيناه حمراوان، وأسنانه سوداء من التدخين أو الأفيون، عريض الكتفين، أسود الشعر، كثيف الشاربين، فتحت فمها، صرخت:
ـ امرأة؟!
خرق أذنها صوته الخشن:
ـ أنت مخطوفة، لا تخالفي أوامرنا، مخالفتنا لن تفيدك. قودي السيارة كما نأمرك.
ارتجفت ركبتاها، خدعت، وقعت في المصيدة. لعنت في سرّها ذلك الشرطيّ المزيّف. مدّت يدها إلى جهازها الخلوي المنطرح أمامها.
ـ لا تحاولي أن تلعبي معنا !
ـ ماذا تريدان مني؟ كلّ ما أملكه في هذه الحقيبة خذوه واتركوني.
تناولت الحقيبة من جانبها، وألقتها إلى الرجل الذي كان امرأة، تفقد ما فيها، أخرج أوراق مالية، عدّها . قال بغضب:
ـ مية دينار!؟
أمرها الثاني:
ـ تحرّكي بالسيّارة. لا تتوقّفي حتّى آمرك.
ـ أين تأخذوني؟
ـ إلى بيتنا في نهاية الطريق.
ـ اتركوني وشأني. أنا امرأة كبيرة لا أفيدكم بشيء، ولم أفعل الشر حتّى ألاقي هذا الجزاء.
قال الرجل المرأة:
ـ أنت امرأة جميلة سنلهو معك، ثم نطلق سراحك.
يمكن أن يأخذا منها المال الذي في حقيبتها، يمكن أن يأخذا السيّارة، ويتركاها في الخلاء الموحش، يمكن أن يقتلاها بالسكّين أو الحجر أو يخنقاها بأيديهما . يمكن أن يفعلا بها ما يريدان غير أن يعبثا بجسدها. لن يحدث هذا. أدارت المحرّك، تحرّكت بالسيّارة إلى الخلف، سحب الرجل الثاني السكّين ووضعه على رقبتها.
ـ إلى الأمام وإلاّ قطعت رأسك!
توقّفت.
ـ حاضر، ولكن أبعد السكين عني.
قال الرجل المرأة:
ـ امرأة عنيدة. هيا تحرّكي.
عدلت جلستها. تنفّست بعمق. ضغطت برجلها كابح البنزين. ضغطت بشدّة، وضغطت. تخيّلت أنّها في مركبة فضائيّة، أو على صهوة جواد أسطوري، وانطلقت كالرمح، صرخ الرجلان:
ـ على مهلك يا امرأة .
حاول الرجل المرأة أن يسيطر على عجلة القيادة، لم يستطع فانحرفت بقوة إلى الوادي لتستقرّ هناك.
اتصلت بها. لا تردّ على اتصالي. مرّت ساعة أو ساعتان. ليس من المعقول أن تستغرق الطريق هذا الوقت. زاد قلقي، بدا قلبي كأنّه في مقلاة. خرجت بعد الغروب بسيّارة صهري، لم أشأ أن اصطحب كريم تركته بجانب ربى كانت تطلق بحفيدتي لينا. لم أعثر على سيّارة زوجتي على جانبي الطريق، أعلمت دورية الشرطة التي تراقب الطريق. سارت أمامي تتفقد الطريق على مهل. توقّفت عند طريق فرعيّة، ترجّل أفرادها، وترجّلت أنا أيضا، سرنا قليلاً، طلب قائد الدوريّة من السائق أن يتّجه بأضواء السيّارة إلى الطريق، ويتبعنا ببطء، هناك آثار عجلات سيّارة. سرنا نتلفت هنا وهناك، ونرهف السمع، وصلنا إلى نهاية الطريق، نور السيّارة يسطع على قمم الجبال أمامنا، لكن لا نستطيع رؤية شيء في أسفل الوادي. تقدّمنا قليلاً، أوقف السائق محرك السيّارة. هنالك صوت خافت أقرب إلى الأنين. صاح قائد الدورية:
ـ اسمعوا هناك إنسان يتوجّع.
أشار إلى السائق أن يتّجه بأضواء السيّارة إلى الوادي. بدأ الأنين واضحاً بعدما توقّف محرّك السيّارة. نزلنا السفح هناك رجل لم نتبيّن ملامحه، استعان قائد الدوريّة بدوريّة أخرى، وأخبر عن حادث خطير في وادي الهوى، وطلب سيّارة إسعاف. وصلنا إلى الرجل سأله الضابط عمّا جرى، فهمنا من كلامه أنّ سيّارتهم اختلّ توازنها، وارتطمت بالصخور، وهوت في الوادي. وعندما سأله عمّن كان معه في السيّارة لم يجب بدا غير قادر على الكلام . أدرك الضابط وأدركنا أنّه يكذب؛ فما الذي جاء بهم إلى هنا؟ ما الذي أعماهم حتّى ترتطم سيّارتهم بالصخور؟ وصلت إلى حطام السيّارة في قاع الوادي قبل وصول الشرطة. كانت سيّارة زوجتي. أجل هي نفسها سيّارتها الحمراء، رحت أصرخ: وسن! وسن!! جاءت سيّارة الإسعاف، وسطع السفح والوادي بالأنوار. أفصحت الأشياء عن نفسها، رأيت رأسها هشمه الزجاج، وصدرها مرتطم بعجلة القيادة، وكان جسد الرجل الثاني معجوناً بالحديد، وانتشرت جمجمته على هيكل السيارة، وعلى الأرض.
لم أستطع أن أقود السيّارة، تركتها على الطريق الرئيسيّ، أعلمت كريم بذلك، وجئت بسيّارة الشرطة إلى المستشفى. لم يبق الرجل على قيد الحياة حتّى ينال عقابه توفّي، وهو في سيّارة الإسعاف، وطُوي الحادث في مخفر الشرطة، ولم يتابعوا التحرّي عن ذلك الشرطي المزيّف.
أتذكّر أيامنا، تمتزج الذكرى بالحزن والكآبة، أتمنّى لو كنت معها، ولم اتركها وحدها. أحياناً أحسّ أنّي المسؤول عمّا حدث. أنا القاتل والمقتول. ليتني مت بدلاً منها! رأى الرجلان حالتي، مال نحوي إياد، قال بحنان:
ـ أنت تبكي؟
ما زالت وسن أمام عيني تنتقل كالفراشة، وتضيء كل ركن في حياتي. رأيتها تُطلّ مع ضوء البرق، تدعوني للعودة إلى البيت؛ فهي تنتظرني بالباب لتضمني إلى صدرها. مسحت عيني براحة يدي ، أجبته:
ـ إنّها تنتظرني.
حار في فهمي، بينما ضحك وائل:
ـ من سعيد الحظّ، يا عم؟
وخزه إياد. تنبهت إلى شرودي، قلت أصحح خطئي:
ـ أقصد أنّي أنتظر صديقي، لم يأت..!
قال وائل:
ـ ربما منعه المطر عن المجيء في الموعد. اطمئن دقائق ويكون هنا.
6
لن أنتظر طويلاً، عندما يتوقّف المطر سأخرج، صارت الساعة العاشرة والنصف، بدأ كثير من رواد المقهى يغادرون إلى بيوتهم، خوفاً من استمرار المطر، وتطوّر حالة الجو، كما ذكرت دائرة الأرصاد الجويّة بعد نشرة أخبار الساعة العاشرة: "منخفض جويّ يؤثر في المملكة يأتي من وسط أوروبا"
دوّى صوت انفجار قوي، ثم تبعه إطلاق الرصاص. بدا الانفجار قريباً، إذ اهتزّت جدران المقهى، وارتعد الحاضرون، حملق بعضهم إلى بعض، ثم تلا ذلك زعيق سيارات الإسعاف، وهي تقترب من المكان. علا صوت الشيخ الذي يجلس إلى طاولة بالقرب من الباب:
ـ يا ساتر! عاد الإرهاب.
عدل النادل أبو يوسف قنوات التلفزيون، بحث عن القناة المحليّة حتى وجدها، ليس هنالك أخبار عاجلة، صاح على عادل أن يخرج إلى الشارع ليرى ما يحدث. أمّا أنا فزاد قلقي؛ لم يأت صديقي. ماذا جرى ؟ اتصلت به جاءني الرّد الآلي نفسه: " رقم الهاتف المتنقل المطلوب لا يمكن الاتصال به حالياً يرجى الاتصال في وقت لاحق"
عاد عادل بعد قليل ، وهو متقطع الأنفاس:
ـ قوات الأمن والدرك تملأ الشوارع، وتفرض الطوق على المنطقة كلّها. الدنيا قايمة وقاعدة كأنّها حرب السبعة والستين.
صاح زبون، وهو يراقب التلفزيون:
ـ وهل كان حرب في السبعة والستين؟
التفت إليه الرجل الذي بجانبه.
ـ اتركونا من الفلسفة. ما الذي يجري يا جماعة؟ افهمونا بحق السماء!
قال عادل:
ـ أنا لا أعرف ما يجري، كلّ ما أعرفه أنّي رأيت الشرطة ورجال الأمن يطوّقون السوق، وينتشرون كالنمل في محيط المقهى، ربما عصابة حاولت سرقة محال الصاغة، وإرهاب الناس، فتصدّت لهم قوات الدرك والأمن، وأطلقوا عليهم الرصاص.
لماذا تفرض الشرطة منع التجوال؟ ما قوّة هذي العصابة التي تقتحم وسط البلد؟ لم أصدّق رواية النادل، كما لم أعد أطيق الانتظار؛ فصديقي لم يجئ، تناولت معطفي من مكانه على الحائط. قال إياد:
ـ انتظر حتّى تهدأ الحال، كنّا في حصار صرنا في حصارين: المطر، والشرطة.
نزلت الدرج. بالباب اعترضني شرطيّ من رجال الدرك. شهر سلاحه في وجهي وصاح:
ـ ارجع إلى الداخل، المكان مطوّق، وممنوع التجوّل.
سألته برقّة:
ـ ماذا يجري، يا ابني؟
ـ ليس شأنك .ارجع وإلا..
لم أناقشه؛ ففي مثل هذه الأحوال إذا لم تكن منتبهاً تذهب بشربة ماء.عدت. قال وائل:
ـ من المؤكّد أنّا سنبيت في المقهى.
ثم التفت إلى النادل:
ـ هيّئ الشاي، يا عادل.
هرع شيخ إلى المرحاض، وهو يضع يده بين فخذيه، وينفض الأخرى:
ـ لا أستطيع أن أحتمل. ابعدوا.
دبّ الاضطراب بين الزبائن، بدأ بعضهم يتصلون بأهلهم وأقاربهم، وعلت الأصوات:
ـ نحن مطوّقون!
ـ لا ندري متى ينتهي الحصار.
ـ لا أحد يعرف ما يجري.
ـ اطمئنوا لن يحدث لنا شيء.
دون وعي اتصلت بابنتي، بادرتني:
ـ أين يا أبي؟ متى تأتي؟
ـ سأتأخر الليلة. هناك انفجار وقع وسط البلد.
ـ نحن أمام التلفزيون ولم نسمع شيئاً.
لم أشأ أن ألعب بأعصابها؛ فأقول لها إنّي في وسط معركة لا أعرف طبيعتها ولا أهدافها، ولكنّي أشارك فيها بأعصابي وعواطفي. رجوتها أن تذهب إلى النوم، ولا تقلق عليّ. ألحّت في أن تعرف مكاني؛ لتأتي مع زوجها ـ كأنّ الأمر في غاية البساطة ـ لاصطحابي إلى البيت..
بدأت الأخبار تتوالى في فضائيّات كثيرة. عمل إرهابي يهزّ عمّان، إرهابي يفجّر نفسه في مركز للشرطة. جماعة إرهابيّة تُطلق النار على الناس في وسط البلد. قوات الأمن والدرك تتبادل النار مع الإرهابيين، وتفرض طوقاً أمنياً على المكان. ولم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الهجمات.
غطّى انهمار الرصاص وأصوات القنابل على تساقط المطر، ثم انقطع التيار الكهربائي، وتوقّف بثّ التلفزيون، وعمّ الظلام وتسلل البرد، وبدأت أضواء الأجهزة الخلوية تبرق وسط الظلمة، وعلت الأصوات:
ـ شغلوا المولّدات الاحتياطية.
ـ الشموع. أين الشموع؟
كما خمّنت؛ المقهى لم يحسب لهذه الظروف، فليس فيه مولّدات كهربائيّة، وحمدنا الله أنّ هنالك مدفأة سولار في وسط المقهى، تنسل منها مواسير من الصفائح المعدنية لتنشر الدفء في المكان. وعلت صيحات الترحيب بالضوء عندما خرج النادلان من غرفة الشاي، وهما يحملان الشموع المضيئة، وزّعاها على الطاولات القريبة التي تجمّع حولها من تبقى من الزبائن، ثم قال رجل يبدو أنّه عسكري متقاعد:
ـ قطعت قوات الأمن والدرك الكهرباء حتّى لا يفرّ الإرهابيون. أين يذهبون؟ عيون الدولة صاحية..
لم أعد أطمح في العودة إلى البيت هذه الليلة، فالرصاص ما زال يتجاوب مع زخّات المطر، ثم علت مكبّرات الصوت تدعو الناس إلى عدم الخروج من المنازل، وألاّ يعرضوا أنفسهم للخطر، وأعلنت وسط البلد منطقة عسكريّة يمنع فيها الجولان.
كنت أسترق السمع من النافذة، ليس هنالك غير صوت الطبيعة وصوت الرصاص، ووقع أقدام الجنود في الشوارع الخالية، حذّرني أحدهم:
ـ ابتعد عن النافذة لئلا تأتيك طلقة طائشة..
في منتصف الليل، انضممت إلى ثلة من الشباب، تجرّأنا في تلمس الدرج حتّى انتهينا إلى الباب الخارجي، اعترضنا ثلاثة جنود بدوا كالأشباح، خاطبنا أحدهم بلطف:
ـ الزموا المقهى. نحن نحاول السيطرة على الموقف. هنالك عناصر من الإرهابيين تحاول النجاة. بعدما نُلقي القبض عليهم نسمح لكم بالعودة إلى منازلكم بل نحن سنتكفل بعودتكم إلى أهلكم سالمين، أمّا الآن فعودوا إلى أماكنكم. قليل من الصبر ينجّيكم من الموت..
رفض اثنان منا الانصياع للأمر، واندفعا هاربين، لم نعلم ما حدث لهما. انطلق الرصاص من جهات متفرّقة، وسمعنا حركة سيّارة عسكريّة، ثم زامور سيّارة إسعاف، وعلا الصراخ، يبدو أنّ أحدهما أصيب، تراجعنا منهزمين إلى المقهى.
7
هدأ الرصاص، انتصب رجل طويل، وشقّ صوته سماء المقهى:
ـ لن نموت هنا، لن نرضخ للحصار، الشرطة يجب أن تؤمّن لنا الحماية حتّى نعود إلى بيوتنا..
أسرع نحو الباب، حاول إياد وآخرون منعه، لكنه انفلت من بين أيديهم، وسار يتخبّط نحو الدرج. ضرب النادل كفّا بكفّ:
ـ قتلوه!
بعد قليل رجع يجرّه ضابط إلى الداخل، وهو يصيح به: ـ ارتزي هنا. أفضل من أن تموت، أو يأكلك القمل والتعذيب في المخفر.
أسرع عامل البوفيه والنادلان بسحبه إلى الداخل. تجمّعنا حول الضابط. أخبرنا أنّ الأوامر مشدّدة بمنع حركة الناس، وربما ينتهون من العملية عند الفجر، إنّها عملية كبيرة بل حرب شنها الإرهابيون على الدولة. وسألناه إن كان هناك قتلى من المدنيين، فأجاب سقط بعضهم في أثناء تبادل النار، وهنالك جماعة محتجزون في مطعم نور .
تخيّلت صديقي من المحاصرين في مطعم نور، ربما رغب في تناول العشاء قبل أن نلتقي. بخيل. لماذا لم يدعني للعشاء؟ الحمد لله لم يفعل وإلا كنت محاصراً معه، لكنّي الآن في حصار. حصار عن حصار يفرق. لا أظنّه من المحاصرين في المطعم، ونحن طلاب لم نكن نرغب في دخول هذا المطعم، لم ندخله غير مرّة أو مرّتين. أذكر تناولنا فيه الكنافة، ولم تعجبنا، لكثرة ما فيها من سمنة. ربما اعترضه الإرهابيون وقادوه إلى المطعم، ليتّخذوه وسيلة لتحقيق مطالبهم. إنّه صيد ثمين، يحمل الجنسية الأمريكية المطلوبة، مسكين بشير ماذا صنع في حياته حتّى يتعرض لمثل هذا العذاب. أنا من يستحق اللوم، ألم أجد غير هذا اليوم لنلتقي فيه؟ وأين؟ وسط البلد، وفي مقهى الكوكب. انعدمت الأمكنة، واستحالت الأزمنة. لماذا أزيد كآبتي، ربما هو الآن في منزل ابنته يداعب أحفاده الذين جاء من أجلهم ـ كما أخبرني في اتصالاتي به. لا شك عاد أدراجه بعدما عاين الازدحام في الطرق، وحوادث الشتاء. لم يكن له ذنب في عدم الردّ على اتصالي، كلّ الاتصالات تتعثر في مثل هذي الأحوال.
بعد ذهاب الضابط خفّت الحركة في المقهى، استسلم الجميع إلى الواقع، لن يعودوا إلى بيوتهم، سيمضون الليلة هنا. رتّبوا المقاعد والطاولات في حلقات، هنالك حلقة في كلّ زاوية، وفي الوسط بالقرب من المدفأة حلقتان أو ثلاث، واختفى الجميع بين أكوام الخشب والحديد كل واحد استقلّ بعالمه.
في الزاوية الجنوبية بجانب التلفزيون كان عالمي، أقمت حائطاً من الطاولات والكراسي، واتخذت طاولة سريراً، وجعلت الحذاء وسادة، واستلقيت أنظر إلى السقف، بدا لي أن المصابيح المطفأة، تحاول ان تنفلت من عقالها، لتهوى فوق رأسي، أو لتتنقل مع الظلال في الصالة. انتفضت جالساً، ولم أستطع النوم.
انتبهت إلى شخير خفيف، أرهفت السمع، كان ينطلق من الزاوية المقابلة. لا أذكر أنّي رأيت إنساناً يجلس في المكان منذ دخلت المقهى، اقتربت. ليس هنالك غير مجموعة من الكراسي والطاولات التالفة، وكومة من السجاجيد وخرق القماش، فيبدو أن المكان مخصّص للأشياء التالفة، أو محراب يصلّي فيه بعض رواد المقهى، وبخاصة عندما تفوتهم الصلاة في المسجد القريب.
قفزت من على السرير المزعوم، اتجهت إلى الموضع، الذي يُبثّ منه الشخير، هنالك بين كومة السجاجيد القديمة، شيء يخفق لم تظهر معالمه، كان مغموراً بسجادة صلاة مهترئة، أو ربما خرقة من القماش.
أحسّ بي، تحرّك هذا المخلوق، انتفض عن إنسان ضئيل الجسم، لم يثر في نفسي الخوف، أو السخرية، أو الاشمئزاز، فملامحه تثير الحب والطمأنينة، لكنّي تعجّبت من وجوده في هذا المكان المعزول، وقادني الفضول، وربما الشعور بالألفة إلى سؤاله، وكأنّه صديقي بشير:
ـ من النزيل الكريم في هذي الزاوية؟
ـ محسوبك المدعو أبو خالد..
ـ من متى وأنت هنا؟
ـ منذ دوّى الانفجار الأول وانطلق الرصاص.. لم نجد أفضل من المقهى.
أثارني استخدامه ضمير الجماعة، وكأنّ هنالك إنساناً معه، لم ينتظر حتى أسأله فبادرني:
ـ لجأت إلى المقهى أنا وأبو صابر هذا الذي تراه تحت كومة السجاجيد.
نظرت إلى حيث أشار. كان أبو صابر يتململ تحت تلك التي وصفها بالكومة، وتابع قوله:
ـ هذا المقهى نتردّد إليه كثيراً أنا وهذا الرجل، نأتي لنمضي الوقت في لعب الطاولة، وغالباً أهزمه في لعبة أو لعبتين، ثم نعود إلى البيت، نحن في الأصل جيران ومن قرية واحدة، قرية النعيمة إن كنت تعرفها.
ـ من قرى إربد الجميلة. مرّرت بها في رحلة مدرسيّة.
تابع بتدفق:
ـ رحلنا إلى عمّان عند التحاقنا بالجيش، وبقينا فيها إلى الآن، بعد أن تقاعدنا.
ـ عمّان راحة المحارب.
لم يغضب من حكمتي، بل ابتسم وتغيّرت لهجته، ثم علا صوته بافتخار:
ـ أديّنا واجبنا تجاه الوطن، بالنسبة إليّ فقد جرحت في معركة السموع، وأنا أدافع عن تلك القرية من قرى الخليل التي كانت على الحدود بيننا وبين العدو، ودمّرتها قواته في تلك المعركة عام 1966، كما قاتلنا العدو بعد ذلك في الكرامة. والآن ما زلنا نؤدي واجبنا تجاه الوطن. الوطن يسكن في قلوبنا، قبل المجيء إلى المقهى كنّا في خيمة اعتصام أمام السفارة المصريّة احتجاجاً على بناء الجدار على الحدود بين مصر وقطاع غزّة. جاءت الشرطة هدمت الخيمة ومزّقتها، هربنا من العصي لنقابل برصاص الشرطة والإرهابيّين، ثمّ هربنا من الرصاص لنحاصر هنا في المقهى.
ثمّ تعثّر صوته قال:
ـ أشعر بجفاف في حلقي.
نهضت، وأنا أقول:
ـ سأحضر الماء.
اتجهت إلى البوفيه. الهدوء يخيّم على الجميع. انزوى كلّ منهم في مكانه، بعد أن يئسوا من الخروج إلى منازلهم، اتّضحت الأشياء بعد أن اعتادت العيون على أضواء الشموع الخافتة. كان عامل البوفيه وعادل مستيقظين سألتهما عن الشاي، وأن كان هنالك شيء يؤكل. جئت بصينية عليها إبريق صغير وثلاث كاسات وقطعاً من البسكويت، خطفتها من عادل، الذي غدا صديقاً لمن بقي من الزبائن، وصديقاً لي أنا الذي لم أتعرف إليه إلاّ منذ قليل.
عدت إلى الرجلين كان أبو صابر قد استيقظ، وجلس على كرسي يغالبه النوم، بينما بقي أبو خالد مكانه على الأرض كراهب بوذي. لاحظت أنّ أبا صابر قريب الشبه من صاحبه أبي خالد لكن قامته أصغر، وجسمه يميل إلى البدانة. وضعت الصينية على الطاولة وسحبت كرسيين.
سألت أبا خالد أن يجلس وألاّ يبقى على الأرض تأكله الرطوبة، أجابني:
ـ القرب من الأرض يعطي الإنسان قوة، في البيت أترك السرير وأنام على الأرض، ترى صحتي مثل الحديد، لا أشتكي مثل شباب اليوم من أوجاع الظهر والمفاصل.
رحت أسكب الشاي، هنالك أسئلة تحفر في عقلي، تحاول أن تغيّر من تلك الصور التي تجمعت فيه عند دخولي المقهى، لم يعد رواده ممّن لا يهتمّون بما يجري حولهم وفي العالم، لكن الأسئلة المحيرة حول هذين الرجلين المتمرّدين كيف انصاعا للظروف، وارتميا على حصيرة تحت سجاجيد الصلاة. قلت وأنا أدعوهما إلى تناول الشاي:
ـ لا أدري ما الذي يجبرنا نحن كبار السن أن نشترك في اعتصامات ومظاهرات، أنتما ربما في مثل عمري. لنترك هذي الأعمال للشباب.
استيقظ أبو صابر، تناول كأس الشاي، وقال:
ـ عفواً الأخ كم عمره؟
ـ فوق الخمسين.
ـ فعلاً نحن أكبر منك. نحن فوق الستين .
ـ رددت:وما شاب رأسي من سنين تتابعت
علي ولكن شيّبتني المصائب
سأل أبو خالد:
ـ أي مصائب يا رجل حتى نشاركك الحزن؟
ـ زوجتي قتلت في حادث سير.
قال أبو صابر:
ـ مصيبتك تهون إذا عرفت مصائب غيرك. كلّ منّا له مصائبه الخاصة، يا رجل..
رغبت في أن يسألاني كيف قتلت زوجتي، ومن الذي قتلها، ولماذا هذا الحزن عليها، وقد مرّ على الحادث سنوات. بادرني أبو صابر:
ـ أين مصيبتك من مصيبتي؟!
وضع كأس الشاي بيد مرتعشة على الصينية، وتهدّج صوته، بدا غير قادر على الكلام، فتولّى أبو خالد الحديث دون تمهيد:
ـ تعرف، بدأت إسرائيل تحشد قوتها على حدود غزّة بعد انتهاء الهدنة المزعومة بين العدو وحماس، ثم بدأ الهجوم على القطاع في نهاية كانون أول عام 2008م. شاهد العالم ما جرى على شاشات الفضائيات. طائرات تدمّر مظاهر الحياة، وتقتل المدنيين بالفسفور الأبيض والقنابل العنقودية. مئات من الأطفال والشيوخ قتلوا، وبعض الشباب أعدم بدم بارد، وجرى سرقة أعضاء من أجساد الشهداء. محرقة أشعلها الصهاينة لحرق الشعب الفلسطيني.
قلت:
ـ هذه مصيبة عامّة ما زالت تؤثر فينا، ولن يكون لها حلّ ما دامت إسرائيل تحتلّ الأرض، وتقتل الناس، وتخرّب كلّ شيء، هذه المصيبة يمكن إضافتها إلى مآسينا الخاصة فتتضاعف الكارثة، ومما يخفّف هذي المصيبة أنّ الجميع حاول أن يواجهها؛ هناك من قدّم المال، وهنالك من تبرّع بالدم، هنالك من تظاهر احتجاجاً على العدوان، وهنالك كثيرون ذهبوا إلى غزّة من أطباء ومهندسين، حاولوا أن يقدّموا المساعدة لشعب غزّة المنكوب.
قال أبو خالد:
ـ هذا صحيح، ولكنْ هناك أفعال تزيد من المأساة، في اليوم الأول للعدوان قدّم ابني وابن هذا الرجل ، ابني طبيب وابنه ممرض، طلباً إلى رئيس المستشفى الذي يعملان فيه؛ ليأذن لهما بالذهاب إلى قطاع غزّة. رفض طلبهما، قيل هنالك مستشفى ميداني يجري تحضيره للذهاب إلى غزّة، اضطرا إلى طلب إجازة شهر دون راتب، فرفض طلبهما أيضاً بحجة أن الحكومة المصرية لا توافق على دخول أحد إلى القطاع إلاّ بالطرق الرسميّة، والطرق الرسميّة تعني الوصول إلى غزّة بعد خرابها، وترك نسائها وأطفالها يموتون في جراحهم. كانا يتمزّقان، وهما يستمعان إلى الأخبار عما يجري، لم يستطيعا صبراً، فذهبا إلى دمشق، ومن ثم إلى القاهرة، وانتهيا إلى معبر رفح، وهنالك منعا من الدخول مثل غيرهم من الأطباء والمهندسين والصحفيين الذين جاءوا لمساندة الناس الذين يموتون.
قلت:
ـ من كان يتخيّل أن هذا يحدث بين مصر وفلسطين؟ حدود وأنفاق وعذابات، أمر غريب حقاً، فلا هي ساعدت الفلسطينيين، ولا تركت الآخرين يساعدونهم. هل بقي الاثنان عالقين في المعبر؟
ـ أخبرني ابني بعدما جاء من هناك أنّه التقى أحد الموظفين في المعبر، نصحهما بالدخول عن طريق غير رسمية، وعرّفهما إلى مقاول يعمل في بناء الأنفاق والتهريب، دفعا له ثلاثمائة وخمسين دولاراً مقابل تهريبهما إلى القطاع..
ـ لا شك أن ما قام به ولداكما عمل إنساني عظيم، لعله زادهما خبرة في التعامل مع هكذا ظروف: قتل، وحروق، ودماء.
ـ انضما إلى مستشفى الشفاء فور وصولهما إلى غزّة، حدثني ابني كيف كان الأطباء يجرون العمليات بأدوات بسيطة، وتحت هدير الطائرات، وقصف الدبابات، وقد تعرض المستشفى نفسه للقصف، وهدم جزء منه.
انفلت أبو صابر:
ـ كانت النتيجة مأساوية، يا أخي، قتل ابني، قتل صابر.
وغرق في النشيج، رحنا نهدئه، لمع نور الكهرباء في القاعة، ثم تلاشى، يبدو أنّهم كانوا يحاولون إعادة الكهرباء إلى المدينة، قال أبو خالد بنغمة حزينة:
ـ استشهد في وسط المعركة ـ كما قال ابني ـ كانت الطائرات تقصف منطقة تل الهوى، بُلّغ الاثنان عن وجود جرحى وقتلى بين المدنيين، وصلا إلى المكان، بعدما خفّ القصف، هرعا لنقل الجرحى إلى سيّارة الإسعاف، في طريقهم إلى المستشفى اعترضتهم قذيفة، أصابت سيّارتهم ، استشهد صابر رحمه الله وجرح ابني، لم يكن جرحه بليغاً، اتصل ابني يبلغنا بما حدث، وبعد شهر من توقّف الحرب، عاد من دون صديقه. كان وقع المأساة عظيماً علينا.
ـ هل هنالك مصيبة أشد من الموت؟! الحمد لله أن عاد ابنك سالماً!
ـ أصدقك القول، تمنّى ابني أن يستشهد هناك على أرض غزّة. كان يحسّ بالعار أنّه بقي سالماً وصديقه استشهد.
ـ أدّى واجبه في المستشفى على أكمل وجه، خسارة أن نفقده. نحن تحتاج إلى أمثاله من الأطباء..
ـ هنا لم يحتاجوا إليه، فصلوه عن العمل. في اليوم الثاني من رجوعه عاد إلى عمله، أبلغه رئيسه أنّه مفصول حسب نظام الخدمة في المستشفى؛ لانقطاعه عن العمل أكثر من عشرة أيام دون عذر رسمي، وقد نشر قرار فصله في الصحف اليوميّة. تنصّل رئيسه من مسؤوليته، وأقسم أنّه قام بالتبليغ عن غيابه بناء على طلب رئيس المستشفى بالتبليغ عمن يذهبون إلى غزّة على مسؤولياتهم الخاصّة.
علّق أبو صابر:
ـ يريدون أن يقتلوا النخوة والشهامة في نفوس أبنائنا النشامى.
قال أبو خالد بحميّة:
ـ لن يفلحوا. فالشهامة مغروسة في قلوبنا، لم يستكن ابني. الآن، هو في غزّة، ذهب في قافلة شريان الحياة، وقرّر البقاء في القطاع، وأبى أن يخرج منه مع جماعة جورج غالاوي. سبحان الله! بريطاني يعرّفنا بما يجب أن نعمله من أجل أنفسنا وأبناء جلدتنا.
قال أبو صابر:
ـ زمن!؟
رددت:
ـ نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا.
لم تعد الكهرباء، وما زال يسمع في الخارج طلقات الرصاص. قال أبو خالد:
ـ إذا استمر حصارنا في المقهى فنحتاج إلى جورج غالاوي كي يمدّنا بأسباب الحياة، أو بفكّ الحصار عنّا.
قال أبو صابر، كأنّه يستعرض خبرته العسكريّة في الجيش العربي:
ـ يبدو أنّ العملية في نهايتها؛ فما إن تشرق الشمس حتّى نكون في بيوتنا، إن شاء الله. الله يجازي هؤلاء المخربين جاءوا ليقتلوا أهلهم وأبناء جلدتهم.
نهض أبو خالد يصلّي نافلة الليل، ثم تبعه أبو صابر، أبقيت إبريق الشاي عندهما، وانتقلت إلى مكاني.
8
لم تعد الكهرباء، لم يلمع ضوءها مرّة أخرى، ربما فشل العمال في إصلاح العطل، أو أنّهم منعوا من إعادتها، تأكّد اليأس من عودتها، كما الخروج من المقهى، داعبت العيون الأضواء المنبعثة من عدة شمعات متفرّقة هنا وهناك، وعمّ الهدوء، ظلت بعض العيون محملقة إلى السقف، وأخرى مصوّبة نحو الباب.
لم أستطع النوم. الطاولة أو سريري قاسية وقصيرة حتّى إنّ قدميّ فاضت عنها، والخوف من السقوط على الأرض لمّا يزل يسيطر على قلبي. قفزت عن الطاولة، جلست على الكرسي، أملت ظهري إلى مسنده، وألقيت قدميّ على الطاولة. لم يغادر عقلي حديث زميلي في السكن، أبي خالد وأبي صابر. عجبت في كل منهما روحه المرحة، وصبره الجميل، وعناده الحر، تخيلتهما نسرين محلّقين في السماء، ثم يتحولان إلى نجمين ساطعين، ثم حاصرتني مصيبة أبي صابر، لكنّ مصيبتي في قتل زوجتي بدت مثل قضيب من نار يكوي جسدي، صابر قضى شهيداً، وهو يقوم بواجبه وزوجتي استشهدت، وهي تدافع عن شرفها، مصيبتان راحتا تحفان شغاف قلبي.
حاولت التخلّص منهما؛ صابر رأيته على حدود رفح مخلوقاً ضخماً مثل جبل أحد، يضع ما بني من السور الفولاذي على الحدود بين أسنانه، ثم يمضي في سحبه شيئاً فشيئاً حتى يتوارى في جوفه، ثمّ تجيء قبائل العرب في مقدمتهم قريش يهللون ويكبرون في أنّ العار الذي كان يهدّدهم قد ولّى بلا رجعة.
تبرز زوجتي وسن من بين الحشود، وهي تبتسم لي، ثم تلتقطني مثلما يلتقط العصفور حبّة قمح، وتحلّق بي إلى البيت، تلقيني هناك، ثمّ تستلقي على ظهرها وتمدّ ذراعيها تدعوني لأغفو بينهما.
انطلقت زخّة من الرصاص. استيقظت. يا إلهي، كم كان جميلاً ذاك الحلم! نهضت. رحت أجيء وأروح في قاعة المقهى. كان أبو صابر وصاحبه قد عادا إلى فراشهما الوثير في انتظار ما يسفر عنه الصباح. عدت إلى الواقع. أين يا ترى بشير؟ أهو قريب منّا أم عاد إلى البيت؟ لو حدث له مكروه فأنا المسؤول. هل قتل؟ جاء من أميركا ليقتل في عمان. اللهم اغفر لي، أنا السبب. أنا السبب!
عدت إلى الكرسي. لابدّ أنّ ابنتي نائمة الآن، قلت لها أن تنام ولا تنتظرني، إذا لم تنم تعذبني، ليعذبني الله على عذابها! سأراها وأحفادي، لن يطول غيابي. هذا الحصار سيزول اليوم أو بعده، ما أخشاه أن تحاصرني مخلّفاته كأيّ حصار، مكتوب عليّ أن أتنقّل من حصار إلى آخر والنهاية حصار.
أرهقت أفكاري وخيالاتي، حاولت أن أجد ورقة وقلماً، سألت عادل، لم ينصحني بالكتابة بل استهجن طلبي في هذه الظروف. لا بدّ أن أملأ الثغرات في الواقع بالخيال. أين صديقي بشير الآن؟ ماذا حدث له؟ كيف أنقذه من هذا المأزق الذي دفعته إليه؟ شعرت بلذة، وأنا أفكر في إنقاذ صديقي.
9
لم أكن أعلم أنّ هذا الروائي يريدني لتنفيذ مهمة سريّة في عالم لا يستطيع الإنسان العادي أن ينجو بنفسه، ففي كلّ منفذ من منافذ الحياة، في الموانئ والمطارات والحدود والمعابر، هناك من يقول لك قف للتفتيش. اخلع عمامتك، معطفك، قميصك، بنطالك، ملابسك الداخلية، حذاءك، ماذا تحت لحيتك؟ ماذا تخفي بين أسنانك، وتحت لسانك، وبين أفخاذك؟ لماذا اسمك محمد، أحمد، مصطفى؟ أين أنت ذاهب؟ لماذا؟ في النهاية عليك العودة من حيث أتيت، هذا إذا لم تنقل إلى أقبية وراء الشمس، أو وراء البحر الكاريبي.
كيف يفكّر هذا الروائي؟ يحسب نفسه في زمن يجري فيه النهر دون أن يتدخل في مجراه أحد، تسير فيه الرياح دون حواجز أو موانع، تتطاول الأشجار على الأعالي، أو تخترق جذورها التراب دون أن يهدّدها مخلوق، تنتصب الجبال في الأرض أوتاداً دون أن تهاجمها المعاول والجرّافات، تزهو الحقول والسهول بالخضرة دون أن تهاجم بقضبان الحديد، وأعمدة الإسمنت.
مجنون هذا الروائيّ؛ يخلق عالماً غريباً، يمتزج فيه الواقع بالخيال، وهو نفسه لا يستطيع أن يميّز بينهما بعد إلقائهما على الورق، يمارس عمله بتلذذ دون أن يعبأ بالآخرين، يبدع شخصياته ويتركها تغرق في البحر، أو تتيه في الصحراء، أو تقتل في عمل إرهابي، أو ربما تندفع إلى الانتحار أو الجنون، إنّه لا يتدخّل في إنقاذها، يقف بعيداً يتلذّذ بما صنع.
دعاني إلى المقهى، مقهى قديم، عاصر الحرب العالمية الثانية أو ربما الأولى، يقع وسط البلد، بالقرب من سيل عمّان الذي اختفى تحت جسر طويل، بنيت على جانبيه المحال التجارية، ترك صاحبي مقاهي عبدون وخلدا والصويفية والشميساني، وجاء إلى قاع المدينة، قال إنّ مقهى الكوكب يحمل جزءاً من تاريخه الشخصيّ، وهو طالب في الجامعة، وجزءاً من تاريخ البلد؛ إذ كانت تجتمع فيه الأحزاب الوطنية لتناقش تحرير العرب من حكم المستعمرين. لو كنت أمين العاصمة لأمرت بهدمه، فهو ليس أفضل من مقهى الجامعة العربيّة، الذي دفن تاريخه تحت محال تجاريّة، تبيع الملابس والعطور والهواتف الخلوية وتكنولوجيا العولمة، لم تعد الأماكن تعبأ بالتاريخ، والتاريخ صار يسرح ويمرح فوق مآسي الناس، أو ـ كما يقول هذا الروائي الذي ابتليت به ـ اختلطت الأمكنة والأزمنة، وغدا العصر عصر النت، وألعاب الفيديو، وحرب النجوم، وثقافة الساندويش والبرغر.
تسللت من باب الدرج الذي يطلّ على السوق، وصعدته إلى المقهى، وأنا أرتجف ليس لأنّ الروائيّ أوصاني بذلك بل لأنّ منظر قوات الأمن والدرك وهم يحملون الهراوات والبنادق يخيفني، الحمد لله لم يعترضني أحد من الواقفين بالباب، بل أفسحوا الطريق لي، وهم يأمروني بالبقاء في الداخل، وعدم الخروج، لم أكن أعرف ما يجري، ولا أريد المعرفة، لأنها تبعث في نفسي القلق والاضطراب، وأنا أرغب في أن أعيش دون همّ أو غمّ، فأبغض شيء عندي أن أرى اثنين يتشاجران، أو أسمع طلقة رصاص، أو صرخة طفل.
في أعلى الدرج كان الباب مفتوحاً على قاعة واسعة تصرخ جوانبها بالفوضى، فالطاولات والكراسي في تجمّعات عشوائيّة، وبعض الناس يتحرّكون كالأشباح في ضوء الشموع الراجفة، وآخرون يرتجفون من البرد تحت الطاولات وخلف الكراسي؛ فلم تنجح مدفأة البترول بذراعها الممتدة إلى السقف أن تبعث في المقهى الدفء بعد انقطاع الكهرباء عن أجهزة التدفئة التي غدت مجرد دمامل أو صناديق حديديّة على الجدران.
كان الروائيّ مستلقياً على طاولة في زاوية المقهى شابكاً يديه تحت رأسه، وقدماه تتدليان إلى الأرض، ومعطفه معلّق على الحائط، كأنّه لا يحسّ بالبرد مثل غيره من النزلاء. لم أتبيّن ملامحه على ضوء الشمعة التي وضعها على الأرض، لم يتحرّك عند مجيئي، بقي مضطجعاً على ظهره، ولم يدعني إلى الجلوس على كرسيّ من الكراسي الكثيرة حوله، خاطبني بهمس حتى لا يوقظ أحداً:
ـ أحتاج إليك، يا خضر.
ـ خضر، هل أسميتني خضر؟
ـ هل تظنّ أنّي أتركك دون اسم؟ اسم خضر أفضل من أن أرمز إليك بحرف من حروف اللغة، أو أدعوك برقم؛ فأنت، مثل سائر شخصياتي، لست نكرة..
ـ هذا الاسم لا يروق لي؛ فهو يوحي بصفات بعيدة عنّي؛ فأنا لا رقة ولا نعومة ولا حنان ولا شباب، وأعمالي لم تتبين بعد أهي صالحة أم طالحة، وإذا كان اللون الأخضر يشير إلى الربيع والأمل؛ فأنا ربما أقترب من الخريف والتشاؤم، فأفكارك التي تُحمّلنيها لا تخرج عن هذه المعاني.
ـ أنا أعلم بنفسك منك، واسم خضر من أحبّ الأسماء على قلبي، ويعبّر عن شخصيتك بصدق وجمال.. أنا اخترتك واخترت هذا الاسم لك. أفهمت؟.
ـ أنا! لماذا اخترتني؟ هناك كثيرون غيري يمكن أن تختارهم ، كيف ومهنتك صانع شخصيات؟
ـ ليس غيرك من يقدر على مساعدتي.
ـ بماذا تريدني أن أساعدك؟
ـ كما ترى، المقهى محاصر، لا يستطيع أحد منّا الخروج، وإذا خرج يتعرّض لإطلاق النار، لا أريد أن أموت الآن، لقد جئت إلى هنا لأنتظر صديقي بشير العايد، لم يأت، ربما بسبب المطر أو الانفجارات التي وقعت، لا أدري هل جرح أم قتل، أريد أن أعرف ما جرى له، لهذا أحضرتك إلى هنا. أريدك أن تأتيني بخبره، وتنقذه إن كان في أزمة أو ورطة,. أنت من يستطيع أن يقوم بالمهمة.
ـ أنت تعرف الصعوبات التي تعترض كلّ من يحاول أن يخرج من هنا، فكيف من يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن شخص لم يكن يعرفه، أو التقى به ذات يوم..
ـ هذه صورته.
أخرجها من جيب قميصه، ومدّها إليّ، تناولتها صورة رجل يبدو أنّه كبير السن؛ فالشيب يملأ رأسه، ولكنّه وسيم، عيناه زرقاوان، وأبيض الوجه كأنّه أجنبي لم ينغمس في البيئة العربية كثيراً. قلت:
ـ لن أقدر على هذه المهمة، فلست أملك مصباح علاء الدين أو طاقية الإخفاء، كما أنّي لا أملك أجهزة الدولة العظمى التي تستطيع أن تخترق الرمال في الصحراء، والرياح في السماء، والمياه في أعماق البحار. أنا إنسان على قدّ الحال كما تراني. لا أستطيع أن أخرج عن الحدود المرسومة على الورق ، أو أتمرّد على الظروف التي تضعني فيها، وغالباً هي ظروف تعسة: حروب، وفيضانات، ومجاعات، وفوضى.
ـ اطمئن، سيلاحقك خيالي أينما تكن، لن أتخلّى عنك حتّى لو تخليت عن حقائق الفن والحياة.
ـ أرجو أن تتركني، اجعلني شخصيّة هامشيّة في عقلك، أو اجعلني شيئاً من أشياء روايتك: كرسيّ أو طاولة أو زجاج نرجيلة، أو حتّى كأس شاي أو صينيّة.
ـ هل تفكّر في أن تتمرّد عليّ؟
ـ لا، فهذا العالم من صناعتك، ولكن أيّ عالم، إنّه عالم تحصره في المقهى، لا تخرج منه إلى عالم آخر، تظنّ المقهى وحده هو المحاصر، صحيح اختيار المقهى يفيدك في تماسك عملك، والإحاطة به، ولكن الحقيقة أنّ البلاد كلّها محاصرة، فلا تستطيع شخصية مثلي أن تتحرك وسط الحصار. أرجوك أنا قوّتي على قدّي..
ـ قوّتك هي قوّتي.
ـ أخشى أن تتخلى عنّي؛ فكثير من الشخصيات التي استخدمتها في رواياتك السابقة بعتها بقشرة بصل، وتركتها تغيب دون هدف.
ـ أنت شخصيّة مختلفة بما لك من صفات جسميّة وخلقيّة، قويّ العضلات، ضخم الجسم، تملأ من يراك رعباً.
أعلن انتهاء لقائنا، وأشار إلى الباب كي أنصرف، ثم مضى في النوم.
هذا قدري إذاً.
10
انسحب خضر كالمصفوع على وجهه، ونزل درج المقهى، وهو يحاول أن يعيد توازنه. الآن، عليه أن يواجه الأمر بذكاء، كيف يخرج أولاً من المقهى، الشرطة بالباب، ورجال الدرك يملأون الشارع، كيف ينسلّ من بينهم دون أن يحسّوا به. ماذا يقول إذا أمسكوا به. لماذا يخاف؟ هو إنسان عادي ليس مخرّباً أو إرهابياً، يريد أن يعود إلى منزله. أيّ منزل؟ سيقول لهم إنّ له منزلاً. ما شأنهم به؟ إنّه لا يطالبهم بمساعدته على ذلك، ولا يطمح في حمايتهم له، ما يريده أن يتركوه وشأنه. إذا وقع بأيديهم فأمره إلى الله، وليفرح ذلك الروائي القابع في المقهى. يحسب أنهم يتركونه، سيجّر للمخفر والتحقيق. سيقع في سين وجيم. لماذا تركت خضر يتخبّط على هواه؟ لماذا حرضّته على تعليمات الشرطة؟ سيلعن اليوم الذي فكّر فيه أن يكتب رواية، وأن يعبث بالشخصيات، ويخترع الأحداث كما يشاء.
تلمّس طريقه على الدرج مستعيناً بالدرابزين، انتهى إلى الباب، تقدّم بحذر، مدّ رأسه، لم يكن بالباب أحد. المطر ينزل رذاذاً، شرطيان يروحان ويجيئان أمام المقهى، وأشباح تتحرك بعيداً عند مدخل السوق على الشارع الرئيسي، انتظر قليلاً، استدار الشرطيان متجهين نحو الشارع، أطلق ساقيه للهرب، تنبه الشرطيان على الحركة والتفتا خلفهما، استدارا يركضان خلفه، وهما يصرخان:
ـ مكانك، سنطلق النار.
لم يطلقا النار. كان يحسّ بحركتهما خلفه، دخل في شارع ضيق. علت في الجو قذيفة إنارة، يبدو أنّ الشرطة أطلقتها من منطقة قريبة، شاهده أحدهما، سمعه يقول لصاحبه:
ـ أسرع لنقبض عليه، ابن الكلب!
كان يسمع وقع أقدامهما خلفه، أحسّ بالتعب، لم تعد رجلاه تحملانه، اقتربا منه، انحرف إلى ممر ضيق، هنالك سور قصير، دبّت به فجأة طاقة غريبة، فقفز عن السور، سقط على أرض مبلّطة، امتصّت ملابسه الماء المتجمّع على الأرض، أدرك أنّه أمام باب منزل، أسرع يتشبث بالباب ويطرقه بكلتا يديه، بين لحظة وأخرى كان ينتظر وصول الشرطيين إليه. سمع حركة خلف الباب، راح يدفعه، وهو يتمتم دون وعي:
ـ قبض علي. قبض علي. اليوم أقتل. اليوم أموت. السجن.. الرصاص.
فتح الباب، تساقط في الداخل، هنالك شبح امرأة تحمل بيدها شمعة طويلة، صالة كبيرة لم يتبيّنها جيّداً، أغلقت المرأة الباب، أمعن النظر إليها، عجوز سيريلانكيّة، تضع مريلة زرقاء على خصرها، وتلفّ بعض شعرها بمنديل أبيض، همست:
ـ رجل خوف لا.
ليس خوفاً فقط بل برد وعذاب وموت. تناهى إلى أذنيه حديث الشرطيين:
ـ هنا دخل.
اقترب الحديث:
ـ لا أسمع صوتاً أو حركة.
ـ ربما هو بيته.
ـ لا، أنت لا تعرف لمن هذا البيت.
ـ لمن؟
ـ لمسؤول كبير في البلد، نسيت اسمه.
ـ هل أنت متأكّد أنّه دخل البيت؟
ـ نعم، نعم.
ـ اتركنا منه ولنعد إلى موقعنا.
ـ لا. لا بدّ من إلقاء القبض عليه.
شرع يطرق الباب، وسمع صوت أحدهما واضحاً:
ـ افتحوا الباب هناك مجرم دخل البيت.
تجمّد بالأرض. حملق إلى تلك المرأة كغريق، ما العمل؟ صوت رقيق انطلق من أعلى الدرج الذي يصعد من الصالة:
ـ انتظري يا كومبا.
صعد النظر إلى ناحية الصوت. امرأة. لم تقع عيناه على امرأة أجمل منها، حوريّة، كلّ عضو منها يميل إلى التطرف في اتساقه وانسجامه. شعر شديد السواد، يسيل على ظهرها حتّى القدمين، عينان واسعتان، ووجه أبيض، بعث ضوء الشمعة الخافت مفاتن جسدها، فبدا غارقا بأطياف قوس قزح. تابعها وهي تنزل ببطء بيدها الشمعة، كأنّها راهبة في كنيسة. أشارت إلى كوميا أن تبعده عن الباب. تقدّمت، ألصقت أذنها بالباب، الصوت ما زال يسمع في الخارج:
ـ من بالباب؟
ـ نحن من الشرطة.
ـ الشرطة لا تزعج الناس في لليل.
ـ هناك مجرم دخل البيت. افتحوا الباب للشرطة.
قالت بصوت حازم:
ـ لم يدخل البيت أحد، أنت مخطئ.
ـ هناك رجل التجأ إلى هنا. نخشى أن يكون من المخربين،ويلحق بكم الأذى.
صرخت بغضب:
ـ قلت لك لم نر أحداً، نحن لا نفتح الباب لأحد في هذا الوقت من الليل، إذا لم تنصرفا تتحملان المسؤولية عن جريمتكم في إزعاج عائلة أمين عام في الحكومة.
سمعت قول الآخر:
ـ هيّا نبتعد عن المكان. قلت لك كفى الله المؤمنين القتال، لكنّك ركبت رأسك.
بعد ذهابهما، شعر كأنّه أسير رأى الحريّة بعد سجن طويل، دعت المرأة كومبا أن تصحبه إلى غرفة في الطابق الأعلى، وتجد له ملابس غير هذه المبللة التي يرتديها، تبع الخادمة، هنالك أكثر من شمعة منتصبة على ركائز معدنيّة على طول الممر، هنالك غرف مغلقة على الجانبين، غابت في إحدى الغرف، ثم خرجت بعد قليل، ناولته بنطال جينز وقميصاً. ساعدته على نزع معطفه والجاكيت، شكرها على عملها، فهم من ردّها أنّها تتصرف كما تريد سيّدتها، سألها عن اسم سيّدتها، أجابت وهي تبتسم.
ـ مدام لجمي.
ضحك:
ـ تقصدين نجمي.
هزّت رأسها.
في الصالون دعته مدام نجمي للجلوس قبالتها، أمام مدفأة بالحائط، غرق في كنبة وثيرة، انتبه إليها، شعرها ينسدل على ظهرها، ويتناثر بعضه على كتفيها، جذور ثدييها واضحة، والممر بينهما ينغمس في الضوء، الحلمتان تنطقان بالشهوة، ساقاها متشابكتان، فستانها يرتقي إلى ما فوق ركبتها. أحسّ كأنّه أمام تمثال من الشمع، فكّر في أن يجعل منها أفروديت، ثمّ انتقل بخياله إلى مكان آخر لعله يكون أكثر سحراً وأنوثة، أحضر نساء عاريات، وتخيل أوضاعاً لم تظهرها أشدّ مواقع الإنترنت إباحة، في النهاية عاد خالي الوفاض، يلعن الروائي وإمكاناته المحبطة. استيقظ على سؤالها.
ـ لمَ يجرون خلفك؟
ـ خرجت من المقهى، أريد العودة إلى البيت، منعتني الشرطة، قالوا المكان محاصر والدنيا حالة طوارئ، ممنوع أن يتحرّك أو يخرج من منزله أحد. فهربت من بينهم، ظنوني مجرماً، فلحقوا بي . عملت معي معروفاً لا ينسى عندما سمحت لي بالدخول، لولاك لكنت الآن تحت الضرب والتعذيب، أو ربما في سحاب.
ـ أنت في مأمن هنا..
مأمن! أيّ مأمن؟ ماذا لو جاء زوجها ووجدني، يقتلني بسهولة، ماذا لو غيّرت السيّدة نجمي رأيها؟ النساء متقلّبات، وعزمت تسليمي للشرطة. هذا مخرّب اقتلوه. ماذا أفعل؟ لا أستطيع الآن أن أغادر وأخاطر بحياتي حتّى لو كانت مخاوفي في محلّها. سأظل هنا حتّى تهدأ الحالة، وتعود الكهرباء، لست متعجّلاً على رؤية بشير العايد أو إنقاذه من الخطر. من أنا حتى أفعل هذا؟ أنا لست الخضر بل القذر، أجل قذر. كيف أقبل تنفيذ عمليّة خطيرة؟ بشير أصبح في خبر كان ولن يعود، ليس الأمر يحتاج إلى بحث أو تأكيد.
جاءت الخادمة بالشاي، ثم وقفت تنتظر أوامر سيّدتها، طلبت إليها أن تعود إلى غرفتها، وإذا احتاجت إليها فستدعوها. شرب الكأس التي قُدّمت له، ثم تناول الإبريق وسكب أخرى، نسي أنّه هارب من الشرطة، وفي بيت غريب، انتابه الهدوء المغموس بالدفء، وهو يحدّق إلى الصالة الواسعة، كأنّها من صالات ألف ليلة وليلة، أو قصر أسطوري من قصور الإلياذة أو الأوديسة.
يبدو أن القتال توقّف، وأن أحد الطرفين انتصر على الآخر، من المؤكّد أنّ الطرف المنتصر هو الحكومة، لم يعد يُسمع إلاّ أصوات سيارات الإسعاف، تمنّى لو يقدر على البقاء في هذا المكان؛ فلا برد، ولا رصاص، ولا آمال غائبة، الحياة هنا لا في مقهى الكوكب أو شارع الشابسوغ. تململ في جلسته، وهو ينظر إلى الأعلى، من غير رغبة في النهوض، فهمت أنّه سيهمّ بالذهاب، والسؤال عن ملابسه، سالت الكلمات من شفتيها كالحنين المتأوه:
ـ أين تذهب؟ الدنيا ليل والجو ما زال فيه موت ورصاص. إذا خرجت قد يعتقلونك أو يقتلونك، كأن لا فائدة من لجوئك هنا. أرى أن تنتظر إلى الصباح، تضمن بذلك السلامة، لا أظن أنّ الحالة ستستمر، فلا بد من انفراج مع طلوع الشمس.
وزّع نظرات متسائلة في الصالة، ثم أسقطها على عينيها:
ـ ليس من اللائق أن أظلّ هنا.
ـ لا تقل هذا بل من اللائق أن تظلّ ما دام أهل البيت يرحبون بك، لا أظنّك من الذين يحتقرون المرأة، أنت ـ كما يبدو ـ شاب عصري متفتح، لا ترفض الجلوس مع امرأة تحترمك.
نظر إليها بامتنان، وتمنّى أن تتحول نظرته إلى اشتهاء فيبتلع عينيها بعينيه، ويغيّب جسمها بين ذراعيه، ويحلّق بها في السماء، ليعانق النجوم والسحب، ثمّ يعود إلى الأرض، وهو ينشد أناشيد أوفيد؟ ويرتل أناشيد جلجامش. قال:
ـ ليس هناك مكان أفضل من هنا، ولكن قد يغضب وجودي آخرين غيرك.
ـ لا. اطمئن. زوجي لن يعود.
ـ لك زوج؟
ـ نعم. متزوجة وغير متزوجة.
قال في نفسه: "مثلي تماماً " تجاهل ما ترمي إليه:
ـ بعض الرجال لا يقدّرون ما بأيديهم من مال، ولا يرون ما أمامهم من جمال.
ارتجفت شفتاها، عدلت جلستها، اقتربت من حافة الكنبة، لامست قدمها ساقه، ارجع جسمه إلى الخلف، وهو يأسف، كأنّه هو الذي لامس ساقها، أرجعت جسمها كالمهزومة. قالت متناسية ما حدث:
ـ هذه ليلة قاسية لا كهرباء ولا هدوء حتى الاتصالات مقطوعة، كأنّا في حرب حقيقية، وحتّى في الحرب لا تنقطع خطوط الاتصال بين الناس.
أحسّ بالدفء والأمن، سرى النعاس إلى عينيه. نهضت أمسكت بيده، وهي تسحبه، صعدا الدرج إلى الطابق الثاني، سألها عن الحمام، طلبت إليه الانتظار، وفتحت باب دورة المياه، وضعت في الداخل الشمعة التي كانت في يدها، وأشارت إليه بالدخول، لم يكن المكان غير غرفة واسعة معبقة بروائح عطرية نسائية، هنالك بساط وثير على الأرض، وستارة وردية يختفي خلفها حوض الماء. جلس على المرحاض الإفرنجي، أمامه على الباب، اخترقت عينيه صورة امرأة عارية مضطجعة على جانبها، تحاول أن تنظر إليه. أين رأى مثلها؟ تذكّر أنّه رأى تماثيل عارية لنساء ورجال في المدرج الروماني، وتلذذت يده، وهو يلامس تمثال امرأة عارية من تماثيل ام قيس جئ به إلى متحف جبل القلعة بعمان، لكن بدت الصورة نابضة بالحياة أكثر مما في تلك التماثيل الحجرية ..
تمنّى أن يثيره هذا الشعاع من الضوء الذي يسيل على ظهر المرأة، ويشعّ حول ما تكوّر أسفل خصرها، شعر بالضيق والعجز، خرج، استقبلته بالمنشفة، ثم اصطحبته إلى غرفة قالت إنّه سينام فيها، لم تكن غير حجرة نومها هي ومن يسمى زوجها.
تهالك على السرير، جلست على كرسي ترنو إليه. لحظة فلحظة، تزداد حرارة الجسد، تتململ خلاياها، تتفتح الرغبات، نزعت قميصها، وارتمت بجانبه، أحسّ بجسدها الملتهب، فتح عينيه يغالبهما النعاس، مالت إليه، مدّت يديها إلى صدره، راحت تفكّ عرى القميص، وهو مستسلم يستمطر من عينيها وصدرها ما يستفزّه، تركها تتلمس ما تشاء من نصفه الأسفل، تأمّل أن تلتهب مشاعره، زادت برودة جسده، وسرت فيه القشعريرة، تأوّه بضجر، خطر بباله أن يرتاح، وجد طريق الخلاص ولو مؤقتاً، فقال:
ـ أنا جائع.
ابتعدت عنه.
ـ حاضر. دقيقة ويكون الطعام.
ارتدت قميصها على عجل، وألقت معطف فرو على جسمها. بعد خروجها راح يوبخ نفسه:" أنا صخرة أم شجرة أم حمار. أنا كلّ هذا. لعن الله هذا الروائيّ، حرمني من لحظات الرجولة، جعلني جسداً بلا روح، ماذا يضيره لو جعلني مثل كازانوفا أو جيمس بوند، أو على الأقل مثل كلينتون كما برز مع سكرتيرته ؟ وضعني في هذه الظروف الملتهبة، وسلبني من الإمكانات التي تتطلبها. لا بدّ من الانتقام منه، وليذهب صاحبه إلى الجحيم.
أعاد ملابسه إلى وضعها، وقعت عيناه على لوحتين متجاورتين على الحائط المقابل. اللوحة الأولى ليست إلاّ نافذة مغلقة، يطلّ من زجاجها ستارة بيضاء، وهنالك حولها نبات متسلق أوراقه تميل إلى الصفرة، وأمامها بلكونة محاطة بسور حديدي. أحسّ بالكآبة، حاول خياله أن يفتح النافذة ويرفع الستارة، ويمدّ النبات المتسلق إلى أعلى، إلى السطح ليعانق أشعة الشمس. لم يخفّ إحساسه بالكآبة، انتقل ليشاهد اللوحة الأخرى، مشهد جارية عارية تماماً بين جماعة من النخاسين أحدهم يضع إصبعه في فمها؛ ليختبر أسنانها، تمنّى لو يقدر أن يعيد رسم اللوحة وترتيب عناصرها، فيجعل من الجارية فتى وسيماً، ويحيل النخاسين حوريات يداعبن الرجل ويداعبهن. ابتسم. رأته وهي تدخل حاملة طبقاً واسعاً عليه فواكه وفطائر، أشرق وجهها. وضعت الطبق على طاولة بالقرب من السرير. قالت:
ـ جئت بعشاء خفيف، لم أرد إيقاظ الخادمة .
ألقت المعطف جانباً، انتبهت إليه، مازال سارحاً في اللوحة. سألت:
ـ أعجبتك؟
ـ تبدو الجارية كأنّها خيط من ضياء.
ـ هذا ما قصده الرسام أن يظهر الجمال في مقابل القبح، المرأة في مقابل الرّجل، الوداعة في مقابل الظلم والقسوة..
ـ مسكينة هذه الجارية.
ـ تأمّل الصورة جيداً، حدّق إلى المرأة.
ـ مشهد مؤثّر.
ـ فقط.
ـ نعم. ماذا تقصدين؟
ـ حدّق إلى الجارية. أليست قريبة من امرأة بجانبك؟ أعاد التحديق. التفت نحوها:
ـ إنّها صورتك، يا الله!
ناولته فطيرة، وبدأت تهيئ له التفاح والموز. كانت تراقبه بفرح، وهو يلتهم ما جاءت به. صراخ طفل يشق الصمت، ثم تبعته ضوضاء وحركة، نظر إليها بتساؤل، قالت إنّها الخادمة وابنتها لين. نادت الخادمة، جاءت بالطفلة، كانت تقترب من أمها في استدارة وجهها، والتماع عينيها، وحمرة خديّها، واسوداد شعرها، ارتمت على صدر أمّها. هدأت. ثم أدارت عينيها تكتشف المكان . ابتسمت للرجل، لم يهتمّ ، أخدت تتهيأ للبكاء، وهي تحرّك يديها. قالت أمّها:
ـ تريدك أن تحملها.
تناولها بين ذراعيه، هزّها، سكنت، ثم نامت، ناولها للخادمة، خرجت بها. قالت السيدة :
ـ حسبتك والدها. لم تره منذ مدّة.
ـ أين هو الآن؟
ـ مسافر. لا نراه إلاّ في عيد الفطر والأضحى.
تجرأ. وسألها:
ـ يبدو أن زواجكما عرفي أو مسيار أو متعة.
ـ لا. أبداً. زواج فيه شيخ وشهود وعقد مسجل في المحكمة، تزوجنا مثل سائر الخلق، لكن زوجي ظلّ زائغ النظرة، حياته فسق في فسق، نساء كثيرات وقعن مثلي في حبائله. مال وشباب ومنصب. فهو أمين عام في مؤسسة حكومية كبيرة.
ـ كيف وقعت في هذي الزيجة؟
ـ خُدعت. لست أول أنثى تنخدع برجل . كنت أعمل في مؤسسة تجاريّة، تودّد لي، وقعت في حبائله، اكتشفت خيانته لي بعد يومين من زواجنا. يريد أن يحتفظ بي كدمية، الآن هو في بيروت، تركني وسافر مع إحدى الموظفات.
ـ على كلّ حال لين تملأ عليك البيت.
ـ لا أحد يسدّ مسد الزوج. المرأة تحتاج إلى رجل، لا يغيب عنها، يلاعبها وتلاعبه، إذا غاب مدّة طويلة يحقّ لها حسب العرف والدين أن تخلعه.
قال ببرود:
ـ اخلعيه.
ـ فكّرت في هذا، ولكن ابنتنا تضيع، والأهمّ أنّي لا أكون حرّة، هنالك قيود وعادات لا تستطيع المرأة أن تتخلص منها، فتظلّ محاصرة بهذه..
خاطبها في سرّه: ولكن أرى أنّك تمارسين حريتك، تتفوقين على سيمون دي بفوار، فتحت الباب لي، استقبلتني وأنت وحيدة إلاّ مع تلك الخادمة العجوز، وهأنت تبوحين لي بأخصّ مشاعرك، وجسدك مكشوف لي ومباح، من أخبرك أنّي لا أقدّر الجمال ، ولا تهزّني أنوثة". مضى يستثير رجولته، ويحاول بعثها. تخيّل أنّه تحت شجرة وارفة، في حضن امرأة عارية، شرع يؤجّج خياله ويصيح في أعماقه، لم ينجح في تحريك شهوته، فتصبب عرقه، اقتربت منه حاول أن يبعدها عنه، يتملّص منها، تشبّثت به. تأوّهت:
ـ ألم أعجبك؟
ـ أنا لا أستحقّك.
تترقرق الدموع من عينيه. لماذا أيّها الروائي الحقير تجرّدني من قوتي، هذا الجسم تتمنى النسائم أن تلامسه، والشمس أن تتجه بشعاعها إليه، والمياه أن تمنحه ليونتها، والربيع أن تمنحه عطره وبهاءه. هذه الشفاه التي تتفتح باللذة، والعيون التي تفيض شبقاً وشغفاً، وذلك الشعر الذي يزداد سواداً مع ضعف النور، وهذه السيقان يتمنى أيّ رجل أن يلفّهما حول خصريه. انتبه إلى قولها:
ـ أنا مكبّلة لم أمارس حريتي بعد.
ـ كلانا مكبّل أنت بهذا الزوج، وأنا بذاك الروائيّ.
ـ أيّ روائيّ؟
ـ تستطيعين أن تقولي إنّه بمنزلة مسؤول عنّي، هو الذي أمرني أن أخرج في هذه الليلة لأبحث عن صديقه. أنا لن أطيعه بعد اليوم، وضعني في ظروف سقيمة، وحاصرني بفكره، صرت كأنّي في قلعة لا ينفذ إليها الريح، أو يخرج منها إنسان حيّ. أنت في حصار هذا الزوج، وأنا في حصار هذا الروائيّ. يجب التخلّص منه حتّى أمارس حريتي.
ـ وأنا قررت أن أتخلّص منه الليلة.
ـ كيف؟
ـ أنام هنا.
وأشارت إلى صدره.
ـ والروائيّ.
ـ لا تفكّر فيه.
ـ لن أكون رجلاً إذا لم أقض عليه. دعيني أذهب .الجو هادئ، وبعد قليل يبزغ الفجر. الأفضل أن أخرج الآن وسأعود إليك..
ـ تجربتي أن الذي يذهب لا يعود، وإذا عاد فيكون في وقت غير مناسب.
ألقته على السرير، بلمح البصر طيّرت قميصها في الهواء، وارتمت فوقه.
ـ لا أريد أن تذهب. قل إنّي أحبّك. قل أيّ شيء.
راحت تقبّله، وتتحرك فوقه بنشاط، حاول أن يقول شيئاً، فتلاحق كلامه:
ـ أحبّك. أنت أجمل نساء الكون. أنت حياتي. أنت..
توتر جسدها، ثم استقرت حاله، انقلبت على ظهرها. نظر إليها بحسرة. أسرع إلى حيث قميصه ومعطفه، تخلّص من ملابس ذلك الرجل. لحقته.
ـ أنا أحبّك، أرجوك أن تبقى، أنا واثقة بعودة رجولتك، ستستعيدها معي.
ـ لن تعود رجولتي إلاّ إذا تخلّصت من ذاك الروائيّ اللئيم.
ونزل الدرج.
11
الليل يزحف نحو الفجر، ربما الساعة تشير إلى الثالثة، لم أعد أهتمّ بالزمن، الإحساس به يخيفني، فكّرت في الاتصال بابنتي، لعلّ الخط أصبح مفتوحاً، جاء الرّد الآلي: " الهاتف المطلوب لا يمكن الاتصال به"، وعندما اتصلت ببشير أنّ الجهاز: "الرقم المطلوب غير مستخدم" ما هذه الليلة؟ ماذا أفعل حتّى أنسلّ من هذا الحصار؟ حصار لم أقرأ عن مثله لا في التاريخ القديم ولا المعاصر، ليس مثله حصار غرناطة، الذي شهد استسلام عبد الله الصغير، وتسليم المدينة إلى فرناندو وزوجته، ولا يشبهه حصار بغداد على يد هولاكو واستسلام الخليفة المستعصم بالله، وتسليم عاصمته لذلك الطاغية، كما لا يحاكيه حصار غزّة الذي بدأ منذ عقود ومازال مستمرأ بتواطؤ الشقيق والصديق مع العدو. حصار مقهى الكوكب، حصار محيّر، ومفاجئ، لا يعرف فيه العدو الرئيسيّ، ولا تعرف الأسباب، لكن هنالك ثلاث قوى على الساحة: الطبيعة، والإرهاب، وقوات الأمن، المهمّ لا تعرف من أين تأتي الضربة، وما فتئ يتناسل الخوف من البرد أو الرصاص، و التأوّه.
لم أر غير النوم علاجاً لهذا الحصار، لكن كيف يأتي النوم وابنتي وحفيدتي توأم الروح، بعيدتان عنّي، وصديقي بشير لا أعرف عنه شيئاً؟ فهذا الأحمق خضر تمرّد على خطّتي، وقتل توقّعاتي، كيف يأتيني النوم في هذا الحصار؟ كيف لى أن أرتاح في هذا المقهى؟ تخيّلت نفسي كأنّي على لوح من المسامير. إنّه ليس كمقهى الشاعر محمود درويش:
مقهى وأنت مع الجريدة جالس
لا لست وحدك نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني..
مقهاه ليس مثل مقهى الكوكب، فهنا لا جريدة ولا كأس ولا شمس، وسجن لا يستطيع الإنسان أن يغادره.
شعرت بالجوع، وغزاني صداع وزادت حرارة جسمي، أغمضت عينيّ، ازدحمت الصور، وتلاطمت الأحداث في عقلي، برز خضر في ملابس غريبة كأنّه الخليفة، أو قائد العسكر، ثم ظهر خلفه ثلاث شخصيات عربيّة من بينهم هولاكو، جلس الجميع وسط الصالة، وراح خضر يقرأ عليهم وثيقة التنازل عن المقهى مقابل الخروج منه دون أذى. أسرعت إلى مسدسي، أطلقت الرصاص عليهم جميعاً، سقط خضر ، وقفت على رأسه، وهو يموت وأنا أصرخ:
ـ المقهى لن يركع! لن يستسلم!
هرع عادل على الصوت:
ـ خير إن شاء لله ؟
قلت:
ـ رأيت كابوساً. الرصاص يدوّي في المقهى.
ـ لا، يا عم، نحن في أمان هنا.
اشتعلت فجأة مصابيح الكهرباء ، استيقظ بعض من بقي في المقهى، وعلا التصفيق. صاح عادل:
ـ جاءت الكهرباء. ابشر، يا عم.
ثمّ أسرع إلى موجّه التلفزيون، أداره على القناة المحليّة . ظهر في الشريط الإخباري أسفل الشاشة:" ما زالت الحالة متوتّرة وسط البلد. مجموعة إرهابيّة تحتجز رهائن في مركز للإنترنت، وتطلق النار، هناك جرحى وقتلى من المدنيين". وفي النشرة الإخباريّة الموجزة لم تتضح الأمور، فلم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن هذه الأعمال، ولم تعرف الخسائر في صفوف المخرّبين، وقوات الدرك والشرطة، ودعا الناطق الرسمي باسم الحكومة إلى التزام الهدوء، والبقاء في المنازل، وتوقّع أن تنتهي الأعمال العسكرية والسيطرة على الموقف في الساعات الأولى من الصباح، وتبع ذلك إعلان من وزارة الاتصالات، أوضح أن هنالك خللاً حدث في الشبكة بسبب رداءة الأحوال الجويّة، ويجري الآن العمل على إصلاحه. وتوالت برقيات التأييد للحكومة من الدول المجاورة والصديقة. قال معلّق مشهور في التلفزيون: "لصالح من يقوم هؤلاء المخرّبون بقتل الأبرياء وتدمير الممتلكات العامة والخاصة؟! أيّ دين يبيح لهم القتل والخراب؟! أيّ مبادئ تدفع هؤلاء إلى أن يقتلوا الناس بدم بارد؟ لا بدّ من محاسبتهم على أعمالهم، فإذا كان الله سيعاقبهم في الآخرة على ما اقترفت أيديهم، فإنّ العدالة سوف تقتصّ منهم في الدنيا، وفي النهاية لن ينالوا من صبر هذا البلد، أو يضعفوا من عزيمته، ولن ينجحوا في جعله بؤرة من الاضطراب والظلم والفوضى"
فتحت النافذة، توقّف المطر، وهدأت الرياح، خفق صدري بنشوة، رأيت الشوارع خالية، والمباني مغسولة بالمطر، تتوّهج بالأضواء، سمعت حركة منبعثة من مدخل الشارع العلوي، حسبت أنّ قوات الأمن سمحت للناس بالتجوال والحركة، لكن خاب ظنّي عندما رجع عامل المقهى من الخارج، وهو يشكو لعادل ما حدث بالباب، وما ألقى عليه الشرطيّ من أوامر: ممنوع التجوّل، عليكم البقاء في الداخل، وعدم العبث بالأمن، وانتظار التعليمات الجديدة .
جمدت أمام التلفزيون، تتوزّعني الأفكار. إلى متى سأظلّ في المقهى؟ هل سأمضي ليلة أخرى هنا؟ ماذا جرى لصديقي بشير؟ أين هو الآن؟ خضر هذا الغبي لم يعد، ما كان عليّ أن اختاره للبحث عن صديقي، ربما نسي المهمة التي بعث من أجلها، انشغل بتلك المرأة، لم يستطع أن يصمد أمام إغراءات حواء، غبيّ، كان يمكن أن ينجو من الشرطة بالباب فلا يراه أحد منهم، وكان عليه بعد أن التجأ إلى تلك المرأة ألاّ يسلم رأسه إليها، فيهرب منها بعدما نجا من الشرطة، من الصعب معرفة ما ينوي عمله هذا الأحمق،لا أعرف أيّ عمل طائش يقوم به، لم يعد تلك الشخصية التي ارسم ملامحها، وأتنبأ بسلوكها، لست مطمئناً من نواياه، لا أعلم أين يتّجه به القارب . ماذا أفعل؟ لا أقدر أن أقوده كما أشاء .لا أريد أن أسقط في الفن، كما أسقط الآن في الحياة.
12
خرج من منزل تلك المرأة ، طواه الظلام. المطر يتساقط خفيفاً، والرياح ضعيفة، لكنّ البرد ما زال قارساً، وقف يراجع أفكاره، كيف يعود إلى المقهى؟ كيف ينجو من قبضة الأمن بالباب أو رجال الدرك المنتشرين في الشارع؟ سيأتي المقهى هذه المرّة من الطريق الرئيسيّة، ويعرج إليه من عند الإشارة الضوئيّة في نهاية شارع الشابسوغ، ثم ينحرف إلى اليمين حيث يصادفه باب المقهى الخارجي. سيتجاهل الشرطة بالباب، قد يسألونه، يقول لهم إنّه كان في المقهى، وخرج يبحث عن سيّارة تقلّه إلى البيت، لم يجد فقرّر العودة إلى المقهى. هل يصدّقونه؟ ربما يعرفون أنّه يحتقر ذكاءهم ، يضربونه، ثم يسمحون له بالدخول إلى المقهى، أو ربّما يقودونه إلى المخفر، ثمّ إلى الجويدة أو قفقفا، وهناك يبقى في الإهمال يأكله القمل والبراغيث، وتهترئ قفاه كما يسمع عمّن يدخلون السجن، لا يمكن أن يتراجع عن العودة إلى المقهى، يدخله بحذر، يصل إلى الركن الذي فيه ذلك الروائيّ، يجده مستلقياً على طاولة، ويداه تحت رأسه، أو مسنداً ظهره إلى كرسيّ، غارقاً في إغفاءه لذيذة، أو يحلم برواية جديدة، يقترب منه ويقترب، يرسل يديه حول عنقه، ثم يضغط يضغط حتّى يتدلّى لسانه وتجحظ عيناه. لا بدّ له من الموت، إنّه يحمّله ما لا طاقة له به، ويكلّفه مهمات غريبة، كالبحث عن إنسان غامض، وإعادته حيّاً مثل صديقه بشير، أين سيذهب بشير؟ هل سيضيع في صحراء ليبيا أو الجفر؟ من هو هذا البشير؟ هل هو رجل مهمّ حتّى يجرّد له الروائيّ خيالاته وأفكاره ليصل إليه؟ هل يستطيع أن يعثر عليه، هل يملك قدرة طائرة الأواكس أو مهارة المخابرات الأمريكيّة حتى يجده وينقذه؟ هل يستحق هذا التعب؟ وإذا كان هذا البشير قتل، ماذا يمكنه أن يفعل؟ هل سينقذه من براثن عزرائيل؟ القتل يكثر هذه الأيام، ليس في هذه الساحة بل في الساحات كلّها. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
الحمد لله! عادت الكهرباء، انتشر النور في الشوارع والأزقّة، بدت الطرقات وجدران المباني نظيفة بالرياح وماء المطر، هنالك جلبة جليّة فوق صوت المطر، في البعيد تتناءى حركة رجال الأمن والدرك، وأصوات السيّارات العسكريّة، وسيّارات الإسعاف، الحرب لم تنته. قال في نفسه، عليه أن يدخل المقهى؛ ليُنهي حياة ذلك الروائيّ، ربما تنتهي حياته معه، يتشابك عليه من في المقهى، أو تُستدعى الشرطة للقضاء عليه؛ فلا يخرج من المقهى حيّاً، لا شكّ لن يعود إلى أحضان التخييل، إذا كان له أن يموت، عليه وعلى أعدائه يا ربّ، أمله في التخلّص من الروائي بات كبيراً، لأنّ للظلم حدوداً، وهو ظالم وفاسد.
قبل الإشارة الضوئية حيث مدخل السوق الذي يؤدي إلى المقهى، لمح رجلاً يلاحق طفلاً، ثم ينحرفان إلى اليمين، اطمأن إلى أنّ أحداً من الشرطة ليس في المكان، عند الإشارة الضوئية، قفز أمامه شرطيّ مشهراً سلاحه:
ـ قف. ارفع يديك.
رفع يديه:
ـ أمرك سيدي!
ـ أين ذاهب؟
ـ إلى المقهى.
ـ في هذا الوقت ؟!
ـ كنت فيه أثناء الأحداث، وسمحت لي الشرطة بالخروج إلى بيت صديق قريب.
ـ لماذا لم تبق عند صديقك، أنت ترى أنّ الجو مكهرب، والأمن مضطرب؟
ـ لم أجده يا سيّدي، فقلت أعود إلى المقهى؟ وأنتظر حتّى الصباح.
جاء شرطيّ كان يسمع ما يدور بينهما، يبدو أعلى منه رتبة، وقال:
ـ اسحبه إلى المخفر. هناك يتصرّفون معه.
صرخ الشرطيّ به:
ـ استدر.
استدار. وضع البندقيّة في ظهره:
ـ قدّامي، يا مخرّب.
كان الشارع الرئيسيّ ممتلئاً بقوات الأمن والدرك. سحبه الشرطيّ إلى الجهة المقابلة للمقهى، سار به قليلاً حيث مخفر المدينة، أمره أن يدخل، سأل الشرطيّ بالباب:
ـ ما له؟
ـ مشبوه.
لم يقل مخرّباً هذه المرّة، لكن لم تشفع له صفة مشبوه ليمرّ بسلام، فشتمه الشرطي الآخر، وهو يدفعه بكعب البندقية:
ـ ادخل، لنرى قصّتك.
قاده الشرطيّ الأول إلى غرفة صغيرة، سلّمه إلى زميل له، منحه ورقة مكتوب عليها رقم 13، ثمّ دفعه هذا إلى قاعة كبيرة، فيها حشد كبير رأى أنّهم من مختلف الأعمار والفئات والطبقات، ومعظمهم من الفقراء والشباب، وبينهم نساء وأطفال، لا أحد يتكلّم مع أحد، الوجوم مخيّم على الجميع كأنّه يوم الحساب. تمعّن في الوجوه، لفت انتباهه بالقرب من الباب رجل وسيم، أبيض البشرة، كأنّه أجنبي أو شركسيّ، بدين، يرتدي بذلة سوداء أنيقة، ينسدل من عنقه ربطة حمراء، عليه علامات الرخاء والفخامة. ما الذي جاء به إلى هنا؟ ما الذي أخرجه من قصره في هذه الليلة يصفعه البرد والفوضى؟ التقت عيناه بعينيه، خمّن أنّه يعرفه منذ سنوات، ربما يكون بشير العايد، لا يمكن أن يكون بشير، لو أنّه هو لدفع إليه دفعاً، لكن ربما يمنحه الروائيّ الفرصة كي يختبر بنفسه الناس والأشياء. راح ينظر في الرقم الذي يحمله، الرقم13، شعر أنّ مركبة أبولو 13 تنفجر في عقله، ثمّ تعود إلى الأرض في 13 نيسان من عام 1970م.
ماذا يفعل؟ تمنّى لو أنّه لم يترك تلك المرأة، وبقي في أحضانها. أيّ أحضان لا تتدفأ بالفحولة! أيجب عليه قتل ذلك الروائيّ، أمن الضرورة العودة إلى المقهى؟ وإذا نسي ذلك الروائيّ هل ينساه ويعتقه، سيلاحقه حتّى النهاية، هوايته أن ينشغل به أو بغيره من الشخصيات. هل سيخرج من هنا حيّاً؟ ماذا سيفعلون به في التحقيق؟ حتى الآن لم يُضرب أو يُعذّب. الله وحده يعلم ما سيحدث له، ربما يُجلد، أو يُصعق، أو يُعلّق كالخفاش، ربما يُترك في الأقبية الزرقاء، ويغيب فيها مع الجرذان واللصوص والشواذ.
كانت القلوب والأنظار تتجه نحو باب الغرفة عندما يطلّ الشرطيّ الذي ينادي على رقم من الأرقام التي وزّعت، كان يؤخذ من ينادى عليه إلى غرفة التحقيق، يبقى فيها مدّة، ثمّ يعود منها أشّد كآبة وعبوساً، نودي الرقم 9 كان ذلك الرجل الأنيق. التقت عيناهما مرّة أخرى، وهو يخرج.
مضت دقائق. جاء الشرطيّ ونادى الرقم10. لم يعد الرجل الأنيق. أين ذهب؟ ربما كشفوا انّه رجل خطير، أو العقل المدبّر للمجموعة التي هاجمت وسط البلد. لا شكّ نقلوه حالاً إلى ساحات التعذيب، أو إلى زنزانة انفراديّة، إنه يستحق هذا. ما الذي دفعه أن يقوم بهذه المجازر. هذا جزء من عذابه في الدنيا أمّا في الآخرة فعذابه أشد لو كان يعلم !.
تتابعت مناداة الأرقام، نودي رقم 13، قام، ترتجف قدماه. ماذا يكون مصيره؟ ربما يغيب مثل الرجل الأنيق، ويجرّ إلى حبل المشنقة، لابدّ من يوم للظالم، اللهم انقذني من أيدي هؤلاء حتى أصفي الحساب مع ذلك الروائيّ اللعين! كان في انتظاره في غرفة التحقيق ضابطان من الأمن أحدهما على كتفيه نجمتان وآخر على كتفيه نجمة. لا يعرف ماذا يسميّان عند الدولة، كانا يجلسان إلى طاولة كبيرة عليها ملفات، وأوراق، وجهاز حاسوب، أمامهما كرسيّان يجلس على أحدهما رجل لم يتبيّن وجهه كان يتكلّم مع الضابط ذي النجمتين بلغة إنجليزية سليمة، أيقن أنّ الأمر خطير، وأنّه على درجة كبيرة من الأهميّة، الله وحده يعلم ما ينتظره، لم تقو قدماه على حمله، تهالك على الكرسيّ الآخر، انتبه إليه الرجل، التقت عيناهما، إنّه صاحب الرقم 9 ، سرى في نفسه الهدوء، على الرغم من صراخ الضابط الآخر به أن يقف، حاول الوقوف لم يستطع، خاطب الرجل الضابط بلغة انجليزية ، فهم أنّه يحتجّ على سوء معاملته، ويدعو للسماح له بالجلوس، عجب من سماع الضابطين لكلام الرجل، فاعتذرا له فعاد إلى الجلوس بنشوة المنتصر، سأله الضابط بلطف، وهو يمدّ يده:
ـ الهويّة .
ـ ليس لي هويّة.
ـ هل يوجد أحد لا يملك هويّة.
ـ لم أتقدّم للحصول على هويّة، يا سيدي.
تبادل مع الرجل النظرات، خطّ بالقلم على الورقة التي أمامه.
ـ اسمك؟
ـ خضر الراوي.
ـ المهنة؟
ـ لا أعمل، سيّدي.
ـ عنوانك؟
فكّر في أن يجيبه بأنّ عنوانه ليس على الأرض، بل في عقل ذلك القابع في مقهى الكوكب، لكنّه أجاب:
ـ وسط البلد يا سيّدي.
ـ أين وسط البلد؟
ـ لا أعرف غير وسط البلد، يا سيّدي.
أجاب الرجل عنه بلغة عربية سليمة أيضاً وهو يضحك:
ـ سجل: وسط البلد مقهى خبّيني.
أسرع بالقول:
ـ إذا كان لا بدّ من تسجيل مقهى فأرجو تسجيل مقهى الكوكب.
سأله الرجل هذه المرّة:
ـ لمَ؟
أجاب بسخرية:
ـ أرقى قليلاً.
امتعض الضابط وسأله:
ـ ما علاقتك بالمخربين؟
ـ أيّ مخربين سيّدي؟
قال بغضب:
ـ أيّ مخربين؟! هؤلاء الذين أطلقوا النار على الناس في الشوارع، وفجّروا أنفسهم في المساجد والفنادق، ودمّروا الممتلكات العامّة والخاصّة. هؤلاء الذين سمّموا الحياة في أنحاء البلد، هل من المعقول أن تسألني هذا السؤال؟
ـ نعم، سيّدي أعرفهم.
ـ إذاً اعترف بعلاقتك بهم. لا تخفي عنّا شيئاً.
ـ سيّدي أنا لا علاقة لي بالمخرّبين بل أنا ضحيّة لهم، تسألني كيف. نعم، سيّدي، لولا هؤلاء الذين تسمّيهم المخرّبين، وأنا أدعوهم القتلة والمجرمين وقطّاعي الطرق والأفّاكين. سيّدي لولاهم لما خرجت من جحري، أقصد مقهى الكوكب، فأنا كنت فيه، يا سيّدي، عندما طلب مني الروائيّ أن أبحث عن صديقه بشير العايد الذي لم يره منذ سنوات، وكذلك أنا يا سيّدي لا أعرف بشير العايد ولم أره في حياتي ولو مرّة واحدة، وما أكثر المبشرين والمنذرين والعايدين وغير العايدين؟ هذا كلّ ما حدث لي يا سيّدي. المخربون هم السبب فيما أنا فيه من رعب وخوف.
نظر الضابط إلى الرجل الأنيق، هبّ الرجل واقفاً:
ـ ما اسم صاحبك الذي أرسلك لتبحث عن بشير العايد؟
التفت إليه بدهشة، وأجاب:
ـ نسيت اسمه يا سيّدي، ولكنه روائيّ يعتبر نفسه أفضل من نجيب محفوظ والبير كامو.
سأل الضابط:
ـ هل تعرف هذا الرجل؟
ـ لا. لم أسبق أن تشرفت برؤيته.
ـ إنّه من تبحث عنه.
ـ بشير العايد؟!
قال الرجل:
ـ نعم أنا بشير العايد.
نهض وتصافحا بحرارة. تعجّب من هذا الاحترام الذي أظهره الضابط نحوهما. تذكّر كيف استقبلوه بأعقاب البنادق منذ أن اعتقل. ما سر هذه التحوّل العجيب في معاملة الشرطة. لا شكّ أنّ السرّ فيما يجرى وراء الكواليس، لكن ما الذي يجري حوله؟ أحسّ أن بشير العايد هو صاحب المخفر، وأنّه يعرفه منذ سنوات، اطمأن إلى براءته، ساعة أو ساعتان ويطلق سراحه، سأل وكأنّه طالب عرف نتيجته:
ـ متى نخرج من هنا؟ صاحبك في انتظارك في المقهى.
نظر إلى ساعته.
ـ لا بدّ من رؤيته قبل أن أعود إلى البيت، لا يمكن أن أعاني هذه المعاناة ولا أراه، إنّه صديق حميم. ذكريات الطفولة والصبا حملناها معاً.
متى ينتهي الضابطان من عملهما؟ لن ينتهيا، فهنالك أفراد وجماعات كثيرة من الناس تتوالى، وأرقام جديدة توزّع، لن ينتهيا من ذلك حتّى طلوع الشمس. مرّت ساعة، أو أقل، دبّت حركة غير عاديّة في المخفر، نهض ضابطا التحقيق، نظرا إلى بشير نظرة، كما بدت لخضر معروفة بينهم لكنّه لا يعلم السّر في ذلك. دخل رجلان طويلا القامة، بملابس متشابهة، كأنّهما أبناء مهنة واحدة، سأل أحدهما بلغة عربيّة ركيكة:
ـ نسأل عن بشير؟
تقدّم الثلاثة، صافحوا الرجلين بحرارة، قدّم بشير نفسه إليهما، ثمّ قال:
ـ آسف للإزعاج.
قال الرجل الثاني بلغة عربية أوضح من صاحبه:
ـ كان يجب أن تُخبرنا عن اعتقالك فوراً. انزعج سعادة السفير من هذي المعاملة القاسية التي لقيتها، اتصل بأعلى المستويات في الحكومة كي يقدّموا لك التسهيلات والمعاملة الحسنة، توقيفك مع المجرمين والمخرّبين إهانة للولايات المتحدة، لا نسمح بها في أيّ مكان في العالم.
ـ هذا ما أتوقّعه منكم، لم أستطع أن أتصل بالسفارة لوجود خلل في شبكة الاتصال النقالة، لم أتمكن إلاّ عندما صرت في المخفر، استعنت بأجهزة اللاسلكي والشباب هنا لم يتأخروا في المساعدة، ولم أنل منهم إلاّ كلّ احترام وتقدير.
ـ دولة عظمى يجب أن يعامل مواطنوها كأشخاص عظماء.
ـ هذا صحيح.
ـ الآن، نستطيع أن نخرج، سنتكفّل بتامين وصولك إلى حيث تريد.
سحب بشير خضراً من يده، رافق الضابطان الجميع إلى الباب، واصطف من في المخفر في وداعهم، وكان بعض الشرطة ينظرون إلي بشير وصاحبه باندهاش، فمنذ قليل، هذا الذي كانوا يحتقرونه، وذاك الذي كانوا يضربونه، الآن، يقفون احتراماً لهما. قال الضابط المحقّق ذو النجمتين، وهو يودّعهم إنّه يأسف لما حدث لمواطن أمريكي.
تذكّر خضر ذلك الروائيّ الذي ينتظره، لكنّه لم يشأ أن يقول لبشير شيئاً؛ لم يعد يطيق الذهاب إلى المقهى، ولا يريد أن يتذكّر تلك المرأة، أحسّ بالطمأنينة لأنّه في صحبة مسؤولين أمريكيّين، شعر بالضيق عندما ذكّره بشير بصديقه، وعندما طلب من الرجلين الذهاب إلى المقهى، لاصطحابه معهم، حاول صرفه عن ذلك:
ـ لا أظنّه ينتظرنا بعد أن عاد الهدوء، ربما هو الآن في البيت، أرى أن نراه في وقت آخر.
ـ سنمرّ على المقهى. أتمنّى رؤية مقهى الكوكب! هي فرصة أن أعيش الماضي عندما كنا طلبة بالجامعة.
أمام باب المخفر، على الشارع الرئيسيّ كانت تنتظر سيّارة فارهة سوداء طويلة، أمامها شرطيّ على دراجة ناريّة، وخلفها سيّارة عسكريّة عليها رشاش موجّه إلى الأمام، هناك بالقرب منها على الرصيف عسكريّ من رجال الدرك، كان ينتظر وصولهما. ما إن دخل الجميع السيّارة حتى اندفع نحوهم، ودوّى انفجار هزّ وسط المدينة.
13
ـ ولّعت!!
صاح عادل، وهو يتّجه بصينيّة الشاي نحوي. كان الانفجار قويّاً، بل أقوى من الانفجار الذي بدأت به الأحداث في وسط البلد. اهتزّت أركان المقهى، وارتجّ زجاج النوافذ. انكمش الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض. ظهر كأنّ الانفجار في المحال التجاريّة ومحال الصاغة المحيطة بالمقهى.
ظنّ الجميع أن الاشتباكات توقّفت، وأنّ الحياة تعود إلى طبيعتها مع طلوع الفجر، يبدو أن المتنبي عاين مثل هذه الحالة، وهو يقول:
كلّما أنبت الزمان قناة ركّب المرء في القناة سناناً
تجمّعنا حول التلفزيون، صار عادل يقلّب القنوات، استقر على إحداها، كتب في أسفل الشاشة " انفجار أمام مخفر أمني في عمّان، عمليّة انتحاريّة تهزّ وسط العاصمة الأردنيّة" .
قال وائل:
ـ هل سنمضي هنا ليلة أخرى؟
قال أبو صابر:
ـ لا. يبدو أنّ المشكلة في نهايتها. قوات الأمن سيطرت على الوضع، وحشرت المخربين في الزاوية، لم يقدروا على الهرب فلجأوا إلى تفجير أنفسهم. يا عمّي، هؤلاء يكرهون الحياة ، ويريدون أن يجبرونا على كرهها. لماذا لا ينتحرون وحدهم فلا يأخذوننا معهم؟!
قال إياد:
ـ ما تقوله صحيح، يا أخي، ولكن هل يفهم هؤلاء كرامة الإنسان عند الله: " من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً".
قال وائل:
ـ لن أبقى هنا ولو ساعة واحدة عندما يطلع الفجر.
انتبهت إلى إبراهيم، كان يبحث في مكتب صاحب المقهى، سحب الدرج وضعه أمامه على الطاولة، تناول مسدّساً، سألته، نظر إليّ ، وقال:
ـ سأكون جاهزاً إذا دخل المخرّبون المقهى. لن أتركهم يقتلوننا دون أن أفعل شيئاً. هذا المسدّس تركه المعلم، أوصاني أن استخدمه عند الضرورة.
قلت:
ـ اطمئن، لن يأتوا إلى هنا.
ـ ما يمنعهم؟
ـ لا شيء يمنعهم، ولكن لا أظنّ أنّهم يهاجمون بضعة أفراد هم محاصرون أصلاً .
وابتعدت عنه انظر إلى شاشة التلفزيون. قطع التلفزيون المحلّي برامجه، وظهر مذيع للأخبار، راح يتلو: صرح الناطق الرسميّ ما يلي: فجّر مخرّب نفسه أمام مخفر للشرطة في وسط العاصمة قبل آذان الفجر، أودت العملية بحياة خمسة من أفراد الشرطة واثنين من موظفي السفارة الأمريكية في عمّان واثنين من المدنيين، والمخرّب نفسه".
لا بدّ أنّ خضر ذهب ضحيّة الانفجار. من الذي جاء به إلى المخفر؟ كيف يعرض نفسه للخطر؟ يستحقّ هذه النهاية، لم يكن المطلوب منه غير رؤية بشير العايد ومساعدته على المجيء إلى المقهى، غبيّ يزج نفسه في مواضع خطيرة، لا يستطيع مواجهتها. ليس مهمّا هذا الأحمق. إلى الجحيم. لكن صديقي بشير، ماذا جرى له؟ أين هو الآن؟ هل ذهب مع خضر؟ هل يكون ضحيّة لقائنا الذي لم يتمّ؟
رحت أنتظر نشرة الأخبار علّي أعرف جديداً، أو التقط خبراً يتّصل بصديقي بشير. استمعت إلى نشرة الأخبار، أطالت الحديث عن العمليّة الانتحاريّة، وقدّمت مشاهد من آثارها: سيّارات مدمّرة، ومبنى دُمّر جزء منه، وأشلاء القتلى تملأ الشارع. بدا العدد يفوق ما ذكره الناطق الرسمي، وفي نهاية الخبر ذكرت أسماء الشرطة الذين استشهدوا، وأسماء المدنيّين وذكر بشير العايد الأردنيّ الذي يحمل الجنسية الأمريكيّة. صرخت:
ـ قتلوا صديقي!!
ما كان عليه أن يأتي من وراء البحر؟ يبقى في نيويورك، يضع التاريخ في قلبه، ولا يلامسه بحواسه. لماذا نعود إلى التاريخ عندما يقترب منّا الموت؟ ليته لم يخرج من بيت ابنته بقي مع أحفاده ولم يفارقهم! صارت الأرض هنا حقل ألغام، لا يعلم المرء متى ينفجر به لغم منها. ما كان عليّ أن أدعوه إلى اللقاء، وأين؟ في هذا المقهى المنحوس الذي غادر تاريخه، كان يمكن أن نلتقي في بيتي أو بيت ابنته، أو أيّ مكان غير هذا المقهى وسط البلد... لو أنّي قتلت معه! وتبقى الحكاية ناقصة. ما الذي جاء بصديقي بشير إلى المخفر؟ من هؤلاء الذين كانوا معه؟ تبقى الأحداث طافحة بالثغرات من يملأها، لم يكن اختياري خضر موفّقاً، ها هو الفجر يتفتح على قتل صديق، ماذا يعني مجيء النهار غير مزيد من الآلام، مساء الحصار مثل صباحه. أيّ آلام يبعثها الفجر؟! أيّ أحزان ستزحف إلى قلوبنا في الغد؟!.
كانت العيون محدّقة إلى التلفزيون، تراقب ما يعرض، والقلوب راجفة تنتظر خبراً يضيء لها الغد، ارتفع الصراخ، تجاوبت معه حيطان صالة المقهى، كان حادّاً، حسبته لامرأة دخلت تستنجد بمن يبحثون عمّن ينجدهم. كان صبيّاً، ربما في الحادية عشرة، ممتلئ الجسم، متورّد الخدين، ربما من برودة الجو، أو اضطراب الموقف، كان يرتدي ملابس رثّة، ويضع في قدميه شبه حذاء ـ كما يبدو ـ استهلكه عسكري سابق. كان يغالبه البكاء، وهو يتحدّث إلى عامل البوفيه، سمعته يتوسل إليه:
ـ أرجوك يا عم، أنقذني، إنّه يلاحقني.
اندفعت اسأل عما جرى، شرح لي العامل: هذا طفل يتيم مشرّد ، ينام أحياناً أمام المسجد الحسيني، وأحياناً في بيت درج المقهى، كثيراً ما يتعرّض للتحرّش الجنسي من زعران وسط البلد ولصوصه، الآن هو هارب من رجل يلاحقه.
قلت للصبي :
ـ اطمئن يا ابني لن يحدث لك مكروه وأنت هنا.
حاول أن يجفّف دمعه بيده، وهو يقول:
ـ رأيته يركض خلفي. إنه حيوان مفترس . أنا خائف .
قال عادل:
ـ لا تخف، ما دام عمّك أبو العزّ فيه عرق ينبض.
لم يكن أبو العزّ غير زميله عامل البوفيه، الذي علّق على قوله:
ـ من يجرؤ على الاقتراب منا؟!
أخبرني عادل كيف أنّ أبا العزّ هذا أنقذ امرأة من رجل حاول الاعتداء عليها، شاهدها وهو في طريقه للمقهى، كانت تستنجد بالمارّة، ولا أحد يقدر أن يساعدها؛ فالرجل كان يجرّها إليه، وهو يقول إنّها زوجته، ضرب أبو العزّ الرجل وسلّمه للشرطة.
بعد قليل اندفع الباب.
ـ أين ابن الحراميّة؟
نظرت إلى ناحية الصوت، كان الرجل نفسه الذي رأيته عند مجيئي المقهى، توارى الصبي خلف عادل، لمحه، هجم نحوهما، مدّ يده فوق كتف عادل، ليمسك بالصبي، حاول عادل أن يبعده عنه.
ـ اترك الولد بحاله.
دار الصبي حول المكتب، واتجه صوب الباب لكن الرجل تصدّى له، فهرب منه إلى وسط الصالة، اعترض طريق الرجل إياد:
ـ ماذا تريد من هذا المسكين؟
ـ سرقني ابن الكلبة.
صاح الطفل وهو يبكي:
ـ لا والله يا عمي، لم أسرقه، فتشوني، لا أملك غير هذي العشرة قروش، خذوها.
أخرج جيوبه، وألقى العشرة قروش نحوه. وقف الجميع أمامه:
قال أبو صابر:
ـ اترك الولد وتوكّل على الله.
ـ سأسحبه إلى الشرطة.
قال وائل:
ـ الشرطة مشغولة بالأحداث الجارية ولا يهمّها ما تدّعيه.
ـ لن أخرج من دونه.
خرج أبو خالد من دورة المياه، بعد أن توضأ، وتهيأ لصلاة الفجر، فقد بدأت المساجد القريبة بقراءة القرآن والتسبيح مقدّمه للأذان. خاطب الرجل بلطف:
ـ اهدأ، يا أخي، كلّ عقدة ولها حلّ، إذا كانت المشكلة ماليّة فأنا أتكفّل بإرجاع ما فقدته.
ـ سرق هذا الحرامي محفظتي، فيها أكثر من مئة دينار.
ـ أنا أكتب لك شيكاً بالمبلغ. ما رأيك؟ واترك هذا الصبي.
صاح الصبي:
ـ والله، يا عمّي، لم أسرق محفظته، وأنا بريء من هذي التهمة إنه يتبلّى عليّ. لا تصدّقه.
قال الرجل يخاطب أبا خالد:
ـ أشكرك على هذا الكرم، أنت لست أكرم منّي، لكن الولد يجب أن يتربّى، سأجرّه إلى المخفر.
اندفع نحوه كالثور الهائج، لم يستطع أحد أن يقف في طريقه، أما أنا فلم يكن موقفي في البداية مشرّفاً، فكنت مشدوداً إلى ما يجري دون أن أكابد أي فعل، كنت أحاول تفسير الأحداث، وأتساءل إن كان خيالاً أم واقعاً، عجزت عن فهم أيّ شيء، فاندفعت أخاطب الرجل برقّة ناصحة:
ـ يا رجل احترمنا نحن أكبر منك سناً، اعف عن هذا الصبي، واتركه في حال سبيله ، وإذا كان على المال ـ كما تقول ـ فاقبل ما عرض عليك أبو خالد، وإذا كنت مصرّاً على رأيك فاجلس هنا حتّى أحضر الشرطيّ ليحلّ الخلاف حسب القانون.
اهتاج الرجل:
ـ ابعدوا عن طريقي. لا تتدخلوا فيما لا يعنيكم.
يبدو أن عامل البوفيه أبو العزّ كان مثلي يحاول أن يفلسف الأمر، فكان واقفاً بالقرب من المكتب يراقب ما يجري، منتظراً أن ينتهي بخير، لعلّه نفد صبره، فسأل إبراهيم عن المسدّس، فأسرع يتناوله من درج الطاولة، ويقدّمه إليه وهو يرتعش، شهر أبو العزّ المسدّس في وجه الرجل، وصرخ به:
ـ اخرج من المقهى، وإلاّ أطلقت النار على رأسك.
أطرق رأسه، تظاهر أنّه يخرج، ثم اندفع بقوّة نحوه، أطار المسدّس من يده، سقط بالقرب منّي، لا أذكر أنّي استخدمت مسدّساً في حياتي غير أنّي تعرّفت المسدّس وبندقيّةm16 ضمن دورة تدريبيّة قصيرة، ونحن طلاب في نهاية السنة الجامعيّة، حاول أبو العزّ أن يلتقط المسدّس، فهجم عليه الرجل وألقاه أرضاً، وهو يصفعه حتّى أسال الدمّ من وجهه، تناولت المسدّس، وأطلقت النار في السقف، افترقا، وقفا يلهثان. مدّ الرجل يده إليّ:
ـ أعطني المسدّس، يا حاج.
ـ ليس مسدّسك.
وألقيته إلى أبي العزّ، فلوّح قبضته، وضربني، تمايلت إلى الخلف، لكنّي لم أسقط، استدار ليواجه أبا العزّ، أمسكت به من الخلف، وساعدني وائل وإياد، لم ننتبه إلاّ وأبو العزّ يطلق النار، فيسقط الرجل، راح الجميع يحاولون إسعافه، كانت الإصابة في قدميه، أما أنا فجلست ألهث على كرسيّ قريب، تتراءى في عقلي زوجتي التي قتلت، قتلها مثل هذا الرجل، وصديقي الذي قتل في الانفجار. ما هذا العالم؟ صار الدمّ رخيصاً، والحياة لا قيمة لها. ابنتي ما زالت تنتظر أباها. ما يحدث يعجز الخيال عن حبكه، كيف يمكن أن تحلّ العقدة لو لم يطلق أبو العزّ النار؟ جاءت الشرطة، سأل أحدهم وهو أكبرهم رتبة:
ـ من أطلق النار؟
تقدّم إليه أبو العز وقال:
ـ أنا من أصاب هذا الرجل.
قلت وأنا أتوجّع من الضربة اللئيمة:
ـ كان يلاحق هذا الصبي، لم نستطع أن نمنعه إلا بإطلاق النار عليه.
قال الصبي:
ـ هذا ما حدث يا سيّدي، كان يلاحقني منذ المساء، وأنا أهرب منه ، عندما بدأت الأحداث في الليل كنت في طريقي إلى المسجد الحسيني، لمحني، استطعت أن أهرب منه لكنّه لاحقني، لم أجد إلاّ هذا المقهى.
كان الرجل ممدّداً بين الطاولات والكراسي، يحملق بحقد إلى الجميع ويتوعّد. اقترب الشرطي منه، أمعن النظر في وجهه:
ـ أنت يا ملعون الوالدين!
جاءت سيّارة الإسعاف، نقلته إلى المستشفى، توجّه الشرطيّ لأبي العز والصبيّ:
ـ يجب أن تأتيا إلى المخفر لعمل محضر بما حدث.
المطر توقّف، الريح هدأت، أخبر التلفزيون المحليّ عن استقرار الحالة في الشارع الرئيسيّ، بعد أن عزلت الإصابات. عند بزوغ الفجر، أعلن التلفزيون على لسان الناطق الرسمي باسم قوات الأمن انتهاء الحالة الحربيّة بالمدينة، والسيطرة على الوضع، ورفع حالة الطوارئ، وفكّ الطوق عن وسط البلد، وحول المقهى، بدأ عادل في ترتيب المقاعد والطاولات وفتح النوافذ، ليعبر الهواء النقي، ويحلّ محل ما كان، وراح ما بقي من الزبائن، ينسلّون واحداً تلو الآخر.
التف من بقي حولي، قال أبو صابر:
ـ الآن علينا أن نعود إلى البيت قبل أن تأتي العشيرة والأولاد ليبحثوا عنّا.
بقيت شارد الذهن بينما قال وائل:
ـ ألا تريد الخروج من هذا المقهى؟ طاب لك المقام؟
تأوّهت:
ـ أين؟
قال أبو خالد:
ـ معنا.
ـ لا . سأبقى..
خرج الجميع. أطبق الصمت على المقهى. ارتميت على كرسي قريب، أمامه طاولة طويلة، أسندت ذراعي إليها، انتبهت إلى لونها الأخضر الكثيف، وقصر إحدى أرجلها، زاد إحساسي بالوحشة. جاء عادل قال بعطف:
ـ انتهى الحصار. أما تريد العودة إلى البيت؟
نظرت إليه كالأبله، فتركني وشأني، ألقيت ذراعيّ على الطاولة، ودفنت وجهي ، رفعت رأسي على حركة بالقرب منّي، تخيّلت أنّ المكان يدور بي. إنّها ابنتي ربى. نهضت. طوّقتني. وضعت يدها بيدي. جلت بنظري في المقهى. لا أحد، غير هواء بارد راح يعصف حولي.
قالت:
ـ هان عليك المكان؟
تأوّهت كأنني أمام نفسي:
ـ لا أدري، يا ابنتي، ما زلت محاصراً.
شدّت يدها على يدي، تذكّرت أمّها.
محمد عبدالله القواسمة
المؤهلات
* دكتوراه في اللغة العربية وآدابها. عنوان الأطروحة: "البنية الزمنيّة في روايات غالب هلسا"، جامعة القديس يوسف بيروت ـ لبنان/2002.
* دبلوم دراسات عليا في المكتبات والمعلومات، الجامعة الأردنية/1988.
العمل
* مدرس اللغة العربيّة في جامعة البلقاء التطبيقيّة_ كليّة الهندسة التكنولوجيّة.
* سكرتير تحرير سابق لمجلة رسالة المكتبة المجلة المحكمة التي تصدرها جمعيّة المكتبات الأردنيّة.
* محاضر غير متفرّغ في علم المكتبات والمعلومات في دورات تأهيليّة عامّة عقدتها جمعيّة المكتبات الأردنيّة.
* عضو تحكيم للدراسات والأبحاث والإبداعات لدى وزارة الثقافة.
* عضو لجنة التحكيم الثقافي (2006) في الدائرة الثقافيّة لأمانة عمّان ا
* عضو مراجعة امتحان كليات المجتمع (الشامل) ـ تقويم وقياس والمشاركة في وضع الأسئلة لعدة سنوات
العضويّة
* عضو رابطة الكتّاب الأردنيّين.
* عضو اتحاد الكتاب العرب.
* عضو مؤسّس في جمعيّة النقاد الأردنيّين.
* عضو جمعيّة المكتبات الأردنيّة. .
العنوان عمّان هاتف المنزل 4701594 2345 خلوي: 0797032727 البريد الإلكتروني : yahoo.com @ mdkawasm .
الكتب
* الكنزة الخضراء، (قصّة) عمّان: المؤلف ، 1971.
* عبد الله بن الزبير في بيروت، (شعر) عمان : مؤسسة جمعة، 1986.
* أصوات في المخيم- النشور، (رواية) ج1، اربد: قدسية للنشر والتوزيع ، 1991.
* واقع مكتبات كليات المجتمع (دراسة مسحيّة)،عدد خاص، مجلة رسالة المكتبة(جمعيّة المكتبات الأردنيّة) م6، ع4 ( كانون أول 1991).
* أصوات في المخيم- الحشر،(رواية) ج2-عمّان: دار الينابيع، 1993.
* التوقيع،(قصص قصيرة) عمّان: المؤلف، 1994.
* شارع الثلاثين، (رواية) عمّان: بدعم من وزارة الثقافة، 1994 .
* كراسات السينما والفن : دراسة وتكشيف، عمّان ، النادي السينمائي ، 1995
* دليل المكتبيّين في الأردن، عمّان : جمعية المكتبات الأردنيّة، 1996.
* البنية الروائية في رواية الأخدود (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، (دراسة ، وهي رسالة ماجستير) عمّان: دار الينابيع، 1998.
* الغياب، (رواية) بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1999 .
* معالم في اللغة العربيّة، ط3 ،عمّان: مكتبة المجتمع العربي، 2006.
* الخطاب الروائيّ في الأردن،(نقد) بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر،2000.
* مقدّمة في الكتابة العربيّة، ط2 عمّان: مكتبة المجتمع العربي، 2006.
* آفاق نقديّة (دراسات في الرواية والقصّة القصيرة والشعر وأدب الأطفال)، عمّان: بدعم من وزارة الثقافة، 2002.
* خطوات، ( قصص قصيرة) عمّان:بدعم من أمانة عمان الكبرى، 2003 .
* جماليات القصة القصيرة(قراءات نقدية)،عمان:مكتبة المجتمع العربي،2005.
* تجليات التجربة (أبحاث وقراءات في الأدب والنقد)، عمان: مكتبة المجتمع العربي،2005. * البنية الزمنية في روايات غالب هلسا من النظرية إلى التطبيق، عمان وزارة الثقافة ، 2006
* عبد الله رضوان: الذات والآخر( تقديم وإعداد ومشاركة) عمان: دار اليازوري، 2006
* الكشاف التراكمي لمجلة تايكي، عمان: أمانة عمان الكبرى، 2006
* في البيت المهجور،(قصص للأطفال)، عمان: فضاءات، 2006.
* أبحاث في مدونات روائية( نقد روائي) عمان : أمانة عمان الكبرى، 2006
* وقع الرؤية(أبحاث ودراسات وقراءات...عمان : مكتبة المجتمع العربي، 2009
* الجائزة (رواية) عدد30 \2009 من مجلة الكلمة الألكترونية
*التجربة الشعرية (قراءات) عمان : فضاءات، 2010
*سوق الارهاب ، عمان: ورد ، 2011.