المنظر
حجرة نوم الملك، إلى يسار المشاهد باب مغلق يفضى إلى المخدع، وإلى اليمين يوجد الباب الذى يفضى إلى باقى القصر وهو غير ظاهر للمتفرج. يتوسط الحجرة سرير الملك وإلى جواره أريكة توجد فوقها زجاجة خمر وكأس وحيد.
الشخصيات
شهريار الملك في حوالى الخمسين من عمره يبدو عليه الإرهاق الشديد. تنتابه تحولات مزاجية مفاجئة تتزايد وتيرتها تدريجياً.
مسرور العبد في حوالى العشرين وليس شرطاً أن يكون زنجياً.
شهرزاد ابنة الوزير الراحل وآخر زوجات شهريار، في حوالى الأربعين. لا تستطيع صرامتها الظاهرية أن تخفي شخصيتها الجذابة وأنوثتها الطاغية.
حسان ثائر مندفع
منصور ثائر متعقل
مجموعة من أفراد الشعب يرتدون الأسمال
الليلة الأولى
(شهريار يتمدد فوق سريره ما بين النوم واليقظة، وقد أفاق لتوه من حلم مرعب. يدخل مسرور الذي تعتلي وجهه الدهشة، يتجه ناحية السرير)
مسرور: مولاي شهريار.
شهريار: (وقد فوجىء) ماذا؟
مسرور: عروس الليلةِ يا مولاي.
شهريار: (يجلس فوق السرير) فلتدعُها ولْننهِ هذا الأمر على وجه السرعة.
مسرور: (في حزن) هل أزعج مولاي نفس الحلم؟
شهريار: (في قسوة مصطنعة) ليس شأنك يا مسرور. فلتأت بالعروس.
مسرور: (في تردد) هي ابنة وزيرك الأمين، يرحمه الله. اسمها شهرزاد
شهريار: (يغالب الدهشة) أدخلها، ولتبق جوار الباب حتى تلبيَ ندائي.
مسرور: تأمر مولاي (يهم بالخروج)
شهريار: (يستوقفه) هل سلمك وزيرُ القصر الأوراق.
مسرور: لازالوا يجتمعون.
شهريار: ماذا أخّرهم للآن؟
مسرور: أمرٌ تافه لا يستأهل تعكير مزاجك مولاي. (شهريار يشيح بيده ناظراً في دهشة لإبريق الخمر بينما يستعد مسرور للخروج)
شهريار: (يمسك إبريق الخمر متفحصاً إياه) أين الإبريق الآخر؟
مسرور: نفذ الخمرُ منه فأتيتُ بهذا بدلاً منه.
شهريار: من أين أتيت به؟
مسرور: كالمعتاد، من أقدم برميلٍ في مخزن قصرك مولاي.
شهريار: هل شرب الخازنُ من هذى الخمر أمامك.
مسرور: طبعاً مولاي.
شهريار: والذواقة؟
مسرور: (مؤكداً) والذواقة (مستطرداً ليطمئن الملك) تسعة رجالٍ من بينهمُ وزير القصر، تنفيذاً لأوامر مولاي.
شهريار: لم يشكُ أيٌ منهم من ألمٍ في بطنه؟
مسرور: ما كنتُ لآتيك به لو حدث هذا مولاي.
شهريار: ما رأيك في أن تتذوقه؟
مسرور: فعلت.
شهريار: الآن، أمامي.
مسرور: تعلم مولاي، سيافُك لا يفرط في الشرب إلا من بعد تمام الأمر.
شهريار: لم أطلب منك أن تفرط في الشرب. كأسٌ واحدة لن تفقدك صوابك. أم أنك تخشى من شيءٍ آخر؟
مسرور: (يتحرك في ضيق ولكن بسرعة ليصب كأساً يتجرعها بالكامل بسرعة ناظراً في عتاب خجول للملك الذي يشعر ببعض الحرج دون أن يفقد مزاجه العكر) هل أشربُ كأساً آخرَ مولاي؟
شهريار: لا (يعطى ظهره لمسرور مشيراً له بالخروج)
مسرور: (يتحرك خارجاً ويتحدث بصوتٍ لا يكاد الملك يسمعه) كم يؤلمني مولاي أنى أيضاً قد صرتُ موضع شكك (يخرج مسرور بينما يصب شهريار الخمر ناظراً باتجاه باب الحجرة المغلقة)
شهرزاد: (تدخل في ثقة) السلام على مولاي شهريار.
شهريار: (ينتبه) أنتِ شهرزاد؟
شهرزاد: هذا اسمي فعلاً يا مولاي.
شهريار: (يضحك ويقوم من السرير ليصب الخمر) آه.
شهرزاد: أوَ يضحك اسمي مولاي؟
شهريار: (يغالب الضحك) لا، لا، أبداً. (يبدأ في احتساء الخمر)
شهرزاد: لا أجرؤ أن أسأل مولاي عما يضحكه.
شهريار: تدفعني للضحك تصاريف الدنيا، لو كان أبوكِ يعلم أن ابنته سوف تذوق كأس عقابي، ربما حاول أن يمنعني من سنوات.
شهرزاد: (بينما يصب باقي الكأس في فمه) ربما ظن بأنك تشفي قبل بلوغك إياي...
شهريار: (يلقى بالكأس) لست مريضاً يا ابنة أخلص وزرائي، يرحمه الله. لا يدفعكِ حلمي لإساءة أدبك.
شهرزاد: (تشعر أنها قد أهانته) عفواً مولاي.
شهريار: اليوم يجيء عليك الدور، هذا قانون.
شهرزاد: لستُ أفاجَىء، إسمي في آخر حرف الشين، وكشوف عذارى المملكة معلقة في كل مكان.
شهريار: لستِ جميلة، لكن يعجبني إقدامك.
شهرزاد: شكراً مولاي.
شهريار: أدبٌ مصطنع يخفي تحته نيران البغض.
شهرزاد: هل تسمح لي برجاء؟
شهريار: قولي.
شهرزاد: بحق ذكرى أبى، وزيرك، أطمع في أن تعفيني.
شهريار: لا والله، وبحق ذكرى وزيري، أبيكِ، ستموتين. لا يستثنى عدلي واحدة منكن.
شهرزاد: لا أعنى الموت، بل إني أستعجله.
شهريار: ماذا تبغين؟
شهرزاد: جسدي.
شهريار: ماله؟
شهرزاد: فلأوهب عذراءً للقبر.
شهريار: أوه.. ذلك أطرف ما سمعت أذناى منذ سنين. حقاً، لا يبلغ عقل الرجل أياً ما كان حيل المرأة حين تراوغ.
شهرزاد: لست أراوغ.
شهريار: صمتاً يا حمقاء. لا أنكر أن ذكاءك أدهشني، لكنى تمرست على كذب ليالى العرس. واحدة تهمس في أذني (يقلد) استبقيني حتى آتِ لك بوليّ العهد. لا تكمل كلمتها إلا ويطير الرأس. الأخرى تبدأ بالعطس (يعطس ساخراً ثم يقلد) أخشى على فم الملك الغالي إذ يلمس شفتي بقبلة أن يدركه منى زكام. تعطس، آخر ما تفعل في دنياها. ثالثةٌ تركع وتخاطب قلبي الطيب، لا تدرك أن الأبله وحده من يتحادث مع ميت ولذا أقتلها، قلبي الطيب علّه يسمعها بعد الموت. رابعة تتعلل بالحيض.....
شهرزاد: (في تقزز) يكفي هذا أرجوك.
شهريار: حيلٌ تتكرر حتى سئمتْ. مِن أول لفظ أدرك باقي الخدعة، أما أنتِ... ربما صوّر لك وهمكِ أنى قد أنبهر بطلبك هذا فأستبقيكِ؟!
شهرزاد: نادى سيافك يا مولاي، عنقي يتلهف.
شهريار: حتماً سألبي رغبة هذا العنق المتلهف... من بعد سماع الخدعة كاملة.
شهرزاد: لا توجد خدعة، صدقني؛ إني لا أخشى الموت.
شهريار: لا بد لذلك من أسباب.
شهرزاد: عذراً مولاي، يؤلمني حقاً أن أذكرها.
شهريار: (وكأنه يساوم) إن كانت أسبابكِ تقنعني، لن ألمس جسدك.
شهرزاد: حسنٌ، يمنعني عهدي.
شهريار: عهدك؟! مع منْ؟
شهرزاد: رجلاً أحببته.
شهريار: دوماً كنت أسائل نفسي، لما لا تهرب أية عذراء من خطر الموت بأن تتزوج رجلاً غيري من قبل حلول الدور عليها؟ كنت أظن بأن الطمع بجاه السلطة يدفعهن غروراً نحو القصر. ولكن أنتِ، ما حاجتكِ لجاه السلطة؟ ولماذا لم تقترني برجلك هذا؟
شهرزاد: كان فقيراً من عامة أهل الشعب.
شهريار: الذوق السيئ كالعادة، الرغبة في إذلال الأصل الغالي بطين العامة والدهماء.
شهرزاد: مولاي المرأة حين تحب، تنزع عنها أسر الطبقة وتخاريف الأصل.
شهريار: هل يعنى ذلك أن الفاجرة أحبت ذاك العبد؟
شهرزاد: ليست ريحانه كل نساء الأرض.
شهريار: (يهتز لسماعه اسم ريحانة ولكنه يتماسك) الكل سواء، عهرٌ وخيانة. فلنكمل، كيف تعرفتِ عليه؟
شهرزاد: كنت أطل عليه من شرفة قصري حين يمر أمام القصر صباحاً ويعاود كرّته في آخر كل نهار. وسألته ذات صباح عن حبه فوجدته مثلى.
شهريار: هل حادثتيه أمام الناس؟
شهرزاد: بالنظرات.
شهريار: (ساخراً) هو أبكم؟
شهرزاد: كلا، لكن رسائل عين العاشق تفلت من سجن الرقباء.
شهريار: (مواصلاً السخرية) سألتيه وأجابكِ بالنظرات؟!
شهرزاد: (تتجاهل سخريته) بل إنّا كنا نتخاصم، نتصالح، نتبادل قبلات بالعين.
شهريار: (بنفاذ صبر) هل أخذ العهد عليكِ بنظرة عين؟!
شهرزاد: كلاّ بالطبع، أرسلت إليه من يدعوه كي يعمل بالقصر.
شهريار: هل كان نشيطاً؟ أعنى هل أعجبكِ عمله (لحظة) بالقصر؟
شهرزاد: (تفهم ما يعنيه) بل كان يخاف مجرد لمس يدىْ.
شهريار: (جاداً) ولماذا لم يفعل؟
شهرزاد: إبن العامة يا مولاي مهما يركب وهم خياله، لا يقدر أن يركب مولاته.
شهريار: مَنْ علّمكِ تلك اللغة الخشنة؟
شهرزاد: هى كلماته يوم فراقي. كان مساءً لن أنساه، لملم كفي دمعاً حاراً من عينيه.
شهريار: (يتظاهر بالتأثر) يا مسكينة، حلمكِ ضاع.
شهرزاد: حين تفيض دموع الرجل بقهر الدنيا يجدب حلم المرأة.
شهريار: وحين تفيض دموع المرأة كذباً ينخدع رجال العالم.
شهرزاد: لن تفهم أبداً ما أعنيه، عذراً مولاي، علّك تؤمن يوماً ما بالحب.
شهريار: بل إني في دين الحب أكبر كافر؛ الحب كلام الصبية للفتيات وخداعٌ لا يهدف إلا للشهوة. لَذّات العالم عند المرأة هي بعضٌ من وهج الجنس.
شهرزاد: إسمح لي بالصمت.
شهريار: بل إنى تستهوينى قصة حبكِ تلك.
شهرزاد: لن أقدر.
شهريار: لا يعصى أمري إلا مخبول. (يتجه ناحية الخمر)
شهرزاد: لن أكمل أياً ما كان الأمر. (يصب كأساً)
شهريار: (ينادى ناظراً في عينيها) يا سياف.
مسرور: (يدخل مشهراً سيفه) أمر مولاي المطاع.
شهريار: (يصب الكأس دفعة واحدة في فمه) ضاعت متعتك اليوم.
مسرور: (مدهوشاً) عذراً مولاي، لم أستوضح كلماتك.
شهريار: إذهب لتنم، ولتستيقظ عند الفجر تشحذ سيفك، فغداً نحتاج لسيفك أمضى مما كان.
مسرور: واليوم؟!
شهريار: اليوم بطالة فعروس الليلة تستهويني، لكن في الغد (يشير بيده علامة الذبح)
مسرور: (لا يكاد يصدق) أنا رهن أوامر مولاي لكن...
شهريار: ماذا؟ ما بالك تتلكأ؟ إنطق.
مسرور: هل أتكلم على مسمعٍ من شهرزاد؟
شهريار: تأدب يا عبدي، ليست إحدى خليلاتك كي تدعُهَا من دون اللقب الذي صارت تحمله على كرهٍ منى ورغماً عنك.
مسرور: آسف مولاي، لكنّ الأمر العاجل أربكني. (يحنى رأسه لشهرزاد) عذراً مولاتي.
شهريار: (يضحك) سبحان الله، لم يمض على رفعك سيفك كي تقطع رقبتها إلا لحظات والآن تدعوها مولاتك، تحنى رقبتك في استخذاء.
مسرور: لا أفعل إلا ما يأمرني مولاي.
شهريار: (يشير باتجاه شهرزاد) إنها ذاهبة للموت على أية حال، قل لى ما الأمر العاجل يا مفسدَ خلوة مولاك.
مسرور: دب شجارٌ بين الوزراء.
شهريار: (بدون اهتمام) وكأنه لم يحدث من قبل!!
مسرور: زاد الأمر عن الحد.
شهريار: ماذا؟ هل سبوا بعضهم البعض؟
مسرور: بل رفعوا الأيدي وكادوا يشتبكون.
شهريار: (ينتبه قليلاً) هذا جديد، ما السر؟
مسرور: (ينحني على الملك هامساً) شكك بعضُهمُ في جدوى...
شهريار: (ينهره مقاطعاً) قلتُ مراراً إن الهمس يضايقنى
مسرور: (تبدر منه التفاتة تلقائية سريعة باتجاه الكواليس) شكك بعضُ الوزراءِ في نية قائد جيش مغولِ الغرب.
شهريار: جيش!! يا أحمق، بضعُ مئاتٍ من جندٍ لاهين جاءوا من أجلِ حماية قافلة تجارة ليسوا جيشاً.
مسرور: هذا ما رد به البعضُ الآخرُ من وزرائك.
شهريار: وعلام انتهت اللعبة؟
مسرور: كالعادة، ردد كلُ الوزراءِ خلفَ وزيرِ شئونِ القصرِ قسمَ ولاءٍ ودعاءً للملك بطول العمر.
شهريار: وإذن فالأمر العاجل ليس سوى أنه قد أحزنك أنك لن تفعلها اليوم فأردت مضايقتي علّى أتراجع.
مسرور: أبداً والله بل إن.....
شهريار: (مقاطعاً في حسم ولكن بل انفعال) أخرج في صمت. (ينحني مسرور ويخرج سريعاً)
شهريار: (يقترب منها معابثاً) والآن أنتِ مِلكي، وكلانا مِلكٌ للشهوة. دعيني اضمك.
شهرزاد: (تبتعد فزعة) لا تملك جسدي ولن يضمه إلا القبر.
شهريار: (ليس جاداً) لكنى أصر.
شهرزاد: (تبتعد) لن يحدث هذا، أرجوك.
شهريار: (مواصلاً تظاهره بالرغبة) لا تنسى أنى زوجك يا شهرزاد.
شهرزاد: لم أنس وعدك أن تقتلنى دون جماع.
شهريار: ذهب السياف والليل طويل.
شهرزاد: أقتلنى بيديك.
شهريار: (جاداً) ولماذا لم تفعليها قبل مجيئك؟ أو لا تملك ابنة أغنى رجالي ثمن السم؟
شهرزاد: وعدته ألاّ أقتل نفسي.
شهريار: وماذا يكون زواجك منى؟ أليس انتحار؟!
شهرزاد: ربما لا تقتلني.
شهريار: (يبتسم ساخراً) إنسي هذا الأمل الكاذب
شهرزاد: لا آمل في شيء.
شهرزاد: (وكأنه يفكر) ربما لا أقتلك، ربما لا أقتلك (فجأة) هي فكرة جيدة على أية حال. دعيني أولاً أتذوق شهد شفتيكِ.
شهرزاد: لا تحمل شفتاي إلا مرارة كلماتي وبقايا من ملح دموع.
شهريار: أنت مسليةٌ حقاً؛ تبحثين عن قبركِ في سرير العرس، وتبخلين على الموت بقبلة؟! (تبتعد خائفة) لن آخذكِ رغماً عنكِ (بأسى) مشكلتي أن الليل طويل. (يتظاهر بالمرح) رجلك لا يجرؤ على لمس يديكِ وأنتما عاشقان؟!
شهرزاد: حظٌ تعس، لو وُلد غنياً أو كنت فقيرة لاجتزنا حدود الخوف وأطلقنا الرغبة.
شهريار: فاتني أن أسأل عن اسمه؟
شهرزاد: (متجاهلة سؤاله) أخشى أن مرابطة جنود مغول الغرب على حافة حدود المملكة ليست لمجرد حماية قافلة تجارة.
شهريار: (يضحك) من بين جميع رجال المملكة لا يصلح للمُلكِ سواي، وأؤكد لكِ أنى لا أحتاج مشورة أنثى حتى إن كانت من بيت سياسة. أخبريني إذن، أين ذهب صاحب عهدك؟ بل قولي اسمه
شهرزاد: بحثت عنه بكل مكان، لم أجده. في الغالبِ غادر مملكتك
شهريار: تراوغين؟ أنا لا أهتم باسم حبيبك هذا إلا تمضيةً للوقت.
شهرزاد: إني مُتعبةٌ جداً.
شهريار: إذن فلتنامي (يشير للسرير فتجفل) لا تخشى شيئاً، سأغادر هذا المخدع. لا أغمض عيني إلا مع شمس الصبح (فجأة) إياكِ وهذى الحجرة (يشير ناحية الحجرة المغلقة، ثم يتحرك باتجاه باب الخروج) عذراً، لا يجلب سريري غير أحلام الرعب.
شهرزاد: لا أحلم إلاّ بعودته.
شهريار: أوَ لا تحلم مولاتي أيضاً أنى قد أرسل من يبحث لها عنه؟
شهرزاد: (تبتسم) مَنْ يدرينا؟
شهريار: (يضحك) فعلاً، أنتِ ظريفة (يتذكر الخمر فيتجه نحوها) أقسم أنى سأذكركِ كثيراً (يمسك زجاجة الخمر ويهم بالخروج مع الإظلام التدريجي)
ليلة ثانية
(في ليلة أخرى، شهريار يصب الخمر بينما تجلس شهرزاد بالقرب منه، يمد يده نحوها بالكأس)
شهريار: ما رأيكِ في بعض الخمر؟
شهرزاد: أخبرتك مولاي مراراً إني لا أشرب أبداً.
شهريار: بالخمر أواري سوءة أحزانى خلف الهذيان (يشرب من الكأس)
شهرزاد: لكنك مولاي شربت في ست ليالٍ ما يُذهب عقل قبيلة، وأخشى أن تنسيك الخمر وعدك لي.
شهريار: (في ضجر) لن ألمسك، كفي عن هذا القلق الدائم. والآن فيم كنا نتحدث؟
شهرزاد: سألني مولاي، ماذا يقول الناس؟
شهريار: آه آه.. ماذا يقولون؟
شهرزاد: يتحدث كل الناس بما تفعله في ليلة عرسك من أعاجيب.
شهريار: أية ليلة؟
شهرزاد: كل ليالي العرس (بلهجة من يذيع خبراً) شهريار الملك يذوق المرأة ثم يبدلها (يصب كأساً) بل شاعت طرفٌ بين العامة.
شهريار: (في دهشة) طرفٌ أيضاً؟
شهرزاد: يتساءل بعض الناس، هل فقد العذرية يؤلم أكثر أم فقدان العمر؟ (تضحك بدون أى تجاوب من شهريار) بل يُحكى أن حطاباً فقيراً صار يقلد مولاي.
شهريار: (في اهتمام) وكيف يقلدني؟
شهرزاد: يأمر زوجته أن تتسمى اسما جديداً كل مساء. ويظل يلاطفها حتى الفجر، ثم ينام سكراناً من فرط النشوة لا الخمر.
شهريار: لكنه لا يقتلها !
شهرزاد: بل كاد الأحمق أن يفعلها، في إحدى لياليه النكدة ذهبت بعض الخمر بكل صوابه، وما إن بدأ الرحلة معها حتى رفع البلطة ينوى أن يذبحها. أوَ تدري لماذا يا مولاي؟
شهريار: ومن يدريني؟
شهرزاد: وجد الرجل امرأته ليست عذراء.
شهريار: (يبتسم) هل كان يريد زوجة عمره عذراء؟!
شهرزاد: فضحته الزوجة بين عباد الله (تقلدها) الرجل الناقص يتخيل نفسه شهريار، كيف يا فضيحة الرجال أظل عذراء بعد العشرة والعيال؟ يا مخبول، يا مخمور. (يضحكان)
شهريار: (في تشوف) وبعدما أفاق؟
شهرزاد: وجد فضيحته تملأ كل المملكة فغادرها.
شهريار: (جاداً بعض الشيء) فضحته الملعونة.
شهرزاد: مسكينة، ظلت بالبيت أسابيع خجلانة.
شهريار: (يعود للمرح قليلاً) يقتل أم أولاده لأنها ليست عذراء !!
شهرزاد: ويؤكد بعض الخبثاء أن نساء الملك يمتن بلا سياف.
شهريار: كيف يمتن؟
شهرزاد: إعياءً، من فرط فحولة مولاي.
شهريار: أو لا يشغل ذهن العامة غير الجنس؟
شهرزاد: يبحثون فيه عن الأحلام التي لن تتحقق. عن كرامة يهدرونها طوال النهار.
شهريار: وكأنك تتحدثين عن أناس لا أعرفهم.
شهريار: حقاً مولاي، إنك فعلاً لا تعرفهم.
شهريار: إنه شعبي.
شهرزاد: شعبك صار مجرد أرقام في دفتر جواسيس الشرطة.
شهريار: هذى كلمات السفلة.
شهرزاد: أخشى أن من تعنيهم بالسفلة قد صاروا كل الناس.
شهريار: هذا جنون لا يطمع كل الناس بنيل الحكم.
شهرزاد: هم أضعف من أن يبغوا الحكم.
شهريار: ماذا يبغون؟
شهرزاد: الخلاص.
شهريار: مم؟
شهرزاد: عذراً، يبغون خلاصاً من مولاي.
شهريار: أرأيتِ؟ أحلامهم ممزوجة بالدم.
شهرزاد: لا تنسى مولاي، ليسوا إلا أبناء مملكتك، مملكة الدم.
شهريار: (يتجاهل إشارتها) إذن يخططون لقتلي؟
شهرزاد: لا، ينتظرون أن يزور القصرَ ملَكُ الموت.
شهريار: جاءتني تقارير الشرطة. أعرفهم بالاسم.
شهرزاد: هل ضمت تقارير الشرطة أسماء جميع أبناء مملكتك.
شهريار: مالي والجميع، أعنى من يُدعون بالثوار.
شهرزاد: مالي والثوار، إني أحدثك عن الشعب.
شهريار: شعبي بالكامل يتمنى موتى؟ (يضحك)، ما رأيك لو أبقيتك كمهرجةٍ في القصر.
شهرزاد: عن أي قصر يتحدث مولاي؟
شهريار: لا أفهمك؟
شهرزاد: يتنقل مولاي بين قصور تملأ أرجاء المملكة، لكنه أبداً لا يلمح ما يفصل بين قصوره من أطلال.
شهريار: أية أطلال.
شهزاد: بيوت العامة صارت محض خرائب تتصاعد منها أنات الجوعى تلعن يوم ولادتهم في مملكتك.
شهريار: (محتداً) ماذا؟
شهرزاد: عذراً، لم أعتد تزويق الكلمات.
شهريار: لو رُصت بعض رسائل تأييدي ووقفتِ عليها لبلغتِ الشمس.
شهرزاد: من يكتبها؟
شهريار: الشعب.
شهرزاد: بل يكتبها أعوانك باسم الشعب. رأيتُ أبى يفعلها آلاف المرات. يرحمه الله.
شهريار: وهتافهمُ باسمي حين يمر الموكب بالطرقات؟
شهرزاد: خوفاً من بطشٍ أو طمعاً في إحسان.
شهريار: إحسان!! صار الشعب برأيك شحاذين ينتظرون الصدقة؟
شهرزاد: ومساكين، يخشون سياط رجالك. الويل لمن يضبطه البصاصون بعيداً عن صفوف الهتاف حول الموكب.
شهريار: البصاصون لمراقبة المجرمين؟
شهرزاد: (ساخرة) وهل يوجد جرم أكبر من أن يسعى الرجل إلى رزقه تاركاً موكبك المهيب يمر دون هتاف؟!
شهريار: لو كان صحيحاً ما تهذين، كانت مملكتي سجناً، ولكان نصف الناس من البصاصين.
شهرزاد: حتى أنت.
شهريار: ماذا؟
شهرزاد: لا تفلت لحظة من عين تلحظك، من أذنٍ تتسمع حتى همساتك أثناء النوم.
شهريار: الآن يَبين الأمر تماماً، أنتِ مخبولة.
شهرزاد: ما رأيك في حكاية تضحك؟
شهريار: يبدو أن وظيفة مهرجة القصر قد استهوتكِ؟
شهرزاد: هل أحكى؟
شهريار: طبعاً، قولي ما عندك.
شهرزاد: هل تذكر قانون تجريس السارق؟
شهريار: وكيف لي أن أنساه، وهو القانون الذي منع السرقة من مملكتي.
شهرزاد: منع السرقة؟ ومن أدراك؟
شهريار: ولهذا ألغيته.
شهرزاد: مبلغ علمي أن السرقة لا زالت تنعم في مملكتك بنعيمٍ أبدى.
شهريار: اسمعي، رأسي لا يتحمل حذلقتكِ تلك. إن كنت ستحكين ما يضحكني فهيا، وإلا فلتصمتي.
شهرزاد: هل تذكر من سنتين، لما انهمر المطر غزيراً حتى فاض النهر وغرقت كل البيوت على شاطئيه.
شهريار: أذكر، لكنى أشك بأن حكاية تبدأ بالفيضان ستكون طريفة.
شهرزاد: أطرف مما تتخيل، تلك مقدمة تلزمنا كي نتعرف على بطل القصة، شاكر.
شهريار: ومن هو؟
شهرزاد: رجل سلبه طوفانُ الماء الزوجة والأبناء.
شهريار: هذا قدره. أم إنه أيضاً خطأي؟
شهرزاد: من يتهمك؟ هذا قدره، وأغرب ما في الأقدار أنها تخبرنا دوماً أن الموت لا يأبه أبداً بالأعمار. لم ينجُ شاكر وحده من أسرته. بل نجت أيضاً أمه الكفيفة العجوز.
شهريار: سبحان الله.
شهرزاد: لم يدرِ شاكر ما يفعله، هل يحزن على موت بقية أسرته أم يفرح ببقائه حياً. كل ما كان يعرفه أن عليه أن ينسى مشاعره أياً ما كانت ليفعل شيئاً من أجل أمه العجوز العارية التي ترتعد من البلل في العراء.
شهريار: أرسلتُ لهم خياماً وأغطية وطعاما.
شهرزاد: لم يكفِ ما أرسلته ربعَ الأسر المنكوبة.
شهريار: أقسم أنى أرسلت لهم ما يزيد عن حاجتهم.
شهرزاد: أعرف، وتلك حكاية أخرى سأقصها عليك قبل أن أكمل حكاية شاكر.
شهريار: أتوه في حكاياتك ولم أبتسم.
شهرزاد: بل ستضحك، انتظر.
شهرزاد: لا تعوّلي على صبري كثيراً.
شهريار: ذات يوم دعتني زوجة حامل مفاتيح مخازن مملكتك لرحلة صيد. كان هناك كل أكابر مملكتك. أو تدرى أين بات خدمنا بالليل؟ في تلك الخيام التي أرسلها مولاي لضحايا الفيضان.
شهريار: أنت بارعة في تأليف القصص الخرافية.
شهرزاد: يمكن أن يتحقق مولاي مما أحكيه.
شهريار: ليس هذا ما أريده، أريد أن أضحك، ألا تفهمين؟
شهرزاد: صار حصول المرء على خيمة يعنى أحد أمرين، إما أن يُخرج إحدى الأسر من خيمتهم عنوة، أو يملك بعض المال ليرشو حراس مخازن منطقة النهر.
شهريار: وهل فعل شاكر شيئاً من هذا؟
شهرزاد: لا، لم يملك مالاً أو قوة، لذا حاول عبثا أن يستغفل حراس مخازن منطقة النهر ليسرق خيمة.
شهريار: (أقرب للهمس) كان عليهم أن يعطوها له.
شهرزاد: ضبطوه، ولأن قانون عقاب السارق هو التجريس، كان عليه أن يبدّل اسمه ليصبح اسم امرأة ويقلد رقص الغانيات في السوق أمام الناس.
شهريار: ولماذا لم يشكُ؟
شهرزاد: لمن؟ رجالك يحمى كل منهم ظهر الآخر. ولسوء الحظ في نفس الليلة ألقت شرطتك القبض على أحد الثوار. وفي الصباح وجد الحارس أن الثائر قد فر. ولأن نبأ القبض على الثائر أمرٌ أسعد قائد شرطة مملكتك فجاء بنفسه ليراه، كان على الحارس أن يكذب ويقول بأن السارق، شاكر هو هذا الثائر. ولضيق الوقت لم يقدر هذا الحارس أن يجد بديلاً للسارق فاضطر لأن يرقص في السوق بدلاً من شاكر.
شهريار: قال بأنه شاكر.
شهرزاد: بل شكرية، هذا ما يقضى به التجريس.
شهريار: وشاكر الحقيقي ماذا فعل؟
شهرزاد: لم يفهم شيئاً من أسئلة رئيس الشرطة، وكان بقلبه بعض شموخ يمنعه من أن يرقص كالنسوان. ولما وجد نفسه أخيراً فوق منصة الشنق دفعته الرغبة في الحياة إلى أن يتنازل عن كبريائه، وقرر أن يرقص ويقول إنه امرأة ظناً منه أن هذا هو ما ينقذه. ظل يتمايل رقصاً ويصيح "إني سارق، أنا امرأة"، ومات وهو لا يدرى لما شنقوه.
شهريار: كفي. إنك تحاولين بكل طريقة أن تضايقيني، لا أدرى لماذا أظل أستمع إلى حكاياتك تلك؟
شهرزاد: أنا أعرف لماذا تستمع لحكاياتي.
شهريار: (ساخراً) أو تعلمين عني أيضاً ما لا أعلمه عن نفسي!!
شهرزاد: مولاي يريد أن يعرف ما لا يعرفه، ما يجرى خلف أسوار القصر العالي للناس.
شهريار: أؤكد لكِ أنى لا أثق على الإطلاق فيما تحكين. وأؤكد لك أيضاً أن حكاياتك لن تجعلني أندم على أي قرار. في قصتك تلك مثلاً لو كان الثائر رجلاً حقاً ما هرب ليترك غيره يتلقى عقابه، (مبرراً) ربما شاكر معذور، لكن السرقة أمرٌ لا يمكن أن يمر دون عقاب، سأعاقب هذا الحارس وكذلك حراس مخازن منطقة النهر.
شهرزاد: أشكر مولاي لأنه قد صدق أخيراً حكايتي.
شهريار: (متراجعاً) أبداً، إنني فقط أتسلى بافتراض أنها حقيقة.
شهرزاد: وليكن، سأفترض أنا الأخرى أن مولاي سيقرر عقاب كل الكبراء الذين أخذوا خيام العرايا من أجل أن يخرجوا بها للصيد.
شهريار: تعلمين أنه لا يفلت أحدٌ من القانون. أظنكِ سمعتِ بما جرى لوزير الغلال.
شهرزاد: هذا هو الجزء المضحك في حكايتي، أفسدت علىَّ القص.
شهريار: وما هو المضحك في الأمر؟
شهرزاد: أن قانون السرقة لم ينفذ على هذا الوزير.
شهريار: بل حدث.
شهرزاد: كيف؟ لم أسمع أن وزيرك قد رقص أمام الناس وقال أنه امرأة.
شهريار: أمام الناس لا، ولكنه فعل على أية حال.
شهرزاد: أمام مولاي؟
شهريار: لا، في بيته.
شهرزاد: ومن رآه؟ زوجته؟
شهريار: ليس له زوجة؟ لقد عاقب نفسه وحيداً. وقف أمام المرآة وقال انه امرأة.
شهرزاد: (تضحك) حتى لو سلمنا بأنه قد فعل ذلك، رغم أنى أستطيع أن أقسم بأنه لم يفعل، فأين العقاب؟ الفضيحة لا تكون فضيحة إلا أمام الناس.
شهريار: ولكنه وزير.
شهرزاد: ولص.
شهريار: لقد أنقذ هذه المملكة من المجاعة أكثر من مرة.
شهرزاد: شعبك يعيش في مجاعة منذ سنين.
شهريار: أنت تخرفين.
شهرزاد: كيف تصدق رجلاً يسرق في شهر واحد معظمَ ما تنتجه أرضُ المملكة في سنتين؟ أخشى أن يسمع مولاي ماذا يقول الناس بهذا الأمر.
شهريار: (ساخراً ومسفهاً كلامها) لا يعنيني (مدفوعاً بفضوله) قولي.
شهرزاد: لا يعنى هذا إنى أصدقهم.
شهريار: أفهم، أفهم. ماذا يقولون.
شهرزاد: إنك مولاي شريكٌ في السرقة.
شهريار: جاوزتِ الحد، ولكن اخبريني، كيف أكون شريكاً في السرقة.
شهرزاد: من يجرؤ من وزرائك أن يسرق من دون أن تعلم أنت؟! هكذا يقول الناس.
شهريار: (يضحك) هذي مملكتي، هل يسرق شخصٌ شيئاً يملكه؟
شهرزاد: لم يبق إلا أن تعلم أن الحارس قد أخذ جزاءه.
شهريار: هل عاقبه رئيس الشرطة؟
شهرزاد: لا، بل قتله أحدُ الثوار.
شهريار: الذي فر؟
شهرزاد: لا، ثائر آخر.
شهريار: ما اسمه؟
شهرزاد: إنه شقيق "سلمى" بطلة حكايتي في الغد.
شهريار: (يبتسم) أتدرين ما هو أكثر شيء يدهشني؟
شهرزاد: ماذا؟
شهريار: ثقتك في أنك سترين الغد. ربما أخرج الآن وأرسل لك مسرور.
شهرزاد: لن أخسر شيئاً، ستموت حكاياتي في هذا القصر على أية حال، في صدري أو في آذان مولاي، ولن تبقى إلا حقيقة أنها ليست من نسج خيالي. يتناقلها شعبك سراً حتى يحين أوان البوح.
شهريار: (ساخراً) ومتى سيحين أوان البوح؟
شهرزاد: حين يقول المرء كلامه لا يتلفت خوفاً من أي عقاب.
شهريار: (منهياً الحديث) أترككِ الآن، ولنر إن كانت قصة ... قلتِ ما اسمها؟
شهرزاد: سلمى.
شهريار: نعم، سلمى، أرجو أن تكون قصة لطيفة.
شهرزاد: هذا إن قرر مولاي أن يبقيني للغد.
شهريار: (باغتته كلماتها) حقاً، ربما يرغب مسرور أن يسمع منكِ شيئاً قبل أن يذبحك. كانت قصصك تلك ستضحكه كثيراً لو سمعها.
شهرزاد: لقد سمعها.
شهريار: (منزعجاً) متى؟ هل يأتي إلى هذا المخدع؟
شهرزاد: لا، بل يسمعنا الآن؟ أو ربما يوكل أحداً من أعوانه.
شهريار: (يضحك) آه، تذكرت. (ساخراً) نسيت بأني شخصياً موضع مراقبة دائمة. ذكريني بأن أمنحه راتباً إضافياً لعمله كبصاص.
شهرزاد: لا أستطيع أن أعدك، ربما لا تراني بعد الآن.
شهريار: (هذه المرة لا يخجل من ثقتها في أنه لن يقتلها) أو تدرين؟
شهرزاد: ماذا؟
شهريار: كان العالم يصبح أفضل لو قابلتك منذ سنين.
شهرزاد: كان العالم يصبح أفضل لو كانت أسوار قصورك تسمح بمرور الناس.
شهريار: (ينادى منهياً الحديث) يا مسرور.
(إظلام تدريجى)
ليلة ثالثة
(شهريار جالساً يضحك بينما شهرزاد تمشى متعاظمة وتشيح بيديها تقلد ما يفترض أنه مشية شهريار)
شهريار: (يغالب الضحك) هذه ليست مشيتى.
شهرزاد: أعرف. حاول الغرابُ أن يقلدَ مِشية الطاووس يوماً فلم يستطع. حاول أن يعود إلى مشيته القديمة فلم يتذكرها. هكذا هو.
شهريار: هل حقاً يمشى مسرور على هذا النحو؟
شهرزاد: بل إنه أيضاً يتكلم مثلك. (تنادى مقلدة صوت شهريار) يا مسرور
شهريار: (تختفي ابتسامته) أفهم أنكِ من هذا البرج الشاهق بالكاد تستطيعين رؤيته عندما يمشى بحديقة القصر. لكنى أعلم أن الصوت – حتى وإن كان صراخاً– لا يمكن أن يصل إليكِ من أسفل. إلا إن كانت قدمك قد أخذتكِ إلى خارج هذا المخدع !!
شهرزاد: حتى إن كنتُ أريد أن أخرق أمرك لى وأغادر هذا المخدع، هل يخرق حراسُك أمراً أصدرته يا مولاي؟
شهريار: كُفي عن رد سؤالى بسؤال. ومن أدراكِ بأنى قد أصدرت لهم هذا الأمر؟
شهرزاد: مولاي امتدح ذكائى من قبل، وذلك شىءٌ لا يحتاج استنتاجُه أىَ ذكاء
شهريار: وإذن كيف سمعتِ صوته وهو يقلدنى في غيرِ وجودى؟
شهرزاد: دوماً يتعمد أن يرفع صوته بالخارج كى يرهبنى، ينهر حراسك ويسب جواريك.
شهريار: لم أسمعه أبداً يرفع صوته.
شهرزاد: لا يبدو ساعتها صوته بل صوتك أنت. يستقوى على من هم أضعف منه.
شهريار: لا خطأ في أن يخشاه الحراس والجوارى.
شهرزاد: بل يخشاه كثيرٌ من وزرائك أيضاً.
شهريار: (يبتسم) لا يعدل شطط خيالكِ إلا جمال تلك العينين.
شهرزاد: (تتجاهل إشارته) إن شئت الدقة كل الوزراء يخافونه إلا وزير الشرطة.
شهريار: (مستدركاً إندفاعه في امتداح جمالها) ولماذا يخشاه الوزراء؟
شهرزاد: هذا أمرٌ يتكرر في كل زمان. أو لم تسمع مولاي قصة "بوق السلطان"؟
شهريار: دعكِ من القصص الآن.
شهرزاد: ستجيبك تلك القصة عن سؤالك يا مولاي.
شهريار: إذن فلتسرعى.
شهرزاد: لما خلق الله الإنسان، كان العدل نباتاً يملأ وجه الأرض، ينهل منه الناس كيف يريدون. حتى حكم الأرض سلطانٌ حصد العدل وأخفاه. وبعد سنين، خرجت من بين صفوف الناس طيورٌ كشفت للناس أن العدل حبيسٌ في برجٍ عالٍ فوق القصر، يحرسه جنود السلطان.
شهريار: يخشى أن يسرقه الناس.
شهرزاد: من يسرق حقه ليس بسارق. بدأت أصوات الناس تعلو في طلب العدل.
شهريار: كان على السلطان أن يقتل كل الطير.
شهرزاد: كان زماناً لا يُقتل فيه الطير. ظل طويلاً يتدبر مع أعوانه كيف يخيف طيور العدل.
شهريار: فهمت، صنع السلطان البوق ليخيف الطير بصوته.
شهرزاد: لم يصنعه، بل خرج إليه من بين صفوف الناس.
شهريار: مثلما خرجت من قبل طيور العدل.
شهرزاد: صار البوق صديقاً للسلطان، يُغضب أبناءه ويطلّق زوجاته، يعزل أعوانه أو حتى يقتلهم، لكنه أبداً لا يستغنى عن هذا البوق. صار الناس جميعاً يخشون البوق مثلما يخشون السلطان.
شهريار: كفي.
شهرزاد: ألا تريد مولاي أن تعرف نهاية القصة؟
شهريار: لا، بل أريد أن أرى مسرور وهو يقلدنى.
شهرزاد: ذلك وجهٌ له، لن تأتيك الفرصة أبداً لتراه.
شهريار: بل سأراه (ينادى) مسرور.
مسرور: (يدخل مبالغاً في انحنائه للملك) أمرك مولاي.
شهريار: جاءنى تقريرٌ من بصاص موثوق به، يحمل خبراً عنك.
مسرور: عنى أنا؟ ماذا مولاي؟
شهريار: التقرير يقول بأنك تمشى مثلى وتحاكى نطقى.
مسرور: (ناظراً إلى شهرزاد) كذبٌ وهراء يستأهل صاحبه قطع الرقبة يا مولاي.
شهرزاد: أو تكره يا مسرور البصاصين؟ أعينَ مولاك التى تحميه من الأخطار؟
مسرور: أعنى مولاي إنه ربما التبس الأمر عليه.
شهريار: قلتُ لك إنه موثوق به. أرنى كيف تقلدنى؟
مسرور: حاشا لله، لا يجرؤ أحدٌ أن يفعل.
شهريار: أنا أعرف يا مسرور أنك لا تسخر منى أبداً، لكنك ربما من فرط الإعجاب تقلدنى.
مسرور: بل من فرط مهابتك لا يجرؤ خادمك أن يفعلها.
شهرزاد: لا لا، هذا يحدث رغماً عنك، لا تتعمده. الملك يريدك أن تتعمده الآن.
مسرور: لا أعرف مولاي.
شهريار: قلدنى.
مسرور: لا أقدر مولاي.
شهريار: يعنى هذا أنك ترفض أن تُنْفِذَ أمرى؟!
مسرور: لك ما تبغى يا مولاي، مُرْنى، ماذا أقول؟
شهريار: (لشهرزاد) فلنلعب (لمسرور) خاطبها وكأنك شهريار.
مسرور: مَنْ مولاي؟
شهريار: شهرزاد.
مسرور: أو تعنى حقاً يا مولاي أنك تبغى أن.....
شهرزاد: ليس الأمر عسيراً إلى هذا الحد. هيا فلتكن شهريار يخاطب عروسه شهرزاد.
مسرور: (يحنى رأسه قليلاً مخاطباً شهرزاد بصوتٍ خفيض) هناك أمرٌ أريد إبلاغك إياه يا مولاتى (شهرزاد تضحك)
شهريار: (مبتسماً في غيظ طفولى) يا أحمق. وهل ينحنى الملك شهريار أمام زوجته ويناديها مولاتى؟
مسرور: عذراً مولاي، كيف لعبدٍ مثلى أن يتحدث مع مولاته من غير اللقب الذى صارت تحمله.
شهرزاد: أراك تجيد استرجاع كلام الملك بدقة، لم يبق إلا قليلاً من جهد لتتقن دورك.
شهريار: أريد أن أرى نفسى وكأنى أنظر في المرآة.
مسرور: سأحاول مولاي.
شهرزاد: لا تنس أن ترفع صوتك.
مسرور: (ينظر إليها في حقد) شهرزاد
شهريار: (هامساً لشهرزاد) ردى عليه حتى تكتمل اللعبة.
مسرور: (يبدأ مقلدا شهريار في حركاته وصوته ثم يعود لطبيعته تدريجيا) لستِ إلا واحدة سبقتها إلى هذا القصر آلاف العذراوات. ترقد جثة كلٍ منهن الآن باحثة عن رأس هشمه السيف. وستمضين، وسيأتى من بعدك آلافُ الموتى. (شهريار يبتسم إذ تستهويه اللعبة)
شهرزاد: لكنى أشعر أنه لن تأتِ إلى هذا القصر عذارى من بعدى.
مسرور: (يغالب ارتباكه من تحديها لكلامه) ربما أنتِ بنت وزير، أميرة، لكنكِ أيضا لستِ سوى امرأة. والمرأة ليست الا بئرً من كذب وخيانة.
شهرزاد: (لشهريار) وكأنى أسمع مولاي يحادثنى.
شهريار: (شهريار يشير لها أن تخفض صوتها) ما أبرعه!! (يشير لمسرور الذى توقف أن يتابع اللعبة)
مسرور: (لشهرزاد) أعلم ان الأمل بقلبك يتعاظم حين تمر الليلة إثر الأخرى، لكنى أقسم إن نهاية أيامك باتت أقرب من أنفاس كراهيتي. تلك التى تلفح وجهك في هذى اللحظة.
شهرزاد: لا تنقصه فصاحة مولاي، لا ينقصه إلا أن يبعث في طلب السياف.
شهريار: كفي عن قطع اللعب بتعليقاتك. لكن الفكرة تعجبنى. (لمسرور) ما رأيك أن تدعو السياف كى يقتلها؟
مسرور: تقصد مولاي أن أقتلها الآن؟
شهريار: إنسى كونك مسرور، أنت الآن الملك مكانى (تأتيه فكرة تعجبه) وأكون أنا سيافك مسرور. تدعونى فأجيبك (يحنى رأسه مقلداً مسرور) أمرك مولاي (يضحك شهريار لقدرته على تقليد مسرور)
مسرور: تعنى مولاي أنك تبغى أن تقتلها بيديك؟
شهريار: لا، لا (يائساً من إفهامه) أكمل ما كنت تقول ولا تتوقف إلا إن خاطبتك.
مسرور: (لشهرزاد) لا يوجد ما يستثنيكى من سيفٍ تاق كثيراً لإطاحة رأسك.
شهرزاد: (مقاطعة) الآن فقدتَ نبرة صوت الملكِ يا مسرور
مسرور: (لايزال انفعاله يمنعه من تقليد صوت الملك) لا ينقصكِ المال أو السلطة، كان بإمكانك أن تجدى رجلا آخر. كان بإمكانك حتى أن تسعىْ كى يُرفع اسمُك من بين عذارى كشوف زواجي الملكى. لكنك ربما جئت واهمة طامعة في مَلِكٍ قد تخدعه أكاذيبُك.
شهرزاد: (ناظرة إلى شهريار ثم توجه كلامها لمسرور) أو لا يذكر مولاي أنه قد قال كلاماً يشبه هذا من قبل؟
مسرور: (مواصلاً رغم ارتباكه) هذا كلامٌ تسمعه كل من جاءت هذا القصر بلا استثناء. أوقن أنك ستموتين مثلما أوقن أنك لا تحملين بقلبك نحوى إلا البغض.
شهرزاد: مولاي اختلط الأمر عليْ، هل هذا مسرور يتحدث بلسانه أم بلسانك؟
شهريار: قال بأن قلبك لا يحمل نحوه إلا البغض، وإذن قولى أنتِ هل ينطبق القول عليْ؟
شهرزاد: ما رأيك أن يكمل مسرور تمثيل الدور؟
شهريار: أو لم تسمع أمر الملكة؟ أكمل مسرور.
مسرور: بات الأمر وشيكاً، حتى إن كنت تظنين بأنى قد أحببتك (يسقط الكأس من يد شهريار ليقع بالقرب من قدميه، ينتبه مسرور ويهم بالتحرك لرفع الكاس لكن شهريار يشير له بالمواصة تاركا الكأس على الارض) أنتِ كالتائه في الصحراء. والحب تماما مثل النار يوقدها التائه في الصحراء. لن تصمد. حين تهب رياح الملل الخانق تنطفئ النار ويموت التائه في الصحراء.
شهرزاد: كيف أتوه بليلٍ ترشدنى فيه إلى قلب المملكة صرخات سياطٍ تتلوى في أيدى رجالك إذ تهبط فوق عظامٍ هي - رغم الألم- أقوى من أعمدة هذا القصر.
مسرور: (مرتبكاً لا يدرى كيف يرد) ستموتين.
شهرزاد: (تحاول السيطرة على انفعالها السابق) أو لا أعجبك مولاي (لايرد فتتحرك نحوه متمهلة في دلال أنثوى) مولاي؟
مسرور: (حائرا لا يدرى ماذا يفعل) لا
شهرزاد: ولماذا ترتعد الآن؟ هل تخشى أن تلمس جسدى؟
شهريار: كفي (لشهرزاد) لن أغفر لكِ أبدا هذا الفعل.
شهرزاد: إهدأ مولاي. كانت لعبة. أنت أمرت.
شهريار: (لمسرور) ناولنى هذا الكأس (مسرور يندفع رفعاً الكأس من الأرض ويعطيه لشهريار ثم يتراجع بظهره عدة خطوات) مسرور
مسرور: أمرك مولاي
شهريار: إحذر أن يسقط كأس الملك على الأرض (شهريار يلقى بالكأس عاليا أقرب إلى حافة المنصة فيندفع مسرور لالتقاطه ويعيده للملك من جديد)
شهرزاد: (تتابع ما يحدث في ترقب ثم تنادى) مسرور.
مسرور: مولاتى
شهريار: ماذا لو ألقى الملكُ الكأس مئات المرات؟
مسرور: سأطير وآتيه به مولاتى (شهريار يضحك)
شهرزاد: (تواصل قاطعة ضحكة الملك) تطير!! هل حقا يمكنك الطيران؟ أعنى إن ألقى الملك الكأس إلى الخارج (تشير الى عمق المسرح) هل تلحق به؟
مسرور: أفعل مولاتى
شهرزاد: كذاب
شهريار: (يشعر بالعطف على مسرور أمام قسوة شهرزاد) إهدأ مسرور، لن أفعلها (ثم بتمهل) لن أفعلها. (في ضيق) أو تدرى؟
مسرور: ماذا مولاي؟
شهريار: الآن صار بقلبى غصة. ألا يجب عليك حقا أن تلحق بالكأس إن ألقيته بالخارج فتموت؟
مسرور: بلى مولاي. أفديك بعمرى
شهرزاد: ولكن موتك على هذا النحو لن يفدى مولاك.
شهريار: سيكون مجرد موت مجانى
شهرزاد: هكذا تموت العذارى بهذا القصر.
شهريار: (متجاهلا ومواصلا لمسرور) ستفقد عمرك من أجل اللاشئ، عبثا ستموت.
شهرزاد: لن يفعلها.
شهريار: سأجنب نفسى وأجنبه هذا الامتحان المستحيل، فكلا الأمرين لن يرضينى ولن يرضيه (لمسرور) إن لم تقفز ذهبت ثقتى فيك الكاملة بغير رجوع، ولصرت أشك فيك دوماً حين تقول: أمرك مولاي. وإن قفزت تثبت أنك أخلص خلصائى وتموت. تترك لى ميراث الذنب، وسأقضى بقية عمرى أنعيك (فجاة) أخرج مسرور.
مسرور: أمرك مولاي (ينحنى خارجا بسرعة)
شهرزاد: (تضحك) كاد يموت من الرعب
شهريار: حتى اللعب لا يملأ قلبي إلا بالضيق. هل يرضيك هذا؟
شهرزاد: مولاي اقترح اللعبة وعليه وحده أن يتحمل تبعات الهزل.
شهريار: لكنكِ أنتِ من بدأ الامر، وأنتِ من أنهاه بكل براعة.
شهرزاد: عذراً مولاي، وكأنك تلقى تبعات الأشياء على غيرك، تبحث عمن يحمل عنك مصائر فعلك
شهريار: جاهزة دوماً بالرد !! من أين أتيتِ؟!
شهرزاد: من رحم المملكة الحبلى بالآلام، الحالمة بصوت الضحك العالى يتجاوز يوماً ما أسوار القصر حتى يبلغ هذا البرج
شهريار: دعينى أتملى وجهك. (وكأنه يهددها) في الغالب لن أركِ بعد الآن يا قتيلة لسانها الجرئ.
شهرزاد: لا تشغل بالك مولاي، لن تنسى وجهى أبداً ما دمت تعيش.
(يخرج شهريار غاضبا بينما تنسحب الاضاءة إلا من بقعة على وجه شهرزاد تختفي فجاة ليحل الاظلام)
ليلة رابعة
(شهريار جالساً يضحك بينما شهرزاد واقفة تبتسم)
شهرزاد: والآن هل أحكى؟
شهريار: ولم العجلة؟
شهرزاد: يرجىء مولاي سماع قصة سلمى منذ ليالٍ، وأخشى أن أموت قبل أن تسمع كل حكاياتى.
شهريار: لا تخافي (يستدرك) أعنى فلتحكى.
شهرزاد: كانت سلمى أجمل من أن ترسمها كلمات. كانت حلم الصبية والفتيات.
شهريار: الصبية نفهمها، لكن ما بال الفتيات؟
شهرزاد: كن حين تمر تنطق أعينهن، (تقلد الفتيات واحدة تلو الأخرى) آه لو كانت شفتاى مثلك يا سلمى، لو كنتُ أنام وأصحو فأرى في مرآتى تلك العينين، لو شَعرى يطول، لو يزهر صدرى، ما أجمل ساقيها.
شهريار: (يبتسم) فهمت، فهمت. وما قصتها؟
شهرزاد: ماتت.
شهريار: ياللتشويق، لم تبدأ قصتها بعد ثم تموت!!
شهرزاد: بل قُتلت.
شهريار: دعينى أخمن، واحدٌ من الفتيان الهائمين بها قتلها يأساً.
شهرزاد: لا. ليس هذا.
شهريار: إذن، واحدة من الفتيات بحقد الغيرة.
شهرزاد: ولا هذا ايضاً.
شهريار: (مسروراً بلعبة التخمين) دعينى أفكر.
شهرزاد: أنظر ليديك.
شهريار: ماذا؟
شهرزاد: إن كنت تريد معرفة القاتل.
شهريار: تعنين بأنى؟
شهرزاد: أصدرتَ الأمر الملكى لتُقتل سلمى.
شهريار: إنتظرى، لم يمض على حرف السين إلا ما يقرب من شهرين، (يتذكر) سلمى، سلمى، كانت هناك واحدة، ولكنها ليست جميلة على الإطلاق.
شهرزاد: لا ترهق نفسك بالتفكير، لم تُقتل سلمى في هذا القصر. بل في ساحة الإعدام بقلب السوق.
شهريار: لا تُشنق في السوق إلا الزانيات.
شهرزاد: والله لم تفعلها.
شهريار: ومن أدراكِ؟
شهرزاد: سلمى تعمل في قصرى، أقصد كانت.
شهريار: (يبتسم ساخراً) حجة مقنعة. المرأة لو كانت في سجنٍ في قاع البحر وأرادت أن تفجر فوق الأرض ثم تعود، أمكنها أن تفعل ذلك في اليوم عشرات المرات، بل إني أعرف واحدة كانت تتبادل بالعين القبلات.
شهرزاد: رفضت سلمى أن تدع أحد رجال الشرطة يمسك يدها. طاردها صدته، حاول أن يكشف ستر الجسد الفائر، صفعته.
شهريار: وكيف دخل إلى قصرك؟
شهرزاد: ليس بقصرى، بل في السوق.
شهريار: أو يجرؤ ان يفعل هذا أمام الناس؟
شهرزاد: رجل الشرطة في مملكتك يا مولاي، ملكٌ بين الناس.
شهريار: وماذا فعل الناس بعدما صفعته؟
شهرزاد: إنفضوا بالطبع، من يجروء أن ينتظر ليتورط في شهادة أمام قاضيك، صهر رئيس الشرطة.
شهريار: قتلها إذن لأنها صفعته.
شهرزاد: لا بل فر. واحتفل الناس جميعاً في السوق بالبطلة سلمى. وصار الخبر نشيداً في كل مكان: سلمى صفعت شرطياً ... سلمى صفعت شرطياً.
شهريار: أراكِ تغنيها بفرحة وكأنه شرطى من جيش الأعداء (يستدرك) لقد أخطأ على أية حال.
شهرزاد: في اليوم التالى أخذوها، في الثالث كان أخوها يقبِّل أيدى رجالك كى يعطوا رأسه بدلاً منها للجلاد. شُنقت سلمى والتهمة هى الفحشاء.
شهريار: هل حدثت تلك القصة فعلاً؟
شهرزاد: لم يمض عليها إلا شهور، ظل أخوها يقسم أن مقابل مقتل سلمى سيقطع رأسك.
شهريار: (يدارى تأثره بلهجة استهانة) ثم؟
شهرزاد: أدرك أن الوصول إليك هو المستحيل، بدأ يكلم سلمى وكأنه يراها، يبكى، يسألها أن تغفر له؟
شهريار: تغفر ماذا؟
شهرزاد: تغفر ضعفه عن أن يحميها من بطش رجالك. وهو الآن يهيم شبحاً في مملكتك تختلط بفمه الكلمات.
شهريار: لو كانت تلك حقيقة، فأنا لست بقاتلها كما تدّعين، ولست مطالبَاً بالتبرير لأنى لست الملوم، لا يمكن أن أتحرى قصة كل قضية.
شهرزاد: ألا يدهش مولاي أن الأخ ضحية فعل رجالك قد أفقده شعورُه بالذنب صوابه، بينما أنت لا تتوقف لحظة كى تسأل نفسك عن ذنبك (لحظة) يا مولاي.
شهريار: أصدرت أمرى ظناً منى أنها قد مارست الدعارة. لم أقصد إلا منع الفحشاء.
شهرزاد: أسواق دعارة مملكتك صارت مثلاً بين البلدان.
شهريار: (فاض به الكيل فيمسك بها غاضباً ثم يتراجع) كاذبة ملعونة، حتى لو سلمنا بصحة أوهامك تلك، من يملك أن يمنع المرأة من ممارسة حرفتها الأثيرة؟ هل هذا خطأى أيضاً؟
شهرزاد: البعض منهن يذهبن للدعارة فراراً من موتٍ حتمى في ليلة عرسك، والبعض الآخر بحثاً عن قوت اليوم. حتى من ترغب في زوجٍ لن تجده، لا يجرؤ جسد البكر الجائع أن يحلم بزواجٍ في مملكة الفقر.
شهريار: الفقر؟! وأنتِ؟ تصطنعين العفة بينما أقسم إنك قد أسلمتِ الجسد لكلبٍ يعمل فى قصرك.
شهرزاد: وإذن فلتعرف أن العامة أيضاً يجدونك قواداً لأن طقوس زواجك أحقر من أحقر أى دعارة.
شهريار: (يصفعها مرتين فتقع على الأرض باكية، ويبدو عليه الألم) ستموتين، لم يترك لى قبحُ حديثك بداً من قتلك. وإليكِ ما قد ينسيكِ ألم الموت من فرط الدهشة، (يشرب الخمر وتمر لحظات قبل أن يتكلم) ما رأى العامة إن عرفوا أن نساء الملك يمتن عذارى؟
شهرزاد: (تنظر له دون أن ترد)
شهريار: (بهدوء في البداية ثم ينفعل تدريجياً) من يوم خانتنى كرهت الجنس، صرتن جميعاً كالألغاز، لا يعنينى أياً مما تحوى الأجساد العفنة، بل يعنينى ما في العقل. لغز، وما إن يتعرى اللغز حتى يأتى واجب فصل الرأس عن جسد العهر. أرأيتى؟ طلبك يتحقق، لن ألمس جسدك يا عذراء، إنى أتقيأ من دنسك.
شهرزاد: أقتلنى الآن.
شهريار: (في ضعفٍ مفاجىء) أَوَ تدرين ماذا فعلت هذى المرأة بى؟ (يبدأ تدريجياً في الوصول إلى حالة هستيرية) لقد بكيتُ كما النساء، وغرقت في الخمر كى أنسى خيانتها، لكن صورة عهرها ظلت أمامى. لم أحفل حين أصرت على انتقال ذاك العبد من قصر أبيها إلى قصرى، لم أجهد نفسى في معرفة السر غير أنى مالبثت أن عرفت (يبكى)
شهرزاد: (في تعاطف حقيقى) إهدأ.
شهريار: (يتجه ناحية الباب المغلق) العبد الأسود يربض فوق الملعونة في مخدعنا وهى تفح بفحش القول. (يتنازعه الإنفعال والتعب الشديد) لم أهدأ أبداً حتى حين غاب النصل بقلب الفاجرة المذعورة (فجأة) كاد العبد الفاجر أن يقتلنى. لولا مسرور (يستلقى على السرير متعباً)
شهرزاد: هل يسمح لى مولاي بكلمة؟
شهريار: (يبتسم ساخراً) ستدافع واحدةٌ من ربات العهر عن الأخرى.
شهرزاد: سامحك الله.
شهريار: قولى ما تبغين.
شهرزاد: (متأثرة من كلمته ولكنها تشفق عليه) لعلك أخطأت الإختيار.
شهريار: لم أحب سواها.
شهرزاد: وهى، هل أحبتك؟
شهريار: لا ينتظر ملكٌ مثلى كلمة رفض.
شهرزاد: هل قالت إنها تهواك؟
شهريار: لم أجبرها على الزواج منى. أبلغنى أبوها أنها تقبلنى.
شهرزاد: ربما أجبرها.
شهريار: أنا لا يعنينى ماذا فعل أبوها معها، صارت تملك شرفي فأباحته
شهرزاد: هى خاطئةٌ لاشك، لكن ما ذنب الأخريات؟
شهريار: (بلهجة إنتصار) تخشين الموت؟
شهرزاد: أما عن نفسى فلا.
شهريار: أتظنين بأنى قد صدّقت؟
شهرزاد: هذا شأنك.
شهريار: لو خيرتك عندما يوشك حد السيف أن يقطع رأسك بين الموت وبين إطالة عمرك من أجل ممارسة الحب، لحظتها سوف يغيب حبيبك هذا عن بالك، وعندما تسقطين ستطالبين بالمزيد درءً للموت.
شهرزاد: والله لا يعنينى الموت.
شهريار: أوْ طلباً للشهوة.
شهرزاد: لن يعرف جسدى طعم الشهوة إلاّ بين يديه.
شهريار: (ساخراً) أى يد؟ تلك التى كان يخاف بها لمس يديكِ؟
شهرزاد: مولاي لا يلمس النساء.
شهريار: لا عجزاً، بل كرهاً يا حمقاء.
شهرزاد: وهو أيضاً لا يعجز، بل يمنعه القهر.
شهريار: لم أسمح لعروس قبلك أن تتجرأ مثلك.
شهرزاد: لم يدفعنى لذلك إلاّ الصدق.
شهريار: أعتقد أنى سأحزن بعدما تموتين (يستدرك) قليلاً.
شهرزاد: آمل أن أصبح آخر من تلقى الموت على يد مسرور.
شهريار: كم يشتاق لقتلك.
شهرزاد: ولماذا؟ هل خانته امرأته أيضاً؟
شهريار: هو يفعل هذا من أجلى. لقد ربيته.
شهرزاد: على كراهية المرأة؟
شهريار: (يهز رأسه نفياً) إنه يقضى معظم أوقاته بين الجوارى، علّمته فقط ألاّ يسقط في الحب.
شهرزاد: مسكين.
شهريار: من؟
شهرزاد: مسرور، لن يعرف قلبه لذة أن يخفق بالحب.
شهريار: (يصب خمراً) خيرٌ من أن يتحطم.
شهرزاد: مولاي كفاك من الخمر (تمسك يده برفق وينظر في عينيها فتترك يده بسرعة)
شهريار: (متأثراً بخوفها عليه) لا تشغلى بالك (يشرب الكأس بسرعة) فلنفرض أنى أطلقتك، ما أول شىء تفعلينه؟
شهرزاد: أشكرك كثيراً.
شهريار: لا تنسِ، هذا مجرد فرض لا أكثر.
شهرزاد: أعرف، أعرف.
شهريار: وبعد الشكر؟
شهرزاد: أعود لقصرى أنتظر رجوعه.
شهريار: (بإستياء) يالرجوعه، كم مر على يوم فراقه؟
شهرزاد: ما يقرب من شهرين.
شهريار: هل أوحشكِ غيابه؟
شهرزاد: كم أفتقد حديثه.
شهريار: فيم كان يحادثك؟
شهرزاد: في كل الأشياء، يتهدج صوته في كلمات الحب، ويعلو حين يحدثنى عن جوع العامة والفقر.
شهريار: (بإستنكار) كفي عن قولكِ أن العامة جوعى؟
شهرزاد: أوَ لا يعرف مولاي أن الفقر رفيق الشعب؟
شهريار: فقدان الهمة هو سبب الفقر
شهرزاد: بل فقدان الحلم ؛ لا يسعى المرء إلى رزقه والدم يطمس وجه الغد
شهريار: أى دم؟
شهرزاد: لا يخلو بيتٌ من ذكرى قتلاك
شهريار: وكأنى سبب الفقر؟! لا يخلو بيتٌ من طامعةٍ في المُلك، حتى أقبح فتيات المملكة تجئن، جاءتنى مرة واحدة مجنونة، قال الحراس بأن أخاها أصر على إدراج اسم اخته بين عذارى كشوف زواجى وأخذ المهر.
شهرزاد: هل كانت فعلاً مجنونة؟
شهريار: في الغالب.
شهرزاد: ماذا فعلتَ معها؟
شهريار: أبقيتها ليلة، ثم استولى الشك علىْ، شعرت بأن الأمر مجرد خدعة.
شهرزاد: قتلتها؟
شهريار: أخوها المذنب لست أنا.
شهرزاد: هى حتى لَم تفهم لِم ماتت؟
شهريار: عاقبت أخاها والحراس.
شهرزاد: لَشد ما أمقتك الآن.
شهريار: (ليس جاداً كما ينبغى) لولا أنى صرفت السياف لقتلتك في تلك اللحظة.
شهرزاد: لِم أبقيت علىّ لتلك اللحظة؟
شهريار: (لا يصدق نفسه) لا أبغى إلاّ تمضية الوقت فالليل طويل (غاضباً فجاة) لا تنظرى إلىّ هكذا.
شهرزاد: أريد النوم.
شهريار: (يشير ناحية الحجرة المغلقة) نامى في تلك الحجرة.
شهرزاد: ولِم التغيير؟
شهريار: (في ضيق) لو تسمح مولاتى، لن أخرج هذى الليلة، سأظل هنا، إلاّ إن كنتِ تريدين النوم جوارى.
شهرزاد: إسمح لى (تتجه ناحية باب الحجرة)
شهريار: (يناديها برفق) شهرزاد (تلتفت إليه) لو كنتُ واثقاً أنها كذلك، ما قتلتها.
شهرزاد: مَن؟
شهريار: تلك المجنونة.
شهرزاد: ليست وحدها مَن تموت بلا ذنب.
شهريار: تصبحين على خير (يتجه ناحية الخمر بينما تفتح شهرزاد باب الحجرة مع الإظلام التدريجى)
ليلة خامسة
(شهريار يصب كأساً في فمه وأمامه يقف مسرور)
مسرور: خذها بالقوة يا مولاي.
شهريار: يا أبله، حضن إمرأة لا ترغبك هو محضُ سراب.
مسرور: والآن؟
شهريار: نتركها.
مسرور: ماذا؟
شهريار: ألم تسمعنى؟
مسرور: سمعت لكنى لا أفهم.
شهريار: يبدو أنى أفرطت بتدليلك.
مسرور: عذراً مولاي، إنى أخشى...
شهريار: (يقاطعه) لا تخش شيئاً، فلنتركها، ماذا يضر؟
مسرور: وإذن تلك نهاية أيامى في القصر؟
شهريار: لِم يا مسرور؟
مسرور: لن تبقَ لسيافك فائدةٌ بعد الآن.
شهريار: لست مجرد سيافي، بل إنى لم أتمنى إبناً أفضل منك، ثم من يدرينا؟ علىَّ أقرر أن أقتلها في الغد.
مسرور: (مندفعاً ثم متراجعاً) لا يأتى أبداً هذا الغد، عذراً مولاي، إعتاد لسان الخادم أن يَصدق مولاه.
شهريار: قل ما تبغى يا مسرور.
مسرور: أحببتَ شهرزاد يا مولاي.
شهريار: (مرتبكاً) هل ترى ذلك حقاً؟
مسرور: هذا ما تنطق به عيناك.
شهريار: (هامساً) ولماذا لا تفهم شهرزاد؟
مسرور: لم يحدث أن سمح مولاي أن تدخل أىُ امرأةٍ هذى الحجرة إلا ريحانة.
شهريار: (ينظر ناحية باب الحجرة المغلق بينما يشعر مسرور أنه قد أخطأ) لا تذكر اسم الملعونة.
مسرور: إغفر لى مولاي.
شهريار: هل يعقل أن يعرف قلبى حباً آخر؟ (ينظر لمسرور الذى لا يرد) إنى أسألك؟
مسرور: هذا ما أخشاه.
شهريار: لا لا، ليس حباً، أنا أعرف أعراض الحب. إنما هو فقط مجرد إشتهاء.
مسرور: أمرنى مولاي بقتل عذارى أشهى من أحلام الشعراء.
شهريار: لكنى أبغى شهرزاد، أتحاسبنى؟
مسرور: عفواً مولاي. كم يسعدنى أن تتخلص من كرهك للجنس، أما الحب فهذا ما أخشى منه عليك. لم أسمع مولاي يقبل من أحدٍ أن يخاطبه على هذا النحو، لقد سبّتك.
شهريار: ومن أدراك؟ هل تتسمع خلف الأبواب؟
مسرور: لا يدفعنى إلا خوفي من أن ...
شهريار: إذن صدقتْ شهرزاد، الملك الأبله لا ينجو من عين البصاصين.
مسرور: لست بصاصاً يا مولاي، أنا أفعل هذا من أجلك ...
شهريار: لا أدرى من يصدقنى القول! أقسم وزرائى تواً أن الشعب جميعه يقف جوارى ضد الثوار وهى تصر بأن الشعب جميعه يكرهنى.
مسرور: من يدريها؟ بضع ألوفٍ ليسوا كل الشعب؟
شهريار: فلنحرق قريتهم، نمطرها بسهام النار.
مسرور: لا تشغل بالك مولاي، يمتلىء السجن الآن بمعظمهم، يتناثر عشراتٌ منهم في بعض الأمكنة بعيداً، لكن....
شهريار: ماذا؟
مسرور: أخشى من غضبك.
شهريار: سترى غضبى حقاً إن لم تصدقنى القول.
مسرور: (برجاء) مولاي، فلتنهى أمراً أجلته أياماً. لم تجلب لنا هذى المرأة إلا الشؤم. أقسم أنها قد جاءت لقتلك.
شهريار: بل قتلتنى.
مسرور: مولاي طال الأمر كثيراً، أرجوك إحسمه الآن.
شهريار: (يفكر لحظات) معك الحق، إبقَ قريباً، بجوار الباب. سأناديك (يخرج مسرور مستبشراً ويبقى شهريار يفكر لحظات قبل أن يحسم أمره ويقوم ليفتح باب الحجرة منادياً) شهرزاد (يعود ليصب كأساً ويهم بالتحرك مرة ثانية ليناديها)
شهرزاد: (تدخل) هل حان الوقت؟
شهريار: أى وقت؟
شهرزاد: قتلي.
شهريار: ليس اليوم.
شهرزاد: ومتى إذن؟
شهريار: ملّت مولاتى صحبتنا؟
شهرزاد: لم أقصد هذا إلاّ أن فضولاً ألح بالسؤال.
شهريار: شهرزاد، ما رأيك في؟
شهرزاد: لا أفهم ماذا يعنى مولاي؟
شهريار: لست وحشاً كما يظن العامة.
شهرزاد: والقتل أليس خطيئة
شهريار: القتل جزاءً للعهر.
شهرزاد: أوَ تقتل كل نساء الدنيا من أجل إمرأةٍ خانتك؟
شهريار: سأكف الآن، لم تعد بى حاجة لقتل النساء.
شهرزاد: بطشك لم يستثن أحدً من مملكتك.
شهريار: (مواصلا وكأنه لم يسمعها) أحببتك يا شهرزاد.
شهرزاد: (مندهشة) سخريةٌ منى أم تلك آثار الخمر؟
شهريار: تلك حقيقة، ما رأيك؟
شهرزاد: مولاي جئتك كى أموت لا كى أحب.
شهريار: ستصيرين الملكة.
شهرزاد: مملكتى زالت منذ فراقه.
شهريار: (يحاول الإمساك بيدها) وفاؤك أجمل ما فيكى.
شهرزاد: (تفلت يدها) أرجوك أتركنى.
شهريار: هل ينفر قلبك منى؟
شهرزاد: تطلب منى ما يسلبنى وفائى، أجمل ما في.
شهريار: أوشك أن أبرأ، ردينى إنساناً، أرجوكِ. تخنق روحى أشباحٌ القتلى في القصر.
شهرزاد: كل قصورك على رحابتها لن تتسع لأشباح من أرسلتهم للموت. أرجو مولاي ألا يحتد.
شهريار: (مبتسماً) لا لا، صرت أفهم ألاعيبك، ولن تجريني إلى حديثكِ هذا. لن نتكلم إلا عن الحب حتى يخضع قلبُكِ لى.
شهرزاد: يملك مولاي من السلطةِ ما يجعلُ حتى أعدى أعدائِه يخضعُ له، أما عن قلبى فلا.
شهريار: وجسدك؟
شهرزاد: جسدُ الحرةِ والقلبُ لا ينفصلان.
شهريار: أعرف هذا مثلما أعرف أن المرأة تهوى أن تتمنع ليزيد الرجلُ في إظهار العشق.
شهرزاد: معك الحق، هذا إن كانت هى الأخرى تهواه
شهريار: لا اذكر أني يوما كان عليّ أن أطلب شيئا أكثر من مرة، بل إني فى الغالب لا أحتاج لأي كلام، تكفيني إشارة بيدي لأجد الشيء أمامي. لكن مادمتِ تريدين دلالاً سأواصل طلبى وأظل ألح حتى يتعاظم في قلبك حبى.
شهرزاد: لا يزداد بقلبى نحوك إلا الكره. والحزن على مملكةٍ كانت يوماً درة تاجِ الدنيا وصارت لاشيء.
شهريار: (يمسكها من كتفيها بقوة) لا تجرينى لقتلك (يضعف فجأة) عمرى سجنته من دهور، إطلقيه واطلقينى.
شهرزاد: فلتفلتنى، ولتبحث عن أخرى تهواك.
شهريار: بل أنتِ.
شهرزاد: صرنا نعود حيث بدأنا.
شهريار: إنى أمنحكِ الفرصة. لا زال أمامكِ حتى الفجر متسعٌ من وقت. (ينادى في عصبية) يا سياف.
مسرور: (يدخل متحمساً) أمر مولاي المطاع.
شهريار: أحببتها يا مسرور.
مسرور: ماذا؟ (يهم بالخروج يائساً)
شهريار: ولكن لا تذهب (مسرور يمسك بنصل سيفه متردداً) إصبر يا أحمق، علّك لا تشهر سيفك أبداً بعد الآن. لا تبرح هذا المخدع وإياك أن تؤذى مشاعرها. إحكى لها ما شاءت من حكاياتى القديمة ربما تنسى حكايتها الوحيدة، ربما تشفق علىْ. وأنا سأكلم صمت الليل علّه يهدينى للحل (شهريار يهم بالخروج).
مسرور: أرجو مولاي ألا يتجول خارج مبنى القصر.
شهريار: ولم؟
شهرزاد: (متسائلة في دهشة أقرب للفرحة) وصل الثوار!! لا تخرج مولاي لهم، إبعث من يبلغهم أنك سوف تخاطبهم.
شهريار: (يدفعها بعيداً بقسوة توقعها أرضاً مخاطباً مسرور) هل حقاً وصل السفلة إلى حديقة قصرى؟
مسرور: لم يحدث، أقسم بالله. أسوار القصر منيعة وخلف الأسوار تلالٌ من حراس القصر.
شهريار: هل جاء مزيدٌ من جند مغول الغرب؟
مسرور: بضع ألوفٍ جاءوا ليحلوا محل البعض. تبديل جنودٍ لا أكثر.
شهريار: وإذن لِم تطلب منى أن أبقى داخل مبنى القصر؟
مسرور: ليس لشىء، فقط ليظل الملك قريباً حتى ينهى أمراً أخبرنى منذ قليلٍ أنه عقد العزم عليه.
شهريار: لن أقتلها، (يتجه شهريار إلى شهرزاد التى لازالت على الأرض، يمد لها يداً تتجاهلها مشيحة بوجهها عنه) الأمر عجيب، إن خنتيه يوشك أملى فيكِ أن يولد ويظل وفاؤكِ للذكرى ذنباَ يربطنى بقيود الشك.
شهرزاد: اقتلنى الآن وأرحنى.
شهريار: لا تنظرى تجاهى فحبيبكِ يرقبنى من خلف عيونك.
شهرزاد: سيحين وقتٌ لا يراك ولا أراه، حينئذٍ إفعل ما يحلو لك دون مقاومةٍ منى.
شهريار: (فرحا) ومتى سيحين هذا الوقت؟
شهرزاد: بعدما تقتلنى، إن شئت. بقى شىء أريدك أن تعرفه عن شقيق سلمى الذى فقد عقله بسببك؟
شهريار: لا يعنينى أمره أياً ما كان.
شهرزاد: إنه حبيبى.
مسرور: حذرتُك مولاي، جاءت لتقتلك.
شهريار: أنتِ الإنتقام، نعم، أسدد فيكِ كل ديونى للقتلى، أقسم أنى قد قتلتك من قبل. عشرات المرات. (يناديها برفق) ريحانة.
شهرزاد: (تبكى) لست ريحانة.
شهرزاد: أعرف أعرف، بالأمس حلمت بأبيكِ يسألنى ألاَّ أقتلك. (فجأة) كيف أكفر عن ذنوبى؟ لو كنتِ مكانى، ماذا كنتِ تفعلين؟
شهرزاد: لو لم أكسب من كل الدنيا إلا أنى لست مكانك لكفانى أن أشكر ربى ليل نهار.
شهريار: هل تبلغ كراهيتك لي هذا الحد؟
شهرزاد: لولا ضعفك لقتلتك بيدى.
شهريار: لست ضعيفاً، لم يبق أمامك إلاّ ما بقى من الليل وعند الفجر سيكون قرارى (ينادى في ضعف يحاول أن يتغلب عليه بصوته العالى) يا مسرور.
مسرور: مولاي
شهريار: لا تقتلها، حتى لو كان هذا آخر أمرٍ تسمعه منى أذناك، لا تقتلها أفهمت؟ (مسرور لا يرد) أفهمت؟
مسرور: أمرك مولاي
(يخرج شهريار بينما شهرزاد ومسرور ينظران خلفه في قلق ثم يتبادلان نظراتٍ تحمل مزيجاً من الحيرة والكراهية مع الإظلام التدريجى).
ليلة سادسة
شهرزاد: إجلس مسرور.
مسرور: طوال ليالٍ عشر كانت مولاتي تتركني أقف على قدمي حتى أوشك أن أتهاوى.
شهرزاد: الليلة مختلفة، أتنسم قرب نفاذ الأمر. فلتجلس.
مسرور: عفواً مولاتى، الخادم لا يجلس في حضرة سيدته.
شهرزاد: حتى لو كان سيقتلها بعد سويعات؟ مسرور
مسرور: أمرك سيدتى.
شهرزاد: ما رأيك في قتلى.
مسرور: بصراحة، أتمناه، لولا أن الملك يريدك.
شهرزاد: ما رأيك في قتلى الآن؟
مسرور: كرهاً للدنيا أم حباً في الموت؟
شهرزاد: الأمر سيانٌ لدىْ، لا نتحمل هم الدنيا إلاّ من أجل الحب.
مسرور: علمنى مولاي أن الحب مكيدة.
شهرزاد: (تبتسم ساخرة) ماذا علمك أيضاً؟
مسرور: (يرد إهانتها له) أن المرأة ليست إلاّ جسداً للوطء.
شهرزاد: كيف وهو لا يقرب النساء منذ تلك الحادثة؟
مسرور: من أخبركِ؟ (يستدرك بسرعة) ليس صحيحاً.
شهرزاد: تعلم أنه هو نفسه قد أبلغنى. ماذا، هل تخشى فضح السر؟
مسرور: ما الذى أخشاه على سرٍ تعرفه ذاهبةٌ للموت؟ (وكأنه يحادث نفسه) إنما يدهشنى إفصاحه.
شهرزاد: لستَ مجرد خادمه، أنبأنى أنه رباك.
مسرور: هو ملكى وصديقى.
شهرزاد: أنقذتَ حياته يوم قتلت العبد الخائن.
مسرور: كلمكِ كثيراً عنى فيما يبدو.
شهرزاد: فيما يبدو؟! وكأنك لم تسمعه! مسكينٌ ملكك، خانته إمرأته فكره الدنيا.
مسرور: لم يكٌ في الدنيا من هو أسعد منه. قد عاش زمناً بين أفخاذ النساء قبل أن يختار تلك المرأة للزواج، أرداه الحب.
شهرزاد: ماذا فعل ليلة قتلِها؟
مسرور: أرى أن مولاتى الليلة على غير عادتها لا تركن للصمت.
شهرزاد: ألم يأمرك بأن تحكى لى؟ ماذا فعل ليلة قتلِها؟
مسرور: (يستعيد شيئاً لا يحب تذكره) ظل طوال الليل يردد: اليوم ماتت كل النساء.
شهرزاد: ولماذا يتزوج؟
مسرور: إقترح البعض عليه أن يتزوج عذراءً يقتلها في ليلة عرسه حتى يبرأ من أحزانه.
شهرزاد: يشفي حزنه بالقتل!!
مسرور: (يتجاهل ما قالته) واحدةٌ جرّت أخرى.
شهرزاد: صارت كل عذارى المملكة مجرد أسماءٍ بكشوف القتل (فجأة) هل تشعر بالغبطة حين تمارس ما أسماه الملك متعتك اليومية، أن تقتل؟
مسرور: نعم.
شهرزاد: ولماذا؟
مسرور: هذا شأنى.
شهرزاد: مادمت تخشى أن تبوح فلن أصر.
مسرور: لست أخشى.
شهرزاد: إذن قل.
مسرور: كأنى أقتل كل خيانة.
شهرزاد: هل يحضر مولاك واقعة الذبح.
مسرور: في الغالب.
شهرزاد: هل هذا يسعده؟
مسرور: من يدرينى.
شهرزاد: لا يوجد مثلك من هو أقرب منه.
مسرور: لست أراه، لكنى أسمعه يتمتم.
شهرزاد: ماذا يقول؟
مسرور: هذا جزاؤك يا ريحانة.
شهرزاد: يخيل إلىّ أنك أحياناً تندم على هذا القتل.
مسرور: (متردداً) أنا؟ لا.
شهرزاد: والمجنونة؟
مسرور: أية مجنونة؟
شهرزاد: تلك التى ساقها أخوها دون أن تدرى مصيرها.
مسرور: (مضطرباً) أرجو ألاّ تستمع مولاتى لشائعات العامة.
شهرزاد: من يتحدث؟ إن كانت ذاكرتى تسعفنى فأهلك بعضٌ ممن أراك تصفهم بالعامة باستعلاء.
مسرور: (مضطربا) أقصد أعداء المُلْك.
شهرزاد: ما رأيك فيمن ماتت تلعن هذا المُلْكِ، لم تنس أيضاً أن تلعنك؟
مسرور: من تعنين؟
شهرزاد: أمك.
مسرور: لكنّ الملك لم يحك لكِ شيئاً من هذا!
شهرزاد: لم أقضِ عمرى كله بهذا القصر، لا تنس.
مسرور: أياً ما كان، إن كان يهمك أن تعرفي فهى...
شهرزاد: (تقاطعه بينما كان يهم بالجلوس فيتراجع) مولاتى.
مسرور: ماذا؟
شهرزاد: فاتك أن تخاطبنى بمولاتى.
مسرور: عذراً، إن كان يهمك مولاتى أن تعرفي فإن أمى قد اختارت أن تنصر أبناء شقيقتها على ابنها، خذلتنى.
شهرزاد: لم يفعل أبناء خالتك إلا ما لا يجبن أن يفعله حتى أحقرُ فأر. ذادوا عن بيتٍ أمضوا فيه سنين العمر
مسرور: عرضتُ عليهم دارا أكبر، تجرى فيها أحلامهمُ كيف تشاء.
شهرزاد: ذادوا عن أرضٍ شربت من عرق جدودك ما أحياها طوال سنين لكنّ رجال الملك أرادوا أن يكتمل بدم أخوتك رىُ الأرض.
مسرور: ليس لى أخوة.
شهرزاد: المثل الشعبى يقول ... (تبتسم ساخرة) هل تسمح لى أن أجرح أذنيك بكلماتٍ شعبية؟
مسرور: لا يملك مثلى أن يمنع مولاتى من سخريةٍ ترغب فيها.
شهرزاد: المثل الشعبى يقول الخالة والدةٌ وبنوها رغماً عنك أشقاؤك.
مسرور: حمقى، وقفوا أمام معاول ديوان التشييد الملكى.
شهرزاد: بل قل ديوان الهدم.
مسرور: هدمٌ لا يهدف إلا لبناء، تضحيةٌ من بعض الناس لأجل الكل.
شهرزاد: (تبتسم في أسى) أنت كسيدِك تماماً، تلقى نكاتٍ لا تضحك إلا من فرط ما تحمل من أوهام. ماذا يَفيد الناسُ من قصرٍ آخر يسكنه مولاك؟ أو بالأحرى لا يسكنه.
مسرور: قصر ريفي، هل هذا بكثيرٍ على من يتحمل أعباء المُلك؟
شهرزاد: ليس مجرد قصرٍ ريفي، بل قلعة، إلتهمت أرض ألوف الفقراء ولن تحميكم من يومٍ صار وشيكاً.
مسرور: عن أى يوم تتحدث مولاتى؟
شهرزاد: يوم الثأر. يوم يحين قصاص لن يرحم مولاك ولن يرحمك.
مسرور: أشكر مولاتى إذ وضعتنى مع ملكى في ذات الشأن، وأطمئنكِ مولاتى أن رجالاً، وأنا منهم، يفدى كل منهم إصبع ملكى بحياته، لو وقفوا صفاً لامتلأت بهم الأرض.
شهرزاد: والله لن يأمن مولاك ولن يأمن أىٌ من حاشيته ورجاله حتى لو سكن جوار الشمس.
مسرور: تقسم مولاتى واثقةً في أمرٍ من شأن المستقبل، غيباً لا يعلمه إلا الله.
شهرزاد: معك الحق، فلنترك أمر الغد للغد، ولتحكى لى عن أمسك، عن أمك.
مسرور: يرحمها الله، لا يوجد ما أحكيه.
شهرزاد: يقول العامة، أعداؤك، إنك حتى لم تحضر وقت الدفن. أنا لا ألومك، فرَض رجال الشرطة حول المنطقة حصارا، خافوا أن يخرج من تلك القرية إلى باقى المملكة بعضُ الثوار.
مسرور: لما اشتد المرض عليها ذهبت، رغم الخطر الكامن غامرت، لكنها رفضت حتى أن تلقانى. بعدها عانيت طويلاً من شك وزير الشرطة بى.
شهرزاد: لو كنتُ مكانه ما ساورنى فيك الشك، لن تُخلص إلا لذاتِك، تلك بديهية.
مسرور: بل إخلاصى للمُلك.
شهرزاد: تلك مواراة، فالمُلكُ يحقق ذاتك، يمنحك حياة تنسى من فرط نعومتها شقاءَ الأهل، ولهذا تخلصُ ذاتُك لمن يمنحها ترفَ العيش.
مسرور: أفهم كيف يهاجمنى من فشلوا في نيل مكانى من العامة، يدفعهم حقدٌ يولد معنا نحن الفقراء. لكن مولاتى، وعذراً لوقاحة عبدٍ تحتقرينه، مبلغ علمى أن حياتكِ كانت دوماً عزاً لا يجسر أن يتمناه حتى الوزراء.
شهرزاد: وكأنى أسمع حسان.
مسرور: حسان؟ ومن يكون؟
شهرزاد: أحد الثوار.
مسرور: (يضطرب متعمداً رفع صوته) لكنى لست من الثوار، إنى أمقتهم.
شهرزاد: ترفع صوتك كى تسمعهم.
مسرور: لا أفهم عما تتكلم مولاتى.
شهرزاد: لكل وزير من وزراء الملك أكثر من جاسوس، وكلٌ منهم يرقب جاسوساً آخر، أوَ كنت تظن بأن وزير الشرطة مثلاً يكفيه ما تنقله إليه؟
مسرور: صَدق الملك حين امتدح براعةِ عقل الملكة في تأليف الحكايات.
شهرزاد: قولك هذا يثبت صدق حكاياتى ويؤكد إخلاصك في إرهاف السمع على غرفة مولاك. والآن دعنى أكمل لك قصة حسان.
مسرور: الثائر؟
شهرزاد: حسان هذا واحدٌ من قادة ثوار الشعب، لكنه مثلك، أغبى من أن يدرك حجم المأساة، دوماً يسألنى: مالكِ والثورة؟ أنتِ أميرة، ماذا يضنيكِ في هذا الحال؟ ماذا يعنيكِ في هذا الحال؟ مثلك، أحمق، لا يعرف أن النار لما تتوحش لا تختار، فحرير القصر وقش الكوخ في جوف النار لهما نفس الطعم. حين تثور ألسنة اللهب النائم تحت رماد الذل فسرير الداعر ومهد الطفل لحظتها سواء. في زمن الفوضى هل يسأل من جاع سنيناً نفسه إن كان ما يسرقه فضلٌ من مائدة التخمة أم بعض من قوت يتامى؟ أقسم بالله أنْ لا. في زمن الفوضى هل يقدر من كَبت الفقرُ رغبتَه في امرأة يحضنها أن يفْرِقَ ما بين بغىٍ تتمطى إغراءً وبين الحرة تتلوى حزناً لفقيدٍ مات؟ أقسم بالله أنْ لا.
مسرور: أية فوضى؟
شهرزاد: فوضى لا يدري مداها إلا الله.
مسرور: مولاتى، أراكِ أخيراً تعترفين بأن الفوضى أخت الثورة.
شهرزاد: لا والله، الفوضى بنت القهر، والقهر ربيب الملك الظالم، مولاك.
مسرور: (وكأنه يطمئن نفسه) ستموت الثورة بإذن الله.
شهرزاد: ما أكثر ما تستخدم لفظ الله!! هل يملك ديناً من يقتل من لا تملك عقلاً؟
مسرور: ماذا؟!
شهرزاد: المجنونة.
مسرور: أرجو ألاّ تنسى سيدتى أنى مجرد عبدٍ لا أكثر. لا يعنى ذلك أنى ألقى التهمة على مولاي، أخوها المخطىء، ثم إنى لازلتُ أشك بأنها لم تكن مجنونة.
شهرزاد: (تقاطعه) هل تسمح لى أن أنفرد بنفسى في تلك الحجرة (تشير ناحية حجرة ريحانة).
مسرور: عفواً مولاتى، الخادم لا يسمح، إفعلى ما تشائين، غير أنى لا أنصحكِ بذلك.
شهرزاد: ولماذا؟
مسرور: لم يبق في العمر إلاّ القليل، لا تضيعيه في النوم.
شهرزاد: ومن يقدر أن ينام؟!
مسرور: سأظل هنا. أمرنى مولاي أن أبقى.
شهرزاد: إبق ما شئت. لن أهرب.
مسرور: لم أقصد ذلك، أعنى إن شاءت مولاتى أن نتحدث.
شهرزاد: هل تشعر بالوحشة في هذا المخدع؟
مسرور: بعض الشىء.
شهرزاد: هل لى في رجاء؟
مسرور: تأمر مولاتى.
شهرزاد: حاول أن تقنع مولاك أن يصبح رأسى آخر قربانٍ للموت.
مسرور: لا أعدك.
شهرزاد: عذراً (تتحرك باتجاه الحجرة)
مسرور: (يناديها دون أن يجرؤ على النظر في عينيها) مولاتى (تلتفت إليه دون أن تستدير بجسدها) هل لعنتنى أمى حقاً قبل الموت؟
شهرزاد: من يدرينى؟ هذا ما يحكى العامة، أعداءُ المُلك (تدخل الحجرة مع الإظلام التدريجى).
الليلة الأخيرة
شهرزاد: تعني أنه لم يعد بالأمس؟! حلمت به يموت.
مسرور: لم تصدق أيٌ من نبوءاتك. منذ ليالٍ قلتِ إن الأمر صار وشيكا وهاأنتِ أمامي تعيشين.
شهرزاد: ربما قتله أحد الثوار.
مسرور: أقسم أن قائد جيش مغول الغرب سينصر مولاي.
شهرزاد: أو ربما قتله قائد جيش مغول الغرب.
مسرور: كم أتمنى أن يغفر قلبك.
شهرزاد: لن أنسى أنه ملك ظالم.
مسرور: لا تنسى أنه يحبك.
شهرزاد: هو يبحث عن أخرى فيْ أو بالأحرى يبحث عنى فيها!
مسرور: لا أفهم.
شهرزاد: مأساة الحب أياً ما كانت ليست إلا مزحة في مملكةٍ تنهار.
مسرور: لن تنهار
شهرزاد: هل تخدع نفسك يا مسرور؟ (تشير إلى الرسائل الملقاة على الأرض) تقارير البصاصين تأتى ولا تجد من يقرأها، ولم يبق بالقصر إلا وزير الإحتفالات.
مسرور: سيهب جنود مغول الغرب لنصرة مولاي.
شهرزاد: ماذا كان يضيره لو ترك المُلك وحقن الدم؟
مسرور: أكره في عينيك لهفة انتظار وصول الثوار.
شهرزاد: ما عدت أنا نفسى تلك التى جاءت يوماً هذا القصر تحمل ثأراً مجدولا من أنات الناس. جئت أظن بأن شفاء جراح الناس يشفي جرحى، فإذا بى أصبح كلى جرحاً بغير شفاء.
مسرور: أقسم أنك تحبين الملك، لن يرجع رجلكِ لصوابه. لا تهدمى الدنيا من أجل أملٍ زائف.
شهرزاد: أراك تصدقنى أخيراً؟!
مسرور: حتى لو كانت قصة حبكِ خدعة، لا يعنينى إلاّ أن يسعد مولاي، إقبليه وانسى كل الماضى.
شهرزاد: حتى لو كنتُ أعاند ضعفي، لن أفعل.
مسرور: سيصير الأمر إلى الأسوأ، من يومين أيقظنى من أحلى نوم، يسألنى رأيى في الحب
شهرزاد: وبماذا أجبت؟
مسرور: لم يترك لى فرصة، أخذ يردد كلماتٍ لم أفهمها ثم بكى.
شهرزاد: حتى إن عاد مع الفجر سيكون ناسياً لقراره، منتظراً للغد.
مسرور: صار الملك ينادى جوارى القصر باسمك.
شهرزاد: وينادينى باسمها.
مسرور: هذا هذيان الخمر.
شهرزاد: بل هذيان الذنب.
مسرور: لن أسمح لكِ بأن تدفعيه للجنون.
شهرزاد: كنت سأسعد بجنونه لو لم أره، ليتك تقتلنى لتنجينى مما أنا فيه.
مسرور: إخدعيه، ثم أدبر لك فرصةً للهرب.
شهرزاد: تتآمر على مولاك؟!
مسرور: من أجله.
شهرزاد: لم يعد بالإمكان إصلاح ما مضى.
مسرور: ما رأيكِ في أن تبقى وحيدة تفكرين حتى الفجر.
شهرزاد: أنت أيضاً؟!، صرتُ أكره هذا الفجر.
مسرور: إمرأةٌ ملعونة جاءت في يومِ نحس.
شهرزاد: ما رأيك في أن تفرغ كرهك لى في ضربة سيف.
مسرور: (يركع لها متراجعاً عما قاله تواً) فلتغفر لى مولاتى كلماتٍ حمقى لم تصدر إلا عن إخلاصي للملك الغارق في حبكِ حتى أذنيه.
(نستمع لجلبة بالخارج يتبعها دخول شهريار زائغ العينين وعلى وجهه ابتسامة هذيان، متنكراً في زى امرأة، يخلع غطاء رأسه في إرهاق)
مسرور: مولاي!!
شهريار: صدقت شهرزاد يرحمها الله. (وكأنه طفل يسترسل في حكاية طريفة) فر الوزراء، وصفع قائد جيش مغول الغرب الباب بوجهى، صرت بنظره ملكٌ سابق. لم أرقَ حتى أن يحسبنى من أعدائه. والثوار دخلوا قصرى، وانضم جنودى إلى الثوار.
مسرور: (وكأنه يريد أن يفيق من كابوس) مولاي.
شهريار: لولا أنى صرتُ امرأة لكنت قتلت. (يضحك) حاول رجلٌ أن يأخذنى عنوة، مسكين، كان يمنى النفس بنشوة يطعن فيها كيف يشاء، فإذا بالطاعن مطعون، (يخرج خنجره وينظر إلى آثار الدم عليه فزعاً) هذى ليست مملكتى، لا تقدر أن تمشى فيها دون سلاح.
مسرور: مولاي، فلنفر. ليس لنا إلا السرداب المفضى إلى خارج هذا القصر.
شهريار: أنت الذى تقتلهن ولستُ أنا.
شهرزاد: ما كنت يوماً أظن بأنى سأتمنى أن تنجو، فلتفر.
شهريار: لا يا عشيقة العبيد، الملك لا يفر، فر الوزراء إلا اثنين. أحدهما ذهب لقائد جيش مغول الغرب ليوغر صدره منى طمعاً في المُلك، والآخر ذهب إلى الثوار، قسمة عادلة غير أنى لم أنل شيئاً.
مسرور: مولاي القصر الريفي...
شهريار: (يضحك) صارت تلك القلعة الريفية نهباً للدهماء (يضع إصبعه على فمه مشيراً بالصمت) لا يذكر أحدٌ هذى الكلمة – الدهماء – إلا ويموت.
مسرور: مولاي لا يوجد وقت، الجلبة تزداد. (يحاول شد الملك قسراً فيفزع الملك ويحاول طعنه بالخنجر، يتفادى مسرور الضربة التى تجرحه في كتفه جرحاً يبدو خفيفاً)
شهريار: لن يلمس جسد الملك أحدٌ منكم، فأنا لازلت الملك الآن. (يلوح بخنجره خائفاً)
مسرور: (في تضرع للملك الغارق في ذهوله) كان العمل بقصرك مولاي ملاذاً لى، أنقذنى من أنيابِ الفقر، حلماً ضحيتُ مقابله بالصحبة والأهل. (تختلط الضراعة باللوم) والآن، هل تتركنى أمضى وحيداً كى تقتلنى شماتةُ من عاديتُ لأجلك أنت؟
شهرزاد: تلك نهاية قصة بوق السلطان. من باع الأهلَ وطِيبَ الصحبةِ من أجل استرضاء القصر، يَسهُلُ أن يتركَ ملكاً مهزوماً ويخونَ العهد.
مسرور: (يحدث شهريار وكأنه يدفع عن نفسه تهمة الخيانة بينما شهريار ينظر له في تحفز) لو كان يفيدك مولاي وجودى لبقيت. إنى حتى لا أعرف أين أفر!! إنهار العالم. (لشهرزاد) هل أنتِ سعيدة يا امرأة الشؤم الآن؟
شهرزاد: أعلم أن الملوك عندما يسقطون ينخلع لمرآهم قلب الصخر لكنى أملك في ذاكرتي ما يجعل قلبي يقسو عليه.
شهريار: (يجرى مسرور باتجاه المخدع ويغيب داخله فيضحك شهريار في نشوة) فر الجبناء.
شهرزاد: أذكر يوماً مرت خيل الموكب فيه فوق الزرع ودهست ولدىْ حامد، سبت أم الولدين الملك بنوبة حزن، في الليل، كانت تبكى بلسانٍ مقطوع.
شهريار: صوتٌ يأتى من داخل تلك الحجرة (يشير ناحية الحجرة المغلقة) رجلٌ يضحك. ربما كانت روح العبد تسخر منى. أين الثوار؟
شهرزاد: أذكر يوماً كانت شمس الصبح تفح لهيباً هجمت فيه جيوش ضرائب ديوان المال الملكي على منزل سالم بياع التمر.
شهريار: (يتسمع ناحية الحجرة) عاهرةٌ تضحك. (يتحرك بهدوء ناحية الحجرة ثم يغيب داخلها)
شهرزاد: كانت زوجة سالم خلف الباب ترضع طفلها، تلبس ما لا يستر جسدا بضاً رغم الفقر، ظناً منها، الحمقاء، أن المرء يمكنه أن يأمن في داره....
شهريار: (يعود) هذا المخدع ملعون.
شهرزاد: ساومها الأكبر سناً أن تكشف صدراً غطته يداها المرتعشة وسقط الطفل...
شهريار: كُفي عن فعلكِ هذا ياحمقاء، غطى صدركِ، لا يغرينى. ربما أرضعتِ كل رجال مغول الغرب منذ ثوانٍ. (يلقي بكأس الخمر بعيدا) تلك الخمر المسمومة لن أشربها.
شهرزاد: ولأن مصائب مملكتك لا تأتى فرادى، في نفس اليوم عاد الزوج إلى منزله كسيراً إذ طارده رجال الشرطة لأن صوت ندائه على تمره أيقظ زوج عشيقة أحد البصاصين من أحلى نوم، باتت جثة سالم ليلتها في قاع النهر، ولازالت زوجته لتلك اللحظة تعمل قسراً خادمة في بيت كبير جباة ضرائب ديوان المال الملكى.
شهريار: لا ترفعى ساقيكِ للسماء، يا بلهاء الدعاء هكذا (يرفع يديه للسماء) يديكِ لا ساقيكِ. إرفعى، إرفعى يديكِ عنى يا داعرة.
شهرزاد: أذكر يوماً سرق بعضُ جنود مغول الغرب بقرة عدنان، ذهب ليشكو عله يحصل على حقٍ مسلوب، لكن الشرطي الساخر لم ينصفه، ذهب لقائد شرطة قريته يشكو له، ألجمه سؤال: ولماذا تبيع اللبن لجيش مغول الغرب؟ وكيف عبرت حدود المملكة إليهم؟ أم إنك جاسوس؟
شهريار: ريحانة، لازلتُ أحبك، كل ما في الأمر أنى صرتُ أمقتك (وكأنها تحادثه) نعم نعم ستكفرين عن ذنبك. لن أنسى خيانتكِ اللعينة يا عشيقة العبيد (يهمس) يا سلمى، يا سياف.
شهرزاد: وأمام القاضي لم يجرؤ عدنان أن يذكر ما يعرفه القاضي ورئيس الشرطة من أن ألوفا من جند مغول الغرب كانوا قد عبروا حدود المملكة منذ شهور.
شهريار: (فزعاً) طَهروا دنس المخدع، رائحة العبد الغاصب تخنقنى، أشباح القتلى تتعرى في جنح الليل، تنثر عهراً في أنحاء القصر.
شهرزاد: وأخيراً قالوا أن القاضي كان رحيماً إذ قصر عقاب المسكين على بضعة جلدات لم يتحملها على أية حال. وأرسل مولاي خطابا يستغفر فيه قائد جيش مغول الغرب.
شهريار: علقوا كشوف العذارى على كل بيت من البيوت التى أغرقها فيضان النهر، ولتطلق كل منادى في أنحاء الدنيا يعلن (وكأنه يفضى بسر) إنى أكره ريحانة. نعم أكرهها رغم الحب.
شهرزاد: أذكر يوماً كنت أحب لكن حماقة ظلمك جعلت من حبي هذياناً أطفأ نور القلب. (تنهار في البكاء)
شهريار: لا تقتل تلك المجنونة، تنظر لى بتحدٍ، لا تقتلها، لا أبغى إلا الخمر (يستلقى على السرير تتجه نحوه وتضع يدها على رأسه)
شهرزاد: ما كان يضيرك لو أصغيت؟
شهريار: (ينتفض ملوحاً تجاهها بخنجره) لست ضعيفاً أعلم أنك تبغين خلاصاً من أسرك لكنى... (فجأة ينهار في البكاء).
حسان: (يدخل من ناحية حجرة ريحانة مندفعاً حاملاً سيفه وعلى وجهه نشوة انتصار) أين الملك الفأر؟
شهرزاد: (تقف ولا يبدو عليها الإرتياح لرؤية حسان) حسان؟ كنت أحس بأنك أول من يدخل هذا المخدع.
حسان: لكنى لم أتخيل أن أجدك فوق سريره.
شهرزاد: إهدأ حسان، واغمد سيفك.
(من ناحية باب الدخول يدخل مجموعة من العامة يشيعون الفوضى في خلفية المشهد ينظرون بانبهار إلى كل ما يحيط بهم يندفع واحدٌ منهم إلى الخارج باتجاه حجرة ريحانة بينما يبدأ زملاؤه فى حمل بعض ما يجدونه أمامهم من كؤوس وأباريق وغيرها. يعود الرجل من حجرة ريحانة حاملا بعض الملابس الفاخرة ويخرج خلف زملائه)
حسان: حتماً أغمده، في قلب الملك العربيد.
شهرزاد: قد فقد العقل، إرحم ضعفه. (شهريار مذعوراً، يخفي خنجره بين ملابسه ويتحرك ببطء نازلاً من فوق السرير باتجاه الحجرة)
حسان: ولماذا لم يرحم أمى يوم استقوى علينا جنوده، وألقوا بأبى في السجن؟
شهرزاد: (شهرزاد تلمح شهريار وتفهم أنه يستعد للهرب) لا يفقدك الحقدُ صوابَك.أين منصور؟
حسان: لا أعلم. والآن (يندفع شهريار داخلاً الحجرة ويتبعه حسان تهم شهرزاد بالدخول خلفهما لكنها تتوقف إذ يعود حسان ممسكاً بشعر شهريار بإحدى يديه وقابضاً على يدي شهريار بيده الأخرى) سيافك مذبوح في آخر سردابك. ستموت على أية حال لكنى لن أترك هذا الشرف لأحدٍ غيرى (يتعثر شهريار فيقوم حسان بجره على الأرض من يديه)
شهرزاد: ليس القتل بشرفٍ يا حسان، إلا إن كان القاتل مضطرا...
حسان: (يقاطعها) مالك ترتجفين، آه، نسيت بأنك أنتِ الملكة، هل حقاً هو رجل فحل.
شهرزاد: ظلمه لا يعدله إلا خسة لفظك.
حسان: ولماذا يلبس زى امرأة (لشهريار) ما رأيك أن ترقص لى، سَمّ نفسك إسم امرأة هيا، سدد دين أبى، هيا (حسان يرفع شهريار الذى يقف على قدميه منهكاً)
شهرزاد: ثرتم من أجل زوال القهر، لا من أجل مزيدٍ من دم. لا تنسى.
حسان: لا تنسي أنتِ كلماتك عن يوم الثأر. أوَ تدرين يا ابنة الوزير أن الخائن قد عرض نصف المملكة على قائد جيش مغول الغرب مقابل أن يدحرنا ليبقيه على العرش. ولكن قائد جيش مغول الغرب لا يحتاج إلى نصف المملكة المنتهكة بمئات ألوفٍ من جنده في كل مكان.
(شهريار يستغل انشغال حسان بالحديث مع شهرزاد فيخرج خنجره ويستعد لطعنه)
شهرزاد: (ترى الملك فتصرخ) لا (ينتبه حسان فيشهر سيفه فتصرخ من جديد) لا (يندفع حسان باتجاه الملك دافعاً شهرزاد التى تتلقى طعنة خنجر الملك فتسقط على الأرض وتتمتم) جئت أظن بأن شفاء جراح الناس يشفي جرحى، فإذا بى أصبح كلى جرحاً بغير شفاء.
(يتحرك حسان باتجاه شهريار الذى ينظر مشدوهاً إلى خنجره الساكن في جسد شهرزاد يتراجع شهريار إلى أن يصطدم به منصور الذى يدخل فيفجعه المنظر)
منصور: شهرزاد!! ألم تستطع حمايتها؟
حسان: لا، لكنى سأنتقم لها (يهم بقتل شهريار)
منصور: (يمسك يده) لا، لا يقتصر الأمر علينا، فلنر ماذا يقول الشعب.
حسان: نحن من حرك هذا الشعب.
منصور: لكنا لسنا الشعب،لا تنسَ. (يتحرك باتجاه جسد شهرزاد الملقى على الأرض) كانت أول من بث الأمل بقلبينا بينما كنا نصر بأنه لا فائدة ترجى من يوم الغد.
حسان: (هذه المرة هامساً بحيث لا يسمعه منصور) كلمات قالتها لا تجعلها واحدة منا، هى منهم على أية حال.
منصور: أخشى أن تصدق كل نبوءاتكِ يا شهرزاد.
صوت شهرزاد: (تتداخل مجموعة من كلماتها المتكررة مع الإظلام التدريجى) الفوضى بنت القهر، والقهر ربيب الملك الظالم.
نهاية الحكايا